الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (752) - سورة المدثر 23-36

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12] {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:14] {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15] {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17] {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18] {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22] {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23] {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27] {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر:29] {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30] {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:31].

هذه الآيات من سورة المُدثِّر، {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11]، بإجماع المُفسِّرين أنها نزلت في الوليد ابن المُغيرة المخزومي؛ الذي قال هذا القول الذي تناقله الكفار بعد ذلك عن القرآن، وقد جاء في السيرة لابن إسحاق أن الوليد قال لقريش والله لا تقولون قولًا في محمد وفي القرآن ظهر كذبكم، عرفنا الشِعر وعرفنا أقوال الكُهَّان، والله ما قوله بشاعر ولا قوله بأقوال الكُهَّان؛ ولا يسير على منهج أي منهم، فخشوا من أن يقول هذا القول فيُتناقَل عنه ويفتح هذا باب لدخول العرب في الإسلام، وذلك أن الوليد قال والله إن لكلامه لحلاوة؛ وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمُثمِر، وإن أسفله لمُغدِق، وإنه ليُحطِّم ما تحته، وإنه ليعلوا ولا يُعلى عليه، فيكون هذا أسلوب من أساليب البيان والكلام لا يمكن أن يُجارى، فقالوا سحَرَك الله؛ أن هذا محمد سحَرَك بكلامه، وقال فيه أبو جهل مقالة شنيعة فقال له إن تذهب لمحمد ليُطعِلمك فنحن سنجمع لك مالًا حتى يُغنيك عن الجلوس عنده، فقال قد علِمَت قريش أني من أكثرهم مالًا، وعلى كل حال لمَّا اجتمعوا للنظر في هذا الأمر وخشوا أن يأتي وفود العرب في الحج فيسمعوا من هذه المقالة؛ فقالوا لا نتركك حتى تقول فيه قولًا، فقال بعد تفكيره وإتعابه نفسه أن أمثل كلام أن نقوله أن محمد جاء بسِحر يُفرِّق فيه بين الأخ وأخيه؛ وبين الابن وأبيه، وبين الزوجة وزوجها.

هذه المقالة الفاجرة التي استطاعوا أن يصرفوا بها العرب عن القرآن والإسلام قال -جل وعلا- {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11]، هذا الوليد، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}[المدثر:12] {وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدثر:13] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:14] {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:15] {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}[المدثر:16] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:17]، قيل في النار؛ عذاب في النار، صخرة كبيرة؛ صخرة ملساء في النار من قاع النار يصعدها دائمًا، إذا وضع يده على هذه الصخرة ذابت من شدة حرِّها، ثم إذا رفعها رجعت كما كانت؛ وهكذا أبدًا، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18]، فكَّرَ وقدَّرَ في شأن القرآن؛ أن يأتي فيه بكلام يصرف الناس عنه، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18]، قدَّرَ الكلام الذي يقوله، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19]، دعاء عليه من الله -تبارك وتعالى- وحُكْم من الله، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20] {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22]، والله -تبارك وتعالى- يُصوِّر حاله هذا في خطوات تفكيره؛ وتقطيبه جبينه، وإعماله الفِكْر ليُخرِج كلامًا يصرف به الناس عن القرآن، {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23]، عن الهُدى، والنور، والحق، {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24]، أي القرآن، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25]، ليس هو كلام مُعجِز مُنزَل من الله -تبارك وتعالى- وإنما هو قول البشر.

