الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[المزمل:19] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المزمل:20]، في ختام سورة المُزمِّل قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}، أي هذه السورة بما فيها من هذا الوعيد الشديد للمُكذِّبين تذكِرة؛ تُذكِّرهم بوعيد الله -تبارك وتعالى-، وأن وَعْده حق، وأنه يجب أن يتقوه -تبارك وتعالى-، فقد قال -تبارك وتعالى- لهؤلاء المُكذِّبين {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}[المزمل:15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}[المزمل:16]، بفاء التعقيب؛ لمَّا عصى رسول الله وهو موسى، أخذناه؛ أي فرعون، أخذًا وبيلًا؛ شديد، وأخذ الله –تبارك وتعالى- للكفار شديد، إن أخذه أليم شديد فقد أغرقه الله -تبارك وتعالى- وجُنْدَه في البحر، {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ}، أيها المُكذِّبون، {....... إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[المزمل:17]، إن كفرتم بالله -تبارك وتعالى- كيف تتقون؟ كيف تُحمُون من يوم يجعل الوِلدان شِيبًا؟ لصعوبته، وتهاويله، وشدته، وطوله العظيم، {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ........}[المزمل:18]، يوم القيامة السماء القوية الشديدة تتفطَّر من شدة هذا اليوم؛ فكيف بالإنسان الصغير الضعيف؟ {........ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}[المزمل:18]، كان وَعْده؛ وَعْد الله -تبارك وتعالى-، مفعولًا؛ لا يمكن أن يعِد الله –تبارك وتعالى- ويُخلِف الميعاد، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، فهذا اليوم الذي وقَّتَه الله -تبارك وتعالى- لجمع الخلائق ليُحاسِبَهم يومٌ حق لابد أن يكون، هذا وَعْد الله -تبارك وتعالى- ولابد أن يكون، {........ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}[المزمل:18].
ثم قال {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[المزمل:19]، لا عُذر له بعد ذلك وهذا الطريق قد وَضُح وسَلُك إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم إن الله -تبارك وتعالى- بشَّرَ عباده المؤمنين أولًا بأنه قد أبصَرَ قيامهم بعد أن نزلت هذه السورة؛ وفيها قيام الليل، وناشئة الليل؛ قيام الله بشدته ووطئته، الله -تبارك وتعالى- خفَّفَ عنهم وبيَّن -سبحانه وتعالى- أنه قد رآهم -سبحانه وتعالى-؛ يراهم ولا يُضيع أجرٌ عنده -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ رَبَّكَ}، يا محمد، {يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}، هذه أولًا شهادة من الله -تبارك وتعالى- لرسوله؛ وبيان أنه يعلم هذا، والمؤمن عندما يعلم أن الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِع على أمره؛ وأنه مُطَّلِع على عبادته، إذن لا تضيع وأن الله -تبارك وتعالى- معه؛ وأنه قد كان شاهدًا -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ}، اللي هو قيام الليل، {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}، أدنى؛ أقل، {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ}، أحيانًا، {وَثُلُثَهُ}، وقد كان قيام النبي -صلوات الله والسلام عليه- بين هذين؛ بين الثُلُث إلى الثُلُثَين، الثُلُث كحد أدنى والثُلُثَين كحد أعلى لقيامه -صلوات الله والسلام عليه-، إلا ما كان من العشر الأواخر من شهر رمضان فإن النبي كان يُحيي الليل كله في هذه العشر ابتغاء ليلة القدْر.
