الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (736) - سورة الحاقة 1-15

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، {الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1] {مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:3] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}[الحاقة:4] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}[الحاقة:5] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10] {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، سورة الحاقة من القرآن المكي، {الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1]، من أسماء يوم القيامة، وسُمِّيَت بالحاقة لأنها حق وستأتي بالحق، ثم أن كل ما فيها مما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق، ثم أنها تُحِق الحق؛ تجعل الحق هذا الذي كان غائبًا عن الكفار حقًا ظاهرًا ماثلًا للعَيان، فكل ما كان يُكذِّب به المُكذِّبون يوم القيامة يظهر للعَيان؛ وأنه حق وصدق، وأنه لم يكُن إلا الحق، فيُقال لهم {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، فالنار حق وتكذيب المُكذِّبين بها كان في الدنيا، ويكون مجيء يوم القيامة بالحق فيُحِق هذا الحق الذي كان يُكذَّب به، فكل هذا من معاني الحاقة؛ أنها تُحِق الحق، وتُظهِر هذه الحقائق التي كانت غائبة عن أعين المُكذِّبين؛ تظهر جلية واضحة، ويُقال لهم {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:30]، وقد كانوا قبل ذلك يقولون أنه باطل ولا يكون، فيوم القيامة هو الذي يُحِق الله -تبارك وتعالى- به هذه الحقائق فيجعلها ظاهرة وماثلة للعَيان.

{الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1] {مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:2]، سؤال؛ الحاقة ما هي؟ سؤال يُراد به التهويل وتعظيم شأن هذا اليوم الذي تظهر فيه هذه الحقائق العظيمة، {مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:2]، ثم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:3]، هذا تجهيل من باب تعظيم الأمر؛ يعني أنها فوق كل تصوُّر، وفوق كل خيال، مهما كان الخيال فإن الحقيقة التي تكون يوم القيامة أكبر من كل تصوُّر مما يُتصوَّر، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:3]، ثم قال -جل وعلا- {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}[الحاقة:4]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هاتين الأمتين من كبار المُكذَّبين من السابقين فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ ........}[الحاقة:4]، ثمود قبيلة عربية كانت تسكن في شمَال الجزيرة؛ في الحِجر في ديار صالح، وقص الله -تبارك وتعالى- من قصتها بأن أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم نبيهم صالح -عليه السلام-، وذكَرَ الله -تبارك وتعالى- تفاصيل دعوته إليهم، فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى- قوله لهم {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}[الشعراء:146] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:147] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء:148] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}[الشعراء:149] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:150] {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}[الشعراء:151] {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[الشعراء:152] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}[الشعراء:153]، فاتهموه بأنه مسحور؛ وأن هذا الذي جاء به ليس بحق، {........ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:154] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:156]، أخرج الله -تبارك وتعالى- لهم كما اقترحوا الآية التي اقترحوها؛ ناقة عُشراء معها فصيلها، وخرجت لهم من الصخر آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، ولكنهم مع ظهور هذه الآية وإعطاء الله -تبارك وتعالى- لهم الآية مُبصِرة، كما قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}، يعني آية مُبصِرة ما فيها لمُكذِّب مجال لأن يُكذِّب؛ ولا رادٍّ أن يرُدَّها، فهي أمامهم وهي الآية التي هم اقترحوها لكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}، ومع ذلك بعد هذا الإنذار والوعيد عتوا عن أمر ربهم وقتلوا الناقة، {........ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77].

