الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2] {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3] {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7] {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16]، سورة القلم سورة مكية.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا الحرف من الحروف العربية؛ ن، والقول فيه كسائر القول في الحروف المُقطَّعة التي تأتي في أوائل السور، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، كقول الله -تبارك وتعالى- {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، وقوله {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص:1]، هذا حرف واحد وهنا حرفين كـ {حم}[الدخان:1]، وهناك ثلاث حروف كـ {الم}[البقرة:1]، و{الر}، وهناك أكثر من هذا كـ {كهيعص}[مريم:1]، {المص}[الأعراف:1]، هذه الحروف المُقطَّعة القول فيها قد مضى كثيرًا، وخلاصة ذلك أما أن يكون طبعًا الله أعلم بمراده؛ فإنه لم يُفسَّر في القرآن معناها ومن كلام النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وإما أن يكون كما قال بعض أهل العِلم أن هذا إشارة إلى أن هذا القرآن إنما هو من هذه الحروف التي هي حروف العربية، والقوم قد كذَّبوا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- وادَّعوا أنه افترى هذا القرآن، فتحدَّاهم الله -تبارك وتعالى- بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فهو بلغتهم وليأتوا بسورة من مثله، وتنزَّل الله -سبحانه وتعالى- عليهم بدءًا من {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ........}[الطور:34]، القرآن كله، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}، وأن يأتوا بعشر سور مثله مُفتريات، {........ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13]، وتنزَّل من عشر سور إلى سورة كما في قول الله -تبارك وتعالى- {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ........}[البقرة:24]، وهذا قد تحقق؛ فإنه إلى يومنا هذا لم يأتِ عربيٌّ أو غير عربيٍّ بكلام عربيّ يستطيع أن يُعارِض به القرآن ويقول أنه في بلاغته، في حلاوته، في فصاحته، في نصاعته، الكلام الذي يأتي به كالقرآن يعني أنه أسلوب كالأسلوب، هذا أمر أعجز الله -تبارك وتعالى- به الأولين والآخرين؛ فهذا كلام المُعجِز، نازل بهذا الوصف؛ ببلاغته، وحلاوته، وفصاحته، وتعبيره عن معناه، أكمل وأتم الكلام هو كلام الرب -سبحانه وتعالى-، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا آية باقية لنبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -صل الله عليه وسلم- «ما من نبي إلا وأوتيَ ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي؛ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»، فالذي أوتيه النبي من معجزة تشهد له هي كلام الله -تبارك وتعالى- الذي يشهد له بهذه الصياغة المعجزة؛ والتي لا يُجاريها أي بليغ وأي فصيح من العرب.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، قَسَم من الله -تبارك وتعالى-، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالقلم وما يسطرون، قيل القلم بالألف واللام هنا للاستغراق، القلم؛ الأقلام التي يسطُر بها الناس، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه الآلة أعظم آلة نافعة للإنسان، إنها آلة العِلم؛ الآلة التي بها العِلم، بها يُقيَّد العِلم ويُكتَب العِلم، كل ما يعلمه الإنسان يُقيِّده بالقلم كتابة، والله -تبارك وتعالى- علَّمَ بالقلم، وقد جاء في أول ما أنزل الله -تبارك وتعالى- على رسوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1] {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5]، فهذا أعظم وسيلة للعِلم والتعلُّم، والعِلم والتعلُّم هو الذي تكون به حياة الإنسان؛ فعِلم الدين به الهُدى والتُقى، وعِلم الدنيا به الحصول على هذه المنافع وقيام أمر الناس على عِلمهم بالزراعة والصناعة، وكل هذا والقلم كان وسيلة هذا التعليم، فهداية الله -تبارك وتعالى- للإنسان إلى اختراع القلم والكتابة به أمر عظيم من هداية الرب -تبارك وتعالى-، فهذا هو خلْق الله وهو الذي هدى الإنسان إلى هذا الأمر، وما يسطرون؛ والذي يسطرون، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي علَّمَ الإنسان أن يُسطِّرَ هذا التسطير وأن يكتب هذه الكتابة، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالقلم كآلة من آلات المعرفة والتي علَّمَ الله -تبارك وتعالى- بها خلْقَه؛ كيف يتعلمون؟ وكيف يكتبون؟ وكيف يُقيِّدون العِلم؟ قيل والقلم اللي هو قلم المقادير وهو أول ما خلَقَ الله، كما جاء في الحديث قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «أول ما خلَقَ الله القلم فقال اكتب، قال وما اكتب؟ قال اكتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة»، فهذا قلم من أعظم آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلْق، فإن هذا القلم قد كتب كل ما يكون من خلْق ومن حركة ومن سكون لكل الموجودات؛ وهذا أمر يفوق التصوُّر، فإن كل الموجودات لا يعلم عدد خلْق الله -تبارك وتعالى- إلا الله، وكل مخلوق له من التصرُّفات ما لا يحيط به إلا الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان إذا كُتِبَ كل عمله؛ بدءًا بأعمال القلوب، وكل حركة له، وكل سكون، وكل قيام، وكل قعود، لكان هذا يحتاج إلى مجلدات عظيمة جدًا تجمع عمل الإنسان، فعمل القلب فالإنسان في كل ساعة يتقلَّب قلبه من الأفكار ومن الوساوس والخواطر أمر عظيم جدًا، ولو ترجَّم هذا وأخرج مكنون صدره وما يرِد عليه من الخواطر إلى كتابة لكان الإنسان في كل ساعة يحتاج إلى مجلد ضخم فقط لعمل قلبه؛ فكيف بعمل الجوارح الأخر؟.
