الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (747) - سورة المزمل 1-9

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6] {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل:7] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل:8] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}[المزمل:9] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل:10] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}[المزمل:11] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا}[المزمل:12] {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}[المزمل:13] {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، سورة المُزمِّل هي السورة الثالثة في القرآن نزولًا على النبي -صل الله عليه وآله وسلم-؛ فقد نزل أولًا اقرأ، ثم المُدثِّر، ثم نزلت سورة المُزمِّل، يُنادي الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صل الله عليه وسلم- في أول هذه السورة بقوله {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، المُزمِّل؛ المُتذمِّل، والتذمُّل هو الالتفاف بدِثار ونحوه، ووصْف الله -تبارك وتعالى- رسوله وندائه بهذا كأنه دعوة من الله -تبارك وتعالى- للنبي لترك النوم، لأن الذي ينام إنما يتدثَّر ويتذمَّل وقد جاء وقت الجِد، وقد أصبح الرسول رسولًا إلى العالمين -صلوات الله والسلام عليه-؛ ومُبلَّغًا من الله -تبارك وتعالى-، وقد جائه تكليف عظيم ليقوم به؛ تكليف بالعبادة، وتكليف بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وكأنه يُقال مضى الوقت الذي تتذمَّل فيه وتنام فيه، وأنه ينبغي أن يكون لك شغل بالليل في عبادة الله -تبارك وتعالى- غير ما كان قبل أن تنزل الرسالة.

وقد جاء أيضًا في الحديث أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- في فترة الوحي بعد أن نزل عليه اقرأ؛ وفَتَرَ الوحي ولم يأتي، يقول «وأنا نازل من حراء فإذا المَلَك الذي جائني بحراء أولًا على كرسي بين السماء والأرض، كلما نظرت إلى الأُفُق وجدته أمامي فرُعِبت منه، فذهبت إلى خديجة فقُلت زمِّلوني زمِّلوني حتى ذهب عنه روعه»، يقول ترعد فرائصة ويقول زمِّلوني زمِّلوني، وهذه كحاجة الخائف والمُرتعِب إلى ما يُغطيه من الرُعب الذي أصابه من رؤية المَلَك على الصورة التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها؛ جبريل -عليه السلام-، فكأن الله -تبارك وتعالى- ناداه بهذا وقال له {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، ثم قال -جل وعلا- {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، أمر بقيام الليل في الصلاة، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، أي منه للهجوع، ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا الجزء فقال {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، يعني قُم نصف الليل أو انقِص من النصف قليلًا إلى الثُلُث، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، زِد على النصف، والقيام ما بين ثُلُث الليل إلى ثُلُثَيه هو الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- به رسوله أنه كان يقوم به امتثالًا لهذا الأمر، كما في آخر هذه السورة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}، أدنى؛ أقل، {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}، يعني هذا قيامة من ثُلُثَي الليل إلى الثُلُث، {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، وقيام ثُلُثَي الليل هو أفضل قيام، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «خير القيام قيام داود، كان يقوم نصف الليل وينام ثُلُثَه ويقوم سُدُسَه»، فيوزِّع الليل هذا التوزيع؛ يقوم نصف الليل، ثم ينام ثُلُثَ الليل، ثم يقوم السُدُس، يصير السُدُس مع النصف ثُلُثَين والثُلُث الذي ينامه.