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ ........}[الحاقة:4]، عاد قبيلة عربية أخرى وكانت تسكن في حضرموت وفي الأحقاف؛ صحراء الأحقاف في جنوب الجزيرة، ما يُسَّمى وما يُعرَف الآن بالربع الخالي، وكانت أمة قوية؛ قبيلة قوية، شِداد، طِوال الأجسام، وكانوا يفخرون بقوتهم ويقولون {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، وذكَرَ الله -تبارك وتعالى- قصتهم في مواضع من القرآن، من هذا قول رسولهم لهم؛ هود -عليه السلام- الذي أُرسِلَ إليهم، ومن جملة ما قال لهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:131]، فدعاهم إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وطاعته، وتوحيده، ولكنهم استكبروا وعتوا عن هذا الأمر، وقالوا من جملة ما قالوا {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، وذكَّرَهم بما ذكَّرَهم ولكنهم عتوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- وظلوا على هذا الحال حتى أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول -جل وعلا- {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}[الحاقة:4]، بالقارعة؛ يوم القيامة وهي الحاقة، وسُمِّيَت بالقارعة لأنها تقرع على الناس كل شيء؛ تقرع السماوات، وتقرع الأرض، وتقرع الناس وتُخرِجهم من قبورهم، وتقرع أذهان الموجودين كلهم، فهي القارعة؛ يوم القيامة، كذَّبوا بهذا اليوم العظيم الذي يكون هَولُه وقَرعُه في السماوات والأرض، كما قال -جل وعلا- {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، والتي بها تُنسَف الجبال، وتُشَق السماء، وتنتثر النجوم، فهذه القارعة كذَّبوا بها، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}[الحاقة:4].

ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- نتيجة هذا التكذيب فقال -جل وعلا- {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}[الحاقة:5]، أما ثمود؛ مذكورين هنا للتفصيل بعد هذا الإجمال، {........ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}[الحاقة:5]، أُهلِكوا؛ أهلكهم الله -تبارك وتعالى-، الفعل هنا لم يُسمَّى فاعله والمُهلِك هو الله -تبارك وتعالى-، بالطاغية؛ بالصيحة الطاغية، الطاغية هي التي زادت عن الحد فأهلكتهم وتُهلِك أضعافهم، وهي صيحة واحدة كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، يعني صاح فيهم المَلَك صيحة واحدة فتهرَّت وتحطَّمَت أجسادهم وأصبحوا كالهشيم، والهشيم هو القش إذا حُصِد وحُظِرَ في الحظيرة، يعني حُبِس وجُمِع سنة فإنه بعد ذلك يتكسَّر، شبَّه الله -تبارك وتعالى- أجسادهم بعد أن صاح فيهم المَلَك هذه الصيحة بالعُشب الذي قد مضى عليه سنة وتكسَّر وتحطَّم، {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}[الحاقة:5]، بالصيحة الطاغية، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6]، وأما قبيلة عاد فأهلكهم الله -تبارك وتعالى- بريح صَرصَر عاتية، الريح هي هذه الحركة الشديدة للهواء، والصَرصَر من أن لها صرير؛ يعني صوت فظيع، يعني ريح تصفِر وتصِر بصوت شديد، وصَرصَر كذلك مأخوذة من الصَّر؛ من البرد، باردة، عاتية، شديدة، وعاتية يعني أنها عتت عليهم فلم يستطيعوا أن يردُّها بأي صورة، فهم أهل الأبنية القوية وأهل الحصون، {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128]، آية في البناء، فلم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من هذه الريح التي عتت عليهم؛ على دورهم ومساكنهم، عتت عليهم ودخلت عليهم في كل مكان؛ ولو كان أحدهم في بطن جبل تدخل عليه، {........ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6].