الله -تبارك وتعالى- يقول عن نفسه -جل وعلا- {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، كتاب المقادير الذي كُتِب؛ ما في صغير ولا كبيرة أو ذرَّة صغيرة إلا وهي موجودة في هذا الكتاب، ولا حركة أي حركة؛ سقوط ورقة من شجرة في أي مكان، سقوط قطرة من الماء من السماء إلى الأرض، هذه كلها موجودة في هذا الكتاب الذي لا يُغادِر شيء، قال -تبارك وتعالى- في كتاب المقادير {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، ما في شيء اسمه شيء فُرِّط؛ نُسيَ، تُرِكَ، أُهمِلَ ذِكره، بل هذا الكتاب الذي كُتِبَ فيه هذه المقادير قد أحصى الله فيه كل شيء؛ وأحصاها عِلمه -سبحانه وتعالى-، والله يعلم ما في هذا الكتاب وما كتب القلم؛ فكل هذا بعِلمه -سبحانه وتعالى-، فالقسَم بهذا القلم العظيم؛ قلم المقادير الذي كتب الله -تبارك وتعالى- به مقادير كل شيء، وهذا أمر لا يمكن تصوُّره على ما هو الحقيقة لا يُحيط بذلك عِلمًا إلا الله -سبحانه وتعالى-، قيل وما يسطرون؛ تسطُره الملائكة، الله -تبارك وتعالى- قدَّرَ مقادير الخلْق ثم إن أعمال الإنسان تُسطَّر أولًا بأول، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، وأي قول يقوله الإنسان إنما يُكتَب ويُسجَّل عليه؛ يكتبه الملَكان الموكَّلان بكتابة عمله، ويوم القيامة يُعطى كتاب عمله هذا تمامًا كاملًا، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19] {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[الحاقة:25]، هذا الكتاب الله -تبارك وتعالى- كذلك لم يُعادِر شيء من عمل الإنسان إلا وهو مكتوب فيه؛ كتَبَه الحَفَظة الكاتبون، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، والله يقول {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ........}[آل عمران:30]، ويُقال لكل أحد {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، وقال -جل وعلا- {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، طائره؛ حظه ونصيبه، {........ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13] {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، فما يسطرون قيل أنه ما يُسطِّره الملائكة من أعمال الإنسان، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بكل هذا {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1].