أما قيام الليل كاملًا فإنه قد جاء النهي عنه، نهى النبي -صل الله عليه وسلم- عن قيام الليل كله إلا ما كان في العشر الأواخر من رمضان؛ فإن النبي كان يُحيي الليل كله -صلوات الله والسلام عليه-، لكنه نهى عن قيام الليل كله كما قال لعبد الله ابن عمرو ابن العاص «قُم ونَم»، وكان يقوم الليل كله، وقال له «ألم أُحدَّث أنك تقوم الليل؟ قال قُلت بلى يا رسول الله»، حديث عبد الله ابن عمرو ابن العاص، «قال لا تفعل؛ قُم ونَم»، فأمَرَه أن يقوم وأن ينام؛ ينام جزء من الليل ويقوم جزء، وكذلك حديث الثلاثة الذي أتوا وسألوا عن عبادة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ فلمَّا أُخبِروا عنها كأنهم استقلُّوها، فقال واحد منهم أما أنا فأقوم ولا أنام، والثاني قال أما أنا فأصوم ولا أُفطِر، والثالث قال أما أنا فلا أتزوَّج النساء، فلمَّا جاء النبي -صل الله عليه وسلم- وأُخبِرَ بمقالتهم خطَبَ النبي مُغضَبًا -صلوات الله والسلام عليه-، قال «أما بعد فما بال أقوام يقولون كذا وكذا؛ أما أني لأقوم وأرقُد، وأصوم وأُفطِر، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي»، فقيام الليل كاملًا مَنهي عنه، والذي أمَرَ الله -تبارك وتعالى- رسوله وعباده المؤمنين في هذه الآيات أن يقوموا من الليل ويناموا، قال {قُمِ اللَّيْلَ ........}[المزمل:2]، أي بالصلاة والقرآن، {........ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، أي منه، {نِصْفَهُ}، هذا بيان، {........ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، أو انقص من النصف، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، وهكذا كان قيام النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فكان يقوم من الليل وينام -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يُعهَد عليه أنه قام الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان فقط؛ فإنه أحياها ابتغاء ليلة القدْر، والسُّنَّة إحياؤها؛ يعني قيام الليل كله، وكانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- تقول في الليالي العشر «كان الرسول -صل الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل كله؛ وجَدَّ، واجتهد، وشدَّ المئزَر».

وصَفَت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قيام النبي -صلوات الله والسلام عليه- في حديث سعد ابن هشام ابن عامر -رضي الله تعالى عنه-؛ الذي جاء وسأل أم المؤمنين عائشة عن قيام النبي -صل الله عليه وسلم- فقالت له «كان يقوم من الليل فكان يُصلِّي أربعًا فلا تسأل عن حُسْنِهِنَّ وطولهِنَّ؛ ويُصلِّي أربعًا فلا تسأل عن حُسْنِهِنَّ وطولهِنَّ، ثم يوتِر بثلاث»، وأخبرته أيضًا «أن النبي أحيانًا كان يُصلِّي ثماني بدون أن يُسلِّم فيهِنَّ ثم يُسلِّم في آخرِهِنَّ، ثم يوتِر بثلاث، ثم يُصلِّي ركعتين بعد ذلك، وتقول لمّا أسنَّ كان يوتِر بسبع»، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يقرأ طويلة وسيأتي هذا في قول الله -تبارك وتعالى- {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، فهذا قيام النبي -صل الله عليه وسلم-، وأمر الله لرسوله هنا {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، هذا الأمر هو للرسول -صلوات الله والسلام عليه- وللمؤمنين، ولذلك قام النبي وقام المؤمنون معه ومكثوا على هذا الحال من قيام الليل عامًا كاملًا، وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «حبس الله -تبارك وتعالى- آخر هذه السورة عامًا كاملًا؛ قام المؤمنون حتى ورِمَت أقدامهم»، ثم إن الله -تبارك وتعالى- خفَّف عنهم فقال {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ........}[المزمل:20]، فجعل الله -تبارك وتعالى- قيام الليل مُستحبًّا لعموم المؤمنين، ولكن بقي فرضية مأمورًا بها للرسول -صلوات الله والسلام عليه- لقول الله -تبارك وتعالى- له بعد ذلك {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، فبقيَ النبي -صل الله عليه وعلى آله وسلم- مُداوِمًا على قيام الليل حتى توفَّاه الله -تبارك وتعالى-.

