الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (740) - سورة المعارج 21-30

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34] {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- مصير الناس إلى مؤمن وكافر، في يوم القيامة مَن يؤتى كتابه بيمينه فيكون من أهل الجنة؛ ومَن يؤتى بشِماله، وكيف يكون هؤلاء وهؤلاء، قال -جل وعلا- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، هذه طبيعة الإنسان خُلِقَ على هذا النحو؛ هلوع، يعني أنه عجول لا يثبُت عند النعمة؛ بل تُبطِره، وتُطغيه، وتدفعه إلى أن يمنعها ويمسِكها؛ فهو منوع، وفي حال البأس والمصيبة فهو جزوع، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20]، ومسَّه؛ أدنى مَس، جزوع؛ والجزَع هو عدم الصبر، والانهيار، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21].

ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، هذا الذي يخرج عن هذه الطبيعة؛ طبيعة الإنسان المجبول على هذا الأمر، الذي يخرج عن هذا إنما يخرج بهذا العمل الكَسبي؛ بالإيمان والعمل الصالح، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22]، أهل الصلاة، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، قول الله {........ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، الديمومة في أنهم مُستديمون في هذا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- فرَضَ الصلاة على عباده إلى الموت فرضٌ يومي، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، خمس صلوات في اليوم والليلة فرضها الله -تبارك وتعالى- على أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأنه يجب أن يُصلِّي إلى أن يموت، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، فالديمومة؛ الاستمرار على هذا، والمعنى الثاني {........ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، يعني أنهم على صلاتهم دائمون فيها لا يقطعونها بأنهم ينصرفون عنها بالالتفات ونحو ذلك، وهذا يشبه قول الله -تبارك وتعالى- {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]، الخشوع هو السكون وعدم الالتفات والحركة في الصلاة، وإنما كما قال النبي «اسكنوا في الصلاة»، والسكون فيها سكون قلب وسكون جوارح إلى الصلاة، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، يعني إذا صلُّوا فهم مُستديمون للصلاة حتى ينهونها، فهم في صلاتهم كما قال -تبارك وتعالى- خاشعون.

{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، قال في أموالهم وإن كان الله -تبارك وتعالى- هو رازقهم إياها -سبحانه وتعالى-؛ فهي مال الله -تبارك وتعالى- ولكن ملَّكَهم الله، {........ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24]، حق؛ واجب أحقه الله -تبارك وتعالى-، ومعلوم لأن الله -تبارك وتعالى- فرضَ حق الزكاة وجائت مقاديرها في السُنَّة عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ مقادير الزكاة التي حق الله -تبارك وتعالى-، فقال مثلًا في الرِقَّة ربع العُشْر؛ وقال في كل أربعين شاة شاة، وقال في ما سقَت السماء العُشْر، وقال في ما سُقيَ بالثانية نصف العُشْر، فبيَّن نَصاب الزكاة وبيَّن الحق الذي لله؛ الذي يجب أن يُعطى لله -تبارك وتعالى- من الزكاة، وقد قال -تبارك وتعالى- في حقه عن الزرع {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، ففي أموالهم التي فرَضَ الله -تبارك وتعالى- فيها الزكاة؛ الزروع والثمار، والذهب والفضة اللي هم النقضين، وكذلك في الأنعام، حق معلوم وقال -جل وعلا- {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، عماد الزكاة إنما هي للسائل؛ لِمَن يسأل، والمحروم من المال فإن الله -تبارك وتعالى- جعل له هذا الحق في مال الغني، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- عندما أرسل مُعاذً إلى اليمن «إن تقدُم على قوم أهل كتاب، فليكُن أول ما تدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإن هم أطاعوك لذلك فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة؛ تؤخَذ من أغنيائهم وتُرَد في فقرائهم»، فالزكاة إنما هي تؤخَذ من الأغنياء وتُرَد في الفقراء، والله وصَفَ أهل الإيمان بأنهم {........ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25].

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26]، هذا من صفات أهل الإيمان الذين يخرجون عن هذه الصفة الذميمة في الإنسان؛ وهي {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21]، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26]، يُصدِّقون خبر الله -تبارك وتعالى- بيوم الدين لأن هذا من الغيب، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- فيه أنه جعل يومًا للعباد ليُحاسَبوا فيه بين يديه -سبحانه وتعالى-؛ وليأخذ كلٌ جزائه، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1] {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2] {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5] {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، هذا يوم القيامة، يصدر الناس؛ خروجهم من قبورهم إلى الموقِف، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، ليُري الله -تبارك وتعالى- كل إنسان عمله ويأخذ جزائه، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، فهم يُصدِّقون بيوم الدين؛ يوم الجزاء، يوم الدين هو يوم الجزاء الذي يُجازى فيه كل إنسان على عمله، لابد أن يأخذ كل إنسان ثمرة عمله ونتيجة عمله؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26].

