الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (742) - سورة نوح 1-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[نوح:1] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[نوح:2] {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}[نوح:3] {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[نوح:4] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح:5] {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:6] {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}[نوح:8] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح:9] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:12] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح:14] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[نوح:15] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[نوح:16] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}[نوح:18] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:20].

سورة نوح، أجمَل الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة دعوة عبده ورسوله نوح؛ أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض، وما أشبه دعوته بدعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ نفس الكلام الذي جاء به نوح هو الذي جاء به محمد، أو ما يقوم به -صلوات الله والسلام عليه-، الرسالات واحدة؛ ما يقوله هذا الرسول هو الذي يقوله هذا الرسول، {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}، وقال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ........}[الشورى:13]، «نحن الأنبياء أولاد علَّات؛ ديننا واحد»، فهذه رسالات الله -تبارك وتعالى- إلى كل رسول هي رسالة واحدة، وما جوبِه به النبي -صل الله عليه وسلم- من التكذيب هو الذي جوبِه به نوح -عليه السلام-، وإن كانت العاقبة بعد ذلك في نوح وقومه اختلفت عن العاقبة التي كانت للنبي -صلوات الله والسلام عليه- من حيث المشركين ومن حيث الكفار؛ لا من حيث أهل الإيمان، فمن حيث أهل الإيمان لا شك أن الله -تبارك وتعالى- كتَبَ الغَلَبة له ولرُسُلِه، قال {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21]، والنجاة لرُسُل الله -تبارك وتعالى-، وأما بالنسبة للكفار فإنهم في الأمم السابقة كان الله يستأصلهم، استأصل الله -تبارك وتعالى- قوم نوح في النهاية، ولكن بالنسبة لأمة الإسلام يعني أمة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، من الكفار الذي لم يُطيعوه فإن الله -تبارك وتعالى- لم يستأصلهم، أرسل الله -تبارك وتعالى- نبيه إلى العالمين كلهم؛ ومن وقته إلى قيام الساعة، ولم يُرِد الله -تبارك وتعالى- أن يستأصل الكفار من الأرض ليُبقي المؤمنين، بل قال لنبيه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33]، لتتم الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- إلى آخر الدنيا.

قال -جل وعلا- {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى- يتكلَّم عن نفسه -سبحانه وتعالى- مُنزِل القرآن، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، أرسلنا؛ الله هو الذي أرسل، {نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، فالله هو الذي اصطفاه؛ وهو الذي اختاره، وأرسل إليه رسالته -سبحانه وتعالى- عن طريق مَلَكه الموكَّل بالوحي وهو جبريل، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[نوح:1]، أنذِرهم؛ خوِّفهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- قبل أن يأتيهم العذاب الأليم، وهذا أهم الأمور في الدعوة؛ الإنذار، يُنذِرهم قبل أن يأتيهم العذاب، ثم يأتيهم بعد ذلك كما قال النبي في أول خُطبة؛ قال يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان ...، نادى كل بطون قريش، ولمَّا اجتمعوا عنده وجائوا قال لهم «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، الأول أقررهم على أنفسهم أنه لا يقول إلا حقًا، قال «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكُنتم مُصدِّقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذبًا»، ما عُمرِنا شوفناك أنك تكذب، «فقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، أنا رسول من الله –تبارك وتعالى- أُنذِركم عذاب شديد ينتظركم بعد الموت، طبعًا استنكروا هذا غاية الاستنكار لأنهم كانوا يعتقدون أن مَن يموت فلا بعث ولا نشور؛ انتهى الأمر، وأنه لا يمكن أن يكون هناك حياة لهذه الأجساد مرة ثانية، {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}[النمل:66]، فلذلك ردُّوا عليه هذه المقالة الشديدة وقالوا له تبًّا لك، يقول عمه "تبًّا لك سائر اليوم؛ ألِهذا جمعتنا؟" وقالوا بعد ذلك مجنون وساحر؛ كيف يوعِدُنا ويتهددنا وأننا سنعود إلى الحياة مرة ثانية؟ فالله -تبارك وتعالى- يقول لنوح {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[نوح:1]، اللي هو عذاب الآخرة.