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، يعني ظلَّت هذه تسفي عليهم ومستمرة الهبوب عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام؛ يعني كأنها بدأت بشروق وانتهت بغروب، ثمانية أيام من نهار وفي وسطهم سبع ليالي، {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}، وذِكْر الله -تبارك وتعالى- هنا للأيام مع الليالي دليل على أن هذه الريح ظلَّت تسفي على هذا النحو؛ وتتابع عليهم لا تتركهم ساعة من ليل أو نهار في هذه المدة، {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، حسومًا؛ أيام حسم، يعني أيام نحِسة، أيام كلها شؤم وشر عليهم؛ جمعت الشر والشؤم، أو أنها تحسِم كل شيء؛ حسمت مادتهم، والحَسْم هو الإنهاء والقطع، كما يُقال حَسَمَ الجرح إذا جُرِح؛ فحَسَمَه بالنار حتى لا يرقى دمه، فهذه حسومًا حسمتهم بمعنى أنها أهلكتهم وأبادتهم فلم تُبقي شيئًا، كما قال -تبارك وتعالى- عنهم لما رأوا هذا العذاب وهو الريح الآتية {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ .......}[الأحقاف:25]، ريح فيها عذاب أليم تُدمِّر كله شيء فحَسَمتهم، وقطعت مادتهم، ولم تُبقي منهم أحدًا، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى}، القوم؛ كل القبيلة، صرعى؛ مصروعين، يعني كلٌ مصروع؛ إما لوجهه، وإما لجنبه، وإما لظهره، والمصروع هو المُلقى على جانب من جوانبه، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، النخلة عجِزُها؛ ساقها، إذا قُصَّت النخلة وقُطِعَت ومضى عليها مدة فإن وسط وقلب النخلة الغَض يجِف، ويصير خاوي، ويصير جاف، يعني أن هذه الريح جفَّفَت أجسامهم، هذا الجسم المليء بالدماء والمياة أصبح جاف كأنه قطعة جافة لنخلة خاوية منذ مدة؛ متروكة في الهواء والعراء منذ مدة طويلة، {........ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، في ديارهم.

{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8]، قال -جل وعلا- {فَهَلْ تَرَى}، سؤال للتقرير، يعني أنه لم يبقَ منهم أحد، كما قال -جل وعلا- {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]، لم يُبقي الله -تبارك وتعالى- من هذه القبيلة أحد؛ وإنما أهلكهم وقطع دابرهم عن بَكرَة أبيهم، وهؤلاء كذلك دمَّرهم الله -تبارك وتعالى- وقتلهم واستأصلهم استئصالًا ولم يبقَ منهم باقٍ، {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8]، سؤال والجواب لا يوجد لهم باقي واحد منهم؛ بل استأصلهم الله -تبارك وتعالى- وأبادهم، هاتان قبيلتان من الأمم التي كذَّبت رُسُلها وكانت هذه هي نهايتهم ونتيجتهم.

ثم قال -جل وعلا- {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9]، هذه مجموعة كذلك من المُكذِّبين بيوم القيامة، قال -جل وعلا- {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ}، فرعون ملِك مصر؛ وهو لقب يُقال لكل مَن ملَكَ مصر، من الملوك المصريين في ما يُسمَّى بالقدماء المصريين يُسمَّى فرعون، كما يُسمَّى كل مَن مَلَكَ للروم قيصر؛ وكل مَن مَلَك الفرس كِسرى، {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9]، فرعون هو رأس قومه؛ والذي أطاعه قومه مع أنه يدعوهم إلى عبادة نفسه فيقول لهم {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فجاء هذا الفاجر الطاغوت الأعظم ومن قبله كذلك من الأمم؛ كقوم نوح، وقرى لم يذكرها الله –تبارك وتعالى- ممَن أهلكها، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ........}[المؤمنون:44]، تترا يعني كثيرين، {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ........}[الحاقة:9]، وذكَرَ الله ممَن قبله المؤتفِكات، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}، المؤتفِكات جمع مؤتفِكة، والمؤتفِكات هي قرى لوط، فإنها كانت مدن عامرة في وادي الأدرن وكلها أفكَها الله -تبارك وتعالى-، ومعنى أفَكَها؛ قلَبَها على رؤوس أصحابها، كما قال -تبارك وتعالى- {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}، العالي وهو السقوف جُعِلَ أسفل، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أمَرَ جبريل أن يقتلعها؛ اقتلها من أماكنها، ورفعها إلى السماء، ثم قلَبَها على رؤوسهم، فهذه القرى المؤتفِكات وهي قرى لوط -عليه السلام-، {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9]، بالخاطئة؛ بالخطأ العظيم، بالذنب العظيم الذي أخطأوا فيه؛ ففرعون بتكذيبه، وقوله أنا ربكم الأعلى، ودعوة الناس إلى عبادته، ومعاندة رسول الله موسى، وإصراره واستكباره مع ظهور الآيات، والمؤتفِكات بردهم أمر الله -تبارك وتعالى- وتهديدهم للوط وقولهم له {........ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167]، وفعلهم الفواحش النجِسة؛ ومنها إتيانهم الذكور، وفعلم المُنكَر في أنديتهم، فجائوا بهذه الأعمال العظيمة الخاطئة.