قال -جل وعلا- بعد هذا القَسَم العظيم {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2]، الخطاب للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وينفي الله -تبارك وتعالى- عليه أن يكون على النحو الذي يصفه به المجرمون من الكفار، قال {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2]، ما أنت؛ يا محمد، نعمة ربك؛ نعمة الله -تبارك وتعالى- على نبيه -صلوات الله والسلام عليه-، نعمة مفرد أُضيفَت إلى الله -تبارك وتعالى- فتعُم، وأنعُم الله على رسوله وفضله عليه أمر عظيم جدًا؛ فقد هداه الله -تبارك وتعالى-، واجتباه، وأنزل عليه وحيه، واختصه -سبحانه وتعالى- بالنبوَّة وبالرسالة ليكون رسولًا للعالمين ومُنذِرً للخلْق أجمعين؛ من وقته وإلى قيام الساعة، وأنزل عليه هذا الكتاب الذي لا يمحوه الماء وجعله الله -تبارك وتعالى- سراجًا منيرًا يُضيء إلى آخر الدنيا، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الأحزاب:45] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46]، وهذا السراج المنير لا شك أنه أضوأ من الشمس وأضوأ من كل ضوء، فإن هذا الضياء الذي جاء به النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- نور مبين فتح الله -تبارك وتعالى- به أولًا أعين الخلْق علِمَت به، وفتح الله -تبارك وتعالى- به أعين أهل الإيمان فاستبصروه وساروا فيه، استبصروا هذا النور وساروا فيه مَن أراد الله -تبارك وتعالى- هدايتهم، قال {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}[الطلاق:10] {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فهذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- نورًا وهداية للخلْق أجمعين؛ وإرشادًا ورحمة لأهل الإيمان، فهو رحمة عامة لكل العالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، وقد تمسَّك بهذه الرحمة واستفاد بها أهل الإيمان الذين سلكوا درب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فالله ينفي عن رسوله -صلوات الله والسلام عليه- ما قال المجرمون بأنه مجنون، والجنون هو أحد الأوصاف التي قالها الكفار للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- حيث وصفوه بالجنون، قال -جل وعلا- {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2]، ليس بنعمة ربك التي أنزلها عليك مجنون كما يقول هؤلاء المجرمون.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3]، وإن؛ بالتأكيد، لك؛ يعني يا محمد، {........ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3]، أجر على قيامه بالرسالة؛ وببلاغ هذا الدين، وبالقيام في أصحابه من المؤمنين وتعليمهم، وحمله لهذا العبء العظيم الذي حمَّله الله -تبارك وتعالى- إياه فيقول له الله {وَإِنَّ لَكَ ِ}، يعني يا أيها الرسول، {........ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3]، وأجر النبي -صل الله عليه وسلم- أجر عظيم جدًا، فإن الله -تبارك وتعالى- ادخر له من الأجر الأُخروي ما لا يمكن وصفه؛ فله المنزلة العالية الرفيعة في الجنة، وقد اختصه الله -تبارك وتعالى- بدرجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله؛ هو هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، وقال النبي الكريم -صل الله عليه وسلم- «إذا سمعتوا المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة والفضيلة، فإن الوسيلة درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله؛ وأرجوا أن أكون أنا هو»، وقد بشَّره الله -تبارك وتعالى- بها وقال له {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، وعسى من الله -تبارك وتعالى- لا شك أنها حق وللتحقيق، فإذا قال الله عسى أن يفعل الله كذا فلا شك أن هذا أمرٌ مُتحقق، {........ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، فهو صاحب المقام المحمود الذي أولًا يحمَده عليه الأولون والآخرون؛ والمقام المحمود في الجنة، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3]، غير ممنون؛ غير مقطوع، بل إنه أجر دائم لا ينقطع في جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، شهادة الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- أنه على خُلُقٍ عظيم، وقد كان هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- ولا شك أكمل الناس خلْقًا، فإن الله -تبارك وتعالى- كمَّل خلْقَه في صفاته الجسمانية -صل الله عليه وسلم-، وأكمل الناس خُلُقًا، لم تعرف الأرض خيرًا من محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-؛ فإنه خير البرية، وهو الإنسان الكامل الذي كمَّله الله -تبارك وتعالى- بجميع صفاته، فشمائل النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأخلاقه أمر يفوق الوصف، فأولًا نحو ربه -سبحانه وتعالى- هو العبد الكامل في عبوديته لله -تبارك وتعالى-؛ ذُلًّا، وخضوعًا، وتعبُّدًا، وإنابةً، وتقوى، ومخافة، وعِلم بالله -تبارك وتعالى-، فهو أعلم الخلْق من البشر بالله -تبارك وتعالى-، أعلم الخلْق بالله وهو أتقى الخلْق إلى الله -تبارك وتعالى-، وقول النبي -صل الله عليه وسلم- حق «إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا»، -صلوات الله والسلام عليه-، وهو أعظم الخلْف توكُّلًا على الله -تبارك وتعالى-؛ فهو إمام المُتوكِّلين، فكل معاني الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وكذلك معاني القيام بالعبادة التي يُحبها الله -تبارك وتعالى- كان في أتمِّها -صل الله عليه وسلم-؛ في صلاته، وصيامه، وزكاته، وحجِّه، وفعله -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يُجارى ولا يُجارى في ما قام به من عبادة لله -تبارك وتعالى- وخضوعه لله -عز وجل-، كذلك شأنه في تخلُّقه مع ملائكة الله -تبارك وتعالى-، نِعمَ النبي المُعلَّم، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5]، جبريل -عليه السلام-، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:6]، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يحبه حبًا عظيمًا ويقول له «يا جبريل ألا تزورنا أكثر مما تزورنا»، أخلاقه مع ملائكة الله –تبارك وتعالى-.
