الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (730) - سورة الملك 12-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:15] {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16] {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك:17] {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الملك:18] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}[الملك:19] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}[الملك:20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}[الملك:21] {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الملك:22]، قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13]، بيان منه -سبحانه وتعالى- وإخبار منه -سبحانه وتعالى- بأسمائه وصفاته، وأنه -سبحانه وتعالى- يعلم أسرار عباده -سبحانه وتعالى-؛ وأن جهرهم وسِرَّهم عنده سواء، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ}، أي أيها الخلْق، {أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}، إنه يعلم ما هو أخفى من السر، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، يعني السر المكنون، ذات الصدر؛ سِرُّه المكنون الذي لم يُخرِجه، أو ذات الصدر يعني ما يتقلَّب به قلبه؛ الله يعلمه -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13].

أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ........}[الملك:14]، سؤال للتقرير؛ كيف يخفى عليه شيء مما خلَقَه -سبحانه وتعالى-؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، -سبحانه وتعالى-، فإن صانع الشيء ولله المثَل الأعلى؛ صانع أي صنعة يعرف أسرارها، فكيف بالرب -سبحانه وتعالى- الإله الذي لا إله إلا هو؟ كيف يخلُق خلْقًا لا يعرف سِرَّه ولا يعرف مدخله ومخرجه؟ فقد خلَقَ الله -تبارك وتعالى- الإنسان ويعلم كل ذرَّة فيه، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ ........}[الملك:14]، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- مع كل أحد -سبحانه وتعالى-، الخبير؛ العليم بعمل كل أحد، كما قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ........}[المجادلة:7]، يعني الله -سبحانه وتعالى- معهم في أي مكان يكونون؛ أين ما كانوا، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فبدأ الآية بالعِلم وختمها بالعِلم، فهو عليم بأسرار عباده -سبحانه وتعالى-، وأماكنهم، وما توسوس به نفوسهم، وهو مع كل اثنين يتناجيين أو أكثر؛ الله معهما -سبحانه وتعالى-، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14].

قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:15]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى- الذي بدأ هذه السورة بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، فهذا من إفضاله، وإنعامه، وبركاته -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا}، هو؛ الله، الذي جعل لكم الأرض؛ هذه التي تعيشون عليها، ذلول؛ مُذلَّلة، يعني أنها مُسخَّرة؛ ذليلة، مُطيعة لعملكم، فانظر تذليل الأرض أولًا ببسطها للعباد لتكون سهلة في أن يمشوا فيها، وتذليلها بأن يبنوا عليها، تذليلها بأن يفلحوها؛ يفلحوا في هذه الأرض وتُخرِج زرعهم، تذليلها بأنها تكفِتَهم أحيانًا، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26]، فهذه الأرض مُذلَّلة؛ مُذلَّلة للحرث، للزرع، تحفر فيها، تُخرِج المعادن منها، يبني عليها بيته، يأوي إليها، فهي مُسخَّرة لهم بكل ما فيها؛ وكل ما عليها، وكل ما زخَرَه الله -تبارك وتعالى- فيها، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا}، كل مكان فيها مُسخَّر ومُذلَّل للإنسان؛ سهلها، ووعِرها، ويابستها، ومائها، مُذلَّة ومُسخَّرة لهذا الإنسان، قال -جل وعلا- {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، قيل مناكبها؛ نواحيها، يعني سيروا في نواحي هذه الأرض وانظروا كيف ذلَّلها الله -تبارك وتعالى- لنا؟ وقيل مناكبها؛ مُرتفعاتها، فقد يسَّر الله -تبارك وتعالى- حتى السير في مناكب الأرض؛ في مُرتفعاتها، وجبالها الكُثْرُ منها يُسكَن، نسكن الجبال ويُخرِج الله -تبارك وتعالى- في هذه الجبال ينابيع الماء تخرج من بين الصخور؛ وفيها بسطات، ويزرع الإنسان، ويرعى غنمه، ويرعى ماشيته فيها، وتخرج على هذه الجبال أشجارها وغاباتها، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، وإذا ذُكِرَت المناكب فالسهول والقيعان بطريق الأَولى، فإذا كان يمكن أن نمشي في مناكب الأرض؛ في مُرتفعاتها، فسهولها بطريق الأَولى.

