الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (746) - سورة الجن 19-28

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:19] {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}[الجن:20] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21] {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الجن:22] {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجن:23] {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن:24] {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}[الجن:25] {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26] {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:27] {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[الجن:28]، هذه الآيات هي آخر سورة الجِن؛ وهي سورة مكية كما مضى، وبدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جل وعلا- {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1]، ثم ذكَرَ الجِن ما ذكروه عن أحوالهم، وقد وصفوا هذا القرآن فقالوا {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:2] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3]، فشهِدوا شهادة الحق بإعلام الله -تبارك وتعالى- لهم، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4]، إبليس، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}[الجن:7] {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:10] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}[الجن:11] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا}[الجن:12] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا}[الجن:13] {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}[الجن:14] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}[الجن:15].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- جزاء هؤلاء وهؤلاء فقال -جل وعلا- {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن:16] {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}[الجن:17]، ثم قال -جل وعلا- مُبيِّنًا في ختام هذه السورة وتعقيبًا على كلام الجِن {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18]، دعوة وأمر منه -سبحانه وتعالى- أن الدعاء يجب أن يكون لله -تبارك وتعالى-، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ}، قيل المساجد هي دور العبادة؛ بُنيَت لله -تبارك وتعالى-، فلا تدعوا أيها العباد مع الله -تبارك وتعالى- أحدًا لأن الدعاء هو العبادة، «الدعاء هو العبادة» كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60]، فلا يُدعى إلا الله -سبحانه وتعالى-، الدعاء هو طلب بإنابة ورجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والدعاء هو العبادة لأنه إظهار حقيقة العبودية من العبد الذي يطلب من ربه -سبحانه وتعالى- فهو إيمان بالله؛ إيمان بأنه هو الذي بيده الخير -سبحانه وتعالى-، إيمان بأنه هو الذي يدفع الضُّر، وإذا كان هذا التوجُّه لله -تبارك وتعالى- وحده فهذا هو التوحيد، وأما مَن دعى غير الله -تبارك وتعالى- فقد أشرك بالله -جل وعلا-، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18].

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}، عبد الله؛ رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {........ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:19]، قيل {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، الجِن، لمَّا قام يدعوه؛ أي في صلاته، وهذا عند مُنصرَفِه -صل الله عليه وسلم- من الطائف عندما كان ذاهبًا لسوق عُكاظ ليدعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، وهو مُنصرِف وكان يُصلِّي في وادي نخلة ثم إن الجِن تسامعوا به؛ وقاموا على صلاته، {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، يعني مجتمعون بعضهم على بعض يستمعون لقراءة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا الوجه في تفسير هذه الآية يدل على أن {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}، قيل أنهم كانوا تسعة، أما في هذه فيدل على أنهم كانوا عدد كثير جدًا الذي اجتمع ليستمع قراءة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}، عبد الله؛ رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، هنا ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- بالعبودية في هذا المقام تشريف للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، لأن تحقيق العبودية هي أعلى المقامات، فأعلى مقام الإنسان أن يكون عبدًا لله -تبارك وتعالى-، والله ذكَرَ النبي -صل الله عليه وسلم- في أشرف المقامات بهذا الاسم مما يدل على شرفه وعلوِّه، كما قال -جل وعلا- في مقام الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ........}[الإسراء:1]، وقال في إنزال الفُرقان {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فسُمِّيَ الرسول -صل الله عليه وسلم- عبده هنا لأن العبودية هي أعلى هذه المقامات، وهنا في مقام الدعوة وقراءة القرآن الله -تبارك وتعالى- ذكَرَه باسم العبودية، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا ........}[الجن:19]، أي الجِن، {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، مجتمعين ليسمعوا قراءة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والوجه الثاني في تفسير {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا ........}[الجن:19]، لمَّا قام النبي يدعوه؛ يدعوا ربه -سبحانه وتعالى-، كادوا؛ الكفار، {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، مُتلبِّدين ومجتمعين لحربه، يعني أنه مُتآذرين مجتمعين لحربه.