قال -جل وعلا- {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26]، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى-، {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26]، والصَّلي هو الحرق بالنار، سَقَر؛ اسم من أسماء جهنم أو درجة فيها -عياذًا بالله-، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27]، هذا لتهويل الأمر وتعظيمه، ما سَقَر؟! هذا أمر غيب وهي عذاب نار الله -تبارك وتعالى-، ومهما كان بالوصف فإنه ليس كالمُشاهدَة والعَيان، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27]، هذا أمر يفوق قدرة الإنسان في التخيُّل، مهما أعمل ذهنه في التخيُّل في ما هي النار عليه على الحقيقة؛ يعني على ما هي عليه بالفعل، فإنه لا يمكن أن يصِلَ إلى حقيقة الأمر، {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27] {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28]، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- سَقَر والنار بأنها {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28]، قيل من جسد الكافر؛ فإنها تدخل إلى كل جزء فيه، كما قال -جل وعلا- {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، وأخبر بأنها تطَّلِع على الأفئدة بمعنى أن شعاع النار ولهيبها يدخل إلى الفؤاد، فتحرق كل شيء فيهم؛ يعني لا تحرق ظاهرهم فقط، وإنما تحرق كل شيء فيهم، فلا تُبقي ولا تذَر يعني من أجساد الكفار وقيل من الكفار كلهم، يعني أن كل كافر آتيها ولا تذَر أحدًا منهم؛ وإنما يجمعهم الله -تبارك وتعالى- جميعهم فيها، كما قال -جل وعلا- {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94] {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95]، وكُبكِبوا من الكَب والإلقاء، {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28]، لا تُبقي أحد منهم ولا تذَره.

ثم قال -جل وعلا- {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر:29]، لوَّاحة؛ كثيرة التلويح، يعني أنها بمجرد ما يوضع فيها الإنسان يسوَد جلده -عياذًا بالله-؛ يحترق بمجرد الوضع، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن يسوَد الجِلد وكذلك ينضج، كما قال -تبارك وتعالى- {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، فالنار إلى كل جزء من كيانه؛ وهي دائمة الحرق لهذه الجلود، وهي تُلوِّح، البشر؛ البشرة، بشرة الإنسان، أو البشر؛ الناس الذي يُلقَون فيها، فإنها تلوِّحهم؛ أي تُسوِّدهم -عياذًا بالله-، وقد جاء بأن مَن يُخرَج من النار من أهل الإيمان قال النبي -صل الله عليه وسلم- «فيخرجون من النار قد امتُحِشوا»، ومعنى امتُحِشوا يعني احترقوا واسوَدُّوا، «فيُلقَون في نهر يُسمَّى نهر الحياة حتى ينبتون»، تنبُت أجسامهم من جديد، هؤلاء هم أهل الإيمان الذي وقعوا في النار بسبب بعض معاصيهم، {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر:29]، ثم قال -جل وعلا- {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30]، عليها؛ على النار، تسعة عشر؛ أي مَلَك، يحفظونها وموكَّلون بها؛ وهم الزبانية، وقائدهم هو مالِك، كما جاء في قول الله {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77]، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30]، بهذا العدد، ولمَّا نزل هذا أثار هذا العدد عند الكفار الاستهزاء والشك، وظنوا أن هذا العدد التسعة عشر هذا هيِّن؛ أمر هيِّن أن يغلبوهم، وأن أعدادهم هم بالألوف، حتى بعض أهل مكة من أهل الشدة فيهم قالوا كأبوا الأشُدَّين؛ الذي كان يُسمَّى أبو الأشُدَّين، قال أنتم جميعًا اكفوني اثنين وأنا أكفيكم السبعة عشر، استهزاءً وبيان أن عندهم من القوة ما يستطيعون أن يغلبوا ملائكة الله -تبارك وتعالى-؛ الزبانية.

أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله بآية طويلة البحر بغير آيات هذه السورة؛ الآيات القصيرة في سورة المُدثِّر، قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:31]، قال -جل وعلا- لهؤلاء الذي ظنوا أن التسعة عشر من الملائكة شأنهم كتسعة عشر من البشر، قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً}، أي الزبانية الموكَّلون بالنار جعلهم الله ملائكة، وكونهم ملائكة هذا الأمر يكون مختلف تمام الاختلاف؛ فإن المَلَك غير الإنسان في قواه، القوى التي أعطاها الله -تبارك وتعالى- للإنسان هذه مناسبة لحال الإنسان، وأما قوى المَلَك فإن هذا أمر مختلف تمامًا؛ فإن قواهم تختلف، كما جاء في أن جبريل -عليه السلام- لمَّا أرسله الله ليُهلِك قرى لوط فإنه رفعها على طرف جناحه، يعني وضع جناحه تحت هذه المدن كلها ثم أفَكَها على رؤوس أصحابها، وكذلك جاء في قول الله {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، على بني إسرائيل، والنَّتق هو الإخراج بقوة؛ قطع القعطة وإخراجها بقوة، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}، فإن جبريل اقتلع جبلًا من مكانه ثم وضعه على بني إسرائيل؛ وكانوا نحوًا من سبعمائة وخمسين ألف مع موسى -عليه السلام-، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:171]، فهذا من فعل مَلَك.

وكذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- عن نافخ الصور؛ وهذا مَلَك من الملائكة، في أن كل هذا النظام الكوني كله يتهدَّم بنفخته في الصور، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، فهذي نفخة من مَلَك تُغيِّر هذا النظام كله بشموسه، وأقماره، ومِجرَّاته، وأرضه، وسمائه، وأخبر الله -تبارك وتعالى- كذلك عن قرى أهلكها الله -تبارك وتعالى- بصيحة مَلَك، كما قال -جل وعلا- في صاحب ياسين؛ أصحاب القرية الذي كذَّبوا الرُسُل، وقتلوا المؤمن الوحيد الذي آمن بالرُسُل، قال -جل وعلا- {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28]، يعني لم نُنزِل جُنْد من السماء لننتصر لهذا المؤمن الذي يُسمَّى حبيب النجار؛ وهو المؤمن الوحيد، قال وما أنزلنا على قومه الكفرة من بعده؛ من بعد ما قتلوه، {........ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28]، لا يستحق الأمر، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[يس:29]، صاح فيهم مَلَك واحد من ملائكة الله -تبارك وتعالى- صيحة واحدة فإذا هم جميعًا خامدون؛ ميِّتون ملاصقون للأرض، كذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- عن ثمود؛ قبيلة شديدة، قوية، كبيرة، لكن الله -تبارك وتعالى- كذلك أرسل لهم مَلَك واحد صاح فيهم صيحة واحدة، قال -جل وعلا- {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، كالهشيم الذي مكث في حظيرته سنة حتى تهرَّى، فهؤلاء تهرَّت أجسادهم من صيحة مَلَك واحد.

فالملائكة لا شك أنهم غير البشر، البشر بقدرات لا يمكن مقارنتها بقدرة الملائكة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ........}[فاطر:1]، فهؤلاء يختلفون، والنبي يقول «أُذِنَ لي أن أُحدِّث عن مَلَك من حملة العرش؛ ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه تخفِق الطير خمسمائة عام»، فهؤلاء الكفرة المُكذِّبون ظنوا أن الملائكة في مثل قواهم أو قريبًا من قواهم في القوة، بل كان الكفار أصلًا يعتقدون أنهم بنات بعد؛ وليس ذكورًا أو خلْقًا أخر لا يتصِف بذكورة ولا أُنوثة، فلذلك ساغ في فِكْرِهم المريض وكفرهم أنهم ممكن أن يتغلَّبوا على هؤلاء الملائكة وتصبح هذه النار أسيرة بأيديهم، قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، لم يجعل الله عِدَّتهم ويخبر عباده بعِدَّة هؤلاء التسعة عشر إلا فتنة للذين كفروا؛ يُفتَنوا فتنة تزيدهم في الكفر، فإن هذا العدد عندما يروا أنه تسعة عشر فيظهر لهم منه أنه عدد هيِّن، وأنهم بهذه الأعداد الكبيرة إذن هناك مجال لو كان ما يقوله النبي حقًا أن يغلبوهم.