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}، كلوا أيها العباد مما رزقكم؛ مما لا أنتم توجِدونَه ولا تخلُقونَه، كلوا من رزقه في هذه الأرض؛ هذه النباتات بما تحمله من صنوف الأنواع والأشكال من الفواكه ومن حب الحصيد، وهذا ما يعيش على هذه المملكة النباتية من الحيوانات والأنعام التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى-، فهذا تذليل؛ ذلَّل لكم هذه الأرض تزرعون فيها، وأحيانًا يُخرِج الله -تبارك وتعالى- الزرع بلا كُلفة للإنسان، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، ينزل المطر ويخرج النبات من الغابات العظيمة إلى حشائش الرعي الصغيرة والأشجار التي نرعى فيها دون أن يكون هناك كُلفة من الإنسان لهذا؛ في أن يبذر بذرًا، وأن يشُق نهرًا، وأن يسقي، وأن يتعب، وأن يُسمِّد... لا، هناك بلاد طيبة يخرج نباتها بإذن ربها، {........ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}[الأعراف:58]، هذا من التصريف، فالله -تبارك وتعالى- يخبرنا بأنه هو خالق هذه الأرض؛ وهو الذي ذلَّلها لنا -سبحانه وتعالى-، يقول {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، الأمر هنا أمر للإباحة وليُنظَر بركاته الرب -تبارك وتعالى- وصنيعه لعباده -سبحانه وتعالى-، {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، إليه؛ لا إلى غيره، النشور؛ النشر هو الخلْق الجديد، يعني خلْقكم الجديد حيث تُنشَرون وترجعون مرة ثانية إلى الله -تبارك وتعالى-، تُنشَرون؛ تخرجون من قبوركم ثم تُساقون إلى الحساب عند الرب -تبارك وتعالى-، وما منكم إلا سيُكلِّمه ربه فهذا إحكامه -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ........}[الملك:2]، وهذه الحياة بما فيها مما ذلَّله الله -تبارك وتعالى- هي فترة الاختبار، ثم بعد ذلك اعلموا أن نشوركم أيها العباد؛ يعني إحيائكم وخروجكم من قبوركم، ثم مسيركم سيكون إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثم بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هذا بيَّن -سبحانه وتعالى- قدرته على أن يُنزِل عذابه على المخالفين المعاندين في أي وقت، يقول الله -تبارك وتعالى- للكفار {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]، يعني هل تأمنون أيها الكفار الذين كفرتم بربكم؛ وجائكم الرسول بالهُدى والنور من الله -تبارك وتعالى- فرفضتموه، وجحدتموه، ورددتموه؟، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، والله -تبارك وتعالى- في السماء؛ في العلو، مستوٍ على عرشه -سبحانه وتعالى-، وكونه في السماء فيكون هو القاهر لأنه هو القاهر فوق عباده -سبحانه وتعالى- وهو الغالب الذي لا يغلبه أحد، فهو العلي العظيم -سبحانه وتعالى-، القاهر فوق عباده، فالله يقول أأمنتم الرب -سبحانه وتعالى- الذي في السماء؟ {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}، خسفها؛ هبوطها، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، المور هو الحركة الشديدة، يعني تمور من تحتكم وتسير وتُزَلزَل، وهو قادر على هذا -سبحانه وتعالى- لأنه الرب الذي خلَقَكم وخلَقَ هذا الخلْق، فهل تأمنون أيها المكذِّبون؛ المعاندون، الكافرون، أن يصنع الله -تبارك وتعالى- بكم هذا الصنيع؟ {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]، السماء هي كل ما علانا، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه -سبحانه وتعالى- بأنه فوق عرشه؛ وعرشه فوق سبع سماواته -سبحانه وتعالى-، وفي الحديث «النبي -صل الله عليه وسلم- سأل الجاري فقال لها يا جارية أين الله؟ فقالت في السماء، فقال لمعاوية ابن أبي حَكَم السُلَمي -رضي الله تعالى عنه- أعتِقها فإنها مؤمنة»، فيُذكَر عن الله -تبارك وتعالى- بأنه في السماء، وليس في السماء يعني الأولى؛ أو الثانية، أو الثالثة، وإنما في السماء يعني في العلو وما فوق العرش سماء، والله -تبارك وتعالى- فوق عرشه -سبحانه وتعالى-، وحديث الجارية حديث في صحيح مسلم «أن معاوية ابن أبي الحَكَم السُلَمي -رضي الله تعالى عنه- أتى النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فقال له يا رسول الله إن لي جارية ترعى غنم لي، يقول فجئت وكان الذئب قد عدى على شاةٍ من الغنم فأكلها؛ فلطمتها»، يعني لطم هذه الجارية إذ لم تستطع أن تحمي الغنم وتمنع الذئب من أكلها، «قال له كنت امرؤًا من أولاد آدم فلطمتها»، وكان النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال «مَن لَطَمَ عبده فليُعتِقه»، «فقال له النبي عليَّ بها»، يعني هات هذه الجارية التي لطمتها، «ثم قال لها يا جارية»، النبي عقد لها اختبار ويسألها، «أين الله؟ فقالت في السماء»، وأشارت بأصبعها إلى السماء، «فقال لها مَن أنا؟ فقالت له أنت رسول مَن في السماء»، أنت رسول مَن في السماء الذي أرسلك؛ وأرسلك لنا، «فقال النبي –صل الله عليه وسلم- أعتِقها فإنها مؤمنة»، فأمَرَه بأنه لابد أن يُعتِقها وذلك بعد أن لطَمَها؛ وهذي كفَّارة مَن لطَمَ عبده، يقول النبي «مَن لَطَمَ عبده فليُعتِقه»، هذي كفَّارته، فالشاهد أن النبي -صل الله عليه وسلم- حكَمَ لها هنا بأنها مؤمنة، الله -تبارك وتعالى- خاطَبَ عباده وذلك عنه نفسه -سبحانه وتعالى- وذاته العلية، قال {أَأَمِنتُمْ}، يعني أيها الكفار، {مَنْ فِي السَّمَاءِ}، الله -سبحانه وتعالى-، {........ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16].

{أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك:17]، أم بمعنى بل، أمنتم؛ والأمن هو الاطمئنان، والراحة، والهدوء، وأنه لا خطر، من في السماء؛ الله -سبحانه وتعالى-، {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}، يُرسِل عليكم أيها الناس حاصبًا، الحاصب هو الحجارة التي تحصِبكم، والحَصْب هو الضرب وإلقاء الحجارة، والحصباء هي الحجارة الصغير المُفتَّتة، فهل تأمنون في هذا؟ هدَّدهم الله -تبارك وتعالى- بعذاب إما من تحت أرجلهم وإما بعذاب يأتيهم من فوق رؤوسهم، فعذاب أن تُخسَف الأرض وتمور الأرض من تحت أرجلهم؛ هذا عذاب من تحتهم، أو عذاب من فوق؛ يُرسِل الله -تبارك وتعالى- عليكم عذاب من فوق رؤوسكم بحاصب يحصبكم به، وهذا مثل قول الله –تبارك وتعالى- {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ........}[الأنعام:65]، فالله قادر على أن يُعذِّبَ خلْقَه بما شاء -سبحانه وتعالى-، وهنا هدَّد الله -تبارك وتعالى- بالعذاب من تحت؛ بخسف الأرض، أو العذاب من فوق؛ بالحاصب الذي يأتيهم، ثم قال -جل وعلا- {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، فستعلمون يعني أيها المُهدَّدون هنا من الكفار، كيف نذير؟ أن هذا النذير نذير حق، أنه كلام الله -تبارك وتعالى- الذي لا يسقط، وإذا هدَّد الله -تبارك وتعالى- فقد هدَّد؛ فهذا صدق، وأنه ليس تهويشًا ولا مجرد تخويف وإنما هو حق، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، ستعلمون كيف إنذاري؟ وإن إنذاري إنذار ووعيد من الله -تبارك وتعالى-؛ والله مُنفِذ وعيده -سبحانه وتعالى- في الكافر، وأن هذا يعني يا أيها الكافر ستلقى جزائك من الله -تبارك وتعالى-؛ وتعلم أن الله -تبارك وتعالى- لم يكن ليكذب، أو ليقول قولًا لا يُحققه، بل الله -تبارك وتعالى- قادر على إنفاذ وعيده -سبحانه وتعالى-، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، يعني كيف نذيري؟ وإنه نذيرٌ حقيقي.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الملك:18]، ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل بإنفاذ وعيده -سبحانه وتعالى- في السابقين، قال {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ........}[الملك:18]، من قبل قريش والعرب، كذَّبوا رُسُلَهم؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقرى لوط، وقوم فرعون، كذَّبوا رُسُلَهم، {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ........}[الملك:18]، من هذه الأمم المُتجبِّرة الكافرة، قال -جل وعلا- {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}، كيف كان نكيري عليهم؟ فإن الله أنكر عليهم كفرهم وعاقبهم -سبحانه وتعالى-؛ وأنزل بهم عقوبته الشديدة في الدنيا، انظر كيف أغرق قوم نوح ولم يُبقي منهم أحدًا إلا أصحاب السفينة؟ وكيف أهلك عاد فما أبقى؟ وكيف أهلك ثمود؟ وكل هؤلاء تماروا بالنُذُر، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}[القمر:36]، تماروا بها؛ جعلوها أنها كذب، بالنُذُر؛ بنُذُر الله -تبارك وتعالى-، لكن انظر كيف كان إنكار الله -تبارك وتعالى- عليهم؟ شديد، فهذه أمم عاد تؤخَذ بريح قال -جل وعلا- عنها {........ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، وهذه ثمود التي بطِرَت معيشتها؛ وطغت، وتجبَّرت، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77]، قال -جل وعلا- {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، صيحة مَلَك واحد أخذتهم فلم تُبقي منهم أحدًا، وقال -تبارك وتعالى- {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، كالهشيم الذي احتُظِر ومكث مدة طويلة فيتهرَّى ويتناثر، وهذي قرى لوط أيضًا تماروا بالنُذُر، يقول الله -تبارك وتعالى- عنهم {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ}، أي