الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (737) - سورة الحاقة 16-34

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19] {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، هذه سورة الحاقة؛ والحاقة من أسماء يوم القيامة، الله سمَّى يوم القيامة الحاقة لأن الحق يظهر فيها لكل عين، فما كان يُكذِّب به الكافر كله يصبح حقًا، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}، فكل ما وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- به عباده يصبح ماثل أمام العَيان، فلا باطل ولا يبقى أحد يُكذِّب بعد ذلك؛ الكل يصبح حق، {الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1] {مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:3]، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- تكذيب مَن سبق وعقوبة الله لهم فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}[الحاقة:4] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}[الحاقة:5] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8]، هذا جزاء المُكذِّبين بيوم القيامة، {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10]، تذكير من الله، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11]، تذكير للموجودين بعد أن هلكت تلك الأمم؛ يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء أنهم أبناء أبناء السفينة الذين كانوا في سفينة نوح، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ........}[الحاقة:11]، طوفان نوح، {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة:12].

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، والصور؛ القرن، الذي جعله الله -تبارك وتعالى- إيذان بانتهاء هذا النظام العظيم؛ السماوات والأرض، وتبدُّل الخلْق مرة ثانية لقيام الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ........}[الحاقة:13]، النافخ هو إسرافيل؛ المَلَك الذي وكَّله الله -تبارك وتعالى- بهذا النفخ، الصور؛ قرن، لكن عِظَم هذا القرن لا يقدِر هذا إلا الله -تبارك وتعالى-، لأن القرن يُنفَخ فيه نفخة من مَلَك فيحدث هذا الانفجار الذي لا مثيل له؛ فتتناثر النجوم، ينفرِط عِقدُها، يُجمَع الشمس والقمر، هنا يُصوِّر الله -تبارك وتعالى- فيقول {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، هذه الأرض العظيمة بجبالها العظيمة تُحمَل من هذه النفخة؛ ترفعها ثم تدُكُّها دكة واحدة، وإذا دُكَّت الدكة الواحدة يتغير الأمر، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، تُزَلزَل زِلزال الذي هو زلزالها، وقال -جل وعلا- {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، فالبحار التي في هذه الدنيا يُفجَّر بعضها على بعض ثم تُسجَّر؛ تشتعل نارًا، هذه هي نهاية وخراب هذا النظام القائم إلى نظام أخر، {........ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ}، في هذا اليوم بهذه الأحداث العظيمة، {........ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، الواقعة سُمِّيَت بالواقعة لأنها واقعة لا محالة، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، يعني هذا الذي كان في الأرض {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، واهية يعني أنها متهالكة ومتساقطة خلاص؛ تسقط، بعد أن كانت مبنية هذا البناء العظيم الشديد إذا بها تصبح ضعيفة متهاوية، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}، المَلَك؛ الملائكة اسم جنس، الملائكة؛ ملائكة الله -تبارك وتعالى-، على أرجائها؛ على نواحي السماء، {........ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، عرش الله -تبارك وتعالى- يحمله ثمانية، هذه الثمانية لم توصَف وتُميَّز هنا؛ وهم ثمانية من الأملاك، طبعًا عرش الله -تبارك وتعالى- لا يقدِر قدْرَه إلى الله؛ وله حَمَلَة يحملونه من الملائكة، وهؤلاء الملائكة كذلك لا يقدِر قدْرَهم إلا الله -تبارك وتعالى-، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «أُذِنَ لي»، أُذِنَ بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله؛ والله -سبحانه وتعالى- أذِنَ له، «أن أُحدِّث عن مَلَك من حَمَلَة العرش؛ ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، وقد قال -تبارك وتعالى- في حَمَلَة عرشه {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ........}[غافر:7]، وكذلك قال -جل وعلا- {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ........}[الزمر:75]، وهذا في يوم القيامة، فالعرش له حَمَلَة يقول -تبارك وتعالى- {........ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، ثمانية أملاك لا يقدِر ولا يعرف عظَمَتهم إلا الله -تبارك وتعالى-.

