الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين وعلي آله وأصحابه وعلى من اهتدي بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين وبعد.
فيقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260]
يخبر –سبحانه وتعالى- عن عبده ورسوله إبراهيم -عليه السلام- أنه دعا ربه قائلاً: رَبِّ أي يا ربي أرني كيف تحيي الموتى، قيل أنه طلب ذلك لتكون رؤية بصرية هذه تكون مضافة إلى الرؤية العلمية التي يعلمها، فلا شك أن إبراهيم يعلم في قرار قلبه أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحيي الموتى –سبحانه وتعالى- ولكنه أراد أن يرى هذا رؤية بصرية، قال أهل العلم: إنما أراد ذلك ليصل إلى عين اليقين.
قال تبارك وتعالى قال: أي مجيبا عبده إبراهيم عليه السلام أنه طلب منه هذا الطلب ودعاه هذا الدعاء{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أو لم تؤمن أن الله تبارك وتعالى علي كل شيء قدير وأنه يحيي الموتى { قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فأخبر ربه –سبحانه وتعالى- بأنه دعى ربه قائلاً: بلى إني أعلم أنك تحي الموتى ولكن ليطمئن قلبي؛ أراد أن يصل إلى طمأنينة القلب وهي عين اليقين أن يرى هذا بأم عينه، فيطلعه الله تبارك وتعالى على صورة من صور إحياء الله تبارك وتعالى للموتى، ويرى ذلك بعيني رأسه.
قال الله تبارك وتعالى له: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} من الطير قيل أنها أربعة مختلفة من الطيور، وقيل أنها ديك وحمامة وطاووس وغراب أو غير ذلك، أخذ أربعة طيور مختلفة الأجناس الأنواع والأشكال، قال الله تبارك وتعالى: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} صرهن أي اجمعهن إليك؛ وهذا ليتأكد من كل طير من هذه الطيور من حيث شكله وريشه وحجمه و ليتعرف عليهن تعرفاً كاملاً، قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} صرهن إليك اذبحهن، دقهن، اخلط لحومها بعظامها بريشها بدمها، اخلط كل هذه الطيور بعضها ببعض بعد أن تذبحها وتقطعها علي هذا النحو، ، فرقها في أربعة جبال بعيدة واجعل على كل رأس جبل قطعة من هذه من هذا المجموع من هذا الخليط.
قال تعالى: { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ادع هذه الطيور مرة ثانية يأتينك؛ سعيا تأتي هذه الطيور إليك وهي تسعى، { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فأراه الله تبارك وتعالى هذه الآية العظيمة من دلائل قدرته ورآها في التو والحال، وكيف أن الله تبارك وتعالى في التو والحال وفي اللحظة بعد أن اختلطت دماءه وعظامه وريشه وأجساد هذه الطيور بعضها ببعض بيد إبراهيم ثم وزعها وفرقها قيل علي أربعة جبال من جبال مكة ثم وقف في وسط هذه الجبال وناداها فأتته تسعي في التو والحال، وطبعاً هو كان قد رآه بدقة رأى أنها الطيور التي كانت قبل في يديه قبل دقائق في يديه قد عجُنت وخلطت علي هذا النحو أحياها الله تبارك وتعالى في التو واللحظة { واعلم أن الله عزيز} غالب –سبحانه وتعالى- {حكيم } يضع كل أمر في نصابه.
وقد جاء في الحديث قال النبي صلي الله عليه وسلم نبينا محمد صلوات الله والسلام عليه: «رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلي ركن شديد ولو مكثت في السجن ما مكثت يوسف لأجبت الداعي ونحن أولى بالشك من إبراهيم"، فسمى النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر من إبراهيم شكا، وقد قال أهل العلم: إنه ليس الشك الذي يستوي فيه الأمران، بل هو مؤمن بالله تبارك وتعالى مؤمن بقدرته –جلَّ وعلا- علي إحياء الموتى كما قال: { بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال ألم تؤمن أي الإيمان الكامل قال بأن الله تبارك وتعالى يحيي الموتى {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} فأراد أن يصل إلي عين اليقين أو حق القين.
