الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (751) - سورة المدثر 1-7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12] {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:14] {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15] {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17] {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18] {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22] {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23] {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27] {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر:29] {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30]، سورة المُدثِّر هي السورة التي أٌرسِلَ بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ أصبح بها رسولًا، خاطَبَ الله -تبارك وتعالى- رسوله في أول السورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1]، ثم أمَرَه الله -تبارك وتعالى- بسِتة أوامر هي عماد القيام بهذا الحِمْل العظيم الذي حُمِّلَه النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وهي أن يكون نذيرًا للعالمين، ورسولًا للبشر أجمعين -صلوات الله والسلام عليه-.

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، والقيام بالأمر؛ الاجتهاد والجِد فيه، قُم بأمر الرسالة، فأنذِر؛ أنذِر الناس وخوِّفهم عذاب الله -تبارك وتعالى-، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3]، عظِّمه فإن الله -تبارك وتعالى- هو الكبير العظيم؛ الذي لا أعظم منه ولا أكبر منه، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، الثياب الظاهرة وكذلك المعنى البلاغي وهو السريرة، فطهِّر ثيابك من كل دَنَس ومن كل قَذَر خاصة في الصلاة؛ فإنها لا تُقبَل إلا بالثياب الطاهرة، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6]، تمنُن بعملك، والمَن بالعمل هو التمدُّح به أو ذِكره لِمَن تفضَّلت عليه وأحسنت إليه؛ تقول فعلت وفعلت، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، فإن هذا الحِمْل وهذا العِبء؛ عِبء الرسالة يحتاج إلى صبر، فلا قيام للدين وعبادة الرب -تبارك وتعالى- إلا بالصبر؛ الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على الأحداث، والصبر على الابتلاءات، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، وقوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، أي ليكُن صبرك لله -تبارك وتعالى-، صبرك له يعني تُريد وجهه -سبحانه وتعالى- بهذا الصبر، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7].

{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8]، الناقور، والصور، والقرن، كما جاء في الحديث وطبعًا هذا أمر عِلمه عند الله -سبحانه وتعالى-، ولكن أخبر -سبحانه وتعالى- بأن القيامة تقوم بهذا؛ بأن يُنقَر في الناقور أو يُنفَخ في الصور، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، فإسرافيل -عليه السلام- الذي ينقر في هذا الناقور أو ينفخ في هذا الصور به يقوم يوم القيامة، فذلك؛ هذا إيذان وإقامة ليوم القيامة، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9]، هذا اليوم يوم عسير، لا شك أن هذا وصْف الله -تبارك وتعالى- بأن هذا اليوم عسير، وهذا هو طبيعة اليوم أولًا لطوله؛ فإنه خمسين ألف سنة كأيام الدنيا، ثم للأهوال التي تكون فيه، كما وصَفَ النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعض هذه الأهوال فقال «يقوم الناس لرب العالمين في رَشَحِهم إلى أنصاف آذانهم»، يعني في العَرَق إلى أنصاف الأُذُن، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- «تدنوا الشمس من الرؤوس حتى تكون قدْر ميل، فمن الناس مَن يأخذه العَرَق إلى كعبيه؛ ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ركبتيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى حِقوَيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلا ثدييه، ومنهم مَن يُلجِمه العَرَق، ومنهم مَن يغُطُّ في عرَقِه غطيطًا».

