الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (741) - سورة المعارج 30-44

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34] {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}[المعارج:36] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}[المعارج:37] {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}[المعارج:38] {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}[المعارج:39] {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج:40] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[المعارج:41] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[المعارج:42] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:43] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}[المعارج:44]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30]، هذا من جملة الصفات التي يصِف الله -تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين؛ الذي كتَبَ الله -تبارك وتعالى- لهم النجاة والجنة، {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30]، حِفظ الفرج كما قال النبي «احفظ فرجك إلا عن زوجك أو ما ملَكَت يمينك»، ومُلك اليمين هُنَّ الأرِقَّاء، وسُمُّوا مُلك يمين لأنهم في يمين الإنسان؛ يعني يستطيع أن يبيعهم أو أن يشتريهم، ولا طبعًا أنه لا تقع هذا في مُلك اليمين إلا بجهاد في سبيل الله وبشروط معلومة، قال -جل وعلا- {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ........}[المعارج:31]، وراء الزوجة ومُلك اليمين، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}، وقد جاء في عقوبة الزُناة والزواني أحاديث عظيمة، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- أن هذا الزنا فاحشة وساء سبيلًا؛ وأمَرَ بالستر كذلك، وقد جاء في عذاب الذي يُعذَّب في قبره قال «أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله»، إذا كان معنى يستتر؛ لا يستنزِه من بوله، إن لم يستنزِه من بوله يكون قد تصيبه النجاسة، ويستتر يعني يُكشَف فتُرى عورته، فيجب الحفظ سِترًا وكذلك الحفظ عِفَّةً.

قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32]، أماناتهم مع الله -تبارك وتعالى-، فإن كل ما كلَّفَ الله -تبارك وتعالى- به العبد هذا أمانة عنده مُؤتمَن عليها؛ ولابد أن يقوم بها، الصلاة أمانة، الصوم أمانة، قال بعض السلف ((غُسْل الجنابة أمانة))، فإن هذا سِر يجب أن تقوم به؛ وإنه بينك وبين ربك -سبحانه وتعالى-، وأماناتهم بالنسبة إلى العباد كذلك، كل ما أمَّنك عليه العباد مما يجب أن تقبله وتؤتمَن عليه فهو أمانة؛ فتُراعيها، وتؤدي الأمانة، والله -تبارك وتعالى- أمَرَ المؤمنين بأداء الأمانات، قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ........}[النساء:58]، أو هذا أمانة الحُكْم؛ فالحُكْم أمانة، فكل مَن ولَّاه الله -تبارك وتعالى- شيء فقد استأمنه؛ وأعطاه أمانة سائله الله -تبارك وتعالى- عنها، «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته»، فالإمام في الرعية مؤمَّن على هذه الرعية من الله؛ ومُستخلَف فيها، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[ص:26]، فالله أمَّنه على هؤلاء؛ وهو راعٍ لهم، وهو مسئول عن رعيته، «الرجل في بيته راعٍ وهو مسئول عن رعيته»، فهي أمانة عنده؛ يجب أن يؤدي الأمانة، وكذلك «المرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والولد في مال أبيه راعٍ وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»، فهذه العهود؛ ما إئتُمِنَ العبد عليه من حق الله -تبارك وتعالى-، وما إئتُمِنَ عليه كذلك من حقوق الناس يجب أن يؤديه كما إئتُمِنَ عليه، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32]، العهد هو كل ما عاهدوا عليه؛ سواء عهدهم مع الله -تبارك وتعالى-، أو عهدهم مع الخلْق، يجب أن يوفي عهده ووعده لهم بالصدق والكمال، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32]، يُراعي هذا ويعلم أنه مُسترعى لهذا الأمر؛ وأنه مسئول عن رعايته.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33]، قائمون بشهاداتهم؛ يشهد لله -تبارك وتعالى-، لا يكون الإنسان قائم بالشهادة إلا إذا كانت شهادته لله؛ وشهادته عن صدق، وكل إدلاء وأي إدلاء ولو بخبر هو شهادة؛ أنت تشهد بهذا، فالاعتقاد شهادة؛ عندما تعتقد اعتقاد في الله -تبارك وتعالى- أو في غيبه هذه شهادة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:19]، فقولهم إن الملائكة بنات الله شهادة؛ شهِدوا بهذا، هذا اعتقاد لهم، وهم لما قالوا هذا وأدلوا بهذا هذه أصبحت شهادة أدلوا بها، ستُكتَب عليهم ويُسألون عنها؛ كيف حكمت هذا الحُكْم؟ كيف حكمت أن لله -تبارك وتعالى- بنات وأن الملائكة بنات؟ هل رأيت هذا؟ كيف تقول بهذا؟ الله يقول {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}، يُسألون عن هذا، كل إدلاء بأي خبر وبأي شيء شهادة؛ أنت تشهد بهذا، فإذا تكلَّم عن غيره؛ تكلَّم عن الله، عن غيبه، تكلَّم عن الرسول، تكلَّم عن فلان، تكلَّم عن هذا، هذا كله شهادة؛ فهو يؤدي الشهادة، {........ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33]، قائم على هذه الشهادة؛ لا يقول إلا صدقًا، ولا يتكلَّم إلا عن بيِّنة، وهذا أمر عظيم جدًا وهو قائم عليه، والله -تبارك وتعالى- أمرنا أن نكون قوَّامين لله شهداء بالقِسط، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}، وقال {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، فيجب أن يكون قيامة لله وشهادته بالقِسط، وأن يكون أيضًا قيامة بالقِسط وشهادته لله، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33]، قائمون لله؛ ومُستقِيمون على الحق، ولا يدلون إلا بحق، ويتحرُّون الحق في كل ما يقولونه وفي كل ما يحكمون به.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34]، بدأ بالصلاة وختم بالصلاة، هذه صفات أهل الإيمان بدأها الله بالصلاة فقال {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23]، وختمها بقوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34]، وكونهم على صلاتهم يُحافِظون هذا يشمل كل ما هو قد شُرِع للصلاة؛ من شروط، ومن أركان، ومن واجبات، فالحفاظ على الصلاة حفاظ على شروطها؛ فالوضوء من شروطها، يجب أن يتوضَّأ حتى يُحافِظ على الصلاة، ستر العورة من شروطها، استقبال القِبلة من شروطها، دخول الوقت من شروطها، كل هذا من شروطها؛ التهيئة لها، السعي لها واجب ومن شروطها أن يُسعى لها؛ وأُمِر وجوبًا بالسعي لها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ........}[الجمعة:9]، حي على الصلاة، صلاة الجماعة والسعي لها فرض واجب، ثم أداء أركانها قيامًا لله -تبارك وتعالى-، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، سكوتًا، خشوعًا فيها؛ كل هذا من الحفاظ على الصلاة، كذلك أداء الصلاة في مواقيتها التي شرَعَها الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، يعني فريضة بوقت، حدَّد الله -تبارك وتعالى- لكل صلاة وقت يجب أن توقَع فيه؛ فهذا وقت الفجر، وهذا وقت الظهر، وهذا وقت العصر، وهذا وقت المغرب، وهذا وقت العِشاء، هذه أوقات الله -تبارك وتعالى- شرَعَ الصلاة فيها، فمن المحافظة على الصلاة المحافظة على الوقت؛ أن تؤدى الصلاة في وقتها، وطبعًا أول الوقت هو أفضل الوقت، كما سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- «قيل يا رسول الله ما أحب الأعمال إلى الله؟ فقال الصلاة على وقتها»، يعني على أول وقتها؛ أول ما يُؤذِّن المؤذِّن لدخول الوقت، فإيقاع الصلاة في أول وقتها هذا أشرف وقت وأحسن وقت، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34].