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}، شهادة من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن طائفة؛ جماعة من الذين كانوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- وآمنوا به قد كانوا يقومون هذا القيام، فقد كان لكل أحدٍ مسجده وقيامه؛ وكان هذا القيامة كذلك دعوة، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قيام أبي بكر بالصلاة في مكة؛ وأنه قام عليه الكفار لأنه اتخذ مسجدًا وكان يقوم فيه، ويقرأ القرآن، ويبكي، فيجتمع عليه الناس، والنساء، والأطفال، فيُعجَبون من أمره حتى أنهم آذوا أبو بكر أذى، وهاجر أبو بكر من مكة قاصدًا أن يخرج إلى الحبشة فلقيَه عبد الله ابن الدغُونَّة؛ سيد القارة، وقال له إلى أين يا أبو بكر؟ فقال إن قومي قد آذوني وإني أُريد أن أسيح في أرض الله أعبد ربي، فقال له والله لَمَا لمثلك مثلك؛ إنك لتصِل الرحم، وتحمل الكَل، وتُعين على نوائب الحق، ثم قال له ارجع وأنت في حمايتي؛ أنا أُجيرُك، فرجع معه، وجاء عبد الله ابن الدغُونَّة إلى قريش وقال لهم والله مثل أبي بكر لا يخرُج ولا يُخرَج؛ إنه ليقري الضيف، ويحمل الكَل، ويُعين على نوائب الحق، قال لهم هذا رجل من أهل الخير والإحسان؛ كيف لمثل هذا أن يُطرَد؟ فقالوا نقبَل إجارتك له ولكن مُرهُ فليُصلِّي في داخل بيته، فقال عبد الله ابن الدغُونَّة لأبي بكر قد أجَرتُك ولكن شرط القوم عليك أن تُصلِّي داخل بيتك، فقَبِلَ أبو بكر هذا الشرط وصلَّى داخل بيته، تقوم أم المؤمنين صلَّى ما شاء الله أن يُصلِّي، ثم رأى أن يتخذ مسجدًا في فناء داره، فناء الدار اللي هو خارج محيط المنزل، وخرج يُصلِّي فيه، فلمَّا خرج تقاطر عليه النساء والوِلدان يسمعون لقرائته، وكان طبعًا الكبراء يوصُون أنفسهم ألا يسمعوا مجرد سماع للقرآن، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت:26]، وكان بعضهم سِرًّا يذهب لسماع قراءة النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم إذا التقوا يقول بعضهم لبعض إياكم أن تأتوا وتسمعوا لشيء من هذا القرآن، بل أنه كان من شدة تنفيرهم للناس أن عمرو ابن الطُفَيل الدَوسي -رضي الله تعالى عنه-؛ وهو سيد في قومه، لمَّا جاء ظلوا يُحذِّروه من النبي، يقول حتى أخذت قُرصُفًا من قطن فوضعته في أُذُنَي خشية أن تبدُرَ كلمة من النبي إلى أُذُني فأُسحَر كما كانوا يُسمُّونه أنه يسحَر الشخص.
الشاهد أن أبو بكر لمَّا قام يُصلِّي قامت قريش وأرسلت إلى عبد الله ابن الدغُونَّة؛ وقالت له لا نُحِب أن نُغفِرَك، ولكننا لن نرضى بتاتًا أن يُصلِّي أبو بكر في فناء بيته، فإما أن يلتزم بما التزمنا لك؛ أن يُصلِّي في داخل بيته، وإلا فإنَّا سنمنعه، فجاء عبد الله ابن الدغُونَّة وقال له تعلم أن قومك قد شرطوا علينا هذا الشرط؛ فإما أن تقبَلَ بشرطهم وإما أن تَرُدَّ عليَّ جواري، فقال له أرُدُّ عليك جوارك وأبقى في جوار ربي -سبحانه وتعالى-؛ ورَدَّ عليه جواره، الشاهد من هذا أن طائفة من أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه- كانوا يقومون الليل بأمر الله -تبارك وتعالى- كما أمَرَ الله -عز وجل-، والله هنا يشهد لهم فقال -تبارك وتعالى- {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}، يقومون هذا القيام لله -تبارك وتعالى- في بيوتهم أو مُجتمعين، وكان بعضهم كذلك يُصلِّي في الشِعاب والوِديان بعيدًا عن أعين الكفار، وذلك أن الكفار كانوا يغضبون أشد الغضب أن يجدوا مسلمًا قائمًا من الليل يُصلِّي، {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، يُقدِّره؛ تقديره أنه يزيد