الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (753) - سورة المدثر 36-56

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34] {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}[المدثر:35] {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ}[المدثر:36] {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38] {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}[المدثر:39] {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ}[المدثر:40] {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}[المدثر:41] {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:47] {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49] {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51] {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}[المدثر:52] {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ}[المدثر:53] {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}[المدثر:54] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[المدثر:55] {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}[المدثر:56]، أقسَم الله -تبارك وتعالى- بالقمر فقال {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34] {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}[المدثر:35]، إنها؛ النار التي يُكذِّب بها هؤلاء المجرمون، ويستهزئوا بما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- عنه زبانيتها، وأن عليها تسعة عشر، وأنهم قالوا نحن نستطيع أن نغلبهم لو كان ثمَّة نار في الآخرة، فأخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا العدد إنما هم ملائكة، قال {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.

ثم أقسَم -سبحانه وتعالى- بهذه الأقسام فقال {كَلَّا وَالْقَمَرِ}[المدثر:32] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}[المدثر:33] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ}[المدثر:34]، وهذه آيات عظمى من آيات الله -تبارك وتعالى- مرئية؛ يراها الناس، وقد رأى الناس بعد ذلك من العجب العُجاب في القمر؛ وفي الليل، وفي النهار، وفي تكوُّن الليل والنهار على سطح هذه الأرض، وهم يشاهدونه الآن بأبصارهم رؤية بصرية بعد أن كانت المسألة رؤية علمية، والله يُقسِم بهذا ويقول -سبحانه وتعالى- إنها؛ النار، {........ لَإِحْدَى الْكُبَرِ}[المدثر:35]، لإحدى آيات الله العظيمة الكبيرة، {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ}[المدثر:36]، الله -تبارك وتعالى- بإخباره عنها أنه يُنذِر البشر؛ يُخوِّفهم عذابه -سبحانه وتعالى- لعلهم أن يتعِظوا وأن يعتبروا، {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ}[المدثر:36]، ثم قال -جل وعلا- {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37]، يعني هذه النِّذارة الله -تبارك وتعالى- يُسديها أو يخبر بها قال لِمَن شاء منكم؛ أي يا أيها الناس، {......... أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37]، يعني توضع أمام مسئوليتك وهذا الأمر الواقع؛ هذه النار هذه صفتها، جعلها الله نِذارة ثم لِمَن شاء منكم أن يتقدَّم؛ فيفِر منها، يتقدَّم إلى ربه -سبحانه وتعالى- فيفِر من النار أو يتأخَّر فتلحقه، مَن تأخَّر عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعن الفرار من النار لابد أن يسقط فيها؛ وأن يكون من أهلها؛ وأما مَن تقدَّم فنجا، وقد ضرب النبي -صل الله عليه وسلم- مَثَل له في تحذير الناس من النار فقال «إنما مَثَلي ومَثَلكم كمَثَل مَن أتى قومه فقال يا قوم لقد رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان، فصدَّقه بعض من قومه فأدلجوا فنجوا، وكذَّبه أخرون فصبَّحهم العدو»، فالنبي ضرب لنفسه وللناس مثَل فيقول أنا مَثَلي ومَثَلكم أيها الناس في تحذيري إياكم من النار كمَثَل من أتى قومه؛ جاء لقومه وقبيلته، وقال يا قوم؛ يعني يا قومي، أنا قد رأيت الجيش بعينَي؛ يعني رأيت الجيش الذي يُريد أن يغزوكم بعينَي، ما سمعت به أو أخبرني مُخبِر؛ قد رأيته بعينَي، وإني أنا النذير العُريان؛ فقد كان العرب إذا أحب أن يُصدِّقه قومه فعل بنفسه فعل قبيح حتى يُصدِّقونه، يعني ما يفعل في نفسه هذا الفعل القبيح إلا وهو يُريد أن يُصدِّقوه، فيقول وإني أنا النذير العُريان، يقول صدَّقه قومه يعني أن الذي فعل هذا قالوا هذا كلام صحيح فلنفِر، ففروا؛ أدلجوا في الليل فنجوا، وأما الأخرون فكذِّبوا وقالوا ما عندك سافه؛ نحن قاعدين في مكاننا وربعِنها، يقول فصبَّحهم العدو فاجتاحهم، فالنبي -صل الله عليه وسلم- حذَّرَ الناس من أن هذه النار تنتظركم فمَن تقدَّم وهرب؛ هرب من النار، ومَن تأخَّر أكلته النار، قال -جل وعلا- لِمَن شاء منكم؛ أي هذه النِّذارة، {......... أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37]، أن يتقدَّم فينجوا من عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يكون هذا إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ والإيمان بالرسول، والإيمان بأن هذه النِّذارة حق، وأن هذا واقع، أو يتأخَّر فيأتيه العذاب.