لوط، {بَطْشَتَنَا}، أن الله له بطش وله عقوبة، {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}[القمر:37]، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أخذهم وأفك قراهم على رؤوسهم؛ وأرسل عليهم حاصب، وأرسل عليهم مطر خبيث بعد ذلك تبقى آثاره إلى اليوم، قوم فرعون كذلك الذين عتوا وكلما جائتهم آية من الله -تبارك وتعالى- ردوها وعاندوا، وظلوا يُعانِدون ويُعانِدون إلى أن أخذهم الله -تبارك وتعالى- بكليتهم وأغرقهم في اليم، قال {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، نبذَهم الله -تبارك وتعالى-، النبذ هو الإلقاء بإهمال، ألقاهم كلهم؛ أخذهم من الملِك إلى جنوده وألقاهم، قال {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا}، ألقاه الله -تبارك وتعالى- هناك، فالله -سبحانه وتعالى- يُذكِّر هؤلاء المُكذِّبين من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- بأسلافهم في الكفر؛ الذين مضوا، قال {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ........}[الملك:18]، من قبل هؤلاء المكذِّبين من هذه الأمة؛ قريش ومَن معها، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}، سؤال يُراد به التقرير حتى يُقال شديد والله، والله لقد كان نكير الله -تبارك وتعالى- عليهم شديدًا؛ فإنه قد جائتهم العقوبات الشديدة.

ثم قال -جل وعلا- مُبيِّنًا آياته في الخلْق وقُدرته -سبحانه وتعالى- {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}[الملك:19]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}، كل ذوات الريش التي تطير في جو السماء، فوقهم يعني فوق رؤوسهم مُسخَّرة في جو السماء، صافات يعني أجنحتها، والطير إذا صفَّ جناحه؛ يعني إذا بسطها وفرَدَها في الهواء وانطلق سابحًا في الفضاء، وهو لا يخفق بجناحيه وإنما يصفُّها، {وَيَقْبِضْنَ}، القبض هو تحريك جناحيه رفعًا وخفضًا، قال -جل وعلا- {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}، يعني لا يُمسكهُنَّ في هذا الطيران إلا الله -سبحانه وتعالى-، ما هذا المخلوق الضعيف في نفسه أن تكون له هذه القدرات؟ إن مَن يُمسِكه في جو السماء وأعطاه هذه القدرات هو الله -سبحانه وتعالى-، ومن عجب أن تجد عصفور صغير لا يتجاوز وزنه أحيانًا مائتي جرام وينطلق في جو السماء؛ يقطع عشرة آلاف كيلو متر كاملة في نفس واحد وفي رحلة واحدة، يعبر البحر الأبيض المتوسط من أوروبا إلى الشاطئ عبور واحد وهو لا يتوقَّف، هذا الطائر الصغير وتجِد طيور أصغر من هذا تُسافِر من القطب إلى القطب، وطيور أكبر من ذلك تُسافِر طيرانًا وتقطع في الرحلة الواحدة عشرة آلاف كيلو متر أو عشرين ألف كيلو متر في الرحلة الواحدة، ما هذا؟ أي غذاء وأي طاقة مخزونة في هذا الطير الصغير حتى يقطع بها هذه المسافات الطويلة على هذا النحو؟ وما الذي أقدر هذا الطير على أنه يطير في جو السماء ويندفع فيها على هذا النحو؟ وكيف تسبح هذه الطيور في جو السماء؟ هذه الطيور التي تصفُّ أجنحتها فاردة إياها بدون أي حركة، ثم تنطلق بعد ذلك في جو السماء سابحة، ما هذه القُدرة التي تدفع الطير دون أن يكون في داخلها مُحرِّك نفَّاث؟ يحترق بداخله الهواء ثم يقذف خارجًا ويدفعه إلى الأمام... لا، وإنما الطير في حاله على هذا النحو قد صفَّ أجنحته بدون أي حركات ثم ينطلق انطلاقته هذه.