من هذا وينقص من هذا، يعني ساعات الليل في الشتاء وساعاته في الصيف مختلفة، وهم مطلوب منهم أن يقوموا بين هذين الوقتين؛ من الثُلُث إلى الثُلُثَين، الله -تبارك وتعالى- هو يُقدِّر الليل والنهار اللي هو مقادير هذه الأوقات، وكذلك هو يُقدِّرها بمعنى أنه يخلُقُها -سبحانه وتعالى- ويُنشِئُها، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}، عَلِمَ الله –تبارك وتعالى- أن لن تُحصُوه؛ تُحصُوا هذا القيام، يعني في كل ليلة تقومون كما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-، هذا فرض عليهم أن يقوموا ما بين ثُلُث الليل إلى ثُلُثَيه طيلة حياتهم، عَلِمَ الله -سبحانه وتعالى- أن لن تُحصُوه.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، فتاب عليكم من إيجاب هذا، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، فجعل أن يقوموا بما يتيسَّر لهم من القرآن دون أن يكون هذا في حدود هذه الفترة الزمنية؛ يعني ما بين ثُلُث الليل إلى ثُلُثَيه، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، لكم، والذي تيسَّر يعني بدون تكلفة، فلو قرأ ولو الوِتر وقد جاء في السُنَّة أن بعض الصحابة كان وِترَه من الليل بركعة؛ وبعضهم قد يوتِر بثلاث، والوقت لم يُحدَّد لهم، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- «أوتِروا يا أهل القرآن»، فيُقرأ ما تيسَّرَ من القرآن لهم حِفظه والقيام به، وكان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بسورة واحدة من القرآن؛ كما قام بعضهم بتبارك، وقام بعضهم بسورة، وأحيانًا يجوز هذا أن قام النبي -صل الله عليه وسلم- في ليلة كاملة بآية من كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ آية واحدة، وهي قوله -سبحانه وتعالى- {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، كلمة عيسى -عليه السلام-، ما حكاه الله عن عيسى أنه يقوله يوم القيامة عندما يستشهده الله -تبارك وتعالى- على قومه، فيقول بعد ذلك {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، فقام النبي بها وهو يبكي -صلوات الله والسلام عليه-.
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}، يعني أن من رحمة الله -تبارك وتعالى- والسبب في رفع الوجوب وبقائه على الاستحباب أن سيكون منكم مرضى؛ والمريض يشُقُّ عليه قيام الليل، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، يضربون في الأرض؛ الضرب في الأرض هو السفر فيها، وسُمَّيَ ضربًا لأنه كأن المسافر يضرب الأرض بقدمه وهو خارج؛ وهذا تعبير كناية عن السفر في الأرض، {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، بالتجارة وغيرها؛ للتجارة، للاستجلاب، للعمل، فيخرج من بلده إلى مكان أخر ليُتاجِر أو يجلب، يبتغون من فضل الله؛ من رزقه وإنعامه -سبحانه وتعالى- الدنيوي، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- أن منك أخرين سيُقاتِلون في سبيل الله، والمُقاتِل في سبيل الله قد يشُقُّ عليه أن يبقى في ليله قائمًا بالصلاة؛ وكذلك في نهاره أو في ليله قائمًا بالجهاد، فإن القتال يشغل عن قيام الليل ومُلاقاة العدو، بل قد يشغل القتال كذلك عن الصلاة الواجبة، ولذلك خفَّفَ الله -تبارك وتعالى- الخمس صلوات إلى صلاة الخوف؛ أو الجمع بين الصلاتين، أو الصلاة بالمُسايفة، قال {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، يعني وأنتم راجلين صلُّوا وأنتم راجلين؛ على أرجلكم، أو راكبين، فالجمع بين الجهاد وبين قيام الليل سيكون شاق، ولذلك قال -جل وعلا- أنه سيكون منكم أخرون يُقاتِلون في سبيل الله.
