الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2] {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3] {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7] {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16]، ن؛ حرف من الحروف المُقطَّعة، كـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، و{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك فقال {........ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، قيل القلم؛ الأقلام، بالأف واللام هذا آلة الكتابة وهو من أعظم نِعَم الله -تبارك وتعالى- على الناس، {........ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بكل ما يخُطُّه الإنسان، فهو المُعلِّم -سبحانه وتعالى- {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5]، -سبحانه وتعالى-، أو القلم؛ قلم المقادير الذي كتب الله -تبارك وتعالى- به مقادير كل شيء، وما يسطرون؛ الملائكة الذي يُسطِّروا أعمال بني آدم.
بعد هذا القَسَم نفى الله -تبارك وتعالى- ما ذكَرَه المجرمون من الكفار عن النبي -صل الله عليه وسلم- بأنه مجنون، قال {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2]، نعمة الله -تبارك وتعالى- على نبيه بالنبوَّة، والرسالة، وبأن يجعله الله -تبارك وتعالى- إمامًا للعالمين؛ وقائدًا للخلْق أجمعين، ورحمة للأمم كلها، ورحمة للعالمين -صلوات الله والسلام عليه-، وسراجًا مُنيرًا إلى يوم الدين -صلوات الله والسلام عليه-، كيف يكون مثل هذا مجنون؟ الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الرسالة وأنزل عليه هذا القرآن؛ كلامه -سبحانه وتعالى-، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3]، أجر لا ينقطع عند الله -تبارك وتعالى- في الجنة، وإنك؛ أي محمد -صل الله عليه وسلم-، {........ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، شهادة الله -تبارك وتعالى- وقد شهِدَ بهذه الشهادة كل ذي عقل ولُب، حتى الكفار أنفسهم قبل أن يُرسِل الله –تبارك وتعالى- هذه الرسالة قد كان النبي محمد -صل الله عليه وسلم- الصادق، الأمين، وذو العقل الراجح، ولكنهم قلبوا هذه الأمور كلها وكذبوا وافتروا بعد أن جائهم بالحق المبين من ربهم -سبحانه وتعالى-؛ وبالهُدى والنور، فأُفِكوا؛ وأنقلبوا، وأصبحوا يسبُّونه بهذه السِباب ويشتمونه بهذه الشتائم، ويعتقدون فيه هذا الاعتقاد النجس بأنه ساحر؛ وأنه مجنون، ويقولون فيه هذه المقالات.
قال -جل وعلا- {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6]، هذا تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى- أنه سيُعلَم مَن هو المفتون حقًا؛ هل هو الرسول كما يدَّعي هؤلاء المجرمون ويقولوا أنه مجنون؟ أم هم هؤلاء المُفتَرون المُكذِّبون؟ فستُبصِر في مستقبل الأيام والبصر هو أن ينفتح بصر المخلوق ليرى الأمور على حقيقتها، فالله -تبارك وتعالى- مؤيِّد رسوله ومُثبِت للعالمين أن هذا رسوله إلى الخلْق أجمعين -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[ص:87] {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:88]، فسيعلم العالم كله ما هذا الدين وما هذه الرسالة التي جاء بها هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- بعد أن يؤيِّده الله؛ ويُصدِّقه الله، ويقوم كل الأدلة على صدقه وأمانته -صل الله عليه وسلم-؛ وأن ما جاء به هو الحق، وهو النور، وهو الهُدى، {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5]، يُبصِرون هؤلاء الذين يتهمون النبي -صل الله عليه وسلم-، {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6]، مَن؟ النبي -صل الله عليه وسلم- أم هؤلاء الكفار المفتونون، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- شهادته لرسوله ونفى عنه ما يقول هؤلاء الأفَّاكون الكاذبون أخبر -سبحانه وتعالى- أنه أعلم بخلْقِه -سبحانه وتعالى-، إن ربك؛ يا محمد، وإضافة الرسول إلى الله -تبارك وتعالى- في قوله {إِنَّ رَبَّكَ}، هذا إعزاز له وإكبار للنبي محمد -صل الله عليه وسلم-، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7]، هو أعلم بخلْقِه كلهم -سبحانه وتعالى-، بمَن ضل عن سبيله؛ عن الحقيقة، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، وقد كان الكفار يظنون ويعتقدون بأن النبي محمد قد فارق طريق الهُدى إلى طريق الضلال؛ وأنه صبأ عن دين قومه، وأن دين قومه هو الحق وهو الذي يوافق العقل، وأن ما خرج إليه النبي؛ خرج إلى جنون، وإلى إفك مُفترى، وأساطير تُملى عليه، وأن مغلوب على عقله -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7]، ولا شك أن المُهتدي هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-؛ وأن الذي ضل هم هؤلاء المجرمون.
