الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (750) - سورة المدثر 1-7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12] {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:14] {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15] {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17] {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18] {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22] {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23] {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26]، سورة المُدثِّر هي السورة الثانية نزولًا من القرآن الكريم؛ وهي التي أُرسِلَ بها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، يعني أصبح النبي بهذه السورة رسولًا إلى الناس -صلوات الله والسلام عليه-، قبلها سورة اقرأ وهي التي نُبِّئ بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يعني نبينا أصبح نبيًا من الله -تبارك وتعالى- باقرأ، فأول وحي أوحي إلى النبي وهو بغار حراء أتاه المَلَك وهو في الغار باقرأ، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1] {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4]، وهذي كانت نبوئته.

كان النبي لا يدري أولًا ما الذي جائه، ثم لمَّا رُعِب من هذا ورجع إلى أم المؤمنين خديجة -رضي الله تعالى عنها- قالت له أبشر؛ فوالله لا يُخزيك الله أبدًا، فإنك لتحمِل الكَل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، وأن مثله لا يُخزيه الله، لمَّا قال لها قد خشيت على نفسي؛ أي من الذي رآه، أن يكون الذي رآه من الجِن وهو في الغار، ثم ذهبت به إلى ورقة ابن نوفل -رضي الله تعالى عنه- وكان رجلًا قد عمي؛ وقرأ من التوراة ما شاء الله أن يقرأ، كان يقرأ بالكتاب العبراني، ثم قال له أي بُني اقرأ عليّ، فقال له جائني كذا وكذا وقرأ عليه اقرأ، فقال له إن هذا والذي جاء به موسى ينبع من مِشكاة واحدة؛ وأخبره أنه سيكون هو نبي هذه الأمة، وقال له ليتني أكون فيها جذَعًا إذ يُخرِجُك قومك، قال أومُخرِجي هم؟ قال يا بُني إنه لم يأتِ أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي، ثم إن النبي -صلوات الله والسلام عليه- مكث على هذا وقت، ثم رأى المَلَك الذي جائه، يقول فإذا المَلَك الذي رأتيه بحراء أول مرة رأيته على كرسي بين السماء والأرض قد سدَّ الأُفُق؛ كلما نظرت وجدته أمامي، وهذه هي المرة الأولى التي يرى النبي جبريل فيها على صورته التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها، والمرة الثانية التي رآه فيها كان في السماء في الإسراء.

ثم بعد ذلك؛ بعد أن استلبث الوحي مدة، جاء الوحي على النبي -صل الله عليه وسلم- بهذه السورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، فحمَّلَه الله -تبارك وتعالى- أمانة التبليغ؛ أن يُبلِّغ الناس، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1]، خاطَبَه الله -تبارك وتعالى- بهذا الوصف؛ المُدثِّر، وقال أهل العِلم أن مناسبة هذا أن النبي -صل الله عليه وسلم- عندما رُعِب من رؤية المَلَك وذهب إلى زوجه خديجة -رضي الله تعالى عنها- قال دثِّروني دثِّروني أو زمِّلوني زمِّلوني، والدِّثار هو ما يوضع على الجسم من فوق الثياب، فما يلي الجسم يُسمَّى شِعار وما يُغطِّي هذا ويكون فوق الشِعار يُسمَّى الدِّثار، والإنسان يتدثَّر عند النوم ونحو ذلك أو في حال الخوف، فـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1]، كأنه نداء من الله -تبارك وتعالى- للرسول ووصْف له بهذا، أنك خلاص؛ قد أُنِيط بك أمر عظيم جدًا، وليس هناك وقت للتدثُّر ولا للنوم، وإنما {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، قُم؛ القيام بالأمر هو الجِد فيه والاجتهاد فيه، يعني اجتهد في هذا الأمر والنِّذارة، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أرسَل رسوله نذيرًا إلى العالمين، وذكَرَ الله -تبارك وتعالى- النِّذارة قبل أي عمل للرسول -صلوات الله والسلام عليه-، وعمل النبي -صل الله عليه وسلم- ورسالته نِذارة، وبِشارة، وتعليم، وتزكية، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2]، هذا من عمل الرسول؛ وعلم الرسول هو الحُكْم بينهم، هو إرشادهم وبيانهم، لكن أول عمل يؤدِّيه هو النِّذارة، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، وذلك أن النِّذارة هي أهم ما في الرسالة؛ أهم ما في الرسالة النِّذارة، والنِّذارة هي الإخبار بما يُخيف، وذلك أن العقوبة التي تنتظر المُكذِّبين عقوبة شديدة، والله -تبارك وتعالى- قد جعل للعباد موعِد لن يُخلَف هو يوم القيامة، وأن كل مَن أتاه وقد ردَّ الرسالة؛ ولم يستجيب لأمر الله -تبارك وتعالى-، فإنه ينتظره العذاب الشديد؛ عذاب النار الذي لا ينفَك عنه قط، ويبقى فيه بقاءً سرمديًا، وهذا هو أعظم مخوف وأعظم الشرور، لا شر يمكن أن يلقاه الإنسان أعظم من النار -عياذًا بالله- ومن العذاب، فلذلك كان أهم عمل للرسول هو النِّذارة؛ أن يُنذِرَ الناس ويُخوِّفَهم عذاب الله -تبارك وتعالى-، البِشارة تأتي بعد ذلك، والتعليم يأتي كله بعد ذلك، لكن هذا هو الأمر الأهم، والأعلى، والأشرف.