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}[الجن:20]، قُل؛ لهم، يعني لهؤلاء الكفار ولغيرهم، {........ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}[الجن:20]، ما يدل على أن الدعاء لله -تبارك وتعالى-؛ وأن الدعاء هو العبادة، وهذا الذي أُمِرَ به النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأُمِرَ به سائر الرُسُل، وهو أن يدعوا الله -تبارك وتعالى- وحده؛ وأن يعبدوا الله -تبارك وتعالى- وحده، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}[الجن:20]، يعني لا أدعوا غيره -سبحانه وتعالى- فإنه رب العالمين؛ إله الخلْق أجمعين -سبحانه وتعالى-، لا إله إلا هو الذي بيده النفع كله؛ وكذلك بيده -سبحانه وتعالى- ضُر العباد، فلا يملِك الضُّر ولا يملِك النفع إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهو الذي يُدعى -سبحانه وتعالى- لجلب المنافع؛ ودفع المضار، والهداية إلى الصراط المستقيم، فهو مالِك المُلك -سبحانه وتعالى-، {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}[الجن:20].

{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21]، قُل؛ أي لهؤلاء الكفار المُعاندين، إني؛ النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {........ لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21]، لا أملِك لكم ضرًّا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا رَشَدًا؛ أهديكم إلى الصراط المستقيم، وإنما هذا بيد الله -تبارك وتعالى-، فإن مَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يوقِعَ به عذابه أوقعه، وكذلك مَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يهديه إلى الصراط المستقيم هداه؛ فإن الهُدى هُداه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فالهُدى والإضلال كله بيد الله -تبارك وتعالى-؛ لا يهدي إلى الصراط إلا هو، وهو يُضِل مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، فلا يملك غير للعباد ضَر ولا نفع؛ لا يملِك هذا إلا الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21]، {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ........}[الأنعام:50]، هذا أمر الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يقوله؛ وأمر الله -تبارك وتعالى- لنوح أول رسول إلى أهل الأرض، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[هود:31]، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21].

{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الجن:22]، أي قُل لهم إني؛ الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ}، يعني إن عصيته وخالفته أمره؛ فعبدت غيره، أو دعوت إلى غيره، أو لم أُبلِّغ رسالته، إنما أنا عبد مأمور وأنا إن خالفت أمر الله -تبارك وتعالى- فلا أحد يستطيع أن يُجيرَني من عذاب الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ........}[الجن:22]، والإجارة هي النُفرَة والسعي لإنقاذ مَن يستغيث بك ونصره؛ فنصر الغير، فلا يستطيع أحد أن ينصرَني وأن يُجيرَني من الله، بمعنى أن أقول إلحق بي؛ آذِرني، كُن معي... يستحيل، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُجير ولا يُجار عليه، لا أحد يستطيع أن يؤلِّب على الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}، فالله -تبارك وتعالى- إذا أراد أن يوقِع عقوبته بأحد فإنه لا يوجد أحد يستطيع أن يمنع عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الجن:22]، {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}، مُلتَحَدًا يعني مكان أهرَب إليه، وأصل اللحد هو الميل، يعني مكان؛ شِق في جبل، مكان مائل يستطيع الإنسان أن يميل إليه أو أن يختبئ فيه، يعني لن أستطيع أن أُخفيَ نفس من الرب -سبحانه وتعالى-؛ وأن أجد ملجأً وملاذًا ألوذ به وأنجوا من عقوبته، بل عقوبة الله -تبارك وتعالى- إذا أراد أن يُنزِلها بأحد فإنه مُنزِلُها -سبحانه وتعالى- ولا يُعجِزه.

