الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (735) - سورة القلم 45-52

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[القلم:46] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[القلم:47] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[القلم:48] {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}[القلم:49] {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القلم:50] {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:51] {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]، يُسلِّي الله -تبارك وتعالى- رسوله -صل الله عليه وسلم- ويُثبِّته بعد أن قال فيه الكفار هذه المقالة؛ واتهموه الجنون -صلوات الله والسلام عليه-، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2]، أي كما يقول هؤلاء المجرمون، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3] {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6]، وفي ختام هذه السورة قال -تبارك وتعالى- لرسوله {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44]، أي فتترك أمر عقوبة هؤلاء المجرمين إلى الله -تبارك وتعالى-، المُكذِّبين بهذا الحديث؛ كتاب الله -تبارك وتعالى- المُنزَل منه -سبحانه وتعالى-، فذَرني يعني أن أمر عقوبتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، {........ وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم، سنستدرجهم؛ سنستنزلهم، الاستدراج هو استنزال العدو ليذهب إلى هلاكه وهو مخدوع، وهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يُمهِلههم، «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِته»، يُنعِم عليهم بشتَّى النِعَم فيظنون أنهم على الحق؛ وأن الله -تبارك وتعالى- معهم، وأن خصمهم على الباطل، ويكون بهذا نوع من الاستنزال لهم والاستدراج لهم، {........ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44]، أي بتوفُّر النِعَم وبإعطائهم الصحة والقوة حتى يغتروا بما هم فيه، كما قال -تبارك وتعالى- {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ}[آل عمران:196] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:197]، وقال {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام:44] {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:45].

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45]، أُملي؛ أُمهِل، الإملال والإمهال هو ترك العدو ليستمر في طُغيانه وفي عمايته إلى أن يأتيه الله -تبارك وتعالى- بالقاصمة، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45]، كيد الله -تبارك وتعالى- لهم، معنى أنه يكيد لهم -سبحانه وتعالى- أنه يُدبِّر لهم في الخفاء هلاكهم وهم لا يظنون أنه ينتظرهم ما ينتظرهم هذا من العقوبة، بل يظنون أن الله -تبارك وتعالى- إنما هو معهم، وقد كان الكفار في مكة مُغتَرين بما عندهم؛ من المال، ومن القوة، ومن الجاه، ومن المُكنة، ويرَون أن حال المؤمنين مع الرسول -صلوات الله والسلام عليه- هم تحت قهرهم، فيظنون من هذا الأمر أنهم هم أهل الحق وأن أهل الإيمان هم أهل الباطل، وكون هذا إنما هو استدراج لهم من الله -تبارك وتعالى-؛ يستدرجهم بالنِعَم ليكون هلاكهم بعد ذلك، {وَأُمْلِي لَهُمْ}، أي أُمهِلهم في طُغيانهم؛ وفي كفرهم، وفي عنادهم، مع ما يُعطيهم الله -تبارك وتعالى- من هذه الدنيا، {........ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45]، كيد الله -تبارك وتعالى- لهم متين، لا أحد يستطيع أن يكيد الرب -تبارك وتعالى-، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15] {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[الطارق:16]، هم يكيدون للإسلام والله -تبارك وتعالى- يكيد لهم كيدًا، ولا يمكن أن يُكافئ ويقاوم كيد المخلوق الضعيف الهزيل كيد الله -تبارك وتعالى-، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50] {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51]، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]، فهم يمكرون ويُدبِّرون بالخفاء للنبي -صل الله عليه وسلم- ليفتكوا به؛ وليقتلوه، يُثبِتوه في مكة فيسجنوه فيها؛ أو يُخرِجونه منها، أو يقتلوه، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُدبِّر من ورائهم تدبيرًا أخر، فانظر كيف كان تدبير الله -تبارك وتعالى- لرسوله؟ وكيف كان تدبيره لهؤلاء؟ كيف أهلكهم الله -تبارك وتعالى- وجعل عاقبتهم السوء في الدنيا والآخرة؟ وجعل عاقبة النبي -صل الله عليه وسلم- وأهل الإيمان هي الحُسنى، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45].