ثم قال -جل وعلا- {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8]، فلا تُطِع المُكذِّبين في ما يدعونك إليه، فقد كانوا أحيانًا يدعون النبي -صل الله عليه وسلم- إلى خُطة وسط؛ أن يسكت عنهم ويسكتوا عنه، أن يسكت عن آلهتهم، أن يقترب معهم كما يُقال في نصف الطريق؛ يأخذ منهم شيء ويقبلون منه شيء، {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8]، كذلك قد كانوا يدعونه إلى أن يُبدِّل هذا القرآن؛ وأن يُغيِّره، وأن يأتي بشيء يوافق أهوائهم، قد أمروا النبي وقد دعوه إلى أمور كثيرة من الجهل والكفر؛ نهاه الله -تبارك وتعالى- أن يُطيع هؤلاء، قال {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8]، وهذا وصفهم الذي يستحقونه وهو الوصف الحقيقي لهم، المُكذِّبين يعني الذين عرفوا الصدق ولكن كذَّبوه وردوه، فقد ردوا الحق الذي جائهم من الله -تبارك وتعالى- وسمُّوه كذب؛ فهذا مُكذِّب، مُكذِّب بماذا؟ ليس مُكذِّب بكذب؛ مُكذِّب بالصدق، رد الصدق الذي جائه من الله، {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8].
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- مهانتهم فقال {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9]، ودُّوا؛ تمنوا وأحبوا، لو تُدهِن بمعنى أن تُداهِنهم؛ يعني أن تسكت عن باطلهم فيسكتوا هم كذلك عن هذا، أو أن تتنازل عن شيء فيتنازلوا هم كذلك، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9]، كذلك هم ليسوا أصحاب عقيدة وإيمان متمسكون بها، بل هم مستعدون أن يتنازلوا عن شيء مما عندهم في سبيل أن تتنازل عن شيء مما عندك، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9]، ثم قال -جل وعلا- {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10]، حلَّاف؛ كثير الحلِف، والذي يعمد إلى كثرة الحلِف لا شك أن دافعه في هذا أنه يرى أن الناس لا يُصدِّقونه؛ وأنه يعمد إلى الحلِف ليحملهم على تصديقه، وهو يعلم أنه من كذبه في هذا فهو يُغلِّف هذا الكذب بهذه الأيمان الباطلة؛ وهذا من مهانته، مهين، يعني من مهانته ومن ذلِّه فإنه يعمد إلى هذا الأمر، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11]، همَّاز؛ كثير الهمز، فهي فعَّال صيغة مبالغة من الهمز، والهمز هو السخرية عن طريق الإشارة أو عن طريق الكلام، {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11]، مشَّاء؛ كثير المشي كذلك والسعي بين الناس، بنميم؛ بالنميمة، والنميمة هي أن ينقل كلام شخص إلى شخص أخر بقصد الإفساد والوقيعة بين الشخصين وإن كان صادقًا، يعني قد يكون صادق؛ فإنه سمع الكلام هذا، ولكن هذا الكلام إذا سمعه الأخر فإنه يضره ويُثير حفيظته على الأخر، ولا يفعل هذا إلا صاحب خُلُق مَهين لا يسعى بخير وإنما يسعى بهذا الشر؛ فإن النميمة من أعظم الشر، ولذلك قال النبي «لا يدخل الجنة نمَّام»، فالنمَّام مَهين ويحب الإفساد بين الناس، والهمز كذلك السخرية بالناس والاستهزاء بهم عن طريق الإشارة أو عن طريق الكلام.