{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الجن:22] {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}، يعني لن يُنجيَني من الله -تبارك وتعالى- ولن يُخرِجَني من عقوبته {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}، إلا أن أُبلِّغَ ما أمرني الله -تبارك وتعالى- بتبليغه؛ وأن أوصِلَ الرسالة التي أمرني الله -تبارك وتعالى- بإيصالها، {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجن:23]، مَن؛ التي هي من صيَغ العموم، {يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فإن الله -تبارك وتعالى- قد رتَّبَ على هذه المعصية بأن يجعل له نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، فالله -تبارك وتعالى- يأمر ليُطاع وقد أرسل رسوله -صل الله عليه وسلم- ليُطاع، قال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فأمَرَ كل رسول بأن يأمر وينهى بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ فهو يأمر وينهى بأمر الله، ولم يُكلِّف الرسول إلا البلاغ، قال {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، ثم بعد ذلك مَن سمِعَ كلام الرسول هو يتحمَّل المسئولية؛ وهو بصير على نفسه عند ذلك، {........ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجن:23]، يعني المعنى كأن الله -تبارك وتعالى- يخبر الرسول بأنه لن يُجيرَه من الله أحد؛ ولن يجد من دون مُلتَحَدًا إلا أن يُبلِّغ رسالته، فإذا بلَّغَ رسالته فهنا قد برِءَت ذِمَّته وقام بما أمَرَه الله -تبارك وتعالى-؛ وتبقى المسئولية بعد ذلك على مَن وصلته هذه الرسالة، وهو أنه إذا عصى الله ورسوله؛ أي بالكفر والشرك، {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، أما المعاصي التي هي دون الكفر والشرك وأطاع الله -تبارك وتعالى- في الإيمان به وتوحيده -سبحانه وتعالى-؛ فإن الله يغفر ما دون ذلك لِمَن يشاء، كما جاء تفصيل هذا {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........[النساء:48]، وقال -سبحانه وتعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82]، فلمَّا قال أبو بكر الصِّدِّيق يا رسول الله أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال له النبي إنما ذلك الشرك؛ ألم تسمع قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ فهذا الذي يعصى الله -تبارك وتعالى- ورسوله بالكفر والشرك قد جعل له الله -تبارك وتعالى- نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، يعني ماكثين فيها مُكثًا لا ينقطع؛ ما في انقطاع لبقائهم في النار -عياذًا بالله-.

{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن:24]، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا}، يعني إذا رأى هؤلاء الكفار ما يوعَدون من النار؛ والنكَال، والعذاب، فسيعلمون؛ أي عند ذلك، {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}، الله أم هم؟ فهم قد كانوا يظنون في أنفسهم أنهم أقوياء وأعِزَّة؛ عندهم المال، والجاه، والسلاح، والأعوان، والأولاد، والرسول -صل الله عليه وسلم- يعتبرونه في جانب الله لكنه ضعيف؛ قليل الشوكة، لكن الله -تبارك وتعالى- يخبر بأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين غرَّتهم قوتهم؛ وغرَّهم عددهم وما هم فيه من التمكين، عندما يُشاهِدوا عذاب الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا}، يعني مَن ينصرهم، كانوا يظنون أن دين الله -تبارك وتعالى- لا ناصر له إلا أعداد قليلة؛ ها دول ماذا يصنعون؟ ماذا يصنع مَن حول الرسول من حُرٍّ وعبدٍ قليلين؟ وهم في مُكنَتِهم وتمكُّنهِم لكن عندما يروا هذا في يوم القيامة {........ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن:24]، أقل عددًا يعني في الناصرين، والله -تبارك وتعالى- هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء -سبحانه وتعالى-؛ الذي له جنود السماوات والأرض -جل وعلا-، فأين هم هؤلاء الكفار من قوة الله وقُدرة الله -تبارك وتعالى-؛ وجنوده وأعوانه -سبحانه وتعالى-؟ هؤلاء عندما يروا النار ويروا مَن عليها من ملائكة العذاب سيروا ما كانوا فيه هم من القوة أم قوة الله -تبارك وتعالى-، عند ذلك يعلمون {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن:24].