فالنبي هو النذير، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الأحزاب:45] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2] {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3]، فبدأ الله -تبارك وتعالى- هنا بالنِّذارة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}، ولذلك كانت أول خُطبَة خَطَبها النبي -صلوات الله والسلام عليه- في قريش بعد أن نادى بطون قريش كلها؛ ووقف على الصفا -صلوات الله والسلام عليه-، وقال لهم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكنتم مُصدِّقي؟ قالوا ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فهذا الأمر الأهم والأعلى؛ الإنذار، إنذار العالمين لتخويفهم من عقوبة الله -تبارك وتعالى- التي تنتظر المُكذِّبين، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، أنذِر الناس يعني خوِّفهم عذاب الله -تبارك وتعالى- الذي ينتظر مَن يُكذِّب برسالة الله -تبارك وتعالى-، فهذا هو الأمر الأول.

ثم قال -جل وعلا- {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3]، كبِّر ربك، وذكَرَ هنا المعمول قبل العامل لبيان أهمية هذا وحصره في تكبير الرب -تبارك وتعالى-، كبِّر الله -تبارك وتعالى- اعتقادًا وإيمانًا، وذلك أن الله هو الكبير المُتعال -سبحانه وتعالى-؛ العلي العظيم، الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه، فالله -تبارك وتعالى- أكبر من كل كبير، كل خلْق الله -تبارك وتعالى- بالنسبة إلى الله -تبارك وتعالى- كخردلة في يد أحدِنا، كما في حديث ابن عباس أو في قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- «ما السماوات السبع والأراضين في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم»، ومِصداق هذا في كتاب الله -تبارك وتعالى- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، وقال {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، يعني كما يطوي أحدُنا السجل؛ الورقة، فالله يطوي السماء -سبحانه وتعالى-، وقد جاء في الحديث «الله -تبارك وتعالى- يطوي السماء بيمينه؛ ويجعل السماوات كلها على إصبع واحد، والأراضين على إصبع، الخلائق على إصبع، والماء والشجر والثرى كله على إصبع، ثم يُحرِّكَهُنَّ ويقول أنا الملِك؛ أي ملوك الأرض؟»، فالله -تبارك وتعالى- هو الملِك العظيم الذي لا أعظم منه؛ ولا أجل منه، ولا أكبر منه، وخلْقُه كلهم في قبضته -سبحانه وتعالى-، وكل خلْقِه يخافه، كل خلْقِه ممَن يعلمه ويؤمن به يخافه، وأعظم الخلْق قوة وشدة ممَن أخبرنا الله -تبارك وتعالى- الملائكة الشِداد، لكنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، والسماوات والشِداد لكن الله يقول {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، من مخافة الله -تبارك وتعالى-، {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}، فالله هو العلي العظيم -سبحانه وتعالى-، الله هو الرب العلي العظيم؛ الذي لا أكبر منه، ولا أجل منه، ولا أعظم منه، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3]، اعتقد هذا، يعني آمن بأن ربك هو الكبير المُتعال -سبحانه وتعالى- وكبِّره تكبيرًا، تكبير باللسان؛ الله أكبر، وبالقلب اعتقادًا، ويكون تعظيم الرب -تبارك وتعالى- وتكبيره في النفس دائمًا، وكذلك ما ينطبع على العمل من تكبير الله -تبارك وتعالى-.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، الثياب؛ ما يُلبَس، فطهِّر؛ أي من النَجَس والدَنَس، وهذا في المعنى الظاهر أمر بتطهير الثوب؛ ما يلبَسَه الإنسان، وهذا مطلوب؛ فإن الله -تبارك وتعالى- نظيف يحب النظافة، ونظافة الثوب من الكمال؛ ومن الخُلُق الكريم، والسيما الحسنة، وقد يُطلَق كذلك طهارة الثوب ويُقصَد الطهارة المعنوية؛ اللي هي طهارة السيرة والسريرة، كما تقول العرب ((فلان نقي الذيل أو طاهر الذيل))، يعني أنه بعيد عن الإثم والفواحش، ولا شك أن هذا وهذا المعنى الظاهر مطلوب؛ فإن طهارة الثياب مطلوبة، وهي شرط في صحة الصلاة، وبعد الصلاة مطلوب من المسلم أن يبتعِد عن النجاسات كلها؛ أن يكون بعيد عن النَجَس وعن القَذَر، وقد كان النبي –صلوات الله والسلام عليه- في أكمل أحوال الطهارة، والنظافة، والرائحة الطيبة، كما في حديث أنس ابن مالِك -رضي الله تعالى عنه- «خدمت رسول الله -صل الله عليه وسلم- عشر سنين فما شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله -صل الله عليه وسلم-، وما لامست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله -صل الله عليه وسلم-»، فالنبي -صل الله عليه وسلم- كان المثال في طهارة الظاهر وطهارة الباطن، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، أمر من الله -تبارك وتعالى- بتطهير ثيابه.