{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27]، من صفتهم أنهم من عذاب ربهم مُشفِقون وهم في الدنيا، فهم في الدنيا هنا ولكنهم من عذاب الله مُشفِقون؛ يعني خائفون أشد الخوف، والإشفاق هو وصول غاية الخوف؛ حافة الهلاك بالخوف، فواصلون إلى نهاية الخوف إشفاقًا على أنفسهم؛ وخوفًا أن يكونوا هم من أهل النار، وهذا حال المؤمن أنه دائمًا خائف من عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ فهو مُتقيه إلى أن يموت، ولا يطمئن المؤمن ويصِل حد الاطمئنان إلى أن يضع قدمه في الجنة؛ وأما قبل هذا فهو دائمًا في خوف، وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- لمَّا قالت أم العلاء؛ امرأة من الأنصار، قالت عندما توفِّيَ عثمان ابن مظعون -رضي الله تعالى عنه- «شهادتي عليك أبا الثائب أن الله قد أكرمك، فقال لها النبي وما يُدريكي أن الله قد أكرمه؟ فقالت سبحان الله يا رسول الله؛ ومَن يُكرِم الله إذا لم يُكرِمه؟ فقال لها النبي والله إني لرسول الله؛ لا أدري ما يُفعَل بي غدًا، فقالت والله لا أُزكِّي بعده أحدًا أبدًا»، ولذلك كان الصحابة ومَن دونهم يبكون خوفًا وفَرَقًا من عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ وأخبارهم في هذا أخبار عظيمة، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا»، فإن عذاب الله -تبارك وتعالى- شديد.

وهنا أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنهم مُشفِقون من عذاب الله فقال {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28]، عذاب ربهم غير مأمون فقد يأتي بغير احتساب له، فإن أولًا نهاية العبد ما هي معلومة؛ هل يموت على الإسلام أو يموت على غير الإسلام؟ وكذلك هو قد يفعل ذنب وهو لا يُقدِّر عقوبته؛ فيكون له عقوبة عند الله -تبارك وتعالى-، وقد يبلغ به من سخَط الله وغضبه وهو لا يدري، والنبي يقول -صلوات الله والسلام عليه- «إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا»، ومعنى لا يُلقي لها بالًا قيل أنه لا يظن أنها تبلغ في الإثم ما بلغت، ما يظن أن فيها هذا الإثم وهذه العقوبة لكن فيها عقوبة كبيرة، وقد قال -تبارك وتعالى- {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15]، هذا في الإفك وقد قال بعض الناس فقط أنهم سمعوا المقالة ونقلوها إلى غيرهم، فجعل الله مجرد نقلهم للمقالة التي سمعوها دون التبيُّن فيها؛ والتبصُّر فيها، والتوقُّف عن نشرها، جعل الله -تبارك وتعالى- هذا إثم عظيم، قال {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ........}[النور:15]، تقول كلام وتظن أن لا ذنب عليك لأن العُهدة كما يُقال على الراوي؛ نحن سمعنا هذا ونقلناه... لا، فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}، تحسَبوا أنكم إذا قُلتم هذا هيِّن ولكنه هو عند الله عظيم.

وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- عندما مرَّ بقبرين «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، ثم قال بلى؛ ولكنه عند الله كبيرًا، أما أحدهما فكان لا يستنزِه من بوله، وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس»، فالذنوب قد يكون بعضها صغائر لا يُلقي لها العبد بالًا وهي كبيرة عند الله -تبارك وتعالى-، وفي حديث «ثلاثة لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة؛ ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم»، هذا الحديث ذكَرَ النبي ثلاثة؛ وثلاثة، وثلاثة، تِسع ذنوب من مُحقِّرات الذنوب؛ بعض الناس ينظر إليها أحيانًا أنها أمر ليس بهذا الشأن ولكنه فيه هذه العقوبة، «لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة؛ ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم»، قال في هذه الذنوب «قال المُسبِل، وقال المنفِّق سِلعَته بالحلِف الكاذب، وقال منهم رجلًا بايع رجل بسِلعة بعد العصر فحلَفَ له أنها بكذا وكذا وهو على غير ذلك، وقال فيهم عائل مُستكبِر؛ وملِكٌ كذَّاب، وشيخ زانٍ»، فهذي ثلاثة من الذنوب قد ينظر الناس إليها أنها ليست بعضها كبائر لكنها يُعاقَب عليها على أنها من أكبر الكبائر، قال النبي «عائل مُستكبِر»، عائل؛ صاحب عيال ولكنه مُتكبِّر، والكِبر شر؛ لكن الكِبر من الفقير أكبر شرًّا، وملِكٌ كذاب؛ الكذب حرام لكنه من الملِك يصير أكبر شرًّا، وأوشيمة زانٍ أو شيخ زانٍ؛ الزنا حرام وهو كبيرة ولكنه من الشيخ يصبح أكبر إثمًا، وكذلك قال النبي -صل الله عليه وسلم- «رجل على فضل مالٍ بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل لا يُبايع أميرًا إلا لدنيا؛ إن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعطِه منها سَخِط»، الشاهد من هذا أن هذه ذنوب؛ فالمُسبِل، والمنَّاع، والمُنفِّق سِلعَته بالحلِف الكاذب، والعائل المُتسكبِر، والشيخ الزاني، والملِك الكذَّاب، ورجل أقسَم على يمين أنه اشترى هذه السِلعة بكذا وكذا وهو على غير ذلك، فهذه أمور مما يتصاغره الناس ولكنها ذنوب كبيرة عند الله -تبارك وتعالى-.

كذلك من الذنوب التي يتصاغرها الناس وقد لا ينتبهوا لها الرياء؛ المُرائاة، والمُرائي يُفسِد عمله؛ ويُبطِله، ويُرجِعه، ويستحق العقوبة عند الله -تبارك وتعالى-، وأول مَن يدخل إنما يدخلها المُرائون، كما قال -صل الله عليه وسلم- «أول مَن تُسجَر بهم النار ثلاثة؛ مُتصدِّق، وعالِم، ومُجاهِد، فأما المُتصدِّق فيأتي فيُذكِّره الله نعمته؛ يقول له ماذا فعلت بها؟ يقول يا رب ما تركت بابًا من الأبواب التي تُحِب أن يُنفَق فيها إلا أنفَقت فيه»، كل أبواب الخير التي تُحِب الإنفاق فيها أنفَقت فيها، «فيُقال كذبت وإنما تصدَّقت ليُقال مُحسِن؛ وقد قيل، خذوه إلى النار»، فيؤمَر به إلى النار وهو من أهل الإحسان ويقول أنا ما تركت بابًا من أبواب الخير إلا تصدَّقت فيه، «ورجل عالِم يُذكِّر الله نعمته؛ يقول له ماذا عمِلت بها؟ يقول يا رب تعلَّمت العِلم وعلَّمته في سبيلك، فيُقال كذبت وإنما علَّمت ليُقال عالِم؛ وقد قيل، والمُجاهِد يقول يا رب جاهدت في سبيلك؛ وقاتلت حتى قُتِلت، فيُقال كذبت وإنما قاتلت ليُقال شجاع؛ وقد قيل»، فهذه نيَّة والذين انصرَفَت نيَّاتهم عند العمل الصالح فبدلًا من أن يوقِعوه لله -تبارك وتعالى- جعلوا عملهم للمِدحة؛ وللمُرآة، وليمدحهم الناس، وليذكرهم الناس بالخير، فهؤلاء يبطُل عملهم ويستحقون العذاب، وكان النبي من دعائه يقول «اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِكَ بك شيئًا وأنا أعلمه؛ وأستغفرك لِما لا أعلمه»، فالشرك باب؛ الشرك بالرياء باب عظيم من أبواب الشر ويمكن أن يدخل على الإنسان، وقد قال كثير من السَلَف ((عالجت كل أمرٍ فما وجدت أشد من علاج نيَّتي))، يقول كل أمر عالجته؛ من الجهاد، إلى الصدقة، إلى الصلاة، إلى غيرها مما أُمِرت به، لكن أصعب أمر أُعالِجه ليستقيم هو النيِّة؛ أن تكون نيَّتي خالصة لله -تبارك وتعالى- في العمل، يقول هذا أصعب الأمور.