{قَالَ}، أي نوح داعيًا قومه إلى الله -تبارك وتعالى-، {........ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[نوح:2]، يا قوم؛ ناداهم بهذا الاسم، وكونه قومه أنهم قريبون منه؛ فهو منهم، وهم جماعته، {........ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[نوح:2]، بالتأكيد، لكم؛ مُنذِر لكم، مُرسَل لكم، نذير؛ والنذير هو الذي يخبر بالأخبار المُخيفة العظيمة، والذي يخوِّف مَن يُنذِرَهم بعقوبة شديدة، {........ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[نوح:2]، بيِّن النِذارة؛ واضح، نِذارة واضحة؛ مُبيِّنها، ومُبين كذلك مُبيِن لهذه النِذارة ومصوِّر العذاب الذي ينتظر المُكذِّبين تصوير لا شُبهة فيه ولا شك فيه، {........ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[نوح:2].

ثم ما المطلوب؟ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}[نوح:3]، هذا مُجمَل الرسالة، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ........}[نوح:3]، فهذا حقه عليكم، اعبدوه؛ العبادة اسم جامع لكل ما يُحِبه الله -تبارك وتعالى- من العباد، سواء كانت أعمال القلوب أو أعمال الجوارح، والعبادة مأخوذة من الذل والخضوع، تقول العرب ((طريق مُعبَّد))، يعني أنه داسته الأقدام وذُلِّل، يعني ذلُّوا له واخضعوا له فهو ربكم وإلهكم -سبحانه وتعالى-، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ........}[نوح:3]، الله اسم عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى-؛ يعرفه الجميع بهذا الاسم، وهو من الإله، الإله حُذِفَت الهمزة الذي في وسط الكلمة؛ وأُضغِمَت اللام في اللام، الله؛ الإله الحق -سبحانه وتعالى-، وكلمة الإله تتضمن كل صفات الله -تبارك وتعالى-، لأنه لا يكون إله إلا إذا كان خالقًا؛ رازقًا، ربًّا مُتفرِّدًا بالخلْق وحده، مُتفرِّدًا بالرزق وحده، فهو المُتفرِّد ما في إله غيره، إذن هو المُنعِم والمُتفضِّل على كل خلْقِه؛ ولذلك هو الذي يستحق الإلهة وحدة -سبحانه وتعالى-، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ........}[نوح:3]، خافوه وذلك أنه يؤاخِذ بالذنب؛ وأنه يأمر ليُطاع -سبحانه وتعالى-، وأن مَن عصاه يُعاقِبه ويُعذِّبه، اتقوه؛ خافوه، اجعلوا وقاية وحماية له من عذابه -سبحانه وتعالى-، {وَأَطِيعُونِ}، لأني رسوله وأنا مُرسَل من عنده فأطيعوني في ما أدعوكم إليه؛ وفي ما يوحي إلي به من أمر لتتبِعوه، فطاعة الرسول طاعة لله -تبارك وتعالى-، فهذي كل الرسالة؛ كل مضمون الرسالة، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}[نوح:3]، يا أيها الناس اعبدوا الله؛ خافوه -سبحانه وتعالى-، أطيعوا الرسول، وهي معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله في هذه الرسالة الأخير نفس الأمر، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}[فصلت:6].

هذه هي الدعوة؛ هذه هي دعوة الرُسُل، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ........}[النحل:36]، وهذا الأمر في كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ وهو الأمر الذي يشمل الإسلام كله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22] {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24] {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25]، هذه الآيات جمعَت رسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأن الله يأمر العباد بأن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن هذا رسوله وهو مؤيَّد بهذا الوحي من الله -تبارك وتعالى-؛ معجزة باقية، إذا ثبَتَ لكم هذا ووضح فإياكم والتكذيب، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ........}[البقرة:24]، لن تفعلوا يعني أن تأتوا بقرآن تُعارِضوا به هذا القرآن المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، {........ وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]، نفس رسالة نوح فقد قال لهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}[نوح:3].

ثم ما الذي يترتَّب على طاعتهم لله -تبارك وتعالى-؟ قال {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[نوح:4]، هذا الجزاء، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، وقيل هنا من بمعنى عن؛ يعني أنه يتجاوز عن ذنوبكم، إذا أتيتم الرب –تبارك وتعالى-؛ واستغفرتموه، ودخلتم في هذا الدين، واتقيتموه، وأطعتوني؛ يغفر لكم من ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، يعني يُحيكم حياة طيبة في هذه الدنيا إلى الوقت والأجل الذي كتَبَه الله -تبارك وتعالى- لكم؛ فتكون هذه نعمة لكم من الله -تبارك وتعالى-، وإذا خرجتم من هذه الدنيا وقد غُفِرَت ذنوبكم وقد بلغتم أجلكم فأنتم بعد ذلك تخرجون إلى رضوان الله -تبارك وتعالى-، ثم يُحذِّرهم {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ}، أجل الله بالموت إذا جاء لكل أحد فإنه لا يؤخَّر، كل نفس كَتَبَ الله -تبارك وتعالى- لها أجلها؛ وإذا جاء أجلها فإنه لا يستأخِر، {........ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:61]، ما يؤخِّروه ثانية عن وقته الذي حُدِّدَ له، {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، لو كنتم تعلمون الحق لعلِمتم هذا؛ علِمتم أن أجل الله -تبارك وتعالى- إذا جاء لا يؤخَّر، فهذه دعوة نوح إلى قومه دعوة واضحة؛ صريحة، بيِّنة، مُدلَّلة بالأدلة.