وأن هؤلاء الناس يمكثون ما شاء الله -تبارك وتعالى- أن يمكثوا، ثم يأتون يقول بعضهم لبعض ألا تروا ما نحن فيه؟ فيُلهَمون بأن يذهبوا إلى مَن يشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى-، وهذه الشفاعة إنما هي في آخر هذا اليوم؛ وهذه شفاعة دخول الجنة، «يأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر؛ خلَقَك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول لهم وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ ثم يقول لهم إن ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي فأكلت من الشجرة، اذهبوا إلى غيري؛ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى نوح، فيأتي الناس نوح -عليه السلام- فيقولون يا نوح أنت أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض؛ وأنت الذي سمَّاك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول إن ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي فدعوت على قومي»، أي أنه استعجل لهم العذاب وأن يستأصلهم الله –تبارك وتعالى- بالعذاب الماحِق، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27]، ثم يقول لهم نوح -عليه السلام- «نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتي الناس إبراهيم –عليه السلام- فيقولون يا إبراهيم أنت خليل الرحمن؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة؛ إن ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات»، قال -صل الله عليه وسلم- «ثِنتَين منها في ذات الله؛ وهذا قوله إني سقيم، وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وأما الكذبة الثالثة أنه قال عن زوجته أنها أختي، فيقول نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيره؛ اذهبوا إلى موسى، فيأتي الناس موسى -عليه السلام- يقولون يا موسى أنت كليم الله؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة؛ إن ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فقتلت نفسًا لم أُأمَر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى –عليه السلام- يقول له يا عيسى أنت روح الله وكلمته؛ ألقاها إلى مريم، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة؛ إن ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولا يذكر ذنبًا، ويقول اذهبوا إلى محمد؛ عبد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، يقول النبي فيأتي وبعد مدحِهم للنبي -صل الله عليه وسلم- وثنائهم عليه يقولون ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول أنا لها، يقول ثم أذهب فأسجد تحت عرش ربي ويُلهِمني الله -تبارك وتعالى- من تسبيحهه وتحميده أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك؛ وسَل تُعطى، واشفع تُشفَّع، فأقول يا ربِ أُمَّتي أُمَّتي، فيُقال أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب، ثم يقول النبي ثم يحُد لي ربي حدًّا فأُدخِلَهم الجنة»، ثم بعد ذلك تبدأ الشفاعة ودخول أهل الإيمان.

طبعًا هذا كله يوم عصيب والناس على هذا النحو؛ وقبله تهاويل لهذا اليوم، وهذا بالنسبة لكل أهل الإيمان أكبر من هذا وهو المرور على الصراط، وقد قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}[مريم:71] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[مريم:72]، والنبي يقول في وقت الصراط؛ يعني هذا الزمن الذي يكون من يوم القيامة وقت الصراط، يقول «هذا وقت لا يتكلَّم فيه أحد»، لا يستطيع أحد أن يتكلَّم فيه إلا الرُسُل، والناس تمر على الصراط هم أهل الإيمان؛ لا يمر الكفار على الصراط، الكفار إنما يؤخَذون إلى النار مباشرة، ولكن هذا الصراط إنما يمُر عليه أهل الإيمان ليسقط بعد ذلك مَن كانت له خيانة أو كان له معصية، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ثم يُضرَب الصراط على ظهر جهنم، قيل يا رسول الله ما الصراط؟ فقال النبي –صل الله عليه وسلم- ضحدٌ ومذَلَّة؛ عليه كلاليب وخطاطيف كشوك السعدان، ثم قال أتدرون ما شوك السعدان؟ إنها شوكة عُكيفاء تكون بنجد»، لكن لا يعلم قدْر هذا الكُلَّاب اللي هو على الصراط إلا الله -تبارك وتعالى-، يقول «هذه الكلاليب تخطِف الناس بأعمالهم، وأن الناس يمرُّون؛ منهم مَن يمُر كالطرف»، يعني كلمح البصر، «وكالبرق»، يعني كسرعة البرق، «وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مُسلَّم ومخدوش ناجٍ»، يُخدَش وينجوا، «ومكدوس على رأسه في جهنم»، ويقول النبي في هذه الكلاليب «تخطِف الناس بأعمالهم»، ويقول عندما يُضرَب الصراط «يقوم على جنبه؛ الأمانة تقوم في جانب، ويقوم في الجانب الأخر الرحِم»، الرحِم؛ صلة الرحِم، وفي الحديث «لمَّا خلَقَ الله –تبارك وتعالى- الرحِم قالت هذا مقام العائد بك من القطيعة، قال أما يسُرُّكي أنكي مَن وصَلَكي وصلته ومَن قطَعَكي قطعته؟»، فمَن قطع الرحِم قُطِع، والقطيعة هنا؛ قُطِع في النار، يُقطَع في النار -عياذًا بالله-؛ يُقطَع عن الجنة، والشخص الذي يُقتطَع هو الذي يسير مسارًا ثم يؤخَذ عن مساره ويُحال بينه وبين الوصول إلى غايته، فأهل الإيمان إذا كانوا في الجنة فإن منهم مَن يُقتطَع، فالذي يُقتطَع هذا ويُلقى في النار -عياذًا بالله- مَن قطَعَ رحِمَه، مَن قطَعَ رحِمَه قطَعَه الله -تبارك وتعالى-، والأمانة كذلك؛ مَن خان الأمانة ذهب.