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}، قال -جل وعلا- {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}، ما يُمسِكهُنَّ في جو السماء عن الوقوع إلا الرحمن -سبحانه وتعالى- الذي وسِعَت رحمته كل شيء، فهذا من رحمته -سبحانه وتعالى- بهذا المخلوق الضعيف أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَه وأودع فيه هذه الأسرار؛ وكذلك أودع فيه هذه القوة التي ينطلق بها هذا الانطلاق، ويروح يُسافِر المسافات الطويلة في طلب رزقه ورزق فراخه، وجعل الله فيه رحمة؛ يأخذ من رزقه هذا ويُطعِم صغاره، فالرحمن هو الرب -سبحانه وتعالى-، واسم الله -تبارك وتعالى- الرحمن هنا المناسب للمقام؛ أنه الذي وسِعَت رحمته كل شيء، فالطير تطير برحمة الله -تبارك وتعالى-؛ وما فيها من القوة إنما هي برحمة الله، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، يقول النبي «إن الله خلَقَ مائة رحمة؛ أنزل واحدة في العباد منها ما يتراحم به الناس»، كل التراحم الذي بين المخلوقات من رحمة واحدة من رحمات الله -تبارك وتعالى-، «يقول منها ما ترفع به الفرس رجلها عن ابنها»، فهذا الطير يسير وينطلق برحمة الله -تبارك وتعالى-، {........ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}[الملك:19]، إنه؛ الرب الرحمن -سبحانه وتعالى-، بكل شيء بصير؛ مُبصِر، فهذا الطير من هذه الأشياء المُبصِر بها الله -تبارك وتعالى-؛ هو الذي خلَقَها، وهو الذي أقامها، وهو الذي أوجدَ فيها هذه الأسرار، وأوجدَ فيها هذه القوة، وهو الذي يُمسِكها في جو السماء -سبحانه وتعالى-، هذا فعله وهذا إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، وكل هذا يقوله الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الذي بدأها بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}[الملك:19].

ثم قال -جل وعلا- {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}[الملك:20]، سؤال يُراد به الاستهزاء من هؤلاء الكفار الذين تعلَّقَت قلوبهم وعقائدهم بما لا ينفعهم، {أَمَّنْ هَذَا}، يعني مَن هذا؟ {الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}، يعني أروني مَن هو هذا الذي هو جُنْد لكم؟ يعني جنود مُجنَّدة لكم؛ شرطة وحُرَّاس لكم، {يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}، من دون الرحمن الذي تكفرون به، وتسبّونه، وتشتمونه، وتدعون آلهة غيره لكم وتعبدونها، وتتركون هذا الرب الرحمن الذي عقوبته وعقابه في الكفار حتم لابد أن يكون؛ ووعيده حتم -سبحانه وتعالى-، فالله يقول لهم أروني هؤلاء الجنود الذين تحتمون بهم من الله -تبارك وتعالى-، الذين جعلتموهم حماية؛ أنهم يحموكم من الرب -سبحانه وتعالى-، الرحمن الذي وسِعَت رحمته كل شيء وخالق كل شيء؛ الطير إنما تطير برحمته، وكل هذا الوجود إنما هو من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، وهو يتهدَّدكم {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16] {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك:17]، فهذا الرب الذي يتهدَّدكم على هذا النحو؛ هل أنتم قد جعلتم لكم جنود يحرسونكم منه ومن غضبه؟ {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ}، أَ؛ سؤال، مَن هذا الذي هو جُنْدٌ لكم ينصركم من دون الرحمن؟ ثم قال -جل وعلا- {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، هذا هو الوصف الحقيقي لهم، إن؛ بالحصر، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، وفي غرور كأنهم هذا التغرير ظرف لهم، والغرور هو التعلُّق بما لا يُفيد؛ والأمل والرجاء في ما لا ينفع، والظن أن هذا الشيء على هذا النحو وهو ليس على هذا النحو، ومنه نُسمّي الطفل الصغير غرير لأنه يُغَر؛ يُخدَع، يُخدَع بالأمر التافه الصغير على أنه كبير، والشيطان هو الغرور لأنه يخدع أوليائه، يخدعهم بأنه يُظهِرَ لهم الأمور على غير حقائقها؛ أنهم على الحق وهم على الباطل، أنه يُزيِّن لهم الشر والباطل، فالكافر إنما يعيش في غرور؛ مُغتَر بقوته، مُغتَر بآلهته، يظن أن هذه نافته، وأنه لن يكون هناك بعث ولن يكون هناك نشور، فهو ساقط في هذا الغرور، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}.

نقف عند هذا ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.