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ}، يعني الذين اتصفوا بهذه الصفات وهي {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، فهذه هي الزكاة، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26]، هذا بالاعتقاد والخوف والذين هم في كل أوقاتهم خائفون من عذاب الله -جل وعلا-، {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29]، فهم أهل عِفَّة وابتعاد عن التبذُّل؛ والتكشُّف، والتهتُّك، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32]، ناس مُنضبِطين؛ ففي الأمانة يؤدوها، في العهود التي عاهدوها يوفوها، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33]، وهذا يشمل كل إدلاء، فأي إدلاء لهم إنما هم قائمون فيه لله -تبارك وتعالى-، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34].

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، أولئك؛ بالإشارة لهم بالبعيد تعظيمًا لهم وأن هؤلاء مُعظَّمون، في جنات؛ بساتين، مُكرَمون بكل صنوف الإكرام؛ مُكرَمون من الله، هؤلاء إكرامهم من الله -تبارك وتعالى-؛ هو الذي غرس لهم الجنة، هو الذي أعطاهم ما أعطاهم وورَّثهم إياه، هذه كرامة من الله، وهذه نُزُل من الله، فهذه ضيافة الرب -تبارك وتعالى- وإكرام من الله -عز وجل-، كذلك مُكرَمون من الملائكة؛ ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، انظر تكريم الملائكة لهم في تبشيرهم إياهم وفي تهنئتهم التهنئة العظيمة، تهنئة من الملائكة؛ يُهَنئون أهل الجنة بأنهم حسِنوا أو وصلوا إلى هذا المكان، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ........}[الرعد:24]، بصبركم، وقال بما صبرتم لأن بما صبرتم يشمل كل عمل الخير، فالصبر هو العمود الفقري للدين لأن التكاليف إنما هي قائمة على غير هوى الإنسان؛ وتحتاج إلى صبر، فصبروا على الطاعة، الصلاة تحتاج صبر حتى تخرج من فراشك وقت الفجر، يتجافى عنه جنبك وأنت تحب تنام فتقوم لله -تبارك وتعالى-، تُسبِغ الوضوء على المكاره؛ الماء البارد في وقت الشتاء، والماء الحار أحيانًا يكون في وقت الصيف، إسباغ الوضوء على المكاره، المحافظة الدائمة على الصلاة؛ تقطع نفسك من أوقاتك اللذيذة إلى أن تُصلِّي، الصوم صبر؛ صبر عن الطعام، وعن الشراب، وعن الشهوة لله -تبارك وتعالى-، الحج صبر ولا يُقام إلا بالصبر؛ الصبر على الأذى، وعلى الزحام، وعلى الشدة، وعلى مخالفة الاعتياد، الجهاد أعظم الصبر؛ أعظم الصبر إنما هو في الجهاد، الصبر على فراق الأهل، الصبر على الجراحة، الصبر إلى الشهادة؛ فقد تُقتَل في سبيل الله، الإنفاق يحتاج إلى صبر؛ فقد تُخرِج وتجد مشقة في النفس ومشقة في مَن حولك في إخراج المال، وقد يلومك الناس على هذا فتصبر وتُنفِق، كل الدين عماده الصبر؛ الصبر عن المعاصي، الصبر عن الأحداث، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ........}[الرعد:24].

الشاهد نعود إلى التكريم {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، الملائكة يُكرِّمونهم؛ ويعِزُّونهم، ويُهنِّئونهم، {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، وأكبر كرامة لهم أن الله -تبارك وتعالى- يُخاطِبهم ويقول لهم «يُنادي الله –تبارك وتعالى- أهل الجنة ويقول لهم هل تُريدون شيئًا أزيدكم؟ يقولوا ربنا وماذا نُريد وقد بيَّضت وجوهنا؛ أدخلتنا الجنة، أعطيتنا ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر، فيقول لهم الرب -تبارك وتعالى- أُحلِل عليكم رضواني فلا أسخَط عليكم بعده أبدًا»، هذا أكبر شيء وهذا أعظم شيء؛ أنهم في رضوان الله الدائم، وأنهم يعلمون أن الله -تبارك وتعالى- لا يسخط عليهم أبدًا بعد ذلك، وأنهم في هذا النعيم إلى ما لا نهاية، لا نهاية لكرامتهم عند الله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، الذين اتصفوا بهذه الصفات، ماذا بقي؟ هذا نداء الرب -سبحانه وتعالى- ودعوته إلى أن يدخلوا في هذا الفوز المبين، لكن أكثر الناس عن هذا في غفلة وانصراف.