الشاهد من كل هذا أن عذاب ربهم غير مأمون أولًا لأن التكليف الذي كُلِّفَ به الإنسان تكليف يحتاج إلى صبر؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر عن الأحداث، وقد يتكلَّم بالكلمة لا يُلقي لها بالًا فيهوي بها في النار سبعين خريفًا كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ذنوب تُعلَم وذنوب يُعَلم شرُّها؛ وأنها من الكبائر، وذنوب قد يظنها الناس صغائر وهي عند الله -تبارك وتعالى- كبائر، فإن ميزان العقوبة ليس إلى العباد وإنما إلى الله -تبارك وتعالى-؛ هو الذي يزِن العمل، وهو الذي يقول هذا العمل يستحق هذه العقوبة أو لا يستحق؛ فالأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم المصير إنما هو لله؛ يعني مصير العبد ونهايته إنما هي بيد الله -تبارك وتعالى-، «إن الرجل قد يعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون ما بينه وبينها ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»، فقد ينقلب على وجهه في آخر حياته، وكم من الذين انقلبوا؛ وتركوا الدين، وكانت عاقبتهم سيئة، وكان النبي من أكثر ما يدعوا أن يقول «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك»، وكانت تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- كان أكثر ما يحلِف به النبي -صل الله عليه وسلم- أن يقول «لا ومُقلِّب القلوب، إي ومُقلِّب القلوب»، يعني يُقسِم بالله -تبارك وتعالى- واصِفًا إياه -سبحانه وتعالى- بأنه مُقلِّب القلوب، اللهم صرِّف قلوبنا على طاعتك، فالقلب من القلب؛ أنه ينقلِب، فهؤلاء المؤمنون يخبر -سبحانه وتعالى- بأنهم يعيشون في الدنيا في خوف دائم من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28]، ولذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- عن أهل الجنة أنهم عندما وصلوا الجنة يقولون {........ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}[الطور:26] {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:27]، إنَّا كُنَّا من قبل؛ يعني في الدنيا، في أهلنا؛ أي في الدنيا، مُشفِقين؛ يعني خائفين، كُنَّا خائفين أشد الخوف ومن بِرِّه وإحسانه به -سبحانه وتعالى- {........ وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:27] {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:28]، إنَّا كُنَّا من قبل يعني من قبل أن يُدخِلنا الله -تبارك وتعالى- الجنة، كُنَّا من قبل في الدنيا ندعوه؛ إنه هو البَر الرحيم -سبحانه وتعالى-، فهذا وصف عظيم لأهل الإيمان أن من صفتهم أنهم من عذاب ربهم مُشفِقون، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28]، يعني اتصافهم بهذه الصفة؛ أنهم خائفون دائمًا من عذاب الله -تبارك وتعالى-، هذه صفة جديرة بهم وذلك أن عذاب الله غير مأمون؛ ما أحد يأمنه، والذي يقول أنا أصبحت مؤمن وأمَّنت نفسي وأصبحت من أهل الجنة وهو من أهل النار؛ فإنه يدَّعي الغيب، ولا يعرف النتيجة، وهذا مُغرَّر به؛ هذا المغرور، أما المؤمن فخائف أبدًا؛ وهذا سيد المُرسَلين وإمام المُتقين -صلوات الله والسلام عليه-، تقول أم المؤمنين عائشة –رضي الله تعالى عنها- كان "إذا جاء الغيم فكان رسول الله -صل الله عليه وسلم- يُصيبه الهم والغم؛ فيدخل ويخرج"، تقول يبقى داخل وخارج، "حتى إذا نزل المطر سُرَّ عنه"، تقول حتى إذا نزل المطر بعد هذا الغيم يُسَر عنه ويرجع إلى راحته، "فقُلت له يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم استبشروا"، تقول الناس لمَّا يشوفوا الغيم يستبشروا أن جاء المطر، فيقول لها النبي -صلوات الله والسلام عليه- "وما يُدريني أن فيه العذاب؟ لقد رآه قوم"، يعني رأى الناس الغيم قادم {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، قال ربنا {........ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24]، فالنبي يقول "وما يُدريني أن فيه العذاب؟" فكان خائف، هذا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- وهو المؤمَّن؛ وهو مع أهل الإيمان، ومع صفوتهم، وقد أمَّنَه الله -تبارك وتعالى- وقال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33]، ومع ذلك كان يرى الغيم يخاف أن يكون فيه عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ وكان يشوف الريح فيبتئس -صلوات الله والسلام عليه-، ويقول «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب»، ويقول «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا»، يرجوا من الله -تبارك وتعالى- أن يجعلها رياح رحمة، وفي السُقيا يقول «اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذاب»، فهذا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- وهذه أم العلاء تقول يا رسول الله مَن يُكرِم الله إذا لم يُكرِمه؟ إذا كان الله لن يُكرِم مثل صفوان -رضي الله تعالى عنه-؛ فمَن يُكرِم الله؟ فيقول لها والله إني لرسول الله؛ لا أدري ما يُفعَل بي غدًا، وقد قال الله -تبارك وتعالى- {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ........}[الأحقاف:9]، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}، لست الرسول الوحيد الذي أرسله الله إلى العالم فقد سبَقني رُسُل، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}، هل يأتيكم عذاب قبل يوم القيامة؟ أو ما يأتيكم ما الذي يكون؟ فالأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، فأمر العباد ومصيرهم إلى الله -تبارك وتعالى-، ولذلك يبقى أهل الإيمان الحق في مخافة دائمة من عذاب الله -تبارك وتعالى- إلى أن يلقوا الرب -تبارك وتعالى-؛ ويُكرِمهم الله -عز وجل- بدخول الجنة، وهناك ينتهي الكرب؛ ينتهي كربهم، وينتهي إشفاقهم، وينتهي خوفهم، {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28].