قال -جل وعلا- {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10]، فهؤلاء الأمم عصوا رسول ربهم، رسول اسم جنس؛ وهم رُسُل الله، وكل أمة أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها رسولًا، ولكن دعوة هذا الرسول هي دعوة هذا الرسول؛ دعوتهم واحدة، فكأن مَن عصى رسولًا واحدًا فقد عصى رُسُل الله -تبارك وتعالى- جميعًا، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10]، لمَّا عصَت هذه الأمم رُسُل الله –تبارك وتعالى- عند ذلك أخذهم الله، الأخذ؛ الهلاك، {أَخْذَةً رَابِيَةً}، رابية؛ زائدة عن الحَد، يعني أنها أهلكتهم ولو كان أمثالهم لأهلكت الجميع، {........ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10]، قوية، شديدة، زائدة، هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بإهلاك هذه الأمم العظيمة؛ هذه القرى التي كانت عامرة بأهلها، وفيها مغانيها، وفيها حدائقها، وفيها، وفيها ...، الله -تبارك وتعالى- أهلكهم لمَّا كذَّبوا رُسُله -سبحانه وتعالى-.

ذكَّرَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الموجودين فقال {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ}، الماء؛ طوفان نوح، الطوفان طغى بمعنى أنه زاد، طغى الماء؛ زاد عن حدوده، فإن الأرض أمَرَها الله -تبارك وتعالى- أن تُخرِج مياهها، والسماء أمَرَها الله -تبارك وتعالى- أن تفتح مياهها، وصار الماء يعلوا ويعلوا حتى بلغ أعالي الجبال؛ لم يترك جبل إلى وعلاه، فطغى الماء على كل ما في الأرض يعني زاد وارتفع إلى أعالي الجبال، حتى أن نوح وهو في السفينة في بدء الطوفان نادى ابنه أن يركب معه، قال {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، ظن أنه إذا هرب إلى قمة جبل فإن الماء لن يصِلَه، فقال له نوح -عليه السلام- {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}، وهم مَن في هذه السفينة {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}، فالماء ارتفع إلى أعالي الجبال حتى أن السفينة لمَّا مكَثَت بعد أن قال الله -تبارك وتعالى- {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي}، أقلعي؛ كُفِّي عن الماء، {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، لم تستوي وترسوا سفينة نوح -عليه السلام- إلا على قمة جبل وهو جبل الجودي، فإذن لمَّا طغى الماء؛ ماء الطوفان، قال -جل وعلا- {........ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11]، والخطاب لهؤلاء المخاطَبين وذلك أن الله -تبارك وتعالى- حمَلَهم في أصلاب آبائهم؛ فنحن ذُريَّة الذين كانوا في السفينة، حملناكم؛ أي أيها الموجودون، كل مَن بعد نوح إنما هو من نسل مَن كان في السفينة، حملناكم في الجارية؛ في السفينة الجارية، السفينة التي تجري في هذه الُّلجَّة العظيمة، تذكير من الله -تبارك وتعالى-؛ تذكير أولًا من رحمته ونعمته أننا نحن من أثر ومن صُلب هؤلاء الذين كانوا في السفينة، فأنجى الله -تبارك وتعالى- آبائنا الذين نحن من نسلهم، ثم تذكير بإهلاك الله -تبارك وتعالى- للظالمين.