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ}، أي أيها الناس، {........ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، في هذا اليوم العصيب العظيم الذي زلز السماوات والأرض على هذا النحو؛ وتبدَّل حالها بأرض جديدة، وسماء جديدة، بعد ذلك الله يقول {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ}، للحساب؛ العرض للحساب، {........ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، لا تخفى منكم خافية من أسراركم؛ من خفاياكم، يعني لا يستطيع أن يُخفيَ سِرًّا عن ربه -سبحانه وتعالى-؛ بل كل سر إنسان منثور، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9]، تُبلى؛ تُهتَك، كل السرائر وكل ما كان يُخفى يُهتَك في هذا اليوم ويُبلى ويظهر كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يُخفي على الله -تبارك وتعالى- شيء، وكذلك {........ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، يعني ولا نفس واحدة تخفى ولو كانت نفس صغيرة؛ كسِقْط، شخص ضعيف، يعني في البعث سيبعث الله –تبارك وتعالى- كل مَن خُلِق، كل مَن خلَقَه الله-–تبارك وتعالى- في هذه الدنيا وأصبح نسَمَة ونُفِخَت فيه الروح لابد أن يُبعَث في هذا اليوم ولا تخفى منهم على الله -تبارك وتعالى- خافية؛ وإنما يجمعهم الله -تبارك وتعالى- في صعيد واحد، كل الناس وكل هذا الخلْق من البشر يُجمَعون في صعيد واحد، صعيد واحد يعني أرض واحدة، ينفُذهم البصر ويُسمِعهم الداعي، البصر ينفُذهم من أولهم إلى آخرهم؛ يُرى آخرهم كما يُرى أولهم، ويُسمِعهم الداعي؛ داعي واحد يُسمِع الجميع، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18].

ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أقسام الناس وأنهم قسمين فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19] {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}، كتابه؛ كتاب أعماله، بيمينه تكريم؛ فيأخذ كتابه بيمينه، وقد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن الصُحُف تتطاير؛ تطير الصُحُف، وكل إنسان يطير كتابه ثم يأتي إليه، يقول النبي «فآخذ بيمينه وآخذ بشِماله»، يعني كل واحد يأتي كتاب أعماله إليه، فالمؤمن يوفَّق؛ يأتيه كتابه بيمينه، وأما الكافر فإنه يأتيه كتابه من وراء ظهره فيأخذه بشِماله، كما قال -جل وعلا- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}[الانشقاق:10]، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19]، يفرح فرح عظيم جدًا عندما يرى كتابه أعماله؛ وأنه قد سُطِّرَت فيه حسناته، وأعماله الطيبة، فيُريد أن يخبر الجميع، هاؤم يعني يا هؤلاء؛ يُنادي الناس تعالوا، {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، أن كتابي هذا أعمال الطيبة وأعمالي الحسنة موجودة فيه، فرح كما في الدنيا تشبيه بفرح الإنسان بأن يأخذ شهادة ودرجة عالية؛ أعلى درجة، فيفرح فرحًا عظيمًا ويحب أن يعرض شهادته على الجميع، هذه فرحة المؤمن بأخذه كتابه بيمينه؛ وهذه شهادته لدخول الجنة، هذه أعماله؛ كل الخير الذي عمله قد سُطِّرَ فيه، وهي شهادته؛ الشهادة التي تشهد له لدخول الجنة، فيفرح هذا الفرح العظيم ويقول {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، ثم يذكر السبب الأساسي الذي أوصله إلى ذلك فيقول {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20]، والظن هنا بمعنى اليقين، يعني كنت مؤمنًا وكنت موقِنًا بأني سألقى الحساب ولذلك عمِلت لهذا اليوم، وهذه السورة إنما في بيان الحاقة؛ يوم القيامة، فانظر أثر الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة، فهذا المؤمن الذي آمن بيوم القيامة يقول {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20]، أي ولذلك عمِل لهذا اليوم؛ وجَد، واجتهد، فهذه أعمالهم، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20].