 ثم بدأ نوح يُظهِر شِكاته للرب -تبارك وتعالى-؛ وما صنعه بعد أن كُلِّف بهذا التكليف من الله، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح:5] {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:6]، ربِ؛ يعني يا ربي، شِكاة نوح إلى ربه -سبحانه وتعالى- بعد سنين طويلة يدعوا فيها قومه، ونوح قد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ زمن طويل، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح:5]، والليل والنهار هما كل الوقت، إذن مستمر؛ يعني أن دعوته إليهم مستمرة لم تتوقَّف لا في الليل ولا في النهار، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:6]، يعني أنهم يزدادون مع الدعوة فِرار، يعني أنه كلما دعاهم ازدادوا نفورًا وابتعادًا عنه، وكان المفروض أنه كلما ألحَّ في دعائهم كلما اقتربوا من الحق وجائوا، لكن لا؛ المسألة عكسية، فكلما ازداد هو اجتهادًا في الدعوة كلما ازدادوا هم نفورًا وابتعادًا عنه، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:6]، بعد فرار.

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7]، مُنتهى الإجرام، أدعوهم لتغفر لهم، وإذا العبد غُفِرَ له انتهى؛ أصبح في أمان الله -تبارك وتعالى-، وفي حفظه، وفي رعايته، خلاص؛ مؤمَّن، ذهبت ذنوبه إذن هو سيذهب إلى كرامة الرب -تبارك وتعالى-، {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ}، عن خطيئاتهم؛ وشركهم بالله -تبارك وتعالى-، وابتعادهم عن الحق، {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}، حتى لا يسمعوا الكلام، فيُدخِل أصابعه في أُذُنيه ليُصِمَّ أُذُنيه عن سماع الحق، عِلمًا دعوة له؛ لنفعه، لفوزه، لكنه لا يُريد ذلك، {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}، يعني أنهم غطوا أنفسهم بثيابهم حتى لا يروه، لا يُريدون سماع صوت نوح ودعوته؛ ولا يُريدون رؤيته، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}، ثم {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، القلب، إصرار على ما هم عليه، والإصرار هنا هو عزم بالقلب على أن يبقوا على ما هم عليه؛ من الكفر، والتكذيب، والبُعْد عن هذا الحق لك قوتهم، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، استكبروا؛ أنِفوا أن يُزعِنوا لهذا الحق بكليته، كما قالوا لنوح {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، قالوا لماذا تُفضِّل نفسك علينا؟ وقالوا {........ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:24]، فاستكبروا عن سماع هذا الحق واحتقروا نوح أن يؤمنوا به، يقولوا ما الذي فضَّلك علينا؟ أنت مَن حولك هم أراذِلُنا؛ أراذِل الناس يعني سَقَطُهم وسِفلَتهم، بادي الرأي؛ بمجرد ما عرضت عليهم هذا الكلام اتبعوك فيه دون أن يتعمقوا فيه وأن ينظروا فيه، فهنا نوح يُصوِّر حالهم؛ لا سماع بالأُذُن، لا رؤية بالعين، لا انفتاح للقلب ليفقه هذا، فكل منافذ المعرفة قد أغلقوها عن الدين، {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7].

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}[نوح:8] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح:9]، وهذا في الأسلوب، يعني كذلك صار يُغيِّر معهم في أسلوب دعوته؛ فيُكلِّمهم جِهار، جِهار؛ جهرًا أمام الجميع، فيُعلِن دعوته إعلانًا، وكذلك يُسِرها بأن يُناجي ويأخذ واحد واحد أو اثنين اثنين يُكلِّمهم في أنفسهم بعيدًا عن الأخرين؛ ويُحدِّثهم، ويدعوهم، قال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}[نوح:8]، ثم يعني زيادة على هذا، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح:9]، استخدم هذا الأسلوب وهذا الأسلوب في دعوتهم، انظر تلطُّفه؛ ولينه، ودعوته الممهَّدة والمؤيَّدة بالدليل والبرهان، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10]، يطلب منهم أن يستغفروا ربهم، وطبعًا هم فاعلوا الإجرام؛ فاعلوا الشرك بالله -تبارك وتعالى-، ناس أخذوا من الأصنام وعبدوها من دون الله -تبارك وتعالى-؛ جعلوها آلهة لهم، وكان الأمر كما أخبر ابن عباس فيقول كان بين آدم وبين نوح عشر قرون كلهم على التوحيد، ثم إنه كان هناك رجال صالحون وهم وَد؛ وسواع، ويعوق، ويخوث، ونسر، كانوا رجالًا صالحين بين آدم ونوح، لمَّا ماتوا جاء الشيطان وأدخل لهم حيلة ليعبدوا غير الله -تبارك وتعالى-، جذِعَ الناس على موت هؤلاء الصالحين فيهم فقال لهم صوِّروا لهم صورًا وضعوها في أماكنهم، حتى إذا رأيتموها اشتقتم إلى عبادة الله، يكون تذكار لهم؛ خلِّدوا ذِكراهم بتماثيل، حتى إذا رأيتم هذه التماثيل تذكَّرتم ما كانوا عليه من الهُدى والصلاح فاجتهدتم في العبادة ففعلوا، ثم لمَّا تقادم العهد بعد ذلك عُبِدَت هذه، جائهم الشيطان وقال لهم إن مَن كان قبلكم كانوا يتوسَّلون بهم؛ ويستشفعون بهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وينزل بهم المطر، فعُبِدوا من دون الله، ثم لمَّا أشرك الناس ووقع الناس في الشرك بعبادة الصور والأصنام هذه؛ وهي في أصلها هم صور لرجال صالحين، أرسل الله -تبارك وتعالى- نوحًا ليدعوا الناس إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء قد عبدوا غير الله واتخذوا هذه الصور معبودة من دون الله -تبارك وتعالى-، فنوح يدعوهم إلى الله ويقول لهم استغفروا ربكم من هذا الشرك؛ اخرجوا عنه واستغفروا الله، اطلبوا مغفرته -جل وعلا-، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10]، صفته -سبحانه وتعالى-، غفَّار؛ كثير المغفرة، والمغفرة؛ ستر العيب، يعني أن يستُر عيوبكم، وأن يُكفِّر عنكم هذه السيئات فيُغطيها ولا يُحاسِبكم بها.

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11]، هذا من عاجل رحمته -سبحانه وتعالى- بكم في الدنيا، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11]، المِدرار؛ كثرة الدَّر، وهو أن يكون مطر بعد مطر؛ مطر مستمر، يعني المطر المتوالي، والمطر هو مصدر الخير والرزق؛ هذا مصدر الخير، والرزق، ومصدر الحياة، الحياة كلها على هذه الأرض إنما تقوم على الماء، الماء ينزل من السماء رزق فيُسكِنه الله -تبارك وتعالى- في الأرض؛ يُخرِجه ينابيع منها، أو يجري أنهارًا فيها، وعلى الماء يحيا أولًا النبات؛ هذه المملكة النباتية كلها تحيا بالماء، والمملكة النباتية فيها ما فيها؛ من الثمار، من الفواكه، من الحبوب، من العصف، من الريحان، ثم على هذه تعيش أنعام الناس؛ فالأنعام تعيش على هذا، والإنسان يحيا بهذا وبهذا؛ يحيا بالماء الذي يشربه، بالزرع الذي يأكله، بالجنات التي أنشأها الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، يحيا على هذه الأنعام التي تعيش على هذه، فتبقى دورة الماء هذه هي الحياة، فإذا أرسل الله -تبارك وتعالى- السماء مِدرار فهذا معناه النماء؛ والخير، والبركة، والرزق، كل ذلك وراء هذا، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:12]، يُمدِدكم؛ يُعطيكم مدد، هذه بعد هذه؛ يُزوِّدكم، بأموال؛ والمال هو كل ما يُتموَّل ويُنتفَع به، وبينن؛ الذُّكور، وهم الذُّريَّة المحبوب البنين؛ لقوتهم، وجلَدِهم، وحَمْلهم لِذِكرى الآباء، وهم زينة الحياة، ويجعل لكم جنات؛ بساتين، ويجعل لكم أنهارًا تجري في هذه الأرض.

{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13]، هذا زجر لهم ونهي لهم عن أن يُخاطِبهم عن الله -تبارك وتعالى- فيشمئزون ويبتعدون؛ وعن هذه الأصنام فيركنون ويُحبون، ما لكم يعني ماذا دهاكم؟ ماذا في عقولكم؟ {........ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13]، لا تُعظِّمون الرب الإله العظيم -سبحانه وتعالى- الذي خلَقَكم على هذا النحو، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13]، توقِّرونه؛ تُعظِّمونه -جل وعلا-، {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح:14]، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلَقَكم، أطوار؛ طور بعد طور، حالة بعد حالة؛ كنت نُطفة، فعَلَقة، فمُضغة، فعظام، كسى الله -تبارك وتعالى- العظام لحم، أصبحت طفل كامل، نزلت من بطن أمك طفل كامل الخلْق، ثم أنشأك الله -تبارك وتعالى- من الطفولة إلى أن تكون يافعًا؛ إلى أن تكون شابًا، {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح:14]، ما ترى هذا الذي رقَّاك من طور إلى طور هكذا؟ هذا الرب -سبحانه وتعالى-.

{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[نوح:15]، يعني نوح يفتح أعينهم على عظيم صُنع الله -تبارك وتعالى- وعلى عظيم خلْقِه؛ كيف لا يُعظَّم هذا الرب؟ انظروا في هذا الكتاب المفتوح؛ كتاب الكون، {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[نوح:15]، سبع سماوات كل سماء منها طبقة فوق طبقة، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[نوح:16]، ظاهرهم بأكبر وأضوأ وأنفع نجمين وكوكبين في السماء، جعل القمر فيهِن؛ في هذه السماء، نورًا؛ نور يسطع وهذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، {الشَّمْسَ سِرَاجًا}، فالنور ضد الظُلمة، وقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[نوح:16]، والسراج؛ ما يُسرَج، ودائمًا السراج يكون من نار، فقال وجعل القمر فيهِن؛ أي في السماء نورًا، {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}، جعلها أي خلَقَها وصيَّرها على هذا النحو، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17]، والله؛ الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، أنبتكم؛ أيها الناس، {........ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17]، وذلك أن بدء خلْق الإنسان إنما كان من هذه الأرض، فقد أنشأ الله -تبارك وتعالى- أبانا -عليه السلام- آدم من طين هذه الأرض، ثم {........ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17]، فإن حياتنا بهذه الأرض؛ بما ينبُت من هذه الأرض من نباتها فنعيش عليه.

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}[نوح:18]، منها خلقناكم؛ أباكم، ثم يُعيدكم فيها بالموت، ويُخرِجكم إخراجًا؛ في البعث الثاني والنشور الثاني، ثم يُعيدكم فيها؛ في الأرض، {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19]، هذا أيضًا من آياته -سبحانه وتعالى- أنه بسَطَ الأرض بسْط كالبساط؛ وذلك لسهولة العيش عليها، والبناء فوقها، والحركة فيها، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:20]، تسلكوا؛ تدخلوا، منها؛ من هذه الأرض، سُبُل؛ طُرُق، فِجاجًا؛ الفَج هو الطريق الواسع بين الجبال، فالأرض مبسوطة؛ عظيمة، ممهَّدة، وليست كلها وعِرة؛ جبال صعبة ومتلاصقة، بحيث أنه يعثُر العيش عليها والسير فيها... لا، وإنما بسَطَها الله -تبارك وتعالى-؛ ومدَّها على هذا النحو، وجعل الجبال فيها متفرِّقة وهناك طرق لتتُخَذ بين هذه الجبال، فهذا من تيسيره ومن خلْقِه العظيم -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:20].

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}[نوح:21]، يعني بعد هذه الدعوة الواضحة؛ البيِّنة، دعوة أولًا أبلغهم فيها رسالة الله -تبارك وتعالى-؛ رسالة الوحي، فتح أعينهم على ما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه؛ وأنه رسول من الله -تبارك وتعالى-، وأن هذه الرسالة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}[نوح:3]، هذي رسالة الله لهم، ثم بعد ذلك فتح أعينهم على آيات الله -تبارك وتعالى- في الكون، كيف لا يُعظَّم هذا الإله الذي هذا خلْقُه وأنتم تُشاهِدونه؟ {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[نوح:15] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[نوح:16] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}[نوح:18] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:20]، فبيَّن وفتح أعينهم على هذا الكتاب المفتوح؛ كتاب الكون، ولكن القوم أصروا على ما هم عليه، كما قال نوح {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7]، ثم إن نوح في آخر الأمر يشكوا إلى الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}[نوح:21] {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا}[نوح:22] {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا}[نوح:24]، وهذا الذي دعى به نوح على قومه في آخر السورة سنُرجِئه -إن شاء الله- إلى الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.