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30]، كذلك من صفة أهل الجنة؛ عباد الله -تبارك وتعالى- الذين يخرجون عن هذه الصفات الذميمة للإنسان أنهم لفروجهم حافظون، حافظون طبعًا من الكشف على الغير؛ على مَن لا يحِل لهم، وكذلك حافظون أي أنهم لا يزنون، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30]، هذا الذي أباحه الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، {........ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30]، فإنهم لا يلوموهم الله -تبارك وتعالى- على هذا، فهنا أيضًا وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- بالعِفَّة وبالستر، فالحفظ يشمل الحفظ عن الزنا والحفظ كذلك عن الكشف، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31]، مَن ابتغى؛ يعني ابتغى إشباع الغريزة، وراء ذلك؛ وراء الزوجة ومُلك اليمين، فأولئك هم العادون؛ هؤلاء هم المُعتَدون، الذي جاوز ما أحل الله -تبارك وتعالى- إلى ما حرَّمَ الله -عز وجل-، وقد جاء في عذاب الزُناة والزواني أحاديث عظيمة كحديث رؤيا النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ قال «إنه أتاني اليوم آتيان من ربي؛ فقالا لي انطلق، انطلق، يقول فانطلقت معهما»، وذكَرَ صور عديدة رأها النبي، ومن جملة هذه الصور قال «ومررنا على مثل التنُّور فنظرنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عُراة يأتيهم لهب من أسفل منهم، كلما أتاهم هذا اللهب ضوضوا»، ضوضوا يعني أخرجوا ضوضاء شديدة، «فقُلت سبحان الله؛ ما هذا؟ فقالا لي انطلق، انطلق»، إلى أن أخبر النبي عن مُشاهَداته في هذه الليلة مما شاهده، «ثم قالا له بعد ذلك وأما النساء والرجال العُراة الذين رأيتهم في مثل التنُّور فإنهم الزُناة والزواني»، فهذه عقوبة شديد -عياذًا بالله-، وهنا الله يصِف أهل الإيمان بأنهم أهل عِفَّة فقال {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ........}[المعارج:31]، مَن أراد وراء ذلك، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32]، لأماناتهم؛ نسَبَ الأمانة إليهم وهي ما استؤمِنوا عليه، وكل ما استؤمِن العبد عليه؛ العبد استؤمِن على أشياء كثيرة، استأمنه الله -تبارك وتعالى- على أمانات كثيرة؛ فكل التكاليف التي للعبد هي أمانة، ولذلك قال بعض السلف ((غُسْل الجنابة أمانة))، وذلك أنه أمر من الله -تبارك وتعالى- أنك إن أجنبت فيجب أن تغتسل لتُصلي ولِتطهُر، فهذي أمانة وهي سر لأن الإنسان قد يصبح جُنُبًا ولا يعلم به إلا ربه، فقد يحتلِم مثلًا وقد تحيض المرأة ولا يعلم بها إلا الله -تبارك وتعالى-، فهذه أمانة يجب أن يقوم بها، فالتكاليف التي كلَّف الله -تبارك وتعالى- بها عباده هي أمانة، وكذلك كل ما استؤمِن عليه العبد هو أمانة يجب أو يؤديها، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32].

ونعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.