قال -جل وعلا- {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]، هذا الذي أكرمه الله بهذا فهو في عيشة راضية، نُسِبَ الرضا إلى العيشة لبيان أنها في كمال الرضا؛ فأهل الجنة راضون أكبر رضوان بعيشهم وحياتهم، والله -تبارك وتعالى- راضٍ عنهم -سبحانه وتعالى-، وخازن الجنة سُمِّي رضوان من الرضا، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]، لأن كل شيء فيها مَرْضِي ليس فيها ما يُتسخَّط؛ ليس في الجنة ما يسخطه العبد، فسروره، وحبوره، وقصوره، ودوره، وأشجاره، وثماره، وفرحته، وأصدقائه، وما زُخِرَ فيها؛ كله أمر في أتم الرضا، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]، وهذه هي العيشة الحقيقية، كان يقول النبي «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، العيش الحقيقي، {........ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، هي الحياة الحقيقية، وأما الدنيا تُسمَّى عيشة وتُسمَّى فيها الحياة حياة لكنها عيشة ليست خالصة في العيش؛ مُنخَّصة، نصفها نوم، وجزء منها في قضاء الحاجة، وجُلُّها كَدٌّ، وتعب، ونَصَب، وفي الأمراض، وفيها الأسقام، وفيها العَوار، وفيها النقص، وفيها المُنغِّصات، فساعة تسُر وساعات كثيرة تُحزِن وتُبكي، وكان النبي يقول «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، العيش الحقيقي، والله -تبارك وتعالى- يقول {........ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، فهذه هي الحياة الحقيقية، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21].

قال -جل وعلا- {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22]، في جنة؛ بستان، بستان الرب -تبارك وتعالى- جنة عالية مكانًا؛ وعالية صفةً، فعالية صفة لأن كل شيء فيها عظيم مُرتفِع؛ بناؤها، قصورها، دورها، خيامها، أثاثها، نساؤها، أنهارها، كل هذا كما نقول هذا مستوىً عالٍ، فهي عالية في كل شيء، عالية في كل عنصر من عناصرها وجزء من أجزائها، عالية صفتها وهي كذلك عالية مكانًا لأنها في سقف هذه المخلوقات؛ ليس فوقها إلا عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-، فالجنة في العلو كما أن النار -عياذًا بالله- إنما هي في السُفُل؛ يعني في سُفُل الوجود، ففي سُفُل الوجود جعل الله -تبارك وتعالى- النار، وفي العلو جعل الله -تبارك وتعالى- الجنة في السماء، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23]، قطوفها؛ قطوف الثمار، دانية؛ قريبة، فتأتي العبد عند مكانه في سريره؛ وهو نائم على سريره يأتيه القِطف لأنها مُذلَّلة، قال -جل وعلا- {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، ويقول -جل وعلا- {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، الجنى؛ الثمار، الجنتين لكل عبد مؤمن، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]، فمع اتِّكائهم على فُرُشهم وسُرُرهم لكن الجنى؛ ثمار الجنة، قطوف الجنة دانية منهم، بمجرد اشتهاؤها يميل الغُصن حتى يأتي إليه في مكانه الذي هو فيه، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23]، فلا تحتاج إلى أن يصعد نخلة ويأتي بالثمار، أو يصعد شجرة ويضربه شوكها، وإبرُها، ويتكلَّف لهذا...لا، وإنما القطوف دانية؛ قريبة منهم في أماكنهم، حيث يجلسون أو حيث يسيرون هي قريبة، لا كُلفة ولا علاج لأي شيء في الجنة، لا يُعالِج أهل الجنة شيئًا قط؛ يُعالِجون إنضاج طعامهم، أو حَمْل متاعهم، أو خياطة ثيابهم، أو تنظيف أماكنهم، ليس في الجنة ما يُعالَج ليصلُح بل كل شيء فيها على أتم وجوهه في كل وقت وفي كل حين.