فهذا يوم كذلك من الأيام الطويلة، هذا يوم طويل لكن في داخله أيام عظيمة، ومن الأيام العظيمة هذا الوقت الذي هو وقت الصراط، وقبل هذا من الأهوال العظيمة فيه ما فيه، هذا بالنسبة لأهل الإيمان فهذا يوم عسير، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى- في أهل الإيمان {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10]، فهو يوم عبوس؛ يوم قمطرير، وهذا على الجميع، هذه هي طبيعة هذا اليوم، والله -تبارك وتعالى- حذَّرَ عباده من هذا اليوم فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[الحج:1] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:2]، التخويف بهذا اليوم أمر عظيم، هنا الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هذا يوم عسير، قال إذا قام هذا اليوم فهذا يوم عسير، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9].

ثم قال -جل وعلا- {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، فقوله {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، وذلك أن لا أمل لهم في نجاة؛ ولا هم ينتظرون فرج من كُرُبات هذا اليوم... لا، إنما سيؤخَذون إلى النار -عياذًا بالله- وهم آيسون من رحمة الله -عز وجل-، أما المؤمن وإن اشتد عليه الكَرب في هذا اليوم فهناك أمل له، حتى مَن يسقط عن الصراط ويقع مع الكفار إلا أن الله -تبارك وتعالى- يُنقِذه ويُخرِجه بعد ذلك بشفاعة الشافعين؛ أو بشفاعة أرحم الراحمين -سبحانه وتعالى-، فله أمل في يوم من عمره بعد ذلك في أن يصِل إلى الجنة وإن كان يُقتطَع أحيانًا إلى مدة أن يشتد عليه الأمر، لذلك قال -جل وعلا- {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، العُسْر فيه دائم، أما أهل الإيمان فإن هذا اليوم وإن كان يوم عسير إلا أن هناك تسهيل بعد ذلك؛ يعني تسهيل لأهل الإيمان، وأنهم يُيسَّر لهم الأمر؛ فمنهم مَن يكون في ظِل الله -تبارك وتعالى-، «سبعة يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِل إلا ظَلُّه»، ما في ظِل إلا ما يُنشَئه الله -تبارك وتعالى- من ظِل لهذه الصفوة، وهؤلاء السبعة قال النبي -صل الله عليه وسلم- فيهم «إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصِب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدَّق أخفى حتى لا تعلم شِماله ما تُنفِق يمينه، ورجل ذكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه»، خاليًا يعني عن الناس؛ وهذا لا شك أنه يكون غير مُرائي، الذي يبكي من خشية الله -تبارك وتعالى- وحده يكون هذا أدعى أنه لا يُرائي؛ وإنما يخاف الله -تبارك وتعالى- حقًا، فهؤلاء يُظِلهم الله في ظِلِّه يوم لا يظل إلا ظِلُّه، على كل حال وصْف الله -تبارك وتعالى- هذا اليوم بأنه يوم عسير فإن هذه طبيعة اليوم على الكل، يوم عسير على الكُل إلا مَن يسَّره الله -تبارك وتعالى- عليه؛ وأنقذه في هذا اليوم، ورفَقَ به، والنبي يقول «مَن نفَّسَ عن مؤمن كربة من كربات الدنيا نفَّسَ الله عن كربة من كربات يوم القيامة»، فيوم القيامة كربات؛ أمر يُكرِب الصدر والنفس، {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10]، وفيه من هذه الشدة حسب المؤمن في هذا اليوم العسير؛ وحسب عمله، وحسب ما قدَّمَه في هذه الدنيا؛ لكن الكافر لا.