نزول هذه الآية ويذكُر الله -تبارك وتعالى- أنه سيكون من المؤمنين مَن يُقاتِل في سبيل الله؛ هذا دليل على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-، فإن هذا غيب وقع كما أخبر الله -تبارك وتعالى- به، وهذا الغيب لم تكُن له في وقت نزول هذا القرآن مُعطيات ودليل قائم، فإنه مَن كان يمكن أن يتصوَّر بأن هذه الفئة القليلة مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- المُستضعَفَة؛ التي لا تستطيع أن تقوم الليل، لا يستطيع الشخص منهم أن يُصلِّي في بيته قيامًا بالليل ويقرأ القرآن لأن الكفار يمنعونه من هذا؛ وهذه سطوة الكفار عليهم على هذا النحو، وهذا رجل كأبي بكر كان يحمل كلَّهم؛ ويقري ضيفهم، ويُعين على نوائب الحق، وينفع الناس، لكنهم لم يتركوه وإنما عاقبوه وجعلوه يفِر بدينه حتى أرجعه عبد الله ابن الدغُونَّة، وهؤلاء الذين آمنوا كلهم لاقوا الأذى، هذا عثمان ابن عفَّان -رضي الله تعالى عنه- هاجر بزوجته إلى الحبشة وهو رجل تاجر؛ له مكانته، من بني عبد شمس، وله عصَبَته، لكنهم لم يُمكِّنوه لأنه مُسلِم؛ لم يُمكِّنوه وأخرجوه، فمَن كان يتصوَّر في هذا الوقت الذي في الكفار بعنجهيتهم؛ وعصَبيتهم، وقوتهم، وغطرستهم، وبطشهم للمؤمنين، أنه سيأتي وقت يكون لهؤلاء المؤمنين قوة؛ وأنهم سيُقاتِلوا في سبيل الله؟ هذا أمر لا شك أن كل المُعطيات الموجودة لا يمكن أنها تخبر بمثل هذا؛ فهذا إخبار غيبي، نزول هذه الآية على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهي بعد سنة؛ هذا بعد سنة فقط من نزول أولها، الآية نزلت بعد سنة كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «نزل {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، وحبس الله آخرها سنة؛ قام المسلمون حتى ورِمَت أقدامهم، ثم أن الله –تبارك وتعالى- خفَّفَ هذا عنهم بقوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}»، فمَن كان يمكن أن يتصوَّر أنه سيكون هناك من المؤمنين مَن يُجاهِد في سبيل الله؟ فيكفي نزول هذه الآية أنها تكون دلالة واضحة للكفار على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-.
{وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، اقرأوا؛ أيها القائمون بالليل، ما تيسَّرَ منه؛ ما تيسَّرَ من هذا القرآن، ويمكن أن يقوم الإنسان ولو بسورة من السور الصِغار؛ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، أو بالمُعوذَتين، قام بعض الصحابة بسورة تبارك؛ وقام بعضهم بكذا يُكرِّرُها، يعني لا بأس بتكرير هذه السورة؛ وهذا مما تيسَّرَ من القرآن، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، ثم قال -جل وعلا- {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، مُطلقًا، ولم تكُن عند نزول هذه قد نزلت الصلوات الخمس، فإن الصلوات الخمس لم تُفرَض إلا في الإسراء؛ والإسراء إنما كان قبل هجرة النبي بسنة -صلوات الله والسلام عليه-، وهذه إنما كانت بعد سنة من بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أي أنها بعد ثماني سنوات حتى فُرِضَت الصلوات الخمس، فالصلوات التي كانت تُصلِّى قيل إن المسملون كانوا يُصلُّون ثلاث صلوات فقط في النهار؛ وكان المفروض صلاة الليل، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، إقامتها هي تعديلها؛ أن تكون قائمة، ولا تكون الصلاة قائمة مستقيمة إلا شرائطها؛ وكذلك إقامة أركانها، فاستيفاء شرائط الصلاة من شروطها الطهارة، «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدثَ حتى يتوضَّأ»، وكذلك نظافة الثوب؛ بُعدُه عن النَجَس والدَنَس، وكذلك نظافة البدن ونظافة المكان، وكان من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن جعل لهذه الأمة الأرض كلها مسجد، كان مَن قبلنا يُصلُّون في المسجد فقط، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل لهذه الأمة الأرض كلها مسجد وتُربَتُها طهورًا، فمن شرائطها هذه الطهارة الكاملة للمكان، وللبدن، وللثوب، والوضوء المشروع الذي شرَعَه الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.
