الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (739) - سورة المعارج 1-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[المعارج:1] {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}[المعارج:2] {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4] {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}[المعارج:6] {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج:7] {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9] {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10] {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13] {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14] {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16] {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}[المعارج:17] {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18] {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، هذه مقدمة سورة المعارج؛ وهي سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جل وعلا- {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[المعارج:1]، هذا حال الكفار؛ الكفار يسألون سؤال المُستبعِد، والمُكذِّب، والمُستهزئ، يسألون بعذاب واقع؛ عذاب الله يوم القيامة، الذي هو واقع، وهو من الله -تبارك وتعالى- وحق، لكن الكافر يقول متى يكون هذا؟ ويستهزئ به؛ ويستبعِد وقوعه، وأن هذا لا يكون، وهنا يُصوِّر الله -تبارك وتعالى- حال الكافر، وعذاب هذا خبر عظيم جدًا؛ عذاب واقع، وهو من الله هذا العذاب، ويجيئ الكافر ويستهزئ به؛ يقول لا يكون، ولن يكون، ويسأل به أيَّان هذا؟ أيَّان هذا العذاب؟ وأيَّان يكون؟ والله يقول سائل؛ نكرة، لأن كثير منهم كالنضر ابن الحارث، وغيره، وغيره من الكفار، وكل الكفار والمشركين كانوا مُكذِّبين بيوم القيامة، ويستبعِدون أن يكون هناك عذاب كما يتوعَّدهم الله -تبارك وتعالى- ويتهددهم؛ وأن هذا لا يكون.

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[المعارج:1] {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}[المعارج:2]، الله يخبر بأن هذا العذاب واقع؛ يعني أنه موجود وواقع لا محالة، وللكافرين لأنهم كفار؛ لأنهم ردُّوا الحق، جائهم خبر الله -تبارك وتعالى- وكفروه؛ وستروه، وغطُّوه، وردوا هذا، وكذَّبوا به، {........ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}[المعارج:2]، ليس له؛ ليس لهذا العذاب دافع يدفعه عنهم، بل هو واقع فيهم لا محالة، {مِنَ اللَّهِ ........}[المعارج:3]، انظر عذاب؛ وعذاب من الله، الله -تبارك وتعالى- قوله الحق والصدق، وعيده لابد أن يكون كما أن وَعْدَه لابد أن يكون -سبحانه وتعالى-، {مِنَ اللَّهِ ........}[المعارج:3]، وكونه أنه يكون من الله {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]، لا أحد يُعذِّب كما يُعذِّب الله -تبارك وتعالى-، {........ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3]، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- نفسه بأنه ذي المعارج؛ صاحب المعارج، والمعارج؛ الدرجات -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الذي يعرُج إليه أمر كثير؛ فالملائكة تعرُج إليه، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وذلك أن الرب -سبحانه وتعالى- هو العلي العظيم المستوي فوق عرشه؛ وعرشه سقف مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، من الله يعني من الله العلي صاحب المعارج.

ثم قال وأخبر عن هذه المعارج فقال {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، الملائكة هم خلْق عظيم من خلْق الله -تبارك وتعالى-؛ خُلِقوا من نور، وهم على صفات حميدة كلهم؛ فهم مُطيعون لله -تبارك وتعالى-، وفي خلْقٍ شديد كلهم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فاطر:1]، وهم في صفاء قلوب؛ وطهارة نفس، وعبادة الرب -تبارك وتعالى-، لا يعصون الله -تبارك وتعالى- شيئًا، يُسبِّحون الله، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، هذه الملائكة تعرُج إلى الله -تبارك وتعالى-؛ تعرُج أولًا بأعمال العباد، فإن الله -تبارك وتعالى- أقام ملائكة في كتابة ما يصنعه العباد في هذه الأرض؛ وكذلك في استماع الذِّكر، والشهادة لأهل الحق، كما قال النبي «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيعرُج الذين باتوا فيكم»، يعرُج؛ يصعد، الذين باتوا فيكم يصعدون في صلاة الفجر؛ وغيرهم يأتي في الفجر إلى العصر، يلتقون في صلاة العصر وصلاة الفجر، «فيعرُج الذي باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم»، هو أعلم؛ الله أعلم بعباده من الملائكة لكن يعرجون إلى الرب -تبارك وتعالى-، «فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم؛ كيف تركتم عبادي؟ يقولون أي رب؛ أتيناهم وهم يُصَلُّون وتركناهم وهم يُصلُّون»، فهذي فضيلة مَن حافظ على صلاة الصبح وصلاة العصر، وكذلك ملائكة سيَّاحين لله -تبارك وتعالى- يُبلِّغون رسول الله السلام، «إن في الأرض ملائكة سيَّاحون يُبلِّغون أمتي السلام»، -صل الله عليه وسلم-، اللهم صلِّي وسلِّم وبارك على عبد ورسولك محمد، {الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ}، والروح هو جبريل -عليه السلام-؛ ويكون هنا من باب ذِكر الخاص بعد العام، فإن جبريل هو من جملة الملائكة؛ مَلَك الله -تبارك وتعالى- الأمين على وحيه، سفير الله -تبارك وتعالى- ورسوله إلى الرُسُل، فذِكره بعد الملائكة تنويهًا بشأنه وتنويهًا بعظَمَته؛ فإنه ينزل بالوحي من الله -تبارك وتعالى-، ويعرُج إلى الله -تبارك وتعالى- من عند الرُسُل.