{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد أغلَقَ عليه كل الأبواب التي يمكن أن يأنس منها أنه سيأتيه رحمة في يوم الموقِف؛ فهو آيس من رحمة الله مطلقًا، سيدخل النار سيدخل النار؛ داخِلوها داخِلوها، {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}، ما لهم عنها مصير، وإذا رأوها خلاص؛ فلا مصرِف لهم عن النار، ما في أي شيء يصرفهم عنها؛ لا بتأخير هذا الأمر، ولا بتأجيله، ولا بشفاعة شافعين، ولا بفِدية تُقبَل منهم، ليس هناك أي باب من الأبواب ممكن أن يصرف عنهم عذاب هذا اليوم؛ ولذلك هو {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، فهذي هي النِّذارة، الله -تبارك وتعالى- أرسل رسوله ليُنذِر الناس هذا اليوم، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، أنذِرهم هذا اليوم، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}[المدثر:9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10]، أنذِر الناس هذا اليوم الذي هذه صفته.

ثم قال -جل وعلا- {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11]، هنا يذكر الله -تبارك وتعالى- مجرم من أكبر المجرمين المشتهزئين الذين حاربوا النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وصدوا الناس عن الحق، وهو الوليد ابن المُغيرة، والله يوجِّه رسوله هنا أن يترك عقوبته إليه -سبحانه وتعالى-، فهذا الذي عاند آيات الله -تبارك وتعالى-؛ وقف بكفره يُعانِد الله، ويُعانِد آياته، ويصُدُّ الناس عن دين الله -تبارك وتعالى-، هذه صورة من صور العذاب التي ادخرها الله -تبارك وتعالى- له، قال -جل وعلا- ذَرني؛ اتركني، {........ وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11]، يذكر الله -تبارك وتعالى- لهذا الإنسان العدو لله -تبارك وتعالى- كيف كانت نعمة الله له، فقد خلَقَه الله -تبارك وتعالى- وحيدًا؛ حال كونه وحيد في بطن أمه فردًا، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12]، جعلت؛ صيَّر الله -تبارك وتعالى- له، مال ممدود؛ مال في مكة، مال في الطائف، مال ممدود في التجارة، أي أنه واسع ومتصِل، {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13]، أن الله -تبارك وتعالى- رزقه البنين، البنين؛ الذكور، شهودًا يعني أنهم حاضرون عنده غير مُشتَّتين في جنبات الأرض مُسافِرين، فإنه قد يكون للشخص أولاد ولكنهم بعيدون عنه؛ يضربون بعيدًا عنه، فيصبح وجودهم أحيانًا كلا وجود، أما هذا لا؛ أولاد، وذكور، وهم يحتَفُّون به، قائمون معه في المقام الذي هو فيه، {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13].

{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:14]، تميهد الشيء هو تسويته، يعني أنه من كل ما يُريد كل أموره مُمهَّدة، مهَّدت له تمهيدًا في هذه الدنيا؛ المال الوفير، البنين، الزوجات، الحياة المُترَفَة، كل ما هو مطلوب في هذه الدنيا كأنه موجود ومُمهَّد، فأغدق الله -تبارك وتعالى- عليه هذه النِعَم إغداق، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15]، وذلك أن هذا كان يرى أن ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- هذا إلا لكرامته، ولذلك كان يقول لو كان محمد صادقًا في ما يقول؛ وأن هناك جنة فأنا أولى الناس بها، هو يرى نفسه أنه أولى الناس بها أن الله -تبارك وتعالى- قد أعطاه في هذه الدنيا هذا العطاء؛ فهذا عنده دليل على كرامته على الله -تبارك وتعالى-، طبعًا هو مُكذِّب بيوم القيامة لكن يقول لو فُرِض أنه يوجد هذا اليوم فأنا سأكون أوفَر الناس حظًّا بهذا، قال -جل وعلا- {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16]، يعني سواءً كان يُريد الزيادة في هذه الدنيا {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15]، يطمع بالزيادة بأن لو فُرِض أن جاء يوم القيامة فإنه سيُزاد كذلك من النِعَم كما أُعطيَ في الدنيا، قال -جل وعلا- {كَلَّا}، إضراب لتمنِّيه هذا، إنه؛ يعني هذا الفاجر الكافر، {........ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16]، كان لآياتنا؛ آيات الله -عز وجل-، عنيدًا؛ العنيد يعني العدو المُشتَد في عداوته والمُصِر على هذا، {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16].