{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11]، فيكون هذا أعظم تذكير للناس الذين يُكذِّبون بعقوبة الرب -تبارك وتعالى-، أنت أيها المُكذِّب الآن ويا مَن تُكذِّب فرد من نسل مَن نجى من عذاب، يعني أنت لك صلة بعذاب واقع وليست أنت بعيد، العذاب نزل على أمم هنا وهنا لا صِلة لك بهم... لا؛ بل أنت قوم أنجاهم الله -تبارك وتعالى- من عذاب مُحقق موجود، فقول الله هنا تذكير عظيم لكل سكان الأرض، وخطاب الله للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي أرسله الله إلى الجميع؛ أنتم أيها الناس إنما أنتم من نسل أولئك، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12]، لنجلعها؛ لنجعل هذه السفينة لكم تذكِرة، انظروا نحن أبناء مَن أنجاهم الله -تبارك وتعالى-، وقد أهلك الله -تبارك وتعالى- الأخرين المُكذِّبين؛ فلنتعِظ ولنعتبر بهذا، لنجعلها؛ لنجعل هذه السفينة وهذه النجاة بالنسبة لآبائكم، تذكِرة؛ أمر تذكرونه على مدى العصور والتاريخ، {........ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12]، وتَعي هذه التذكِرة أُذُن تَعي؛ تَعي الخطاب، وتعلم هذا، وتذكُر الأمر، أما الأُذُن الصمَّاء التي قد صُمَّت عن سماع كلام الله -تبارك وتعالى- فإنها لا تَعي، {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12].

ثم قال -جل وعلا- مُبيِّن هذه الحاقة وكيف ستكون {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، هذا خطاب لكل أحد وللمُكذِّبين، يقول الله -تبارك وتعالى- {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، ونُفِخ بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله والنافخ هو إسرافيل؛ المَلَك الذي وكَّله الله -تبارك وتعالى- بالنفخ في الصور إيذانًا بأن هذا يوم القيامة، ينفخ نفختين؛ النفخة الأولى التي تُحمَل فيها الأرض والجبال فتُدَك دكة واحدة، وفيها هذه الأهوال العظيمة التي ذكَرَها الله -تباك وتعالى-، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4] {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5]، وفيها كذلك {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4].

وهنا هذا {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، النفخة الأولى هذه، والصور هو القرن، أما حقيقة ما هذا القرن الذي إذا نُفِخَ فيه كان هذا الأثر العظيم في كل السماوات والأرض؟ هذا أمر عظيم جدًا، فهذا يعني سبب هائل يُنتِج عملًا هائلًا جدًا لا مثيل له ولا يُتصوَّر؛ أن هذه النفخة في هذا الصور تصوُّر هذا أمر عظيم، كل هذا النظام القائم أمامنا من الأرض التي نحن عليها بجبالها الشاهقة، ومحيطاتها، ومياهها، والسماء التي فوقنا بنجومها المُتباعِدة التي هي واحدة منها قدْر أرضنا ملايين المرات؛ والتي وسَّعَ الله -تبارك وتعالى- هذه السماء حتى لا تُعرَف أبعادها، كل هذا بنفخة واحدة ينفرِط هذا العِقد، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، انتثرت يعني ذهب كلٌ يجري في مجرى غير الأخر، كما قال -تبارك وتعالى- {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[القيامة:1] {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:2] {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[القيامة:3] {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة:4] {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10]، وجُمِعَ الشمس والقمر خلاص؛ يبقى المسار الذي كانت تسير فيه الشمس والفَلَك الذي كان يسير فيه القمر، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، ينتثِر ويصبح هذا يلتقي مع هذا؛ فتضرِب الشمس في القمر، وتصطَك النجوم بعضها مع بعض، يخرَب هذا النظام وينفرِط هذا العِقد المُحكَم الذي كان كلٌ يسير فيه بحساب، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، كلٌ ينفرِط عِقده، فهذا أمر فظيع جدًا وعظيم جدًا من يوم القيامة، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15].

سنأتي إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.