{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، الله -تبارك وتعالى- وصَفَ العذاب بأنه من الله الحق؛ ذي المعارج، {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3]، وهذي صفته، فهذا الرب -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يكون قد قال قولًا غير صادق؛ أو قول زور، أو قول فيه مجرد تهويش، بل قول الله -تبارك وتعالى- حق، فإنه -سبحانه وتعالى- الرب؛ الإله، الله -سبحانه وتعالى-، ذي المعارج، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، ثم قال -جل وعلا- {........ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4]، يعني هذا العذاب اللي هو الحق الواقع سيتحقق لهؤلاء في يومٍ؛ اللي هو يوم القيامة، كان مقداره خمسين ألف سنة أي مما نعُد على هذه الأرض، فالأرض لها حسابها الزمني بحسب جريان الليل والنهار عندها؛ وحسب شهورها وسنواتها، فيخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا اليوم اللي هو يوم القيامة الذي جعله الله -تبارك وتعالى- للقضاء بين عباده؛ وإدخال أهل النار في هذا اليوم، في يوم كان مقداره بحساب الأرض خمسين ألف سنة، {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5]، وقد جاء في السُنَّة ذِكر أن يوم القيامة خمسين ألف سنة، كما في قول النبي -صل الله عليه وسلم- في حديث أبي هُريرة عند مُسلِم «ما من صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاتها إلا صُفِّحَت له يوم القيامة في صفائح، ثم يُحمى عليها في نار جهنم، ثم يُكوى بها جبينه؛ وجنباه، وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بُطِحَ لها بقاعٍ قرقر، ثم أوتيَ بها أوفر ما كانت لا يُغادِر منها فصيل فتطأه بأخفافها؛ وتعُضُّه بأنيابها، كلما مر عليه أُخراها رُدَّ عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، وقال النبي هذا كذلك في البقر، وقاله في الغنم كذلك، «أن الغنم تطأه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه أُخراها رُدَّ عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، فهذا العذاب الذي يُكذِّب به الكفار؛ والذي يسألون به سؤال الاستهزاء وسؤال التكذيب، كائنٌ في هذا اليوم، {........ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4].

قال -جل وعلا- {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5]، اصبر يعني على تكذيب الكفار وعلى استهزائهم، فإنه يخبرهم بالخبر الصادق من الله -تبارك وتعالى- ويُنذِرهم ثم هم يستهزئون به؛ ويستكبرون عنه، ويستبعِدونه، ويسبُّون الرسول، ويتهمونه بالكذب، فقال -جل وعلا- {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5]، الصبر؛ حبس النفس، وهنا الله قال صبر جميل يعني بلا سِبابٍ وشتائم لهم؛ بل بإعراض عنهم، وإعراض عن سفاهاتهم، وعن سبِّهم، وعن شتمهم، {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}[المعارج:6] {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج:7]، إنهم؛ الكفار، يرونه؛ يرون هذا اليوم وهذا العذاب، بعيد يعني لا يتحقق؛ ما يمكن، بُعْده هنا ليس بُعْد في الزمان؛ أنه يراه بعيد وأنه سيأتي... لا، وإنما يرونه بعيدًا يعني بعيد التحقق؛ بعيد أن يحصل، قال -جل وعلا- {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج:7]، حق واقع لابد أن يكون، وإنه قريب لأن كل آتٍ قريب، كل آتٍ فهو قريب؛ وماذا؟ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207]، فهو قريب؛ مادام هو أتي فهو قريب، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج:7].