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]، الرُّجز؛ الأصنام وكل ما يحتَف بها من اعتقاد وسعي، فكل ما هو محيط بها فهو رِجز، فهو رُجز ورِجز؛ والرِّجز كذلك هو العذاب، والعذاب سُمِّي رِجز لأن هذا مصدره، والأصنام كذلك هي مصدر العذاب، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]، ابتعد، يعني ابتعد عن الأصنام وكل ما يُلابِسُها من قول أو فعل، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6]، لا تمنُن بعملك، والمَن بالعمل هو التمدُّح به؛ وذِكره على وجه الافتخار والتفضُّل، تستكثِر يعني تستكثِر عملك على الله -تبارك وتعالى-، بل كُن متواضِعًا لله -تبارك وتعالى-، وضد هذا هو الخشية، والإنابة، والتواضع لله -تبارك وتعالى-؛ والاستكانة له، وإخلاص العمل له -سبحانه وتعالى-، {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، اصبر لربك يعني اجعل صبرك لله -تبارك وتعالى-، وهذه الآية قد خُتِمَ بها هذه المواعِظ والأوامر الربانية التي يأمر الله -تبارك وتعالى- بها رسوله وهو يُحمِّله القيام برسالته -سبحانه وتعالى- للناس، فخُتِمَت هذه بالصبر {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، وذلك أن الصبر هو العمود الفقري لكل العبادة، فإن عبادة الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تقوم إلا بالصبر؛ فالصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على الأحداث، والصبر على الفتَن؛ والابتلاءات، والاختبارات التي يبتلي الله -تبارك وتعالى- بها عباده، وكل هذا من أنواع العبادة، فمن العبادة طاعة الله -تبارك وتعالى- في ما أمَرَ، وكل الطاعات تحتاج إلى صبر، فالصلاة التي هي أشرفها وأعلاها لا يمكن أن يؤديها الإنسان بصورة صحيحة إلا بالصبر عليها، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:132]، فالمحافظة على طهارة الصلاة؛ وعلى إقامتها، وعلى أدائها في أوقاتها والمداومة عليها، كل هذا يحتاج إلى صبر، والصلاة يقول الله -تبارك وتعالى- فيها {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]، وإنها؛ الصلاة، لكبيرة يعني القيام بها؛ والحفاظ عليها، والاستمرار عليها، إلا على الخاشعين؛ والخشوع لا يكون إلا مع صبر، والصوم من الصبر، والحج من الصبر، الحج يحتاج إلى صبر حتى يؤدى على وجهه الصحيح لأنه مخافة للإلف؛ وللعادة، وفِراق للأوطان، وتحمُّل للمشاق، كل هذا يحتاج إلى صبر؛ وهذا في الطاعات، والجهاد صبر؛ لا يمكن أن يكون الإنسان مُجاهِدًا إلا مع الصبر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200]، في الجهاد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:45]، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، وقال {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فلا يمكن أن يكون جهاد ونصر إلا مع الصبر، فالصبر هو الأساس في كل الطاعات.