أخلاقه -صل الله عليه وسلم- مع الناس، فأولًا حمَّله الله -تبارك وتعالى- هذه الرسالة وكان في غاية الإشفاق؛ ويحمل هم الناس همًّا عظيمًا، ويغتَم عندما ينصرف الناس عن هذا الدين، وقد واساه الله -تبارك وتعالى- مِرارًا وقال له {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وقال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، ومعنى باخِعٌ نفسك يعني مُهلِكها وقاتلها من الأسف والتأسِّي على الناس، فإن النبي -صلوات الله والسلام عليه- حُمِّلَ هذا الدين وقام به، وكان يُتعِبه ويؤلِمه انصراف الناس عنه لِما يعلم من العذاب المُهين الذي ينتظر المُكذِّبين بهذه الرسالة، أخلاقه مع المؤمنين أتم الأخلاق؛ فهو خير صاحب لأصحابه -صل الله عليه وسلم-، صَحِبَهم وكان كالأب المُربِّي؛ بل هو الأب المُربِّي، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فكان كالأب الذي يرعاهم ويتعهَّدهم؛ فيُعلِّم جاهلهم، ويزور مرضاهم، ويُشيِّع جنائزهم، ويُصلِّي عليهم -صل الله عليه وسلم-، أحياءًا وأمواتًا يدعوا لهم، الميت يموت فيدعوا له؛ وإذا لم يلِحق جنازته فيتَّبِع قبره ليُصلِّي عليه ويدعوا له، يذهب ليلًا إلى أصحاب القبور ويدعوا لهم -صلوات الله والسلام عليه-، وفي حديث أم المؤمنين عائشة أنها «خرجت ليلة فإذا النبي خارج؛ فخرج إلى البقيع ثم رجع، ولمَّا رجع قال إن الله -تبارك وتعالى- أمَرَني أن أخرج إلى أصحاب البقيع لأستغفر لهم، وقال إن هذه القبور مليئة ظُلمة على أهلها وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم»، هذا باب واسع من أخلاقه، مدَحَه الله -تبارك وتعالى- فقال له {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، لين النبي؛ لين جانبه -صلوات الله والسلام عليه-، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ........}[آل عمران:159].
لم يكن النبي فاحشًا ولا مُتفحِّشًا -صل الله عليه وسلم-، كان أشجع الناس؛ لم تعرف الأرض شجاعة كشجاعة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، جاء بدين يُعادي به كل مَن في الأرض ممَن ليس على هذا الدين؛ عادى اليهود، عادى النصارى، عادى المشركين، كلهم كانوا أعدائه، الفرس، الروم، كل كانوا يطلبون رأسه ويُريدون قتله بأي سبيل، ومع ذلك فإن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان في مخرجه ومدخله لم يتخذ حرَسًا؛ وكان بيته لا بوابين عليه، تدخل المرأة يقول جائت إلى بيت النبي فلم تجد عنده بوابين وقالت له لم أعرفك، المرأة التي قال لها النبي -صل الله عليه وسلم- اتقي الله واصبري، رأها تبكي فقال لها اتقي الله واصبري، فقالت له إليك عني؛ إنك لم تُصَب بمصيبتي، والنبي تركها بعد ردها على النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم قيل لها ماذا قُلتي؟ هذا رسول الله، فذهبت إليه لتعتذر منه، يقول فدخلت عليه ولم تجِد عند بابه بوابين، دخلت إلى غرفة النبي -صل الله عليه وسلم- وقالت له لم أعرفك، فقال لها النبي -صل الله عليه وسلم- إنما الصبر عند الصدمة الأولى، يعني الصبر الذي يؤجَر عليه صاحبه عند الصدمة الأولى، وليس الصبر بعد مدة حيث يتصبَّر الإنسان، فهذا النبي -صل الله عليه وسلم- الذي لم يتخذ حرَسيًّا جنديًّا، بل كان مع كل هذا -صلوات الله والسلام عليه- متوكِّلًا على الله -تبارك وتعالى- ومُسلِّمًا أمره لله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر.