ثم قال -جل وعلا- {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[القلم:46]، يعني هل تسألهم أجر؟ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا}، تسأل الكفار أجر على دلالتهم على هذا الخير؛ ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وبيان الصراط لهم، والنبي -صل الله عليه وسلم- إنما جاء بخير الدنيا والآخرة؛ وهو لا يطلب من أحدٍ أجرًا على هذا، فيُقال {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا}، بالتالي على هدايتهم وتعليمهم، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ}، من الغُرْم ومن التكلفة؛ تكلفة الأجر، {مُثْقَلُونَ}، وبالتالي انصرافهم عن الدين يكون فقط من التكاليف التي سيتكلَّفونها، والحال أن رُسُل الله -تبارك وتعالى- جميعًا إنما يقومون بدعوة الناس إلى الله -تبارك وتعالى- دون أن يسألوهم أجر على هذا، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، فكل الرُسُل إنما دعوا إلى الله -تبارك وتعالى- دون أن يأخذوا من أحدٍ ثمنًا على هذا، عِلمًا أنهم جائوا بأعظم ما يمكن أن يؤتى به الإنسان؛ بالهداية، بالسعادة، بالفوز الأكبر في الدنيا والآخرة، ومع هذا فإنهم لا يطلبون من أحدٍ أجرًا على هذا، وبالتالي ما الذي يحول بين هؤلاء وبين الدخول في الدين؟ هل هناك ضريبة يجب أن يدفعوها حتى يدخلوا ويتعلَّموا هذا الدين؟ يقول لهم النبي أنا لا أُعطي أحدًا هذا الدين؛ ومفاتيحه، وعمله، وأُعلِّمه إلا بأن يدفع نقودًا، والحال أن هذا غير موجود، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[القلم:46].

{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[القلم:47]، أم عندهم الغيب فعلموا ماذا سيكون من الأحداث؟ فهم يكتبون؛ يكتبون لأنفسهم ما شائوا، يعني هل المستقبل بأيديهم وبالتالي يكتبون لأنفسهم من هذا الغيب ما شائوا؛ ويخُطُّون لأنفسهم ما شائوا من مستقبل الإيام؟ والحال أن الغيب ليس عندهم وإنما الغيب لله -تبارك وتعالى-، وبالتالي هؤلاء عُميان لا يعلمون ما يُدبِّر الله -تبارك وتعالى- لهم ولكل كافر عندما يكفر؛ ما الذي يترتَّب على هذا الكفر؟ {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[القلم:47]، والحال أنه ليس عندهم هذا، كل الفروض التي يمكن أن تُفرَض ليكون لهؤلاء حُجَّة؛ برهان، مَنَعَة، سبب في أن يتمسَّكوا بباطنهم، لا سبب؛ ما يملكون أي سبب من الأسباب، فالله -تبارك وتعالى- يقول {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]، فهذه القضية العقلية والتسوية العقلية، لا يمكن أن يجعل الله -تبارك وتعالى- خالق السماوات والأرض مصير المسلم كمصير المجرم، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، فهذا بالنسبة لا عقل عندهم عندما يظنون أن الله -تبارك وتعالى- يُسوِّي في النهاية بين المسلم والمجرم، {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}[القلم:37]، عقائدكم هذه التي تعتقدونها ومسائل الإيمان؛ هل عندكم فيها كتاب من الله -تبارك وتعالى- فأنتم تدرسوه واخترتم هذا؟ ولا الحال أنهم جُهَّال وأنشأوا هذه العقائد بأهوائهم وبظنونهم؛ ولا كتاب عندهم في هذا من الله -تبارك وتعالى-، فلو كان لهم كتاب يقول الله {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}[القلم:38] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[القلم:39]، هل تكفَّلَ الله -تبارك وتعالى- لكم وأقسم لكم بأن تكون لكم العُقبى الحسنة والحياة الطيبة بأيمان على الله -تبارك وتعالى-، أو أقسمتم على الله -تبارك وتعالى- أيمان والله مُنجِزُها لكم، {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}[القلم:39]، لكن كان لكم هذه الأيمان عند الله فعند ذلك لكم ما تحكمون، والحال أن شيئًا من هذا غير موجود بيد الكفار.

{سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ}[القلم:40]، مَن الذي يزعم أي زعم في هذا؟ أم لهم شركاء مع الله -تبارك وتعالى-؟ وبالتالي إذا كان لهم شركاء مع الله فهم يشرَكون الله في خلْقِه؛ في رزقه، في أمره، وبالتالي في عبادته، {........ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[القلم:41]، ثم ذكَرَ الله {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم:42] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، هذا هو الحال الذي سيكونون عليه في الآخرة، {........ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}[القلم:43] {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44]، يعني إلى حتفهم، {وَأُمْلِي لَهُمْ}، يظل في إجرامه؛ وفي كفره، وفي عناده، وهو يُرزَق ويُعافى في صحته وفي قوته؛ فيغتَر بهذا، {........ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] {وَأُمْلِي لَهُمْ}، أُمهِلهم في الزمان، {........ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[القلم:46]، هل الذي يحجبهم عن الدخول في الدين هو الغُرْم، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[القلم:47]، عرفوا ماذا سيكون في المستقبل أو عندهم الغيب وهم الذين يكتبونه فيتخيَّرون منه ما يشائون، في النهاية ظهر الكافر بأنه لا عقل له؛ ولا يستند في اعتقاده إلى برهان وإلى دليل، بل هو مخدوع؛ مُغَرٌّ به؛ يسير في هذا والله -تبارك وتعالى- خادعه وهو الذي يكيد به، ولا شك إذا كان الله -تبارك وتعالى- هو الذي يكيد به وحتفه عند الله -تبارك وتعالى- فهو هالك لا محالة.

بعد ذلك يقول الله -تبارك وتعالى- لرسوله {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، أنت حُمِّلت رسالة؛ وهذه الرسالة لابد أن تُجابِه فيها مجرمين يسبُّونه، يشتمونه، ينسبونه إلى أكثر من الجنون، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، أن هذه الرسالة لابد أن يقوم فيها؛ وأن كل رسول لابد أن يُجابَه بمثل هذا، وقد قال الله لرسوله {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ........}[فصلت:43]، فالذين يقولونه لك قد قالوه، ما في رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلا قيل له ساحر أو مجنون؛ ولقى من التكذيب، ولقى من المعاندة ما لقى، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31]، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، حُكْم ربك أنه أرسلك رسولًا إلى الناس؛ وأنك لابد أن تلقى مَن يُعانِدُك، ومَن يُكذِّبُك، ومَن يسبُّك، ومَن يتهمُك، ومَن يشينك، وأنت عند الله -تبارك وتعالى- الرسول فقال -جل وعلا- {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7]، فالذي يُجابِهونه إنما هم الكذَبَة، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[القلم:16]، فهذه هي النوعيَّات والنماذج التي تُجابِه الرسول -صلوات الله والسلام عليه- وتتهمه بما تتهمه به، والله يقول لرسوله {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[القلم:48]، وصاحب الحوت هو يونس ابن متَّى -عليه السلام-، وسُمِّيَ صاحب الحوت لأنه لمَّا خرج مُغاضِبًا قومه واستهمَ في السفينة وأُلقيَ في البحر التقمَه الحوت.

إذ نادى؛ أي ربه، وهو مكظوم؛ يعني يكظم همَّه، وغمَّه، وكربَه العظيم، فإنه سُجِنَ في بطن الحوت؛ وهذا أعظم سجن في الأرض وأشقُّه، وكان من شأنه ما قصَّ الله -تبارك وتعالى- في أنه خرج من قومه مُغاضِبًا لهم بعد أن عاندوه، وكذَّبوه، ولم يؤمنوا به، خرج مُغاضِبًا لهم يعني غضبان منهم، وقال لن يُضيِّق الله -تبارك وتعالى- عليّ في أن يُرسِلَه إلى أخرين؛ وخرج دون أن يأمره الله -تبارك وتعالى- بالخروج، والنبي لا يحِل له وقد كُلِّفَ بإبلاغ قوم فلابد أن يقوم بهذا البلاغ؛ وأن يصبر لحُكْم الله -تبارك وتعالى-، وألا يُفارِق قومه حتى هِجرة إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، أما أن يخرج وقد حُمِّل رسالة... لا، فلمَّا خرج دون أن يأذن الله وترك قومه مُغاضِبًا لهم كما قال -تبارك وتعالى- {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:87]، فخرج وركب إلى سفينة في البحر، ثم بعد ذلك السفينة لعب بها الموج وأرادوا أن يُخفِّفوا من حِملها وأن يُسقِطوا بعض ما فيها، فاستهموا بين الموجودين ومَن خرجَ سهمه تخلَّصوا منه لتخِف السفينة حتى ينجوا الباقين، فخرج سهمه فأُلقيَ في البحر وهيَّأ الله -تبارك وتعالى- له حوت ليبتلعه، نادى ربه -سبحانه وتعالى- وهو في بطن الحوت فقال {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أولًا بصفته العُظمى أنه الإله الذي لا إله إلا هو؛ قال {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}، تنزيهًا لك، {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، مُعترِفًا بذنبه فأنجاه الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول لرسوله فاصبر لحُكْم ربك على أذى هؤلاء الكفار؛ فإن هذا بعين الله -تبارك وتعالى- وبأمره، وهذا تكليف الرسالة من الله فلابد أن تصبر الله، وأن هذا الذي يُجابِهُك؛ من التكذيب، ومن السب، ومن الشتم، هذا أمر هو من لوازم الرسالة، كل رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- لابد أن يلقى مثل هذا من المجرمين، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31]، إذ نادى؛ أي يونس ابن متَّى وهو مكظوم.