{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}[الجن:25]، قُل؛ لهم، أي الكفار، إن أدري؛ يعني لست أدري، {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ}، من إيقاع العذاب عليكم بكفركم، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}، أم أن الله -تبارك وتعالى- يُمِدُّكم أمد في هذه الحياة ولا يُعاجِلكم بالعقوبة؛ فالأمر إليه -سبحانه وتعالى-، {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ ........}[الجن:25]، من النكال والعذاب، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}، وقت، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26]، يعني أن الغيب ليس إليَّ وإنما الغيب إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن الله عالم الغيب؛ كل ما غاب عن الخلْق، ولا يوجد أحد من خلْق الله -تبارك وتعالى- يعلم كل شيء، بل يعلم ما علَّمَه الله -تبارك وتعالى-؛ وما وصل إليه عِلمه مما علَّمه الله ولا يعلم ما وراء ذلك، كل مخلوقات الله هكذا؛ الملائكة، الجِن، الإنس، هناك شيء يعلمونه بحسب أحوالهم وهناك ما يجهلونه أعظم مما يعلمونه؛ فهذا كله غيب بالنسبة إلى هذه المخلوقات، أما الله -تبارك وتعالى- فإن هذا الغيب الذي يغيب عن المخلوق لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى- منه شيء، فلا يغيب عن عِلم الله -تبارك وتعالى- في هذا الوجود كله شيء، بل لا توجد ذرَّة من الذرَّات إلا والله خالقها ويعلمها -سبحانه وتعالى-.

فالله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26] {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، يُظهِر يعني يُعلِم؛ أنه يجعل هذا قادر على أن يكشف هذا الغيب، {........ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26]، فيكشفه له ويُظهِره عليه، {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، إلا مَن ارتضاه الله –تبارك وتعالى- من رسوله اختاره وأرسل إليه رسالاته -سبحانه وتعالى-؛ وأعلمه بالغيب الذي يُريد، سواء كان هذا الغيب غيب مما مضى في سالف الأزمان، أو غيب إضافي؛ يُريه ويُطلِعه على أشياء موجودة ولكنها بعيدة عنه، أو الغيب المُطلَق الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- مما سيأتي بعد ذلك، بعد لحظة التكلُّم فإن كل هذا الزمن المستقبل لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- يُطلع مَن شاء من رُسُله على بعض غيبه -سبحانه وتعالى-، أما الغيب كله فإلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله استأثر بهذا؛ بعِلم الغيب، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، وقد بيَّن لنا -سبحانه وتعالى- أن كل الخلْق الذي نراهم ولا نراهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علَّمهم الله، فالملائكة مع عِلمهم؛ ومع قدراتهم العظيمة، وشرفهم، ومكانتهم، وأنهم خلَقَهم الله من نور، لكنهم لا يعلمون إلا ما علَّمهم الله، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، وعلَّمَ الله -تبارك وتعالى- آدم أشياء ما علِمَتها الملائكة، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، وكذلك رُسُل الله -تبارك وتعالى- لم يُطلِعهم الله -تبارك وتعالى- من الغيب إلا ما أطلعهم عليه؛ وما لم يُطلِعهم الله -تبارك وتعالى- عليه لا يعلمونه، فهذا نوح -عليه السلام- لم يكُن يعلم أن ابنه ليس من أهله، وهذا إبراهيم -عليه السلام- لم يكُن يعلم أنه يولَد له وقد أصبح شيخًا كبيرًا؛ وقال للملائكة الذي بشَّروه {........ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[الحجر:54] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}[الحجر:55] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:56]، ثم قال لهم {........ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}[الحجر:57]، أين أنتم ذاهبون؟ عِلمًا أنهم لمَّا نزلوا به وهم بشر؛ ظنهم من البشر، وذهب فذبح لهم وشوى لهم العجل وقدَّمه لهم،قال  {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ ........}[هود:70]، وأخبروه بوِجهَتهم، فهذا من الغيب الإضافي؛ هم أمامه ولكن لم يعلمهم.