{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ........}[القلم:12]، منَّاع؛ كثير المنع للخير، يعني أنه يمنع الخير المرة تلوا المرة تلوا المرة؛ فلا يبِضُّ بقطرة، هذا إنسان لا يحب أن يؤدي الخير إلى غيره، {مُعْتَدٍ}، فيمنع الخير وفيه عدوان بالظلم، {........ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12]، فاعل الإثم، هذي كلها صفات قد تجتمع في شخص واحد، هذه على كل حال صفات الكفر، قيل أن هذا الوصف إنما هو للوليد ابن المُغيرة؛ وقد كان من ألد أعداء النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهو صاحب اللسان الذي اخترع لهم المقالة التي يقولونها في النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهو أن يقول أن هذا الرجل قد أتى بكلام سِحر؛ يُفرِّق به بين الرجل وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين الزوج وزوجه، وكان لآيات الله -تبارك وتعالى- عنيد، وتصدَّى بالعدواة للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فاجتمعت فيه هذه الخِصال الذميمة وهي على كل حال خِصال الكفر، فإن خِصال الكافر فيها هذه الخِصال، وهذه هي صفات الذين ناوئوا النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وردوا مقالته، واتهموه بما اتهموه به؛ اتهموه بأنه مجنون، والحال أنه رسول الله -صل الله عليه وسلم- الذي كان في مُنتهى الخُلُق؛ كان هو الإنسان الكامل في أخلاقه -صلوات الله عليه وسلم-، خير البرايا؛ خير ما برأ الله -تبارك وتعالى- من البشر، ثم يُتهَم من هؤلاء المجرمين بهذا الاتهام.
ثم قال -جل وعلا- {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13]، يعني أن من الصفات العُتُل؛ العُتُل اللي هو الجوَّاظ الظلوم الذي لا رحمة في قلبه، {........ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13]، بعد كل هذه الصفات هو زنيم يعني أنه مُلحَق بما نُسِبَ إليهم؛ غير أصيل في نسبته، أو زنيم؛ له علامة يُعلَم بها، علامة في هذه الصفات القبيحة، {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14]، يعني أن الذي حمله على التكذيب وعلى هذا مع اتصافه بكل هذه الأخلاق الدنيئة أنه ظن في نفسه أنه صاحب مال وبنين، {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14]، فاغتر بهذا؛ واغتر بما عنده من المال والبنين، واتصَف بهذه الصفات، وعاند النبي -صل الله عليه وسلم- وقال فيه ما قال، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15]، فهذا الفاجر إذا تُتلى عليه آياتنا؛ آيات الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، أساطير جمع أسطورة؛ والأسطورة من التسطير، يعني أنها سطَّرها الأولون؛ ناس قبلنا سطَّروا هذا وجاء به النبي، فيُقال أن النبي جاء بسحر؛ كلام سحر، كلام سحر مما سطَّره السابقون، وهذا السحر يقول أنه مُفسِد للناس يعني أن يُفسِد مجتمع الناس؛ فيُفرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الابن وأبيه، وبين الزوج وزوجه، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15]، ثم قال -جل وعلا- {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16]، الوسْم؛ العلامة، سَنَسِمُه؛ سنُعلِّمه، على الخرطوم؛ على أنفه بشيء يجعله الله -تبارك وتعالى- علامة له، أو {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16]، يعني هذا من العذاب الذي سيلقاه يوم القيامة؛ أنه يوسَم بالضرب على أنفه، وهذا من إذلاله يوم القيامة، {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16].