هذه ثلاثة أمثال متوالية ضربها الله تبارك وتعالى كلها لقدرته علي إحياء الموتى –سبحانه وتعالى-.
المثال الأول: مثل من حاج إبراهيم في ربه وأثبت له بالبرهان أن الله هو القادر المتصرف في خلقه –سبحانه وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ........} [البقرة:258] فالذي يأتي بالشمس من المشرق هو الذي يحيي ويميت –سبحانه وتعالى-.
والمثل الثاني: مثل العزير {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
ثم مثل إبراهيم وهذه الطيور التي صنع بها هذا وأحياها الله -تبارك وتعالى- بين يديه، ثلاثة أمثلة ساقها الله -تبارك وتعالى- متوالية أمثلة واقعة لبيان قدرته –سبحانه وتعالى- علي إحياء الموتى، ولا شك أن البعث إنما هو كقول الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[لقمان:28]، فمن أحيا نفسا واحدة بعد الموت قادر على إحياء كل نفس -سبحانه وتعالى-.
ضربُ هذه الأمثلة جاء في بين آيات الأمر بالإنفاق وفضل الإنفاق والصورة الصحيحة للإنفاق في سبيل الله، فقد بدء الله تبارك وتعالى آية النفقة في هذه السورة سورة البقرة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] ثم أتت آية الكرسي التي يبين الله تبارك وتعالى صفاته العلا –سبحانه وتعالى- وما يتصف به، ثم أتت هذه لأمثال الثلاثة وهذه الوقائع الثلاثة لبيان قدرته –سبحانه وتعالى- علي أحياء الموت.
ثم استأنف الله تبارك وتعالى بعد ذلك الحديث عن الإنفاق فضرب مثلاً لمضاعفة ثواب من ينفق في سبيل الله فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ........}[البقرة:261] إلي آخر الآية. ما الحكمة في هذا؟
ما الحكمة في هذا السياق في ذكر الله -تبارك وتعالى- لثلاثة أمثال عظيمة يبين الله تبارك وتعالى فيها قدرته علي إحياء الموتى، قيل إن المنفق في سبيل الله هذا ينفق تبرعاً بغير عوض موجود في الدنيا، العوض في الآخرة، وإذا كان المنفق مؤمنا بعوض الآخرة فإنه ينفق وهو مؤمن بالنفقة مقراً بالنفقة بأن الله -تبارك وتعالى- سيرد له ثواب نفقته وهذا لا يتأتى إلا بالإيمان بالبعث والإيمان بالنشور والإيمان بيوم القيامة، والله تبارك وتعالى يثبت هذا المعني لأهل الإيمان في أن البعث آت لا محالة وأن الله -تبارك وتعالى- قادر علي إحياء الموتى، وأنت أيها المنفق يا من تنفق مالك في سبيل الله فاعلم يقيناً أنك واصل إلي ثواب عملك عند الله تبارك وتعالى وأنه لا يضيع، فإن الله سيبعث الناس وسيحاسبهم وسيجازي كل إنسان علي عمله، فلن تموت نفقتك لن تموت نفقة المنفقين بدليل أن الله -تبارك وتعالى- سيحيي العباد للقيام بين يديه -جلَّ وعلا-، ثم تبدأ هنا الآيات بعد ذلك ضرب الله تبارك وتعالى أربعة أمثال للنفقة.