قال -جل وعلا- {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8]، هذا اليوم الذي يكون فيه العذاب انظر الله يصِف هذا اليوم كيف سيكون؛ هذا يوم القيامة، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8]، السماء هذه الشديدة المبنية هذا البناء القوي بأجرامها العظيمة هذه تكون كالمُهل، والمُهل؛ المعدن المُذاب، يعني الرصاص إذا ذاب وأصبح ذائب فهذا هو المُهل، فتكون مادة السماء التي بُنيَت منها من شدة هذا اليوم ومن عظَمَته تكون كأنها خلاص؛ تذوب من حرارة هذا اليوم، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9]، جبال الأرض الصمَّاء القوية بحجارتها الصلدة الصلبة تكون كالعِهن؛ مثل الصوف، يعني أن مادتها تتفتت وتصير خفيفة وتتباعد بعضها عن بعض، ثم بعد ذلك يذروها الله -تبارك وتعالى- حيث يذروها، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9]، وذلك أنها تُنسَف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، وقال -تبارك وتعالى- {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1] {مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3] {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:4] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، العِهن؛ الصوف، الصوف أحيانًا يكون مُلبَّد بعضه مع بعض مثلًا إذا كان على ظهر الغنم، ثم إذا قُص وفُتِحَت خيوطه وشعراته بعضها عن بعض وتباعدت فهذا أصبح منفوش، فالله -سبحانه وتعالى- صوَّر هذه الجبال الصمَّة؛ الصلبة، المُتداخِل ذرَّاتها بعضها في بعض، أنها تتفكك وتكون على هذا النحو، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:9] {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10]، الغم والهم والكرب العظيم في هذا اليوم يعقِد الألسنة؛ ما يقدِر حميم يسأل حميمه، حميم يعني صديق حميم، والصديق الحميم يعني الصديق الصدوق الذي يحموا لصاحبه؛ ويكون معه، وإذا حصل له أي شيء يحتد له ويحموا له؛ فسُمِّي حميم من هنا، فهذا الصديق يعني الصديق الصدوق؛ المُحِب لصديقه، في هذا اليوم ما أحد يسأل الأخر، {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10]، مهما كان؛ أم وابنها، أب وأولاده، أخ وأخيه، صديق وصديقه، أبدًا كلٌ في شأن يُغنيه في كرب هذا اليوم وشدته، {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10].

يقول الله {يُبَصَّرُونَهُمْ}، يشوفهم، {يُبَصَّرُونَهُمْ}، يعني المرة تلوا المرة يشوفه في الموقِف لكن ما يستطيع أن يسأله، يعني ما يسأله عن حاله كما الشأن في الدنيا إذا لقيت صديقك الحميم تُرحِّب به؛ وتسأله عن حاله، لا يسأل أحد منهم عن حال صاحبه ولا عن الموقِف، وقول الله {يُبَصَّرُونَهُمْ}، ما قال يُبصِرونهم يعني المرة تلوا المرة؛ بيشوفه بكذا وكذا لكن يهرب منه، أين ما يراه يهرب منه، {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13] {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ}، المجرم؛ فاعل الإجرام، والإجرام؛ الكفر، يعني الكافر الذي فعل هذا الإجرام، الجُرم هو الذنب العظيم، الذنب العظيم؛ كفره بالله -تبارك وتعالى-، يوَد؛ يتمنَّى، يعني المجرم في هذا اليوم يتمنَّى أن يفتدي من عذاب يومئذ؛ هذا العذاب الواقع عذاب يوم القيامة، الحق الذي كان يُكذِّب به الكفار هنا في الدنيا، يتمنَّى أن يفتدي من العذاب ببَنيه، يعني لو قيل له تُقدِّم أولادك وتنجوا يُقدِّمهم، يتمنَّى لو أن أبنائه يفدونه؛ يُقدِّمهم للنار وهو ينجوا، وهذا خلاص؛ يبلغ الحال بالإنسان هذا أنه يُقدِّم أعز ما يملك وهو أولاده لينجوا هو، {لَوْ يَفْتَدِي}، والفِدية أن يدفعها هو للنار وينجوا هو، {........ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12]، صاحبته؛ زوجته، فزوجته وإن كانت ما كانت يتمنَّى أن تؤخَذ إلى النار وينجوا هو، وأخيه؛ والأخ عَون، لكنه يتمنَّى كذلك لو كان يملك أن يفتدي به لافتدى به، {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13]، فصيلته؛ فَخِذ القبيلة، جماعته الذي كانوا معه هذه يتمنَّى كذلك لو قدَّمها فداءً لنجاته هو، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ........}[المعارج:14]، يعني أنه لو هلَكَ كل مَن في الأرض وخرجوا وأُدخِلوا النار ونجى هو؛ يتمنَّى هذا، لو أنه يملِك ما في الأرض كلها ويُقدِّمه فداءً لنفسه لفعل، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]، فقط هو ينجوا؛ يعني ينجوا بأي ثمن، ولو كان هذا الثمن أولاده؛ أو زوجته، أو أخاه، أو عشيرته، أو قبيلته كلها، أو كل الذين في الأرض، لو كان هذا هو الثمن يتمنَّى أن يُقدِّمَه من هذا العذاب الشديد الذي كان يُكذِّب به في هذه الدنيا.