انظر حال الكفار، يقول الله عن حال الكفار {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}[المعارج:36] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}[المعارج:37]، فما هو شأن الكفار الذين هم حولك؟ يعني أمامك؛ يُلامِسون النبي ويرونه، لكن قِبَلَه مُهطِعين؛ مُسرعين تاركين الرسول ورايحين، كما قال -تبارك وتعالى- يُصوِّر حالهم {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51]، تأتيهم الموعظة فيحيصون حيصة الحُمُر وينفِرون منها كل النفور، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51]، وهنا يقول -جل وعلا- {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}[المعارج:36]، الإهطاع؛ الإسراع، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}[المعارج:37]، عن يمين النبي وعن شِماله عِزين؛ جماعات، ينظروا بعيد هنا وهنا وهناك؛ وكلهم ينظر إلى النبي شذِرًا، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:51]، يُناجي بعضهم بعضًا ويتكلَّم بعضهم لبعضًا استهزاءً بالنبي، ومنهم مَن يقول {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41] {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}، فهذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- الذي جائهم بالهُدى والنور من ربهم -سبحانه وتعالى-؛ والذي يدعوهم إلى جنته وإلى رضوانه، لكن هذا حالهم {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}[المعارج:36] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}[المعارج:37].

{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}[المعارج:38]، وكان هذا من فجورهم؛ وكفرهم، وعنادهم، أنهم يقولون مادام أن الله -تبارك وتعالى- أعطانا في الدنيا فلو فُرِض أن هناك آخرة فسيُعطينا من باب أننا المُكرَمون عنده في الدنيا؛ فهو الذي كرَّمنا بهذه الثروات، وهذه الأموال، وكانوا يؤمنون بأن الله هو خالق السماوات والأرض؛ وهو رازقهم، وهو مُتوَلِّي شئونهم، ويقولون هو مُنعِم علينا؛ هو الذي أعطانا هذا في الدنيا، لو كان هناك آخرة وهم يقولوا ما في آخرة، لكن يقولوا للنبي لو كان كما تزعم أن هناك آخرة فنحن أهلها كذلك؛ إذا كان هناك جنة فنحن داخِلوها ونحن أهلها، لأنه كما أكرمنا في الدنيا فسيُكرِمُنا في الآخرة، {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ........}[المعارج:38]، من هؤلاء الكفار، {........ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}[المعارج:38] {كَلَّا}، ليس هؤلاء من أهلها؛ إنما أهلها هم هؤلاء، إنما أهلها هم هؤلاء الذين قال الله -تبارك وتعالى- فيهم {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34] {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[المعارج:35]، فهؤلاء هم أهل الجنة، أما هؤلاء الكفار المعاندون؛ المُكذِّبون بالله -تبارك وتعالى- وبآياته، الذي يقولون لا بعث ولا نشور، فيتهمون الله -تبارك وتعالى- بأنه خلَقَهم سُدىً وعبثًا؛ وأن الله لا حكمة له ولا حُكْم له، وأنه خلَقَ هذه الدنيا بهذه الفوضى؛ يفعل فيها الكفار ما يفعلوا، ثم بعد ذلك يظنون أنه كما أعطاهم في الدنيا سيُعطيهم في الآخرة؛ بئس الاعتقاد في الله -تبارك وتعالى-، وبئس الظن في الرب -جل وعلا-.