قال -جل وعلا- {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}[القلم:49]، لولا أن الله -تبارك وتعالى- تداركه بنعمته ورحمته؛ وأمر الحوت بأن يقذفه إلى الشاطئ، {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ........}[القلم:49]، في إنقاذه، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}، لكان قد نُبِذَ بالعراء وهو مذموم؛ والحال أن الله -تبارك وتعالى- تداركه، وإنما أمر الله الحوت أن يجعله في الشاطئ، وكلأه الله -تبارك وتعالى- بعنايته فأنبت عليه شجرة من يقطين، ثم بعد ذلك أعاده الله -تبارك وتعالى- إلى قومه الذين خرج منهم، يعني لولا أنه تداركته نعمة من ربه لكان نُبِذ بالعراء وهو مذموم، فلم يُنبَذ وهو مذموم وإنما ألقاه الحوت بغير ذم من الله -تبارك وتعالى- لأنه رجع إلى الله وقال {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.

قال -جل وعلا- {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ}، اجتباه؛ اختاره، واختصه، وأضافه -سبحانه وتعالى- إليه، {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ}، وقوله ربه هنا فيه دليل قُرب فإنه ربه -سبحانه وتعالى-، {........ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القلم:50]، جعل هذا الرسول من الصالحين بعد أن عاد إلى الله -تبارك وتعالى- وتاب، والحال أن الله -تبارك وتعالى- يقول لرسوله لا تكُن؛ إياك أن تكون، يعني تتبرَّم وتغضب أو تُفارِق قومك الذي يسُبُّونك كما فعل يونس، انظر كيف لقيَ من التأنيب ومن العقوبة التي ألجأته إلى الله -تبارك وتعالى-، {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القلم:50].

ثم صوَّرَ الله -تبارك وتعالى- غيظ وحُنْق الكفار على رسوله -صل الله عليه وسلم- فقال {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ........}[القلم:51]، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، كادَ من أفعال المُقاربة؛ يعني أوشك وأصبح قريب من هذا، {لَيُزْلِقُونَكَ}، الزَلَق هو ذهاب القدم عن محِلها، يعني ليذِلُّونك ويجعلونك تُذَل قدمُك، {بِأَبْصَارِهِمْ}، من النظر، يُقال نظرت إليه جزَرًا فكاد أن يقع أو كاد أن تذِل قدمه، يعني أن من غيظهم من الرسول من حُنقِهم عليه ينظرون إليه شَزَرًا، ويكاد مَن يُنظَر إليه على هذا النحو أن تذِل قدمه به من شراسة نظر الكفار إليه، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ........}[القلم:51]، يعني عندما سمعوا الذِّكر؛ الذِّكر بالألف واللام المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، وهو ذِكْر لأنه يُذكِّر بالرب -سبحانه وتعالى-، كلام الله -عز وجل- يُذكِّر بالله، وبغيبه، وبإكرامه وإنعامه لأهل طاعته، ويُذكِّر بعقوبته وبأسه -سبحانه وتعالى-، ويُذكِّر بالطريق إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا الذِّكر العظيم الذي هو أعظم تذكير للعبد؛ يُذكِّره أولًا بالحق الذي لا حق ورائه، ويُذكِّره كذلك بأنه يأخذه إلى طريق السعادة ويجنِّبه طريق الغواية؛ طريق النار، فهذا هو الذِّكر الحقيقي، لا ذِكر للإنسان يتذكَّر به ويتَّعِظ به أعظم من هذا.