كذلك لوط لم يعلم بحال هؤلاء الرُسُل وأنهم جائوا لنجاته ولإنقاذه، {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ}[الحجر:63] {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الحجر:64]، عِلمًا أنهم لمَّا جائوه ضاق بهم، الله يقول {........ سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هود:77]، ثم أخبروه بحقيقتهم وما أرادوه، وكذلك كل الرُسُل فهذا رسولنا محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- لم يكُن طبعًا يدري قبل البعثة أن الله -تبارك وتعالى- سيجعله رسول لهذه الأمة؛ ولم يعرف جبريل أول ما جائه، ثم أنه لم يكُن يعلم على أي بلد يُهاجِر، بل لمَّا جائته أول رؤيا رآها وأنه سيُهاجِر إلى بلد فيها نخل يقول وقع في نفسي أنها هَجَر؛ يعني الإحساء والبحرين هذه التي سيُهاجِر إليها، ثم بعد ذلك أُعلِم بأن هذه هي المدينة، ثم كذلك لم يكُن يعلم كثير من المنافقين حوله، قال الله -تبارك وتعالى- {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة:101]، وكذلك حقيقة بعض الناس الذي كانوا يدَّعون الإسلام ما كان يعلم أنهم منافقون، فقد أتاه كثير منهم وقالوا له يا رسول الله أرسل لنا مَن يُعلِّمنا، ثم لمَّا أخذوهم غدروا بهم وقتلوهم، أمور كثيرة جدًا لا شك أن هذا دليل على أن النبي لا يعلم الغيب؛ ولا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله -تبارك وتعالى- وما أوحاه له، فالذي اختصَّه الله -تبارك وتعالى- بأن يُطلِعَه على غيبه رُسُله، {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:27] {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، ومعنى أن الله -تبارك وتعالى- يجعل من بين يديه ومن خلفه رَصَدًا؛ هذا الوحي النازل من السماء الله -تبارك وتعالى- يحفظه، كما حفِظَ الله -تبارك وتعالى- السماء من الشياطين قبل نزول الوحي على الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، لذلك قالت الجِن {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9].

فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأنه عالم الغيب؛ وأنه ما يُطلِع على غيبه إلا مَن ارتضى من رسول، وأن هذا الرسول الله -تبارك وتعالى- يحفظ الرسالة إليه، فتأتي هذه الرسالة مصونة ومحفوظة حتى تصل إليه ولا يستطيع الشياطين أن يُدخِلوا في الوحي الموحى إلى الرسول شيء من هذا، بل حفِظَ الله رُسُله وحفِظَ رسوله محمد -صل الله عليه وسلم- من أن يُدخِل أي شيطان شيء من هذا إلى ما يوحى إليه، بل قال -تبارك وتعالى- {........ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:27] {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، ليعلم الله -تبارك وتعالى- العِلم الذي هو إيقاع هذا الأمر على نحو ما عَلِمَه الله -تبارك وتعالى- في الأذل، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يعلم شيئًا لم يكُن غير معلوم عنده؛ تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، بل الله -تبارك وتعالى- هو العليم بكل شيء، الذي أحاط عِلمًا بكل شيء، في أذله، في أبده، في وقته، في تداوله، {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، فقاموا بالأمر الذي أمَرَهم الله -تبارك وتعالى- به؛ وبلَّغوا دينه كما أمرَهم الله -عز وجل-، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}، يعني عَلِمَ عِلمًا محيطًا بكل صغيرة وكبيرة مما لدى الرُسُل؛ وأتباعهم، ورسالاتهم، وما قالوا، وما قيل لهم، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}، أحصى؛ الإحصاء هو العد، كل شيءٍ عددًا أحصاه الله -تبارك وتعالى-، لا يوجد خلْق ولو كان ذرَّة إلا وهي بعِلم الله -تبارك وتعالى-، فكل شيء خلَقَه الله -تبارك وتعالى- إنما هو بعِلمه؛ ولا يعزُب عن عِلمه شيء، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فالله -تبارك وتعالى- هو المحيط عِلمًا بكل شيء، {........ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53]، فالله شهيد على كل شيء في كل وقت وفي كل حين -سبحانه وتعالى-، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}، جميعًا؛ كل خلْقِه، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}، وكل شيء يشمل الملائكة، والجِن، والإنس، والشجر، وكل مخلوقات الله -تبارك وتعالى- قد عدَّها الله -تبارك وتعالى- وأحصاها عددًا، لا يغيب عن عِلمه شيء -سبحانه وتعالى وجل ذِكره-.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.