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، نصفه؛ من النصف، قليلًا؛ فيكون إلى الثُلُث، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ........}[المزمل:4]، على النصف، {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، رتِّل القرآن وهو أن يقرأ بتؤدة وبتمهُّل؛ وألا يقرأ هزًّا كهَز الشعر، كما قال أحدهم لابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- "إني قرأت المُفصَّل كله في ركعة، فقال له هزًّا كهز الشعر؟" يعني سريعًا، وإما القرآن يُقرأ {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، أي بتؤدة بمَد، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- وصِفَت قرائته بأن عائشة -رضي الله تعالى عنها- تقول «كان يمُدُّ في قرائته حتى تكون السورة أطول من أطول منها»، أطول من السورة التي هي أطول منها، «ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؛ يمُدُّ الرحمن والرحيم»، فكانت قرائته -صلوات الله والسلام عليه- مدًّا وترتيلًا، {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، فالقرآن يُرتَّل وكذلك يُحسَّن الصوت به، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «زيِّنوا القرآن بأصواتكم، مَن لم يتغنَّى بالقرآن فليس مِنَّا»، وهذا كله من معاني الترتيل، {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، أي القراءة الحسنة التي فيها مَد وتتابع ولا تكون سريعة؛ هزًّا كهز الشعر أو قراءة سريعة.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، سنُلقي عليك؛ أي يا أيها النبي، قولًا ثقيلًا؛ اللي هو هذا القرآن، القول الثقيل أولًا هو التكليف الذي فيه؛ أنها تكاليف ثقيلة، فإن الذي أُمِرَ به النبي -صلوات الله والسلام عليه- قد كلَّفه الله تكليف عظيم؛ منه أنه يقوم بالدعوة والبلاغ إلى العالمين، فقد أرسله الله -تبارك وتعالى- رسولًا إلى العالمين، وفي هذا البلاغ أولًا إكفار لكل مَن في الأرض؛ أنهم على الكفر إن لم يتَّبِعوا الدين الحق، وهذا يُحنِق الجميع عليه؛ ويُغضِبهم، ويجعلهم يتحرَّقون لقتله والتأليب عليه، كذلك الجهاد وقد أمَرَ الله -تبارك وتعالى- النبي بالقتال والجهاد، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- مُشتكيًا إلى ربه -تبارك وتعالى- في قريش «إذن يسلَغوا رأسي فيدعوه خُبزًا، فقال له الله –تبارك وتعالى- اغزُهُم نغزُهُم معك؛ وأرسِل جيشًا نُرسِل خمسة معه، وقاتل بمَن أطاعك مَن عصاك»، فأمر الله -تبارك وتعالى- له بالجهاد، أمره بالصبر على الأذى الذي يلقاه في سبيل هذه الدعوة، مع كل هذه التكاليف مع أن النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ يعني مع الحال التي كان عليها في الدنيا، فلم يضع له الله -تبارك وتعالى- خزائن الأرض ليُنفِقَ منها، وإنما كان النبي يُنفِق في هذه الدعوة ويقوم بهذا الكسْب الذي بيده؛ ولم يجعل الله -تبارك وتعالى- له خزائن الأرض ليُنفِقَ منها على هذه الدعوة، وكلَّفه الله -تبارك وتعالى- بأن يقوم بهذا الأمر.