{كَلَّا}، أي ليس هؤلاء من أهل الجنة بل أهل الجنة هم أهلها الذي وصَفَهم الله، {كَلَّا}، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}[المعارج:39]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، خلقناهم؛ أوجَدناهم من عدم وصوَّرناهم على صورتهم، {مِمَّا يَعْلَمُونَ}، وما الذي يعلمون؟ يعلمون أنهم مخلوقين من هذه النُطفة القذرة؛ من هذا الأمر القذر، فهذه بدايتهم ولم يكونوا شيئًا، ثم قال -جل وعلا- {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج:40] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[المعارج:41]، يُقسِم الله -سبحانه وتعالى- بذاته العليَّة؛ بنفسه -جل وعلا-، وأنه رب المشارق والمغارب؛ المشارق بحيث الإنسان والمغارب، المشارق مجموعة وذلك أن كل نجم له مكان يُشرِق منه؛ فالشمس لها مكان شروقها وغروبها، ولك نجم من النجوم له شروق وغروب، كذلك الشمس لا تشرق من مكان واحد، وإنما في كل يوم من أيام السنة تشرُق من مشرِق ليس هو المشرِق الذي تشرُق منه في اليوم الأخر؛ فلها ثلاثمائة وخمسة وستين مكان تُشرِق منه، فلها مشارق ولها مغارب وهي شمس واحدة، وكون الله رب المشارق والمغارب؛ الوجود كله، لأن هذا الوجود؛ الوجود كله مشارق ومغارب، الوجود من السماوات والأرض، الله يقول -جل وعلا- {فَلا أُقْسِمُ}، يُقسِم بنفسه -سبحانه وتعالى-، {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، ربها؛ صاحبها، مالِكها، وربها؛ خالقها ومتوَلِّي أمورها كلها -سبحانه وتعالى-، {........ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج:40]، بالتأكيد، {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ........}[المعارج:41]، أن يُبدِّل الله -تبارك وتعالى- خيرًا من هؤلاء المجرمين المعاندين لله -تبارك وتعالى- ورسالاته؛ إما بإنشاء خلْق جديد، وإما بأن يوجِد الله -تبارك وتعالى- من أصلابهم مَن يعبد الله فلا يُشرِك به شيئًا؛ فهذه قُدرة الرب -تبارك وتعالى-، أو أن يُهلِكَهم الله -تبارك وتعالى- ويُنشئ خلْق جديد أخر، والله له القُدرة على كل ذلك -سبحانه وتعالى-.

{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج:40] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[المعارج:41]، بمغلوبين، السبق؛ الغَلَبة، لا يغلبه أحد الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يُغلَب من شيء، بمعنى أنه لا يستعصي عليه شيء -سبحانه وتعالى-، لا يستعصي على الله -تبارك وتعالى- شيء؛ فهو الذي خلَقَ هذه المشارق والمغارب، خلْق السماوات والأرض أكبر من خلْق الناس؛ خلْق الناس أصغر من هذا، أين الإنسان هذا الصغير بالنسبة إلى خلْق السماوات والأرض؟ لا شيء، أقل كثيرًا، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر:57]، {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}[المعارج:40] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[المعارج:41]، بمغلوبين.

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[المعارج:42]، فذَرهم؛ اتركهم، هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- وتوجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن حساب هؤلاء ليس إليك؛ وإنما إلى الله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء محرومون؛ كفار، إنما يسعَون إلى حتفهم في النهاية بأرجلهم، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، الخَوض؛ أصل المخاضة هو الماء الذي يدخل الإنسان فيه، والماء إذا كان عَكِر ودخل الإنسان فيه فإنه يخوض لأنه ما يعرف ما تحته؛ فربما يكون حفرة، ربما يكون حجر، ربما يكون آفة، فيخوض فيه، شُبِّه مَن يخوض في الماء وهو لا يعرف ما فيه بمَن يدخل في الحديث والاعتقاد بدون ما يدري ما فيه، فيخوض يعني أنه يتكلَّم في كل أمر دون فهْم؛ ودون عِلم، ودون إدراك، ودون بصيرة، ما لهم أي بصيرة فيه فهم يخوضون، ففي مسائل الإيمان يتكلَّم بأنه لا بعث ولا نشور؛ وأن الله -تبارك وتعالى- مادام أعطاهم في الدنيا سيُعطيهم في الآخرة، وأن الملائكة بنات الله، وأن الله تزوَّج بالجِن وولِدَ له الملائكة، إلى غاية تُرَّاهاتهم وأكاذيبهم وقولهم هذا، وكذلك خوضهم في سبِّهم لرسول الله؛ واتهامهم بأنه ساحر، وأنه كاذب، وأنه افترى هذا، وأنه أتى بهذا، ويلعبوا في هذه الدنيا، فكل شغلهم في الدنيا بالنسبة إلى ما هو مطلوب منهم يعتبر لعب، فكدُّهم وكدحهم في هذه الدنيا وجمعهم للأموال هذا لا شك أنه بالنسبة للعمل المطلوب منهم؛ عمل العبادة الذي يُنجيهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- ويُدخِلهم الجنة، يعتبر هذا العمل لعب، كمَن تقول لِمَن انشغل بعمل صغير عن عمل عظيم ما الذي تعمَلُه! أنت تلعب، يعني تركت ما هو الأعظم والأجل لك هذا في القياس في أمر دنيوي، كمَن ينشغل مثلًا بأمر سيكسِب منه عشر دنانير أو عشرين دينار ويترك أمر ممكن يكسب منه ألوف الدنانير، فنقول له ماذا تصنع! أنت تلعب، العمل هو هذا.

فالدنيا كلها لعب؛ العمل الدنيوي بالنسبة لعمل الآخرة لعب، ولذلك قال -تبارك وتعالى- {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20]، فهذه الدنيا لعب، ولهو، وزينة، لعب مهما كانت؛ لتكسِب فيها الألوف، لكنها بالنسبة لعمل الآخرة {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، فالذي عمِل لينجوا من العذاب الشديد ولينال مغفرة الله ورضوانه هو الجِد هذا؛ هو الذي عمِلَ العمل الحقيقي، وأما الذي تلهَّى بهذه الدنيا وجمع فيها ما جمع؛ لهو، وقاعد يلعب، ويترك العمل الحقيقي، فقال {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، يعني مهما عملوا في هذه الدنيا، {........ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[المعارج:42]، حتى يُلاقوا؛ يُفاجئوا، يومهم؛ يوم القيامة، الذي يوعَدون؛ يوعَدونه، اللي هو {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}[المعارج:1] {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}[المعارج:2] {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3].

قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:43]، في هذا اليوم يخرجون من الأجداث؛ الأجداث اللي هي قبورهم، الجَدَث والجَدَف بمعنى واحد، والعرب أحيانًا تُبدِل الثاء محِل الفاء، من الأجداف أو من الأجداث سِراعاً؛ يعني مُسرِعين حيث يُناديهم المُنادي، ويزجُرُهم الملائكة، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ}، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:43]، مثل حالهم عندما يخرجون جري إلى الأنصاب؛ آلهتهم، كانوا يسعَون جري حتى يُقدِّموا لها القرابين، فيُصوِّر الله -تبارك وتعالى- حالهم عندما يركضون عندما يأمرهم الداعي يوم القيامة بحالهم هنا في الدنيا؛ عندما كانوا يركضون نحو الأصنام، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ}، ذليلة، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، تعلوهم الذِّلَّة من كل مكان وتغشى وجوههم، {........ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}[المعارج:44]، هذا هو اليوم الذي كانوا يوعَدونه ولكنهم نسوه، تلهَّوا بما تلهَّوا به في هذه الدنيا ونسوا هذا اليوم العظيم؛ أمر عظيم، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[المعارج:43] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}[المعارج:44].

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.