{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، أمر للتكريم، أمر من الله -تبارك وتعالى-؛ أمر تكريم لهم، كلوا؛ أي من ثمار الجنة ومن خيراتها، واشربوا؛ أي من أشربتها المختلفة، هنيئًا؛ الهنائة هي السعادة، والرِّي، والأمن، والراحة، والفرح، والسرور، كل هذا بمعنى هنيئًا، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، حال كونكم مُنعَّمين؛ مُترَفين، مُهنَّئين، لا مُقبَّحين، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، بما؛ بسبب، أسلفتم؛ قدَّمتم، والسَلَف؛ الماضي، يعني بالأمر الماضي الذي أسلفتموه وقدَّمتموه في الأيام الخالية، الأيام الخالية يعني السابقة، والأيام الخالية؛ أيام الدنيا، لأنهم الآن في الجنة فيُقال لهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، الأيام التي سبقت، أو في الأيام الخالية؛ التي كانت خالية من الحساب، فإنه لا حساب في الدنيا، العبد يعمل ما يشاء ولا حساب الآن وإنما الحساب في الآخرة، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]، هذا حال أهل الإيمان الذي آمنوا بيوم القيامة؛ وعملوا له، واستعدوا إليه، فكانت الحاقة أصبحت حق لهم، الجنة التي وعِدوها حق لهم؛ سيأخذون هذا، لأن الله -تبارك وتعالى- جعل يوم القيامة هذا الحاقة التي يرى كل إنسان فيها أن ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق.

الصِنف الثاني قال -جل وعلا- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[الحاقة:25]، ويؤتى كتابه بشِماله وقد جاء في الآية الأخرى أنه يؤتى كتابه بشِماله من خلف ظهره، قال –جل وعلا- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8] {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:9] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}[الانشقاق:10] {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا}[الانشقاق:11]، فيأخذه من خلف ظهره؛ ويأخذه بشِماله -عياذًا بالله-، وهذا نوع من أنواع الإهانة التي يُهان بها هذا الكافر يوم القيامة، {........ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[الحاقة:25]، يتمنَّى أمنية لا تكون، يا ليتني؛ أمنية بعيدة، لم أوتَ كتابيه؛ يعني في يوم القيامة، يعني ما كان هناك يوم قيامة حتى أُعطى كتابيه، {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}[الحاقة:26]، وما دريت أن هناك حساب، يعني لم أُبعَث حتى أرى حساب، {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27]، اللي هي الموتة الأولى كانت القاضية التي قضَت علينا قضاءً نهائيًا؛ لا نُبعَث ولا نكون مرة ثانية، وإنما يكون موت ولا يكون بعده بعث، {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27].

ثم يتذكَّر دُنياه فيقول {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]، ما النافية، يعني لم يغني عني مالي شيئًا؛ لم أستفد به شيئًا لأنه ضاع، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]، أو ما الاستفهامية؛ ما الذي أغنى عني مالي؟ يعني أنه لم يُغني عني شيئًا، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، السلطان اللي هو الجاه، والمنصِب، وما كان فيه من العِز، والتمكين، والخدَم، والحشَم، والأعوان، والجنود، كل هذا السلطان والسُلطة التي كانت له؛ كان يأمر وينهى، يقول هذا كله هَلَك، أتى الله -تبارك وتعالى- وحيدًا؛ لا ناصر له، لا شفيع له، لا أحد معه، الكل خلاص؛ أمام الرب -تبارك وتعالى- وحده، {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، كأنه وهو في هذا التحسُّر، وتقطيع القلب، والتندُّم على ما ذهب، يأتيه الأمر هنا {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة:30]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لملائكة العذاب، خذوه؛ أي لملائكة العذاب، فغُلُّوه؛ الغُل هو القيد، يعني قيِّدوه -عياذًا بالله-، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}[الحاقة:31]، ثم الجحيم؛ النار -عياذًا بالله-، صلُّوه يعني فليصطلي فيها؛ يعني يُحرَق بها -عياذًا بالله-، يعني أدخِلوه فيها ليصطلي؛ ليحترق.