ثم الصبر كذلك عن المعاصي، فلا يمكن لإنسان أن يترك المعاصي إلا بأن يصبر؛ وأن يفطِم نفسه عن الحرام، الصبر على الأحداث؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يبتلي عباده -سبحانه وتعالى- بالخير والشر، كما قال -تبارك وتعالى- {........ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، وقال {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، فالله أقسَم بأنه سيبتلي عباده -سبحانه وتعالى- بهذا، وقال على المنافقين {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126]، فهذه الفتَن، والأحداث المستمرة، وهذه الابتلاءات؛ هذا عمل مستمر، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2] {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدْر دينه، ونبينا -صلوات الله والسلام عليه- أمثل الناس وأعلاهم منزلة عند الله -تبارك وتعالى-؛ وقد ابتُلي بالابتلاءات العظيمة، فأين كانت حياته قبل البعثة؟ كانت حياته هادئة؛ وادِعة، الناس يحترمونه ويُقدِّرونه ويُسمُّونه الصادق والأمين؛ وهو في محِل التبجيل ومحِل الراحة، يعني لا هموم ولا تبِعات، ولكن بعد أن تحمَّل الرسالة جائت التبِعات الشديدة، فهؤلاء القوم الذين كان عندهم هو محِل ترحيب، ومحِل تبجيل، ومحِل إجلال، أصبح هو في محِل السب؛ والإهانة، والشتم، أصبح عندهم هو الكذَّاب؛ وهو الذي له أهداف، {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، وأصبح مجنون؛ يُسمُّونه المجنون، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52]، وأصبح عندهم هو المُبغَّض، هذا عمرو ابن العاص يقول مرَّ عليَّ ثلاث حالات؛ حاله منها كان رسول الله أبغض الناس إليه، وتمنَّيت أني لو تمكَّنت منه فقتلته، يقول ثم بعد ذلك لمَّا أدخل الله الإسلام في قلبي كان رسول الله أحب النار إلي؛ يعني أصبح أحب الناس إلي، يقول بعد ذلك فوالله لو طُلِبَ مِنِّي أن أصِفَه لا استطعت؛ فإن ما ملأت عيني منه قط، يقول ما استطعت أن أملأ عيني منه قط بعد هذا، فانظر كيف كان حال الكفار مع النبي؛ هذا واحد يقول ما أبغض أهل الأرض إلي، يقول وأتمنَّى أن أتمكَّنَ منه فأقتله، فتحوَّل أمر النبي -صل الله عليه وسلم- مع الكفار الأولون بعد أن كان في محِل التبجيل والإكرام؛ أصبح في محِل الكُره لهم، والمَقت، والاستهزاء به، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41] {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:51]، وبدأ التآمر عليه من كل مكان، ويلقى الأذى المعنويى من السب والشتم؛ والأذى الحِسِّي كذلك في بدنه -صلوات الله والسلام عليه-.