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، هذا التكليف بالقيام بأعباء هذه الرسالة؛ وهذا عِبءٌ عظيم، ثم بعد ذلك هذا العبء في العالمين ثم العبء لأهل الإيمان؛ من القيام عليهم، من تعليمهم، من تبليغهم، من عيادة مرضاهم، من اتِّباع جنائزهم، من الإصلاح ذات البَين، فإن النبي حُمِّل الأمة، كذلك هموم الأمة كلها ومصاعبها ومشكلاتها أصبحت مَنوطةً به -صلوات الله والسلام عليه-؛ فهو إمامهم، وقائدهم، وقاضيهم، وحاكمهم، ومرجِعهم -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، قيل كذلك أن ثِقَل القرآن في التلقِّي، يعني ثِقَل القرآن عند تلقِّيه؛ تلقِّي الوحي، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- غذا أُلقيَ عليه القرآن وجائه الوحي كان يكون ثقيل عليه، كما تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- «كان يأتيه الوحي في اليوم البارد فيفصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصَّد عرَقًا»، وهذا زيد -رضي الله تعالى عنه- يقول «أوحيَ للنبي -صلوات الله والسلام عليه- وفخذي تحت فخذه فكادت فخذي أن تُرَض»، يعني من ثِقَل وقت نزول القرآن على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فثِقَله في التلقِّي وثِقَله في التكاليف التي كلَّفَ الله -تبارك وتعالى- بها رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا إخبار من الله أنه سيُلقي عليه قولًا ثقيلًا؛ تكليف يجب أن يقوم به، وله أُسوة في إخوانه الأنبياء الذين سبقوه كما مدَحَ الله -تبارك وتعالى- إبراهيم فقال {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}، تكاليف أن يقوم بها؛ كالهجرة، كأن يذبح ابنه، كأن يُهاجِر بزوجته هاجر إلى المكان الذي هي فيه ويُسكِنها في أرض غير ذي زرع، تكاليف عظيمة أن يقوم بها فقام بها ووفى، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37]، فهنا يقول الله -تبارك وتعالى- لرسوله {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، وهذا ليستعد النبي -صل الله عليه وسلم- الاستعداد النفسي والاستعداد الروحي لتحمُّل أعباء هذه الرسالة، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، إن ناشئة الليل يعني الصلاة التي تُنشأ بالليل، وقيل ناشئة الليل؛ وقته، والمقصود هنا يعني الصلاة التي يُنشئها العبد في الليل، {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}، يعني على القائم، فوطئُها بمعنى أن ثِقَلُها شديد، {وَأَقْوَمُ قِيلًا}، أقوَم قول، وذلك أن القائم في الصلاة إنما يقوم بكلام الله -تبارك وتعالى-؛ ولا أقوَم من كلام الله -تبارك وتعالى-، فهو كتاب قيِّم؛ مستقيم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2] {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3]، لا أقوَم من هذا الكلام؛ كلام الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، وكأن في قيام الليل كذلك تربية للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن قيامه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وعبادته له، ولجوئه إليه، وتوكُّله عليه، وإنابته، وحياته مع الله -تبارك وتعالى- يبقى الليل كله بين يديه؛ يُناجيه، ويدعوه، ويتعبَّد له، هذا هو إنشاء الإيمان؛ وإنشاء التقوى، والتربية الحقيقية، التربية الحقيقية بصلاة الليل، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل:7]، {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا ........}[المزمل:7]، سبْحًا يعني تصرُّفًا في معاشك؛ الذهاب هنا والذهاب هنا، يعني كأن فرصة النهار للسعي على المعاش طويلة، {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل:7]، فكأنه إباحة وتوجيه من الله -تبارك وتعالى- أن يكون عمله للدنيا إنما يكون في النهار، ثم في الليل إنما يقوم بين يدي الله -تبارك وتعالى- للعبادة، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل:8]، اذكر اسم ربك في كل الأوقات، يعني كُن دائمًا ذاكِرًا اسم الله -تبارك وتعالى-، {اسْمَ رَبِّكَ}، والله -تبارك وتعالى- له تسعةٌ وتسعون اسمًا مَن أحصاها دخل الجنة، ذِكر اسمه -سبحانه وتعالى- وفي كل اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- معنى؛ فكلها أسماء حُسنى، الرحمن من الرحمة والرحيم، والعزيز من العِزَّة، والغفور من المغفرة، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ........}[المزمل:8]، يعني كُن على ذِكرٍ دائم؛ ذِكر باللسان، وذِكر بمواطئة القلب، {........ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل:8]، تبتَّل إليه؛ انقطع إليه، التبتُّل؛ الانقطاع، يعني انقطع لعبادته، وذِكره، وتسبيحه، وتمجيده -سبحانه وتعالى-، {........ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل:8]، انقطع إليه انقطاع.