أول مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- هو مثل تضاعف الأجر والثواب عنده –سبحانه وتعالى- وضرب مثلا بما يشاهده الإنسان في هذه الأرض وهو بالزرع فقال –جلَّ وعلا- { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}، حبة كحبة قمح أو كحبة أرز تغرز في الأرض فتخرج شجيرة يكون لها عِيدان سبعة عيدان، في كل عود سنبلة في كل سنبلة يكون مائة حبة فإذن الزارع عندما أنفق ووضع في الأرض حبة واحدة لكنه حصد سبعمائة حبة، ضرب الله تبارك وتعالى هذا المثل لبيان أن دينارا في سبيل الله معناه كسبعمائة دينار ليس في الحصاد ولكن في أصل النفقة أي أن الله تبارك وتعالى يثيبه كانه أنفق سبعمائة دينار.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لمن يشاء} أي فوق السبعمائة وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ واسع في ذاته –سبحانه وتعالى- وكذلك في ملكه وفي عطائه –سبحانه وتعالى-، عطاء الله واسع ولا ينقصه ينقص ما عنده عطاء –سبحانه وتعالى-، عليم بعباده فالله عليم بعباده، فإذا كان العبد قد أنفق بشروط ومواصفات النفقة المتقبلة فإن الله يعلم ذلك ولا يضيعه –سبحانه وتعالى-، أما كون عطاء الله تبارك وتعالى واسع ولا يحد فهذا قد صوره الحديث الإلهي الذي يقوله الله تبارك وتعالى فيه: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا في صعيد واحد وسألني كل مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيء إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل في البحر»، فلو أن الله أعطى كل خلقه من أول ما خلقهم إلي آخرهم أنسهم وجنهم، كلهم وقفوا في صعيد واحد في وقت واحد وكل تمني ما يتمناه وأعطاه الله في التو واللحظة فإنه لا ينقص شيء من ما عند الله تبارك وتعالي فالله واسع معطٍ فعندما يقول الله تبارك وتعالى: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } أي نفقته فهذا من سعة عطائه وبذله –سبحانه وتعالى-.
وكل شيء يأخذ صاحبه عليه أجرًا محدودًا يكتب له وقت العمل إلا النفقة فإنها لا تزال تربو عند الله تبارك وتعالى إلي آخر الدهر ثم يعطيه الله -تبارك وتعالى- ثواب ذلك كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه»، الفلو هو المهر الصغير ولد الفرس فأكثر ما يعتنى به من صغار الحيوان هو المهر الفلو رجاء مربحه ومكسبه، وأنه من أعظم حيوانات الزينة، فكيف العناية بصغار الخيل أعظم عناية، شبه الله تبارك وتعالى عنايته بصدقة العبد كعناية الناس بتربية صغار خيولهم، فيربيها الله تبارك وتعالى حتي كما جاء في الحديث: "حتى تكون التمرة الواحدة مثل الجبال"، ثم يأجره ويعطيه الله -تبارك وتعالى- أجره على ذلك، فهذا أول مثل ضربه الله تبارك وتعالى بالمنفق والمثل إنما هو صورة حسية مشاهدة تُضرب لأمر معنوي، وذلك أن الأمور الحسية أقرب إلي الفهم من الأمور المعقولة المعنوية، فثواب النفقة عند الله أمر غيبي علمي معنوي نفهمه بالمعني، الله ضربه مثل حسي مما نراه أمامنا في الحياة وهو مضاعفة الزرع الحبة الواحدة يزرعها الزارع فيحصد سبعمائة حبة أو أكثر أضعاف من ذلك.
ثم بين الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك صورة النفقة المتقبلة عنده –جلَّ وعلا- فقال: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة262]، فاشترط الله تبارك وتعالى عن النفقة المتقبلة عنده شرطين: الشرط الأول: قال: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِر فالذي يُعطى هذا الأجر هو الذي ينفق ماله في سبيل الله ومعني في سبيل الله أي لله –سبحانه وتعالى- وكذلك في الطريق الذي يحبه الله –جلَّ وعلا-، وسبيل الله إذا أطلق يعني الجهاد؛ إذا أطلق سبيل الله فهو الجهاد، وإن كان اللفظ أعم من هذا كما قال النبي: «الحج من سبيل الله»، فالحج من سبيل الله، و لا شك أن كل ما هو نفقة في طاعة وفي بر وفي إحسان وهو داخل في المعني العام لسبيل الله ولكن إذا أطلق هذا المعنى في القرآن فيعني الجهاد.
{ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى........}[البقرة:262] لا يتبعون هذه النفقة بمعني أنهم لا ينفقون، ثم بعد ذلك يتبعون ما أنفقوا المن، والمن هو أن يذكر الإنسان صدقته علي وجه المدح نفسه فيقول فعلت وفعلت فهذا هو المن، والمنان بغيض عند الله تبارك وتعالى: «ثلاثة لا يكلمهم الله تعال ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قيل من يا رسول الله؟ قال المنفق سلعته بالحلف الكاذب والمسبل والمنان» فالمنان الذي يمتن بعمله يقول فعلت وفعلت يمدح نفسه عند الناس بها { ولا أذى} لمن تصدق عليه وأنفق عليه لا يؤذيه يقول له فعلت لك وأعطيتك و وصنعت لك كما هو فعل هؤلاء الجهال ممن يرون لأنفسهم فضلاً علي من أنفقوا وتصدقوا عليهم فيأخذونهم إما أن يذكروا هذا للناس يقول فعلت لفلان أو فعلت يؤذيه بهذا قد تكون صدقته سراً فيجعلها علانية قد يحتقره يصغره فيؤذيه.
قال –جلَّ وعلا- من تصدق وكان في سبيل الله ولم يتبع الصدقة بمن ولا أذى قال –جلَّ وعلا-لَهُمْ { أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقوله عند ربهم معناه لا يضيع لأن إذا كان شيء عند الله فلا يضيع، ثم يقوله لهم ما قاله عند الله بل قال عند ربهم ليشعرهم بأنهم قريبون إلى الله -تبارك وتعالى- هو ربهم الذي يتقبل عملهم ويثيبهم ويأخذه علي ذلك.
{ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في المستقبل هذا نفي عن كل مشقة، ضياع أي شيء يخافون منه مستقبلاً { ولا هم يحزنون} فيما خلفوه وفيما وراء ظهورهم، فلا هم يخافون في مستقبل الأمر ولا فيما هو سابق الأمر بل هذا أمان مطلق، فالله يأمنهم أمانة مطلقاً في المستقبل والماضي ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هؤلاء هم الذين كتب الله -تبارك وتعالى- لهم ثواب عملهم الصالح النفقة في سبيل الله –جلَّ وعلا-، ثم وجه الله -تبارك وتعالى- نظر عباده إلى أنه من أحسن بنوع من الإحسان القولي إلي السائل أفضل من أن ينفق نفقة كبيرة ثم يتبعها بالمن والأذى.
قال –جلَّ وعلا-: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}[البقرة:263] قول معروف للسائل أو الفقير إذا قيل له قول معروف كأن يقول له: ليس عندي الآن، يسر الله لك الأمر، أعطالك الله من غيري، فك الله كربتك، فيدعو له يوجهه إلي خير يطيب خاطره بكلمة { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ، إما مغفرة عن السائل وإلحاح وربما إن السائل قد يلح على المسئول ويغفر ذنبه هذا، أو مغفرة عن المسيء إذا غفرت لمسيء أياً كان، فمن وقع منه هاتين الحسنتين أن يقول قولاً معروفاً لمن سأله أو يغفر ذنباً لمن أساء إليه على وجه العموم أو ذنباً للسائل علي وجه الخصوص، قال –جلَّ وعلا-{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} خير من أن تتصدق علي السائل ثم تتبع صدقتك هذه بالمن والأذى وتعطيه ثم تقول له آذيتنا، فت علينا، أنت ملحاح، فأنت الآن لو خاطبته بكلام طيب وصرفته خير من أن تعطيه ثم بعد ذلك تتبع صدقتك مناً وأذى{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}
قال –جلَّ وعلا-:{ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }هذا التعقيب شديد جداً وذلك أن قول الله غتي لأن الله يضع نفسه –سبحانه وتعالى- موضع السائل، أنت تعطي لله أنت تعطي لله فالذي يسألك لله وأنت إذا وضعت صدقة عند الفقير وضعتها في الحقيقة عند الرب الغني –سبحانه وتعالى- وقد جاء في الحديث «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل» فهنا قال الله تبارك وتعالى: الله غني عن صدقتك أيها المؤذي يا من آذيت من سألك، الله غني عن ذلك في الحقيقة أوقعت الأذى هنا الأذى هنا إما نلت به الرب –جلَّ وعلا- واعلم أنك لم تنل به الفقير وذلك أنه سألك لله وأنت إذا أعطيته لله –سبحانه وتعالى-.