قال -جل وعلا- {كَلَّا}، كلا نفي لهذا التمنِّي من الكافر؛ أن هذا لا يكون، تمنِّيه ووده أن يحصل هذا لا يحصل، {كَلَّا}، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15]، إنها؛ النار، لَظَى؛ اسم من أسماء النار، وسُمِّيَت بهذا الاسم لأنها تتلظَّى، ومعنى تتلظَّى يعني تتقلَّب حرارتها –عياذًا بالله- ولهيبها، {........ إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15]، يعني التي يتقلَّب حرُّها ولهيبها -عياذًا بالله-، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16]، النزع؛ شدة الأخذ، والشوى؛ فروة الرأس، الجلد اللاصق على الجسم هذا هو الشوى، وقيل الشوى هو اللحم؛ وقيل اللحم الذي بين العظام، وقيل عصب الإنسان، يعني أن النار -عياذًا بالله- إنما تنزِع أعضاء الإنسان على هذا النحو، فتنزِع فروة رأسه عنه إذا كان في النار فإنها تنزِعها وتتطاير، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنها تُنضِج الجلود، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، والنزع يعني أنها ترفع وتقذفه بعيدًا عنه، {........ إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16].

{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}[المعارج:17] {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18]، تدعوا؛ والدعاء هو النداء والطلب، {........ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}[المعارج:17]، مَن أدبر وتولَّى عن الحق؛ وعن التصديق بها في الدنيا، فهذا الذي أدبر عن الحق؛ أدبر عن كلام الله -تبارك وتعالى-، أدبر؛ أعطى دُبُرَه وأعطى خلفه وترك كلام الله -تبارك وتعالى- وترك أمره، والتوَلِّي؛ البُعْد، فهذا تدعوه يوم القيامة؛ تقول له تعالى، أنت قد توَلَّيت عن أمر الله -تبارك وتعالى-؛ وعن خبر الله، وكذَّبت بهذه النار، ها هي؛ هذا أنا، وهذا كلام لسان للنار؛ لسان حقيقي، تتكلَّم كلام حقيقي، والله -تبارك وتعالى- قد جعل للجمادات إدراكات، ما من جماد إلا وله إدراك؛ يُحِس، ويعلم، ويتكلَّم، كل شيء ما في شيء اسمه جماد أنه أعجمي؛ لا لسان له، كل هذا له لسان وإذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُنطِقَه أنطقه، وأعضاء الكافر يوم القيامة تنطق عليه، ويقول الإنسان لأعضائه عنكُنَّ كنت أُدافِع، الكافر اليد تشهد عليه؛ والرِجل تشهد عليه، وأعضائه تشهد عليه، يقول أنا كنت أُدافِع عنكُن، فتقول {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، فكل شيء يصير عند الله -تبارك وتعالى- بقُدرته أن يُنطِقَه، الأرض تنطِق كما قال -تبارك وتعالى- فيها {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، الأرض تُحدِّث أخبارها، كل بقعة من الأرض تُحدِّث بما وقع عليها؛ تقول هذه البقعة وقع عليَّ كذا وكذا في يوم كذا، يعني اجتمع فلان وفلان أو فلان وفلان وكان منهما كذا؛ وكذا، وكذا، وكذا ...، فتُحدِّث الأرض بما وقع عليها، وكذلك تُحدِّث بما وقع عليها من الخير ومن الشر، ولذلك قيل أن الإنسان يتنقَّل في بعد الفريضة إلى النافلة لتكثُر مواطن السجود لأن هذه المواطن تشهد لصاحبها؛ تقول سجد عليَّ هذا العبد في هذا اليوم، والنبي يقول «ما من شاخِص يسمع المؤذِّن»، المؤذِّن إذا أذَّن فكل شاخِص في الأرض؛ كشجرة، بيت، حجر، أي شيء شاخِص يشهد له يوم القيامة؛ يقول سمعته يؤذِّن، سمعته يشهد أن لا إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فتشهد له هذه الشواخِص يوم القيامة، فهذه الشواخِص جمادات لكن لها إدراكات وتشهد، فالنار جماد ولكنها مخلوق مُتكلِّم؛ يَعي، وله عقل، فهي تقول له تعالى؛ أنت الذي كنت تُكذِّب؟ هذا أنا، هذه هي النار التي كنت تُكذِّب بها.