فما لاقاه النبي -صل الله عليه وسلم- من مُشركي قريش كان أمرًا عظيمًا جدًا، ما كانوا يتركونه ليسجد لله -تبارك وتعالى-، كان يأتي ليُصلِّي حول الكعبة فيقول له المجرم أبو جهل لئن رأيتك ساجِدًا لأطأنَّ رقبتك، يقول له لأطأنَّ على رقبتك لو رأيتك ساجِد في هذا المكان، ونهاه عن الصلاة؛ يقول له ما تُصلِّي عند الكعبة، ويُسمُّوه الصابئ، والله -تبارك وتعالى- يقول {عَبْدًا إِذَا صَلَّى}[العلق:10] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى}[العلق:11] {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}[العلق:12] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[العلق:13] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:14] {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}[العلق:15] {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}[العلق:16] {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}[العلق:17] {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق:18]، وجاء هذا المجرم كذلك والنبي ساجِد وأراد أن يفعل هذا، فلمَّا جاء وجد جماعته أنه رجع القهقرة وامتقع لونه، فقيل له ما بك؟ أن قُلت أنك ستطأ رقبته، فقال والله لقد رأيت بيني وبينه فحل من الإبل فاتحًا فاه؛ لو تقدَّمت لأكلني، فالشاهد من كل هذا أن النبي -صل الله عليه وسلم- تعرَّض إلى حِمْل ثقيل وابتلاءات عظيمة؛ وهو أشد الناس بلاءً، هذا ابتلاه في مكة وأما الابتلاء في المدينة فقد كان أشد من هذا؛ مما لاقاه من المنافقين، ومن الحروب المستمرة، وتقول أم المؤمنين عائشة –رضي الله تعالى عنها- عن يوم أُحُد «يا رسول الله هل مرَّ عليك يوم أشد من هذا؟»، من يوم أُحُد، ويوم أُحُد النبي يقول «ما وقفت موقفًا أغيظ لي من هذا»، بعد أن قُتِلَ سبعون من أصحابه وقُتِلَ عمه حمزة -رضي الله تعالى عنه-؛ ومُثِّلَ ببدنه أشد تمثيل، تقول له «هل مرَّ عليك يوم أشد من هذا؟ فقال لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت يوم الطائف؛ يوم عرضت نفسي على أبناء عبد يا ليل فردوا عليَّ ردًّا سيئًا»، بماذا ردُّوا عليه؟ واح يقول له أنت؛ أما وجد الله غيرك ليُرسِلَه؟ والثاني يقول له أنا والله أمرط أستار الكعبة إن كان الله قد أرسلك، والثالث يقول له والله لا أُكلِّمُك؛ لئن كُنت صادقًا فأنت أعظم من أن أُكلِّمك، وإن كُنت كاذبًا فأنت أحقَر من أن أُكلِّمَك، بمثل هذا يُخاطَب النبي -صل الله عليه وسلم- وقد ذهَبَ لهم من مكة إلى الطائف على قدميه -صل الله عليه وسلم-؛ وكان وحيدًا، لم يكُن معه من أصحابه أحد في هذه الرحلة الطويلة -صلوات الله والسلام عليه-، لم يضع الله -تبارك وتعالى- له كنز من المال يُنفِقَ منه حتى يذهب؛ وذهَب.

يقول النبي خرجت من عندهم مهمومًا، والنبي ذهب فقط يقول لهم احموني حتى أُبلِّغ رسالة ربي، أنا رسول من الله -تبارك وتعالى- فاحموني، يطلب الحماية؛ يطلبها وعند العرب يطلبها أي شخص فيجد مَن يحميه، أي شخص مهما كان إذا ذهب إلى سيد قوم وقال له أنا في حماك أو أنا في جوارك، كان يقول له أحميك؛ ويضع كل امكاناته، وأهله، وماله في سبيل هذه الحماية، كانوا يرَون أن رد المُستجير والذي يطلب الحماية أمر عظيم جدًا مما لا يليق ومن الخساسة ألا يقبل المُستجير، لكن هؤلاء الأخساس المجرمون يأتيهم النبي -صل الله عليه وسلم- من مكة ويقول لهم احموني حتى أُبلِّغ رسالة ربي، فقط الحماية فيردوا عليه هذا الرد السيئ، الشاهد أن ما ينتظر النبي من الأمور والشدة أمر عظيم، لذلك الله -تبارك وتعالى- هنا يقول له في البداية {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، اصبر لربك وذلك لأنه سيتحمَّل حِمْل عظيم وثِقَل هائل، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، فهذه سِتة أوامِر ووصايا من الله -تبارك وتعالى- في بداية تكليف النبي بالرسالة، {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، أول شيء القيام والنِّذارة، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]، كل الرُّجز؛ الأصنام وكل الزور، كل هذا الكذب اتركه؛ فاهجُر، {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، الطريق طويل فاصبر لربك.

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12] {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13]، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8]، الناقور هو الصور، ونُقِر؛ النقر هو القرع والضرب، فالنفخ في هذا الناقور والضرب فيه الذي يقوم به إسرافيل -عليه السلام- إيذان بيوم القيامة، فيُنفَخ فيه نفختان؛ النفخة الأولى هي التي ينفرِط بها عِقد هذا النظام القائم كله، والنفخة الثانية هي التي يقوم فيها الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10].

سنعود -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قول هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.