ثم قال -جل وعلا- مصوِّرًا حال هؤلاء الكفار في إنكارهم للفضل والنعمة التي جاء بها النبي -صل الله عليه وسلم- ووصفه لهم بهذه الصفة؛ أنه ضرب لهم الله -تبارك وتعالى- مثَل بأصحاب هذه الجنة الأرضية، قال -جل وعلا- {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}[القلم:17]، إنَّا بلوناهم؛ اختبرناهم، هؤلاء كفار قريش؛ كفار مكة، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ........}[القلم:17]، أصحاب الجنة؛ أصحاب بستان، جنة أرضية؛ جنة في الأرض بستان لهم، {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} {وَلا يَسْتَثْنُونَ}[القلم:18]، أقسَموا وقالوا أنهم إخوة وتحالفوا في ما بينهم أنهم يجمعوا ثمار جنتهم مُصبِحين؛ في صباح هذا اليوم، {وَلا يَسْتَثْنُونَ}[القلم:18]، ما قالوا إن شاء الله ولا شيء؛ ولكنهم كأنهم عازمون على ذلك، مطمئنون إليه، وأنهم فاعلون هذا، وأنهم ما علَّقوا أمر سيحصل في المستقبل أو في الغد على مشيئة الرب -تبارك وتعالى-؛ فإن الأمر كله بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، لكن هؤلاء مُغتَرون بقوتهم؛ مُغتَرون بما عندهم، وأن هذا الأمر الذي سيفعلونه؛ سيفعلونه، {وَلا يَسْتَثْنُونَ}[القلم:18]، ما قالوا إن شاء الله سنجمع ثمار جنتنا غدًا صباحًا؛ ما قالوا هذا.
أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُعاقِبهم ويجعلهم آية ومثَل؛ هذا المثَل ضُرِبَ لقريش ليروا أن العذاب ممكن يكون بأسرع مما يتصوَّرون وما يتخيلون، قال -جل وعلا- {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}[القلم:19]، طاف عليها؛ على جنتهم، على بستان هؤلاء القوم وهم ثلاثة، {........ طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}[القلم:19]، طائف ليُحرِقها، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}[القلم:20]، الله -تبارك وتعالى- أرسل لها طائف من عنده؛ طائف حريق ونار، وهم نائمون وقد عزموا صبيحة يومهم أن يذهبوا ليجمعوا ثمار جنتهم وكأنهم مُتأكِّدون من هذا كل التأكيد، قال -جل وعلا- {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}[القلم:20]، أصبحت جنتهم كالصريم؛ كالليل الأسود، يعني مُحترِقة مثل الليل؛ سوداء، {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ}[القلم:21] {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ}[القلم:22]، فتنادوا؛ نادى بعضهم بعض، مُصبِحين؛ في الصباح، أن اغدوا؛ الغدو هو الخروج صباحًا، على حرثكم؛ على زراعتكم، إن كنتم صارمين؛ الصرم اللي هو قطع ثمارهم، قال -جل وعلا- {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}[القلم:23] {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}[القلم:24]، فانطلقوا؛ أي لجمع ثمار جنتهم، وهم يتخافتون؛ أن قد تواصوا بالكتمان، وأن يذهبوا ليجمعوا ثمار جنتهم دون أن يحس بهم أحد من الفقراء الذي يبدوا أنهم كانوا مُتعوِّدين؛ أن في وقت الحصاد يأتي الفقراء والمساكين ومَن يأخذوا الزكاة فيكونوا حاضرين، فهذه المرة الإخوة الثلاثة قد اتفقوا في ما بينهم على أن لا يحس بهم أحد ولا يسمع بهم أحد من الفقراء؛ ويجمعوا ثمار جنتهم لهم ولا يُعطوا منها فقيرًا شيئًا، والله -تبارك وتعالى- يُصوِّر الأمر على هذا النحو؛ انظر جنتهم احترقت، وهم الآن قائمين يوقِظ بعضهم بعضًا ويقولوا لنذهب ولا تتكلموا، ولا يتكلم أحد، ولا يسمع بكم اليوم فقير فيأتي.