ثم قال -جل وعلا- {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، ليستيقنوا من أن ما أُنزِلَ على النبي محمد حق، وذلك أن هذا العدد هو العدد الذي أخبرهم الله -تبارك وتعالى- به في كُتُبِهم عن خزنة النار؛ فهم يعلمون أن خزنة النار تسعة عشر، فعندما يأتي النبي ويتكلَّم بهذا وهو لم يقرأ كتابهم؛ ما قرأ كُتُبَهم، ولا جالسهم، ولا عَلِمَ هذا منهم، فعند ذلك يعلموا أن هذا رسول الله حقًا وصِدقًا عندما يخبرهم بالأخبار الموجودة عندهم؛ والتي أصلًا لا يعلمها إلا علمائهم، فإن العِلم اليهودي لم يكُن مبذولًا لكل أحد؛ وإنما كانوا دائمًا ما يُخرِجوا التوراة كاملة، وإنما كانوا يجعلونها كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ}، فكانوا لا يُطلِعون العامة منهم إلا على ما يُريدون أن يُطلِعونهم فقط ويُخفون عنهم الباقي، فهذا العِلم المُستكِن الذي لا يعرفه إلا علماؤهم يكون هذا دليل وبرهان على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وليس من عند النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، قال -جل وعلا- {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}، يزداد الذين آمنوا إيمانًا إلى علِموا أن هذا مُطابِق وموجود في ما هو موجود عند أهل الكتاب، فيعلَموا أن هذا دليل يُضاف على أدلة صدق النبي -صلوات الله والسلام عليه-، الأمر الأخر هو أن يركنوا إلى قوة الله -تبارك وتعالى-، أن الله القوي العزيز هو الذي خلَقَ هذه المخلوقات العظيمة؛ خلَقَ هؤلاء الملائكة بهذا الخلْق الشديد، وأن الله -تبارك وتعالى- يجعل تسعة عشر فقط من الملائكة هم الذين يوكَّلون بالنار كلها، وهذه النار هي التي يُجمَع فيها كل الكفرة المُجرمين من الأولين والآخرين؛ من أولهم لآخرهم جِنًّا وإنسًّا، وأنهم كلهم مجموعون فيها ولا يقوم عليهم إلى تسعة عشر فقط، فهذا يزيد المؤمن إيمانًا بقدرة ربه -سبحانه وتعالى-؛ وقوته، وعظَمَته، وخلْقِه العظيم –جل وعلا-.