{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة:32]، {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا ........}[الحاقة:32]، الذرع هو القياس، ومأخوذ الذرع لأنهم كانوا يقيسون بالذراع، من المِرفَق إلى طرف الأصابع هذا يُسمَّى ذراع، فكانوا يذرعون يعني يقيسون بهذا؛ يقولون ذراع، ذراعين، ثلاثة، ذرعها؛ قياسها، سبعون ذراعًا لكن ليس بذراع الإنسان وإنما بذراع المَلَك، شوف ذراع المَلَك؛ كم هذا المَلَك؟ والمَلَك لا شك أنه في خلْقِه الذي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليه أكبر من الإنسان كُبْر عظيم، لكن يُعطى سلسلة بذراع المَلَك، فاسلكوه يعني أدخِلوه في هذه السلسلة حتى تُطوى عليه طيًّا -عياذًا بالله-، {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة:32]، فأصبح بالغُل، الغُل؛ قيد بيديه وفي رجليه ويُغَل إلى عنقه، ثم يُدخَل في هذه السلسلة فتُدار به من كل جوانبه -عياذًا بالله-.

{إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:33]، إنه؛ يعني هذا المجرم الذي يُفعَل فيه هذا، هذا سبب مجيئه إلى النار ودخلوه فيها {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:33]، عِلمًا أن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- يُلجئ إليه ضرورة العِلم وضرورة العقل فضلًا عن الخبر الصادق من الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- هو أظهر ما في الوجود؛ وذلك أن كل وجود إنما هو دال على الله -تبارك وتعالى-، ما في وجود لشيء إلا وهو دال على الله، كل هذه الموجودات من هذه المخلوقات تدل على خالقها؛ على الله -سبحانه وتعالى-، لأنه لا يوجد ذرَّة خلَقَت نفسها ولا يمكن أن تكون مخلوقة بغير خالق؛ فهي دالة على أن الله خالقها -سبحانه وتعالى-، وهذا الكون من إحكام الصنعة مما يدل على العِلم العظيم لخالقه -سبحانه وتعالى-؛ وكذلك يدل على القُدرة العظيمة لخالقه، فالذي وضع الشمس في مكانها، والأرض في مكانها، ووضع هذا في مكانه، والذي حكَمَ كل هذا؛ هذا رب، إله، قوي، قادر، عزيز، لا يمكن أن يغلبه أحد الذي خلَقَ هذا الخلْق، فالشاهد أن الخلْق كله دال على الله -تبارك وتعالى-، كل ذرَّة في الوجود دالة على الله -تبارك وتعالى-، ثم دلالة الرُسُل الذي جائوا من عند الله -تبارك وتعالى- بالخبر اليقين الذي بيَّن الله -تبارك وتعالى- فيه صفاته وأسمائه؛ ما ترك لشاكٍّ شكًّا، ولا لمُرتابٍ ريبة، كل شيء قد بُيِّن ووضِّح، والله -تبارك وتعالى- هو الرب العظيم الذي عرَّفنا بنفسه -سبحانه وتعالى- بهذا التعريف وبهذا الوصف، ومع هذا فإن هذا الكافر الذي هو وجوده، ورزقه، وحياته؛ من إفضال الله -تبارك وتعالى- وإنعامه إليه، لكن كان لا يؤمن به فجريمته جريمة كبرى؛ جريمة الكافر جريمة كبرى، {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:33]، لذلك استحق هذا.

{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الحاقة:34]، يعني كذلك مُجرَّد عن العطف والرحمة؛ ما في عطف ولا رحمة، المسكين يحتاج إلى مَن يعطف عليه لكن الكافر ما كان يحُض على هذا؛ كان لا يحُضُّ على طعام المسكين، يعني لا يحُضُّ نفسه ولا يحُضُّ غيره، والحَض هو الحَث، والدفع، والوعظ في هذا، فكان هذا لا يؤمن بالله –تبارك وتعالى- يعني لا خير فيه في الإيمان والتصديق؛ وهذا أمر لا كُلفة فيه، وكذلك لا رحمة في قلبه أن يحُضَّ على طعام المسكين، قال -جل وعلا- {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}[الحاقة:35] {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}[الحاقة:36] {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}[الحاقة:37]، فهذا الذي كانت هذه صفته يخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا جزاؤه عنده، {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}[الحاقة:35]، صديق يُدافِع عنه؛ يحموا له، {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}[الحاقة:36] {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}[الحاقة:37].

سنعود -إن شاء الله- إلى تفصيل شيء من ذلك -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.