قال -جل وعلا- {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}[القلم:23]، انطلقوا؛ أي إلى جنتهم، وهم يتخافتون يعني يحاول كل منهم أن يخفِت صوته وحركته، {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}[القلم:24]، هذا الذي تعاقدوا عليه؛ وذهبوا خُفية على هذا النحو، حتى لا يسمع مسكين بيومهم هذا الذين يجمعون فيه ثمار الجنة ولا يأتيهم أحد، {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا ........}[القلم:24]، الجنة؛ البستان، {........ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}[القلم:24]، قال -جل وعلا- {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}[القلم:25]، غدَوا؛ ساروا صباحًا، على حرد؛ على منع، على منع الفقراء والمساكين حقهم، قادرين؛ في ظنهم، في ظنهم أنهم قادرون على هذا؛ قادرون على ثمار جنتهم، وأنهم لن يُعطوا أحدًا منها شيء، والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد أوجب على أهل الثمار أن يُخرِجوا منها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فهذا أمر واجب أن يُعطوا الفقير والمسكين، ويبدوا أن مَن كان قبلهم كان يُعطي هذا؛ أباهم، ولكن هؤلاء كانوا خلف سيئ فلم يُريدوا أن يُعطوا فقيرًا شيئًا، قال -جل وعلا- {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}[القلم:25] {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}[القلم:26]، كانت المفاجأة أنهم لمَّا وصلوا إلى بستانهم وجنهم ورأوها قالوا في أول الأمر إنَّا لضالون، يقولوا يبدوا أننا ضللنا الطريق؛ ليست هذه جنتنا، وليس هذا بستاننا، بالأمس كان شيء أخر، {........ قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}[القلم:26]، بالتأكيد، ثم قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[القلم:27]، بل؛ بالتأكيد، {........ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}[القلم:27]، من بستاننا هذا قد حُرِمنا بعد ان احترق وذهب على هذا النحو، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، قيل أوسطهم يعني أعدلهم وأفضلهم؛ أفضل هذه المجموعة، أفضل هؤلاء الإخوة، {........ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]، يعني ذكَّرَهم بالله -تبارك وتعالى-؛ وأنهم يجب أن يُسبِّحوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وأن يتوكَّلوا عليه، وأن يعتمدوا عليه، وأن يروا حق الفقير ولا يسيروا هذا المسار، فذكَّرَهم بموعظته لهم قبل هذا، {........ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28].
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[القلم:29]، قالوا عند ذلك ورجعوا سبحان ربنا؛ تنزيهًا لربنا -سبحانه وتعالى-، {........ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[القلم:29]، اعترفوا بذنبهم وقالوا إنَّا كُنَّا ظالمين عندما تعاهدنا وتعاقدنا على ألا نُعطي مسكينًا ثمرة من ثمار بستاننا، {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا ........}[القلم:29]، وتسبيح الله -تبارك وتعالى- تنزيهه -سبحانه وتعالى-، وهذا مقام للتسبيح؛ أن يُسبِّحوا الله -تبارك وتعالى-، فإن الله هو الذي يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُربى، يأمر بالخير، يأمر بإعطاء الزكاة، تسبيحًا لله -تبارك وتعالى- يعني أن نُسبِّح الله -جل وعلا- وننزِّهه عن كل عيب ونقص، {........ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[القلم:29]، فاعترفوا بأنهم قد كانوا ظالمين في ما تعاقدوا عليه، ثم قال -جل وعلا- {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ}[القلم:30]، يعني يلوموا بعضه بعضًا؛ مَن الذي تسبب منهم في هذه الخسارة؟ ومَن الذي أوحى لهم بهذه الفكرة؟ ومَن الذي اندفع يُقنِع الأخرين بأنه ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ أن يذهبوا سِرًّا وأن يجمعوا ثمار بستانهم دون أن يعلم بهم أحد، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ}[القلم:30] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}[القلم:31]، قالوا؛ يعني بعد أن عرفوا ذنبهم وخطيئتهم، يا ويلنا؛ دعاء على أنفسهم بالويل تفجُّع وتوجُّع، إنَّا كُنَّا طاغين؛ لقد كُنَّا طاغين، هذا من الطغيان، فهذا البستان عطاء من الله -تبارك وتعالى- ونعمة منه؛ لِما لم نُعطي حق الفقير منه؟ لِما لا نُراعي حق الفقير؟ لماذا؟ ما الذي يضرنا لو أعطينا حق الفقراء وجعلنا المساكين يأتوا وأعطيناهم حقهم؟ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}[القلم:31].