{ والله غني حليم} لا يعجل العقوبة وإلا وهذا من يستحق العقوبة هذا من أذي من يستحق العقوبة لأنه من سأله لله وكذلك أنت يجب أن تعطي لله تعطي من مال الله –سبحانه وتعالى- والله هو الذي شرع ذلك وكتب في مالك حقاً للسائل والمحروم كما قال –جلَّ وعلا- {وَالذين فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ معلوم للسائل والمحروم} [المعارج24]، فهذا حق عليك، فهو إذا أخذ منك أخذ منك حق الله فحق الفقير في مال الغني هو حق الله تبارك وتعالى في مال الأغنياء، فإذا أمسكته عن الفقير فالحقيقة أنت أمسكت حق الله –سبحانه وتعالى-، وكأنك أمسكته عن الله الذي أعطاك لذلك قال الله تبارك وتعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}[البقرة:263] غني عنك أيها العبد الذي بخلت بمالك أو أعطيت وآذيت لو أراد الله تبارك وتعالى أن يعجل لك العقوبة لعجل لك لكنه حليم –سبحانه وتعالى-.فأقول ختام هذه الآية في أمر عظيم جداً من بيان إثم وجريمة من يؤذي بعد صدقته ومن يمنع رفده وإحسان لله تبارك وتعالى عن وجه.
ثم بعد ذلك وعد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين فقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:264]، هذا أمر وتوجيه من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين يقول لهم –جلَّ وعلا- { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} ينهى الله عباده المؤمنين أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى، إذا تصدقت فإياك أن تحبط وتبطل ثواب الصدقات بالمن، أن تمدح نفسك أن تذكر صدقتك علي وجه الاستكثار والاستعظام وأنت ممتن بذلك، إما علي ربك –سبحانه وتعالى- وإما علي الناس تفتخر لهم بما فعلت، ولا بالأذى بأن تتوجه بأي صورة من صور الأذى إلى من تصدقت عليه.
أخبر –سبحانه وتعالى- بأن هذا قد أطبل نفقته وأن مثله{ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} جعل الله تبارك وتعالى الممتن بعد الصدقة والمؤذي بعد الصدقة مثله في إبطال صدقته كمثل من ينفق ابتداء مرائياً، لا ينبعث إلي النفقة ولا يتصدق إلا وهو ما يريد بها وجه الله وإنما يريد بها المدحة، وأن ينظر الناس إلي صدقته فهذا الذي يتوجه للصدقة توجه لها بنية رئاء هي ساقطة هذه باطلة حابطة منذ بدئها، وكذلك الذي ينفق الذي وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر { كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }فالذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر صدقته باطلة وإن تصدق بما تصدق، بل كل عمل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر باطل لا يقبله الله تبارك وتعالى والله لا يقبل عمل إلا مع الإيمان، وفي حدث الصحيحين: عن أم عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه -وكان عبد الله بن جُدعان يذبح في الموسم كل يوم مائة من الأبل يطعمها وينفق- قال: لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين فلما كان لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه لا ينفعه ذلك عند الله.
أدركنا الوقت وفي هذا من الشرح والتفسير نرجعه إلى الحلقة التالية أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم من كل ذنب وأصلي على عبده ورسوله.