{........ إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15]، يقول الله -تبارك وتعالى- {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16] {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}[المعارج:17] {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18]، جمع من المال فأوعى وأغلق، كان يجمع المال ولكن يضعه في خزائنه ويوعيه؛ بمعنى أنه يحفظه، ويعُدُّه عدًّا، ولا يُخرِج حق الله -تبارك وتعالى- فيه، هذا مال الله وأعطاكه الله -تبارك وتعالى- ولكنه جمَعَه؛ وأوعاه، وادخَرَه لنفسه، لا ينفعه، {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18]، أغلق ماله عن حقوق الله -تبارك وتعالى-؛ لم يُخرِج حق المسكين، لم يُخرِج حق الفقير، فهذا المجرم الذي كفر بيوم القيامة والذي صنع هذا الصنيع فإن هذا الذي سيُصنَع به، {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، الإنسان؛ جنس الإنسان، خُلِق على هذا النحو؛ هلوع، الهلع هو الخِفَّة؛ والطيش، وعدم الثبات لا في حال الشدة ولا في حال الرخاء، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، إلا مَن خرج عن هذه الصفات من المُصلين والذي يتصِفون بهذه الصفات، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19]، فالهلع اللي هو عدم الثبات على الأمر؛ وعدم التريُّث فيه، وعدم النظر فيه، وإنما السرعة فيه، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20]، والمَس يعني أقلُّه، إذا أصابه شيء ولو قليل من الشر، جزوع؛ كثير الجزَع، والجزَع هو اليأس؛ والقنوط، وعدم الصبر، وعدم انتظار الفرج، بل خلاص؛ يتهاوى، أو كما يقول الناس ينهار، فهذا الذي يحصل له كما يُقال انهيار عصبي؛ تنهار أعصابه خلاص، هذا الجزوع هو الذي يفقد صبره؛ ويفقد رباطة جأشه، ويصير آيس، ولا ينتظر أن هذا عارض يمر وسيأتي بعد ذلك الفرج؛ وأن بعد العُسْر يُسْرًا... لا.

{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، وإذا مسَّه كذلك وجائه الخير مَنوع، والمَنوع الجمعوع المحافظ؛ البخيل، الضَنين بماله الذي يمنعه، ويمنعه عن ماذا؟ يمنعه عن الحق الذي أمَرَ الله -تبارك وتعالى- وجوبه؛ النفقة التي أمَرَ الله أن يُنفَق فيها المال، فيمعه عن الفقير؛ وعن المسكين، ويمنع حق الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34] {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، الذين يخرجون عن هذه الصفات الخثيثة؛ وهي الهلع، والجَزَع، وأن يكون منوعًا عندما يأتيه الخير؛ يمنع المال عن وجوهه المُستحقَّة عليه، وجَزوعًا عند حصول الشر، لا يخرج من هذا إلا أهل الإيمان الذين يتصِفون بهذه الصفات، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان بهذه الصفات، هؤلاء هم الذين يخرجون عن هذه الصفات الخثيثة، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23].

وسنأتي -إن شاء الله- لأن نعيش في ظِلال هذه الصفات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله سيدنا ونبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.