لمَّا اعترفوا بهذا أرادوا أن يُبدِلَهم الله -تبارك وتعالى- ويَمُنَّ عليهم في مستقبل الأيام فقالوا {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}[القلم:32]، عسى للترجِّي؛ رجوا من الله -تبارك وتعالى- أن يُبدِلَهم بخير من هذا البستان الذي احترق على هذا النحو، فيُنشئ لهم بستان أخر أو تكون لهم جنة أخرى غير هذه، فقالوا {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}[القلم:32]، إنَّا؛ بالتأكيد، إلى ربنا؛ لا إلى غيره، راغبون؛ نرغب في الفضل الذي عند الله -تبارك وتعالى-، وهذا من رحمة الله بهم أن جعلهم يرجعون بعد ما شافوا هذا العذاب السريع الذي جائهم؛ وهذه العقوبة السريعة التي جائتهم على هذا النحو، فرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- واعترفوا بذنبهم وقالوا إنَّا عائدون إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وراغبون في أن يُبدِلَ الله -تبارك وتعالى- لنا بستان غير هذا البستان، قال -جل وعلا- تعقيبًا على ذلك {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}، انظر العذاب يأتي في ليلة، بمجرد ما هؤلاء نووا الشر؛ وعزموا عليه، وذهبوا إليه، عاقبهم الله -تبارك وتعالى- في التو والحال، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ}، فهذا من سرعة عقاب الله -تبارك وتعالى- لهم على الذنب الذي أذنبوه، فانظر سرعة عقاب الله -تبارك وتعالى- لهم.
قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}، انظر هذا عذاب مُهلِك، انظر الأمر الذي حرصوا عليه وأرادوا أن يحوذوه كله ولا يُعطوا الفقير المسكين، كل الأمر أن يُعطوا الفقير حقه وهو في ما فرَضَ الله -تبارك وتعالى- على أهل الإسلام العُشْر أو نصف العُشْر؛ عُشْر ما يخرج من الأرض، أو نصف عُشْر ما يخرج منها، ففي ما سُقيَ بالسماء العُشْر، أو نصف العُشْر في ما سُقيَ بالآلة، فأمر قليل وكان الله -تبارك وتعالى- نمَّى لهم؛ يعني هذا الذي بقيَ لهم كان نمَّاه الله -تبارك وتعالى-، وكان لهم الخير في هذه الدنيا ولهم الخير في الآخرة، فالذي أخرجوه كذلك مُدخَر لهم؛ يعني الذي أخرجوه للفقير والمسكين مُدخَر لهم، فما كان مطلوب منهم إلا إعطاء حق الفقير؛ وإلا أن يقولوا ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، إلا أن يقولوا عندما يقولوا غدًا سنجمع ثمار بستاننا غدًا فيقولوا إن شاء الله، ما يقولوا هذا جامعينه جامعينه؛ البستان موجود، والثمار موجودة، ونحن رجال موجودون، ولابد أن يكون... لا؛ في هذا الأمر قولوا إن شاء الله، فهذا الذي خالفوا فيه؛ أنهم لم يقولوا إن شاء الله غدًا، لم يُراعوا حق الفقير، فخسروا كل شيء، فالله يقول {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}، أنه يأتي سريعًا، وأنه يأتي ماحِقًا، وأن هذه خسارتهم في الدنيا، انظر بقى إذا كان بقيوا على عنادهم وكفرهم يكون عذاب الآخرة أكبر من هذا، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[القلم:33]، عذاب الآخرة للمُكذِّبين ولمانعي الزكاة على أموالهم أكبر من هذا، فإن النبي قال -صلوات الله والسلام عليه- «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتهما إلا صُفِّحَت له يوم القيامة صفائح، ثم يُحمى عليها في نار جهنم فيُكوى بها جبينه، وجنباه، وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، صاحب الزكاة يُعذَّب بماله، كل مَن اكتنز شيئًا يُعذَّب به خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك يُرى سبيله هذا إذا كان من أهل الإيمان؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار، فعذاب الآخرة لا شك أنه أكبر من عذاب الدنيا، عذاب الدنيا قد يكون عذَّبهم الله -تبارك وتعالى- بأن فقدوا رأس مالهم ففقدوا جنتهم، لكن عذاب الآخرة أكبر من هذا فقال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[القلم:33]، وهذا تذكير لقريش المُكذِّبة بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أن يأتيهم العذاب السريع؛ وقد جاء بعضهم، أهلك الله -تبارك وتعالى- منهم مَن أهلك في بدر، كل هؤلاء الذين عاندوا النبي -صلوات الله عليه وسلم- وقالوا فيه ما قالوا أهلكهم الله، أما المُستهزِئين فإن الله أهلكهم في مكة، وأما الأخرون من كبار القوم فإن الله أهلكهم في بدر.
نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.