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}[المزمل:9]، فهذا الرب الذي تقوم له بالعبادة في الليل؛ وتذكُر اسمه في كل أحوالك، وتتبتَّل إليه وتنقطع إليه، هو رب المشرق والمغرب؛ إذن هو الوجود، لأن الوجود شرق وغرب؛ مشرق ومغرب والله ربه، ربه؛ الرب هو المالك، مالِك كل ذلك، فهو الملِك والمالِك لكل هذا وذلك أن المشرق والمغرب هو خلْقُه -سبحانه وتعالى-، فما فيها خلَقَه؛ هو الذي خلَقَه، وهو يملِك كذلك تصريفه؛ يملِك الخلْق والتصريف، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فهو الخالق لكل هذا وهو المُتوكِّل -سبحانه وتعالى- بكل ذلك، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ........}[المزمل:9]، لا إله؛ الإله هو المعبود، كل ما يُعبَد تُسمِّيه العرب إله، ولكن الإله الحد واحد فقط وهو الله -سبحانه وتعالى-؛ وأما كل مَن ادُّعيَت له الإلهية غيره فباطل، فلا إله أي حقًا إلا هو وأما غيره ممَن يُسمِّيهم عُبَّادهُم آلهة فليسوا آلهة على الحقيقة؛ وإنما سمُّوهم آلهة وليسوا آلهة، فالذي سمُّوا عيسى إله وقالوا ربنا وإلهنا كذبوا، عيسى ليس إلهًا مع الله -تبارك وتعالى-؛ وإنما عيسى عبد الله -جل وعلا-، والذين جعلوا الملائكة آلهة؛ عبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى-، وقالوا شُفعاؤنا عند الله، وقالوا إنما نعبدهم ليُقرِّبونا إلى الله زُلفى؛ كذبوا، وذلك أن الملائكة ليسوا بنات الله كما ادَّعوا؛ وإنما هم عباد الله، كما قال -جل وعلا- {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، وكذلك الذي عبدوا العُزَير أن قالوا الشمس هي الإلهة كذبوا؛ الشمس ليست إلهة، وإنما الشمس هذه نجم خلَقَه الله -تبارك وتعالى-؛ وهو مُسيِّره، ولا تستحق العبادة؛ وإنما يستحق العبادة مَن خلَقَها ونصبها -سبحانه وتعالى-، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37]، والذين اتخذوا الأصنام هذه وسمُّوها آلهة كذبوا؛ ليسوا آلهة، إنما هذه عبدوها من دون الله -تبارك وتعالى- لا تملِك لهم نفعًا ولا ضرًّا؛ لا تنفعهم ولا تضرهم، فتسميتها آلهة هذه تسمية باطلة؛ وليست لها صفة الإله، والإله لا يكون إلا واحدًا لأن الإله يجب أن يكون المألوه الذي يستحق الأُلوهية حقًا؛ لابد أن يكون خالقًا، رازقًا، مُتصرِّفًا، مُنعِمًا على عباده؛ له الفضل عليه، والفضل كله والإحسان كله والخلْق كله لواحد فقط؛ لرب واحد وهو الله -سبحانه وتعالى-، هو الذي خلَق، هو الذي رزق، هو الذي يُحيي، هو الذي يُميت، ولا يُشارِكه أحد في هذا؛ ما في أحد في الكون يُشارِك الله في شيء من هذا، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22] {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، فإذن لِما يُعبَد مع الله -تبارك وتعالى- غيره؟.

فالله هو الإله الذي لا إله إلا هو؛ هو رب المشرق والمغرب، ليس هناك في الشرق إله يملِك شيء، بل هو الله -تبارك وتعالى- هو إله أهل السماء وإله أهل الأرض، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ........}[الزخرف:84]، وهو رب المشرق والمغرب -سبحانه وتعالى-؛ ورب العالمين -جل وعلا-، لا مُنازِع له، ولا كُفء له، ولا نِد له، فبالتالي كل مَن اتخذ إلهًا غيره مجرم وكذَّاب؛ كذب، وإفك، وباطل، ويسير في هذا الباطل حتي يوم القيامة يتبرَّأ من عابِدِه ويتبرَّأ عابِدَه منه، فعيسى -عليه السلام- يتبرَّأ ممَن عبدوه، يقول له الله -تبارك وتعالى- {........ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116] {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وهكذا كل مَن عُبِد من دون الله يتبرَّأ ممَن عبَدَه؛ ويقول أبدًا، ما قُلت له اعبُدني، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6]، فهؤلاء يكفرون بعبادتهم.

فالله -سبحانه وتعالى- هو الله الذي لا إله إلا هو، قال -جل وعلا- {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}[المزمل:9]، إذا كان هو رب هذا الوجود كله؛ ورب المشرق والمغرب، وأنه لا إله إلا هو، إذن يجب أن تجعل توجُّهَك كله إليه؛ توكُّلَك عليه، واتخذه وكيلًا يعني مُتصرِّف في أمورك كلها، اجعله هو المُتصرِّف في أمورك كلها؛ والله كذلك -سبحانه وتعالى-، لكن العبد يجب أن يعتقد هذا لأن الله على كل شيء وكيل، فالله -سبحانه وتعالى- هو الموكَّل بكل شيء لأنه هو المُتصرِّف في كل شيء، لكن المؤمن يعتقد هذا ويتوجَّه إلى الله -تبارك وتعالى- بهذا الاعتقاد، وأما الكافر فإنه يظن أنه هو المُتوكِّل بأمر نفسه؛ وهو الذي يملِك شئون نفسه، وهو الذي يرزق نفسه، وهو الذي بفضله وبإحسانه كما قال {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}، يعني اعتقد فيه؛ وتوجَّه إليه -سبحانه وتعالى-، واجعله هو المُتوكِّل لكل أمورك، ودَع كل نتائج عملك إليه -سبحانه وتعالى-، فإنه الرب المُتصرِّف في كل شيء -جل وعلا-.

نقف هنا ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.