{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}، لكن هذا الذِّكر يُحنِقُهم ويجعلهم في أشد الغضب وفي أشد الشراسة، وينظرون إلى النبي هذا النظر الذي يكادون به أن يُذِلُّوا قدمه من على الطريق من نظرهم الذي يمتلئ بالغيظ والكُره، وسبحان الله؛ كيف يكون هذا الفعل من الكافر وهذا رسول الله أكمل الناس خُلُقًا -صل الله عليه وسلم-؟ والذي أتى برسالة هي رحمة للعالمين؛ رحمة لهؤلاء المُكذِّبين، فجاء ليرحمهم ويأخذ بهم إلى طريق السعادة وطريق الجنة، ما في أعظم ولا أشرف ولا أجل من هذه المنحة؛ منحة الرب -تبارك وتعالى- في الإيمان والهِداية التي بها السعادة في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يُقابَل هذه المقابلة؛ يُقابِله الكفار هذه المقابلة، يُقابلون نعمة الله -تبارك وتعالى- هذه المقابلة، فيغضبوا على الرسول أشد الغضب الذي جائهم بالذِّكر من الله -تبارك وتعالى- الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:10]، فمع هذا يُقابِلوا هذا الذِّكر الإلهي بهذا، ويُقابِلوا رسول الله -تبارك وتعالى- البَر، الرحيم، الشفوق، الحريص عليهم، بهذا؛ بالغضب الشديد، وبالحُنْق الشديد عليه، وبالنظر حتى الشر في أنظارهم، يعني ما تركوا بابًا للشر حتى نظرهم إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- نظر غضب أو احتقار، {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}[الأنبياء:36]، فانظر حال هؤلاء المجرمين {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:51]، ويقولون؛ هؤلاء الكفار، إنه؛ الرسول -صل الله عليه وسلم-، لمجنون؛ بالتأكيد، انظر المؤكِّدات في الجملة؛ إنه بإن المؤكِّدة، لمجنون بدخول اللام على الخبر، يعني أنه ثابت عندهم في الجنون هذا أمر أكيد كأنهم لا يختلفون فيه؛ فهذا الذي يجزمون به، وهي مقالة بعيدة كل البُعد في الكذب، والبُهتان، والوقاحة، أن الإنسان يكذب وهو يعلم أنه كاذب على هذا النحو، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}، سبحان الله؛ عموا والنور أمامهم، والهُدى أمامهم، وهذا الرسول أمامهم ولكن هذا حُكمهم عليه -صلوات الله والسلام عليه-.

قال -جل وعلا- {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]، وما هو؛ هذا القرآن الذي جاء به الرسول والذي كان هو السبب في كراهيتهم للنبي وبُغضِهم له، وإلا فهم كانوا قبل أن ينزل على النبي -صل الله عليه وسلم- هذا القرآن كان مُعظَّمًا عندهم؛ وكان مأمونًا وصادقًا، فهو الصادق الأمين عندهم ومعظَّم ومُبجَّل عندهم، ولكنه لمَّا أتى بهذا القرآن أصبح العدو؛ أصبح هو عدوهم، وأصبح هو المجنون، وأصبح يُتهَم بكل هذه الاتهامات، والله يقول {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]، وما هو الذي جاء به هذا الرسول من عند ربه؛ القرآن، إلا ذِكرٌ للعالمين؛ للناس أجمعين، كل مَن على الأرض وإلى يوم القيامة، وانظر المُفارَقَة العظيمة جدًا؛ كيف يقولون أن الرسول مجنون؟ وكيف أن الذي جاء به إنما هو ذِكْر أولًا ليهتدي به العالمين؟ هداية للناس كلهم إلى طريق الحق من باب الإرشاد والبيان، ثم بعد ذلك يذكره ويتذكَّر به ويستفيد به مَن كتَبَ الله -تبارك وتعالى- له الهِداية من العالمين، وقد آمن بالنبي -صل الله عليه وسلم- واهتدى بهذا الذِّكر مَن اهتدى منذ أن النبي -صل الله عليه وسلم- تكلَّمَ به؛ وإلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة، فانظر كيف حال الكفار؟ أنهم وصفوا النبي بالجنون، والمجنون لا يأتي إلا بجنون؛ بما يُهزى به، والحال أنه قد جائهم بكلام الله -تبارك وتعالى- الذي أنزله -سبحانه وتعالى- ذِكرٌ للعالمين، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]، والصيغة صيغة استهزاء بهم وبيان الوادي البعيد من الضلال الذي ذهبوا إليه، والواقع الحق أنه رسول الله -صل الله عليه وسلم- الذي كَمُلَت أخلاق، وكَمُلَت صفاته، وأتى بالذِّكر الذي جعله الله -تبارك وتعالى- هِداية للعالمين.

الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.