كذلك كان النبي في الحرب وإذا اشتد الوطيس يكون هو مُقدَّم القوم، وكان علي ابن أبي طالب يقول كُنَّا إذا اشتد الأمر احتمينا برسول الله -صل الله عليه وسلم-، وهذا في غزوة حُنين عندما انكفأ الناس وخرجوا كان النبي أول مَن واجه الجيش بنفسه ويقول للكفار أنا النبي لا كذب؛ أنا ابن عبد المُطَّلِب، كان أشجع الناس ولم تعرف الأرض أشجع منه -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك أكرم منه؛ فإن الأرض كلها لم تعرف كرمًا ككرم النبي -صل الله عليه وسلم-، فإن لم يقُل يومًا لا لسائلٍ، ما سأله سائل شيئًا وإن كان النبي في أخص الحاجة إليه وقال لا قط؛ فما قال لا قط -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك لم يغضب لنفسه قط؛ ما عمر النبي غضب لنفسه، وإنما كان كل غضبه إذا غضب فيغضب لله -تبارك وتعالى-؛ وأما لنفسه فلم يغضب، صُحبَته لزوجاته وصُحبَته لخادمه؛ انظر تعامله مع الخادم تعامل لا يمكن لأحد أن يتعامل على هذا النحو مع خادمه، هذا أنس ابن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي قط لشيء فعلته لِما فعلته؛ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا، يقول وما شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله -صل الله عليه وسلم-، ولا لامست يدي قط حريرًا ولا ديباجًا أليَن من كف رسول الله -صل الله عليه وسلم-، كمال في الخلْق وكما في الخُلُق -صلوات الله والسلام عليه-، مَن ذا الذي يستطيع أن يكون عنده خادمًا ولا يُعاتِبه؟ عشر سنوات ما عمره يقول له لِما فعلت هذا أو لِما لم تفعل هذا؛ هذا أمر يفوق الوصف، ما ضرب رسول الله -صل الله عليه وسلم- بيده قط؛ لا خادمًا، ولا امرأةً، ما عمره استخدم يده في ضرب أحد؛ في ضرب خادمة أو ابن -صلوات الله والسلام عليه-.
فهذا النبي الذي كمُلَت أخلاقه بكل معاني الكمال؛ شريكًا، وأبًا، وزوجًا، وصاحبًا -صل الله عليه وسلم-، ونبيًّا رسولًا يقوم بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه؛ ويتحمَّل ما يتحمَّل من هذا العبء الثقيل، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، فيكون في النهار داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وفي الليل مُصلِّيًا لله -تبارك وتعالى-، ويحمل هموم أمة كاملة ليس في زمانه فقط؛ وإنما إلى آخر الزمان يحمل همَّها -صل الله عليه وسلم-، ويقوم وينام بهذا الهم، فهذا النبي الكريم الذي تحمَّلَ هذا الحِمْل ورفع هذا العبء -صلوات الله والسلام عليه-؛ وكان في كمال الأخلاق -صل الله عليه وسلم-، الله -تبارك وتعالى- يقول له {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، للنبي، هذا كله وهؤلاء الكفار الذين عميَت أبصارهم عن رؤية الحق؛ عميت أبصارهم عن رؤية هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، كيف يعمى إنسان وهذا النبي قائم في وسطهم؟ وهذه كل أعمال وصفاته شاهدة على أمانته، وصدقه، وخُلُقِه الجَم، ورجاحة عقله، وفضيلته، كانوا يقولون له إنك لتصِل الرحم، وتحمل الكَّلْ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، يعلمون هذا منه قبل أن يبعثه الله -تبارك وتعالى-، وبعد البعثة أدَّبه الله -تبارك وتعالى- وعلَّمه بهذا التعليم العظيم، وكان خُلُقُه كما قالت أم المؤمنين عائشة كان خلُقُه القرآن، ومع هذا لم يُبصِر هؤلاء العميات رسول الله -تبارك وتعالى- كما هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-.
سنقف هنا ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية.