الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (744) - سورة الجن 1-5

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:2] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}[الجن:7] {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:10]، هذه سورة الجِن؛ وهي سورة مكية، أولًا الجِن عالم مخلوق من خلْق الله -تبارك وتعالى-؛ ورأسهم إبليس، وهل هو في الجِن بمثابة آدم في الإنس؟ يعني أن كل الجِن يُنسَبون إليه فيكون أصلهم أو أباهم، نقول الله -تبارك وتعالى- أعلم، وقد قال الله -تبارك وتعالى- عن إبليس {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، والجِن خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- كما ذكَرَ لنا من نار، كما قال -جل وعلا- {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن:14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15]، فالجان هم الجِن؛ وسمُّوا بالجِن لاستتراهم، لأن الإنس لا يرونهم؛ يستطيعون الاستتار، يكونوا موجودين ولكن لا يراهم الإنس، كما قال -تبارك وتعالى- إنه؛ أي إبليس، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، فمن حيث لا ترونهم لكن هم يرونكم، فهذا سبب تسميتهم بالجِن لأن كلمة جَنَنَ؛ كل هذه المادة في اللغة تدل على الاستتار، ومنه الجنين لأنه في بطن أمه مُستتِر، والمجنون لأن عقله مستور؛ مُغطِّى، والجنة لأنها بستان يستر مَن يدخل فيه، والجِن لأنهم يستترون.

فهذا العالم من خلْق الله -تبارك وتعالى- من الجِن خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من نار؛ وهذا الذي حدى بإبليس في زعمه ألا يسجد لآدم، وقال كيف أسجد وأنا من النار؛ والنار في ظنه وفي زعمه أفضل من الطين، وقال {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وقال {........ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76]، الجِن أخبر -سبحانه وتعالى- بأن منهم مَن آمن ومنهم مَن كفر، وأن الله -تبارك وتعالى- يُرسِل فيهم مَن يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- رُسُل، وقد جاء في قول الله -تبارك وتعالى- في بيان حساب الجميع يوم القيامة {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}[الأنعام:130]، الجِن الذي كفر ورأس الكفر فيهم إبليس أخذوا على أنفسهم أن يُضِلوا بني آدم، ومن أجل ذلك الله -تبارك وتعالى- أهبط إبليس من الجنة مع آدم، وقال -تبارك وتعالى- {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف:24]، وهؤلاء الجِن الشياطين الذي يبذلون كل جُهدهم في إضلال بني آدم لهم دأبهم وأسلوبهم الشديد في هذا، بدءًا بولادة الإنسان إلى أن يموت لا يملُّون ولا يتركونه، فهم حريصون كل الحرص بأن يأخذوا معهم إلى النار مَن استطاعوا من بني آدم؛ كرهًا، وبُغضًا، وسعاية في الشر لهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، هم لكم يعني أيها الناس أعداء، فهؤلاء أعداء وكل أسباب العداوة وأساليبها قد اجتمعت فيهم إضلالًا لبني آدم.

هؤلاء الجِن هل يختار الله -تبارك وتعالى- منهم رُسُل كالإنس؛ أم أن رُسُل الإنس هم يُبلِّغونهم؟ العِلم عند الله -تبارك وتعالى-، لكن أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه سيُرسِل للجميع هُداة، قال الله لمَّا أهبط آدم وأهبط إبليس من الجنة إلى الأرض {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}[طه:125] {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:126]، والله -تبارك وتعالى- يُنادي الجِن يوم القيامة ويقول لهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ}، استكثرتم منهم يعني قد أضللتم منهم جِبِلًّا كثيرًا، {........ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:128] {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:129]، جعل الله -تبارك وتعالى- الظالم من الإنس وليُّه الظالم من الجِن؛ ولَّاهم بعضهم بعض لأنهم اتبعوهم في الغواية، وفي الضلال، فيكونوا معهم؛ ومعهم إلى النار، {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}[الزخرف:38]، قرينه من الجِن الذي أضله، وما من أحد من البشر إلا وكِّلَ به قرينه من الجِن، أصبح له قرين من الجِن يوسوس له الشر، حتى أن المؤمنين عائشة لمَّا سمِعَت هذا قالت يا رسول الله وأنت؟ يعني وأنت رسول الله، قال وأنا؛ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فكل أحد له قرينه الذي يوسوس له من الجِن فإن اتِّبَعَه فخلاص؛ يصبح وليُّه، يعني إذا اتَّبَعه الإنسي وسار معه في طريق الغواية فهو يقوده إلى النار؛ ويتبرَّأ منه بعدين في النار لكن لا ينفع ذلك، قال -جل وعلا- {........ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29]، يقول قرينه من الجِن {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، يعني هذا الإنسي، {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29].

لمَّا أرسل الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنه أرسِلَ إلى العالمين كلهم؛ إلى كل أمم وشعوب الأرض، بدءًا من العرب الذي هو منهم ونهاية بكل مَن على سطح هذه الأرض، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فهو رسول الله -تبارك وتعالى- إلى كل مَن على الأرض، وهو خاتم الرُسُل؛ لا رسول بعده، ولا رسول مشارك له في الوقت ولا في الزمان، وبينه وبين الرسالة التي سبقته ستمائة سنة، سِتة قرون بين الرسول وبين عيسى؛ آخر رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى الناس قبل نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وليس هناك نبي بين عيسى وبين محمد -صلوات الله والسلام عليه-، سِتة قرون فرَغَت الأرض من النبوَّات، كان منهم الناس المُهتدين وتناقصوا وتناقصوا حتى بُعِثَ النبي في وقت ظُلمة كاملة للأرض؛ لم يكُن على ألأرض إلا قليل من أهل الكتاب مَن بقي على الدين الحق، ولكن أطبقت الأرض على الكفر؛ فاليهود الذين كانوا موجودين أطبقوا على الكفر والشرك بالله -تبارك وتعالى-، والنصارى الموجودين أطبقوا على الكفر؛ والشرك، وعبادة المسيح، والتثليث، وما كانوا فيه من الضلال والمبين إلا قلائل ممَن كانوا على التوحيد، وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله نظر إلى أهل الأرض قبل أن يبعثني فمَقَتهم عربهم وعجَمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب»، بقايا لا يكادون يتعدُّون على اليد الواحدة.

قال آخر راهب لسالمان الفارسي؛ الباحث عن الحق، وكان دخل في النصرانية وانتقل من راهب إلى راهب، حتى كان آخر هؤلاء الرُهبان أظنه في نصِّيبين وقال له إلى مَن توصي بي أن أذهب بعد وفاتك؟ لمَّا حضرته الوفاة فقال له يا بني والله لا أعلم الآن على الأرض مَن بقي على الدين الذي نحن عليه، ولكن هذا وقت قد أظلنا فيه خروج نبي، وقال له هو سيخرج في قرية ذات نخل بين حارتين، أعطاه وصْف القرية التي ستكون مُهاجِره، وعَلِمَ من الوصْف الذي وصِفَ له بأن هذه ستكون بجزيرة العرب؛ وكان هذا في تركيا في نصِّيبين، فباع ما عنده وكان قد تأسَّى بعض الأبقار والغنم وغيرها؛ باعها وأعطاها لبعض العرب من قبيلة كلب لينقلوه إلى الجزيرة، فنقلوه ولكن للأسف طبعًا باعوه عبدًا لبعض اليهود وجاء في خيبر؛ وظن أن هذه هي مُهاجَر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم بيعَ بعد ذلك إلى يهودي أخر في المدينة، ولمَّا شاهد المدينة وجد أن أوصافها تنطبق على الأوصاف التي قالها الراهب، فاستأنس بذلك ويسَّر الله -تبارك وتعالى- وجاء النبي مُهاجِرًا إلى هذه المدينة؛ ودخل سالمان في دين الله -تبارك وتعالى-، الشاهد من هذا أن الأرض كانت مُطبِقة على الكفر لم يبقَ فيها إلا هذا العدد القليل على الإيمان كسالمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه-؛ وقد يكون بعض الرُهبان القِلَّة الذي كانوا في الأرض، وإلا فالأرض كانت كلها عربها وعجَمُها مُطبِق على الكفر بالله -تبارك وتعالى-.

الجِن كذلك كانوا على هذا النحو، الله -تبارك وتعالى- عندما أرسل رسوله إلى الناس جميعًا فإن الله -تبارك وتعالى- كذلك جعلها نذيرًا للجِن، ونزلت هذه السورة على النبي -صلوات الله والسلام عليه- تُبيِّن استماع الجِن إلى قراءة النبي للقرآن؛ وإيمانهم به، ودخولهم في هذا الإسلام، ثم كذلك نقلهم الحالة التي عليها الجِن في هذا الوقت؛ من أنهم طرائق قِددًا، من علاقة بعض الإنس بهم، فذكروا أحوالهم في هذه السورة، وأخبر الله -تبارك وتعالى- رسوله أنهم استمعوا إليه عندما كان يقرأ القرآن، وجاء بأن هذا الاستماع كان والنبي في مكة وهو عائد من الطائف في مكان يُسمَّى نخلة؛ وعند كان قائم يقرأ القرآن فاستمع الجِن لقرائته، ثم خرجوا مُنذِرين بأنه قد جاء هُدى، هؤلاء الذين استمعوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه- والذين جاء ذِكرهم كذلك في قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}[الأحقاف:29] {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأحقاف:31] {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:32].

هنا في هذه السورة يقول -تبارك وتعالى- {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1]، قُل؛ أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يقول وأن يتلوا على الناس، {أُوحِيَ إِلَيَّ}، أُوحيَ بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله؛ والذي يوحي إلى النبي هو الله -سبحانه وتعالى-، والوحي هو الإعلام بطريق خفي، كل إعلام بطريق خفي العرب تُسمِّيه وحي، والوحي طبعًا إعلام من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بطريق خفي، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يسمع صوت المَلَك يأتيه، «لمَّا سُئِلَ النبي كيف يأتيك الوحي؟ فقال يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس فيفصِم عني وقد وعيت ما قال»، والوحي القوي هذا يأتي باللسان العربي والنبي يقول مثل صلصلة الجرس؛ يعني في قوته، وشدته، وحِدَّته، وكان النبي يسمعه دون مَن حوله، يعني ينزل الوحي على النبي -صل الله عليه وسلم- ويسمع النبي صوت هذا الوحي بهذه الشدة والقوة ومَن حوله لا يسمعونه، يقول النبي «فيفصِم عني وقد وعيت ما قال، وهو أشده علي»، يعني أشد صورة من صور الوحي على النبي هو هذا الذي يأتي بهذا الصوت القوي الذي يسمعه، وإذا جائه على هذا النحو فيأخذ النبي شيء من الغشية؛ ولا يكون مُدرِك لِما حوله، وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- "كان يأتيه الوحي فيفصِم عنه وإن جبينه ليتفصَّم عرقًا"، في اليوم الشتاء البارد تقول جبينه يتفصَّم عرقًا من الشدة، فهو قول ثقيل {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، ثقيل عند تلقِّيه وثقيل للقيام به، ويقول أيضًا أسامة ابن زيد -رضي الله تعالى عنه- "أُوحيَ للنبي -صل الله عليه وسلم- وكانت فخذه على فخذي؛ فكادت أن تُرَض فخذي"، يقول كادت فخذي أن تُرَض؛ يعني أن تُحطَّم من الثِقَل.

وكذلك كان النبي إذا أُحيَ إليه وهو على الناقة فتكاد أرجلها تسيخ في الأرض من الشدة، فهذا أشد صور الوحي على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يقول النبي «وأحيانًا يتمثَّل ليَّ المَلَك رجلًا فيُكلِّمُني»، يتمثَّل له رجل فيُكلِّمه، وطبعًا تمثُّله رجل يراه النبي ولا يراه مَن حوله -صلوات الله والسلام عليه-، كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «أن النبي قال لها يوم هذا جبريل يُقرئُكي السلام، فقالت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته؛ ترى ما لا نرى»، يعني أنت تره فهي لم تره، هو في الغرفة ولكنه يراه النبي ولا تراه هي، أحيانًا كان جبريل يراه الصحاب كما جاء في حديث عمر ابن الخطَّاب -رضي الله تعالى عنه- يقول «بينما نحن جلوس عند رسول الله –صل الله عليه وسلم- إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب؛ شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه مِنَّا أحد»، وهذا مُستبعَد؛ مُستنكَر، أن شخص يدخل المدينة؛ والمدينة كل أهلها معروفون، في ثياب بيضاء نظيفة وفي حالة طيبة ما يظهر عليه أثر السفر أنه آفاقي؛ قادم من الآفاق، ولا أحد يعرفه هذا يدل على أنه من أهل المكان، يقول «حتى جلس إلى النبي -صل الله عليه وسلم- فاسند ركبتيه إلى ركبته؛ ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؛ وأن تُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال صدقت، يقول فعجِبنا له؛ يسأله ويُصدِّقه»، كيف تسأله وتقول له صدقت؟ السائل المفروض أنه لا يعرف الإجابة، يقول ثم قال له أخبرني عن الإيمان؟ فأخبره النبي، ثم قال له أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ أخبرني عن أماراتها؟ يقول «ثم انطلق فلبِثتُ مليًّا ثم قال لي النبي يا عمر؛ أتدري مَن السائل؟ قُلت الله ورسوله أعلم، قال فهذا جبريل أتاكم يُعلِّمُكم دينكم»، فجبريل أتى في سورة رجل، ؟؟؟؟؟؟؟ ورآه الصحابة على هذا النحو.

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}، وحي من الله -تبارك وتعالى-؛ إعلام من الله لرسول -صل الله عليه وسلم-، {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، أي لقراءة النبي، استمع نفر؛ النفر هو الجماعة، قيل أنهم كانوا تسعة؛ وقيل أنهم من جِن النصِّيبين، {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، وقيل أن سبب استماع الجِن لقراءة النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن الجِن رأوا أمر غريب في السماء؛ وهو أنه مُلِئَت حراسة، وكَثُرَ الشُهُب؛ كَثُرَ الضرب بالشُهُب مما لم يكُن قبل ذلك، ففزِعوا في هذا فقال لهم إبليس دوروا الأرض وإإتوني بتراب من كل مكان لأشُمَّه، إلى أن وقع هؤلاء على النبي -صلوات الله والسلام عليه- يقرأ القرآن، فقيل أن هذا هو السبب الذي من أجله حُرِسَت السماء وهو بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا ........}[الجن:1]، أي بعد سماعهم لقراءة القرآن من النبي، {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، وصفوا هذا القرآن الذين سمِعوه بأنه عَجَب، وهذا وصْف عظيم للقرآن منهم لأن القرآن عَجَب بكل جوانبه؛ فهو عَجَب من حيث الصياغة وهذا الأسلوب العربي، ومن حيث الحلاوة، ومن حيث التذوق، عَجَب من حيث المعاني التي يدعوا إليها؛ المعنى الذي يدعوا إليه، والهداية له، وإبانة الحق، فكل أحوال القرآن عَجَب، {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، يعني يُتعجَّب منه؛ من حلاوته، وفصاحته، وبلاغته، ومن هذه المعاني العظيمة التي جاء بها.

{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، هذا كتاب يهدي إلى الرُشْد؛ والرُشْد هو الصلاح، والاستقامة، والدين، والخُلُق، ضد الغي والضلال، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، وصْف عظيم يصفون به القرآن، {فَآمَنَّا بِهِ}، مباشرة، وهذا من رجاحة عقولهم؛ وسرعة تصديقهم، وأنهم لمَّا عرفوا الحق مباشرة دخلوا فيه، قالوا {........ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:2]، لن؛ التي تنفي وقوع الحدَث في المستقبل، بربنا أحدًا؛ لن نُشرِك به أحدًا، يعني أنهم آمنوا بما دعى إليه هذا القرآن؛ والذي يدعوا إليه القرآن هو توحيد الله -تبارك وتعالى-، وعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن أن يُشرَك به، هذا هو صُلب الدعوة وأساسها؛ وكل دعوة القرآن إنما تصُب هذا المصَب، يعني أيها الناس لا تعبدوا إلا الله -تبارك وتعالى-؛ وان كل ما عُبِدَ من دون الله -تبارك وتعالى- فهو باطل، فقالوا {فَآمَنَّا بِهِ}، يعني آمنا بهذا القرآن وبما يدعوا إليه، {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3]، هذا الذي يُبيِّن القرآن أنه ضلال وهو اتخاذ الصاحبة والولد، نسبة الرب -تبارك وتعالى- أن له زوجة وله أولاد هذا من أعظم الضلال، وجاء القرآن لينفي هذا عن الله -تبارك وتعالى-؛ يعني أن الحق هو الذي جاء به القرآن، وأنه تعالى؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- تعاظم وهو في علوه -سبحانه وتعالى- تسبيحًا له أن يُنسَب إليه ما ينسبه هؤلاء المجرمين، جَدُّ ربنا؛ أنه الرب العلي العظيم -سبحانه وتعالى-، وأصل الجَد هو الحظ والنصيب، وهنا تعالى جَدُّ ربنا؛ صفة ربنا -سبحانه وتعالى-، عظَمَته، وجلاله، وكبريائه، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يتخذ صاحبة ولا ولد، {........ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3]، الصاحبة؛ الزوجة، ولا ولد له، وهذا أن له صاحبة وزوجة قد قاله كثير من المشركين؛ لعنهم الله -تبارك وتعالى- في سبِّهم لله، فمُشركي العرب قالوا تزوَّجَ بثروات الجِن؛ يعني من الجِنيَّات الثريَّات اللي هم أشراف الجِن، وولدَ له الملائكة؛ وأن الملائكة إنما هم بناته وولِدوا له، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقال كذلك النصارى في مريم -عليها السلام- أن روح القُدُس وهو عندهم أُقنوم من أقانيم الرب تغشَّاها وولِدَ له عيسى ابنه البِكْر؛ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3]، ولا ولدَ له ولا صاحبة فهو الرب الإله؛ الواحد الأحد، الفرد الصمد -سبحانه وتعالى-، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، فيكف يكون له صاحبة؟ {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101]، {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3].

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4]، وأنه؛ يعني الشأن والحال، {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا}، قالوا سفيهُنا؛ وأسفه سُفهاء الجِن هو إبليس اللعين، الذي سفَهَ نفسه وترك أمر الله -تبارك وتعالى-؛ الله يأمره بالسجود لآدم فاستكبر لذلك وقال له كيف أسجد؟ {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وبدأ يقول الكذب على الله -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4]، الشطط هو الأمر البعيد جدًا في المعصية والشر، أو يقول سفيقُنا يكون هنا مفرد مضاف إلى معرفة فيَعُم؛ يعني سُفهاؤنا، يعني سُفهاء الجِن كانت تقول على الله -تبارك وتعالى- شططًا، تنسُب لله -تبارك وتعالى- ما ليس من صفاته؛ منها الولد، والزوجة، وغير ذلك من الشريك، والنظير، وصفات النقص للرب -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4]، يعني أمرًا شططًا وقولًا شططًا؛ يعني البعيد كل البُعْد عن الحق.

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5]، كُنَّا نظُن أن الإنس والجِن لا يتجرَّأون بالافتراء على الله -تبارك وتعالى-؛ والكذب عليه، وقد تبيَّنا أنهم يقولون ذلك، فإن القول بأن لله ولد؛ وله زوجة، وأنه ولِدَ له؛ هذا من أعظم الكذب وتقوله الجِن والإنس، فهؤلاء الجِن قالوا ما ظننا أن تتجرَّأ الإنس والجِن فيقولوا الكذب على الله -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5]، وقدَّموا الإنس لأنهم ظنوا أن مقالاتهم في الكذب والافتراء على الله -تبارك وتعالى- أكبر من مقالات ومن افتراء الجِن في كذبهم على الله -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6]، هذي كذلك من ضلال كثر من الإنس؛ وهذي علاقاتهم مع الجِن، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ ........}[الجن:6]، يلتجئون، {........ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6]، زادوهم تعبًا؛ وإرهاقًا، وخبالًا على خبالهم، وأنهم لم ينتفعوا باستغاثتهم بهم، وقيل أن هذا كان في العرب، العرب إذا نزلوا واديًا فيخافوا من الجِن أن يُصيبوهم فيستعيذوا بكِبار الجِن من سفاء قومهم، يقولوا أعوذ بسيد هذا الوادي من الجِن من سفاء قومه، وأنهم من أجل هذا زاد الجِن من سفاهتهم؛ وإضلالهم، وإضرارهم للإنس.

سنقف هنا -إن شاء الله- ونعود إلى تمام الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.