قال -جل وعلا- {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}، ما تُصبح لديهم رَيبَة، يعني لا تُصبح لديهم رَيبَة بعد ذلك بهذا الدليل والبرهان القاطع، لا يدخل في قلوبهم ريبة بعد ذلك في شأن القرآن المُنزَل والنبي المُرسَل -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}، هذا من فتنة هؤلاء، كذلك من تحديث الرب -سبحانه وتعالى- وتكليمه بعدد الزبانية  فإن الكفار يقولون ...، الذين في قلوبهم مرض؛ مرض الشك، {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}، بضرب هذا المَثَل وبإخبارِنا بالنار والعدد الذي عليها، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، كذلك؛ كهذا الذي يحدث في الناس من أن خبر ناس تضٍل به، ونفس الخبر ناس تزداد به إيمان، فإخبار الله -تبارك وتعالى- عن النار والزبانية الذين عليها هذا ناس تزداد به إيمان؛ وهم أهل التصديق، عندما يعلموا أن هذا خبر صدق وقامت الأدلة على صدقه، وناس -عياذًا بالله- تضِل به؛ تستهزئ به وتستقِله فتكفر به، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، -سبحانه وتعالى- فالأمر كله له، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه يُضِل ويهدي بأسباب، فأولًا حِكمَته -سبحانه وتعالى- وعِلمه السابق في خلْقِه؛ فإن الله أعلم -سبحانه وتعالى- بمَن يهدي ومَن يُضِل، والله أعلم بهم -سبحانه وتعالى-، وكذلك يُضِل الضال لأنه اختار الضلال؛ وسار فيه، ومشى فيه، ويهدي أهل الهُدى الذين سلكوا سبيله -سبحانه وتعالى-؛ فيهدي مَن أناب إليه -جل وعلا-، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، يعني كمًّا وكيفًا، يعني كيف هم وما القوة التي خلَقَهم الله –تبارك وتعالى- عليها؟ لا يعلم هذا على الحقيقة إلا هو -سبحانه وتعالى-، وكذلك عددًا لا يُحصيهم إلا ربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-، فلا يُحصي عدد الملائكة إلا مَن خلَقَهم -جل وعلا-، كما في حديث الإسراء أن النبي لمَّا رأى البيت المعمور وجد أنه يدخله في كل يوم سبعون ألف مَلَك؛ ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم، يعني أنه آخر ما عليهم من هذا إنما هي زيارة واحدة في يوم واحد فقط ثم لا يعودون بعد ذلك، فإذن ما هي أعداد الملائكة الذين خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- وبثَّهم في كونه -جل وعلا-؟ وهذا البيت المعمور تزوره الملائكة كل يوم منذ خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، وكم خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في الأزل السابق؟ وكم يُبقيه إلى الأبد الآتي؟ هذا أمر لا شك أن لا يُحصي عددهم إلا الذي خلَقَهم -سبحانه وتعالى-، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، القوة التي هم عليها وعددهم -سبحانه وتعالى-، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، وما هي؛ النار والعذاب، {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، الله -تبارك وتعالى- يُذكِّر بها الخلْق فيصِف النار لهم ويصِفُها وصْف كامل؛ من حيث أنها عميقة، من حيث أنها محيطة بأهلها، من حيث أنها مُغلقة أبوابها، من حيث أنها درجات بعضها فوق بعض، من حيث ما فيها من الأهوال العظيمة؛ أنها نار مُستعِرة أبدًا، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، وقوله {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46] {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47] {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48] {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، فهذا وصْف كامل للنار؛ طعامها أهلها، شراب أهلها، عذابهم، ألوان هذا العذاب، سلاسلها، أغلالها، فالله -تبارك وتعالى- ذكَّرَ البشر بهذا فقال وما هي؛ يعني النار، إلا ذِكرى للبشر؛ تذكير لهم بأن إياكم ثم إياكم أن تكفروا فيكون مصيركم إلى هذه النار، لكن كما قال -تبارك وتعالى- {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، لا يتذكَّر إلا مَن يخاف الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32]، كلا؛ نفي لهذا الذي يقوله الكفار عن هذه النار وعن الزبانية الذين وكَّلهم الله –تبارك وتعالى- بها، ثم يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بمخلوق عظيم من مخلوقاته فيقول {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32]، فيُقسِم بالقمر -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33]، يُقسِم بالليل إذا أدبر والنهار في إثره، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34]، الصبح؛ وقت الصباح، إذا أسفَر؛ والسَفَر اللي هو الضوء، يعني الصبح إذا بدأ يُضيء الكون، وهذا الذي يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به من أدلة قدرته وعظمته -سبحانه وتعالى-، فالقمر هو الذي علِمَ الناس الآن أنه هذا الجِرم العظيم؛ تابع من توابع الأرض المُعلَّق في هذه السماء، والذي يدور في مداره بإحكام دقيق لا يتأخَّر جزء من جزيء من الثانية ولا يتقدَّم، هذا أمر عظيم وخلْقٌ عظيم، فالذي وضع في مداره وأقامه على هذا النحو حول الأرض الرب الإله الذي لا إله إلا هو القادر على كل شيء، {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32]، عظيم يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به، والذي خلَقَ العظيم عظيم وأعظم منه، فالله هو العظيم الذي خلَقَ هذه المخلوقات العظيمة.

{كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34]، قيل أيضًا أن مناسبة القَسَم بهذه على أنها مخلوقات عظيمة دالة على قدرة الله -تبارك وتعالى-، فكذلك هناك دلالة من جهة أخرى في الفحوى على أن ظهور النبي وظهور هذا الدين أظهر من ظهور القمر، وكذلك ليل الكفار سينمَحي ونهار الإسلام سيأتي، {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34] {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}[المدثر:35]، إنها؛ النار -عياذًا بالله-، لإحدى الكُبَر يعني إحدى آيات الله -تبارك وتعالى- العظيمة الكبيرة، فهذه كبيرة من كبائر خلْق الله -تبارك وتعالى-؛ هذا أمر كبير، فإن خلْق دار على هذا النحو؛ تجمع كل هذا الجمع، والنبي يقول «ضِرس الكافر في النار أكبر من جبل أُحُد؛ وجِلده في النار مسيرة ثلاثة أيام، ومقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة»، هذه النار العظيمة اتساعًا؛ وقوةً، واشتعالًا دائمًا، وإحكامًا على هذا النحو، وكذلك حِسًّا وإدراكًا، لا شك أن هذا خلْقٌ من خلْق الله -تبارك وتعالى- العظيم، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}[المدثر:35] {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ}[المدثر:36] {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37].

نقف هنا ونأتي -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.