قال -جل وعلا- {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17]، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى-، مَن هو الذي يتوعَّد؟ هو الله رب السماوات -سبحانه وتعالى-؛ رب العرش العظيم، قال {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17]، الإرهاق هو شدة التعب، {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17]، قيل سأُرهِقه صَعُودًا في النار؛ في أنه يدخل النار ويكون في أسفلها، فيصعد على جبل في النار إذا وضع يده عليه تذوب؛ فإذا رفعها ترجِع، وهكذا على هذا الحال إذا وصل إلى أعلاه أُعيدَ إلى أسفله مرة ثانية، {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17]، وقيل سأُرهِقه صَعُودًا في الكفر، فيكون هذه عقوبة له من الله -تبارك وتعالى- أنه يبقى في كفره صاعِدًا دائمًا فيه من باب قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}، فيُمِدُّه الله -تبارك وتعالى- في هذا الكفر، وهذا يكون عقوبة شديدة أن يُقفَل عليه باب التوبة، ويظل بهذا الكفر مُرهَقًا به صاعِدًا فيه.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- سبب وعِلَّة الوعيد الشديد له بهذا فقال {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18]، إنه؛ يعني هذا الكافر الفاجر، {........ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18]، في الأمر، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21]، قيل أن قريش رجعوا إليه وقالوا له إن الناس سيأتوا للموسِم ولابد أن نتفق على أمر واحد في شأن النبي -صل الله عليه وسلم-، حتى لا تختلف كلمتهم عندما يسأل الناس ما شأن هذا الذي يقول هذه المقالة؛ ويذكر أنه أصبح نبي يأتي الخبر من السماء؟ فإذا قالوا كلام مختلف فالعرب تتفرَّق عنهم أنهم خلاص؛ يسقط كلامهم، فأرادوا أن يُجمِعوا أمرهم على كلمة واحدة ووصف واحد يصِفوا به الرسول؛ ويُنفِّروا الناس عنه، فقالوا نقول أنه شاعر، فأخبرهم أننا جرَّبنا كل أنواع الشِعر؛ والله ما قول بسائر على أي نسَق من نسَق الشِعر، قال لهم إن تقولوا أي قول فيه سيظهر كذبكم، فقالوا كاهن، قال قد جرَّبنا الكُهَّان وزمزمتهم؛ فليس بكاهن، ثم قالوا له لابد أن تقول فيه قولًا، ففكَّر في الأمر وقدَّر فيه ثم قال أن أمثل شيء تقولوه هو أن تقولوا أن هذا رجل أتى بسِحر، ساحر كذَّاب أتى به وأن هذا السِحر الذي أتى به يُفرِّق به بين الأخ وأخيه؛ وبين الابن وأبيه، وبين المرأة وزوجها، وأنه فرَّق جماعة الناس بهذا.

قال -جل وعلا- إنه؛ أي الوليد هذا، {........ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18]، قدَّر الكلام والمقالة التي يقولها ويُريد بهذه المقالة أن يُنفِّر الناس عن دين الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20]، حُكْم من الله -تبارك وتعالى- عليه؛ وحُكْم بقتله، {........ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19]، على أي صورة قدَّر، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21]، هنا يُصوِّر الله -تبارك وتعالى- حاله في كَدِّ نفسه وبحثه في الطريقة التي يقول بها في القرآن، {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21]، يعني بفِكْره، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22]، يعني قطَّبَ جبينه، العبوس هو غير الإشراقة والسرور، وإنما عبس يعني كناية عن إعمال الفِكْر؛ والنظر في الأمر، وأنه يحمل هم لأمر، وبَسَر؛ يعني بوجهه، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23]، أدبر عن الحق واستكبر عنه، {فَقَالَ}، يعني عن القرآن، {........ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26].

ولأن الوقت قد أدركنا -إن شاء الله- نعود إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.