كذلك في الصلوات الخمس لابد من دخول الوقت؛ فالصلاة قبل الوقت تعتبر باطلة، وكذلك عدم تأخيرها حتى يخرج وقتها؛ فإن مَن أخَّرها عامِدًا حتى يخرج وقتها لا يلحقها، خلاص؛ انتهت منه وراحت، كما قال النبي «مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرُبَ الشمس فقد أدرك العصر»، فدل على أن مَن ترك صلاة العصر حتى غرَبَت الشمس لا يُدرِك صلاة العصر، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، فلابد من إيقاعها في الوقت الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى- شرعًا، وليس بمعذور إلا النائم والناسي فقط، كما قال النبي «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِها إذا ذكَرَها؛ لا كفارة لها إلا ذلك»، فهذا فقط عند النوم والنسيان، أما العمْد فإن من تأخَّرَ عن الصلاة حتى يخرج وقتها ذهبت منه، والنبي يقول «مَن ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عمله»، فالذي يترك صلاة العصر وقيل أن هذا ليس خاصًا بالعصر؛ إنما العصر مثل الظهر، وإنما قد يُنَص على العصر لشرفها ومكانتها، كما قال -تبارك وتعالى- في صلاة العصر {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]، الصلاة الوسطى الفُضلى وهي صلاة العصر، كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «حبسونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا»، دعى على الكفار يوم الخندق وذلك أن المسلمين كانوا محصورين ولا يستطيعون أن يُفارِقوا أماكنهم في القتال حول الخندق، حتى أن بعضهم لم يستطيع أن يُصلِّي العصر إلا بعد المغرب، فقال عمر والله يا رسول الله ما صلِّيتُها إلا بعد المغرب، فدعى النبي عليهم وقال «حبسونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا».
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، يعني أقيموها باستكمال شرائطها وكذلك باستكمال أركانها، لابد أن أركان الصلاة تُقام، فإن مَن صلَّى وهدم رُكن من أركانها فإنها لا تُقبَل، كما قال النبي لمُسيء صلاته؛ الذي لم يكُن يطمئن في صلاته، قال له النبي «صلِّي فإنك لم تُصلِّي»، «جاء رجل فدخل المسجد فصلَّى، ثم جاء النبي فسلَّمَ عليه، فقال له وعليكم السلام»، رد عليه السلام، «فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- ارجع فصلِّي؛ فإنك لم تُصلِّي، فرجع فصلَّى كصلاته الأولى ثم عاد إلى النبي، فقال له النبي ارجع فصلَّي؛ فإنك لم تُصلِّي، فرجع مرة ثانية صلَّى ثم عاد إلى النبي، فقال له النبي ارجع فصلَّي؛ فإنك لم تُصلِّي، فقال والذي بعثك بالحق لا أُحسِنَ غير هذا؛ فعلِّمني»، أنا ما أُحسِن إلا هذه الصلاة التي كرَّرها ثلاث مرات والنبي يقول له عِدْها مرة ثانية؛ لم تُصلِّي، «فقال له النبي إذا قُمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ بفاتحة الكتاب، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجِدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»، فقال لابد من إعطاء كل رُكن حقَّه، فرُكن القيام لابد أن يستمر؛ القيام الأول هذا مع الفاتحة، رُكن الركوع لابد أن يركع ويطمئن راكع، يعني حتى يطمئن فتستقر عظامه مع صفة الركوع؛ وصفة الركوع أن يكون الظهر الرأس مستقيم بخط واحد، قال له «ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا»، وهذا يعني حتى ترجع كل فقرة من فِقار الظهر إلى مكانها، ثم قال له «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا»، فلابد أن يسجد حتى يطمئن ساجد، «أُمِرنا أن نسجد على سبعة أعظُم، والنبي أشار إلى الجبهة؛ هذي واحد، وإلى اليدين، والركبتَين، والقدمين،»، فلابد من استكمال أركان الصلاة حتى تكون الصلاة قائمة، فقول الله {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، أقيموها كما عُلِّمتم؛ وكما بيَّنها النبي، وقال النبي «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، وكان النبي يُعلِّم الصلاة تعليم بالنظر، فقام بالصحابة صلَّى بهم وهو على المنبر -صل الله عليه وسلم-، كبَّر، وقرأ، وركع وهو على المنبر، ثم رفع وهو على المنبر، ثم رجع القهقرة حتى نزل من على المنبر، ثم سجد، ثم جلس، ثم سجد، ثم جلس، ثم صعد المنبر فأراهم كيف يُصلُّوا، المهم أن النبي أراهم كيف يُصلُّوا؛ علَّم الصلاة تعليم عملي وهم ينظرون إليه -صلوات الله والسلام عليه-، فلابد من إقامة الصلاة على هذا النحو؛ فإذن ليس كل مَن صلَّى فقد صلَّى، والله -تبارك وتعالى- دائمًا في كتابه وفي أمره يقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، إيتاء الزكاة؛ إعطاؤها، وسُمِّيَ إخراج المال زكاة لأنه طُهرى للمال، أولًا المال هذا الذي يكون فيه حق الله يبقى نجِس؛ يبقى مُحرَّم، مادام أن الحق الله لم يخرج منه يبقى كل المال مُحرَّم، فلابد من إخراج حق الله -تبارك وتعالى- من المال فيزكوا هذا؛ يصبح الباقي حلال، أما مَن يأكل المال كله الذي لم يُخرِج منه الزكاة فهذا المال حرام لأن حق الله ما خرج منه، فيبقى هذا مُدنَّس ولابد من إخراج حق الله -تبارك وتعالى- فيطهُر المال، فالزكاة طُهرى للمال وطُهرى للمُزكِّي لأنها تُطهِّر قلبه؛ أولًا أنه ممتثِل لأمر الله، عابد لله -تبارك وتعالى-، تُطهِّر قلبه لأن هذا حق الفقير والمسكين، حق الله في ماله وأن الله أغناه وممكن أن يُفقِرَه، الله هو الذي بيده العطاء والمنع -سبحانه وتعالى-، فيمكن أن تكون أنت محِل الفقير؛ والفقير هذا محِل الغني، فأحمَد الله -تبارك وتعالى- أن أعطاك المال لتُخرِج منه حق هذا، ويمكن أن يكون هذا ابتلاء من الله -تبارك وتعالى- فإذن آتيه، فالزكاة سُمِّيَت زكاة لهذا؛ أنها تُطهِّر قلب صاحبها، ثم قال -جل وعلا- {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، هذا كلام قطع القلب، أن الله -تبارك وتعالى- يأمر عباده أن يُطيعوه؛ ويجعل هذا الذي يُعطونه -سبحانه وتعالى- قرض، هذا كلام يقطع قلب المؤمن؛ كيف يكون قرض والله هو الغني -سبحانه وتعالى-؟ ولكنه يطلب الطاعة من عباده على صورة القرض؛ أن هذا سلف لي وأنا أُعطيك، أن تُقرِض الرب -سبحانه وتعالى-، {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، بالإنفاق في سبيله؛ فهذا أمر عظيم جدًا، وأقرِضوا مَن؟ الله الغني -سبحانه وتعالى-، قرض حسَن لن يضيع بل هو في الصون.
ثم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، الذي تُقدِّمه تُقدِّمه لنفسك، الله ليس في حاجة إلى أحد -سبحانه وتعالى- فهو الغني، من خير؛ أي خير ولو ذرَّة، {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا}، الحسنة بعشرة أمثالها؛ إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، {وَأَعْظَمَ أَجْرًا}، طبعًا لا مقارنة بين دينار يدفعه الإنسان وبين ما يحصل عليه من الجنة في مقابل هذا الدينار؛ لا مقارنة بهذا، الدينار ممكن أن تشتري به طعام تأكله مرة واحدة، أما أن تشتري به موقع في الجنة دائم، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، هذا أمر لا يمكن أن يكون هذا ثمنًا له؛ الجنة ليست ثمن لهذا الذي فعلته، فكل فعل الإنسان لا يساوي ما عند الله -تبارك وتعالى-، هذا هو أعظم أجر من الله -تبارك وتعالى-، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}، أيها العباد، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، استغروا الله على التقصير؛ عن تقصيركم في حق الله، فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بحق الله -تبارك وتعالى- كما ينبغي لله، ولذلك كان كثير من السلف يُصلِّي الليل كله ثم يقول سبحانك؛ ما عبدناك حق عبادتك، ولا رجوناك حق رجائك، استغفروا الله -تبارك وتعالى- لذنوبكم؛ تقصيرًا في العبادة، وفعلًا للمعاصي، استغفر الله -تبارك وتعالى- لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم -سبحانه-.
بهذا تنتهي هذه السورة؛ سورة المُزمِّل، والحمد لله رب العالمين.