ثم قال -جل وعلا- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، رهينة؛ محبوسة، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يحبس كل نفس بما كسبت، فالإنسان محبوس على عمله؛ فمَن كان من أهل الصلاح وعمل عملًا صالحًا فينجوا، ومَن كان من أهل الكفر فإن عمله يحبسه ويقبضه وتلحق به النار ولابد، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، أي مُرتهِن بعمله؛ ومقبوض به، ومُتمسَّكٌ به، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}[المدثر:39] {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ}[المدثر:40] {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}[المدثر:41]، فالكفار ترهنهم وتُمسِكهم أعمالهم في النار -عياذًا بالله-، كل نفس من نفوس الكفار مُرتهِنة؛ ممسوكة بعملها في العذاب، {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}[المدثر:39]، فإن أصحاب اليمين عملهم قد أوصلهم إلى رحمة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، {فِي جَنَّاتٍ ........}[المدثر:40]، في جنات؛ بساتين الرب -تبارك وتعالى- في الآخرة، {يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}[المدثر:41]، يعني أنهم لا شغل عندهم؛ ولا عمل عندهم، وأنهم في أماكنهم يتسائلون عن المجرمين فيسألونهم؛ ويحصل كلام بين أهل الجنة وأهل النار، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:42]، سلككم؛ أدخلكم، يعني ما الذي أدخلكم في سَقَر؟ هذه سَقَر قد تُطلَق على النار كلها وقد تُطلَق على بعض أجزائها مما هو أحر من البعض الأخر؛ لأن النار دركات -عياذًا بالله-.

قالوا؛ أي الكفار الذين رهنتهم أعمالهم وألقتهم في النار، {........ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43]، فأول جريمة ذكروها أنهم لم يكونوا من المُصلين، والصلاة أشرف أعمال الإنسان؛ وأعلاها، وأفضلها، وأنفعها له، وهي من أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى- ولذلك تأتي بعد الإيمان مباشرة، فبعد الإيمان بالله -تبارك وتعالى- الذي هو عمل القلب؛ وتصديق الله -تبارك وتعالى- في ما أخبر، والشهادة للنبي بالرسالة، تأتي الصلاة كأشرف عمل، فالصلاة أشرف عمل وهي أحق العمل بأن يقوم به العبد لأنها دعاء لله -تبارك وتعالى-؛ وذِكْر له، وانتصار بين يديه، وتعظيم له بالركوع، وذُل له بالسجود، ودعاء له، فهي أشرف العبادة، وموضوع الصلاة هو الدعاء؛ فهو العبادة، وهؤلاء لم يكونوا من أهل الصلاة، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44]، يعني لا قاموا بحق الله -تبارك وتعالى- ولا كان حتى في قلوبهم رحمة للعباد؛ فكذلك فُرِّغَت قلوبهم من رحمة أهل المسكنة، {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44]، ما كان هناك عندهم دافع ولا رحمة ولا حركة في قلوبهم لأن يُطعِموا مسكينًا، وإلا كان قد هداهم الله -تبارك وتعالى- إذا كان في قلوبهم رحمة لإخوانهم من البشر المساكين، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45]، أصل الخوض هو السير في الماء؛ والماء هذا يُسمُّونه المخاضة، والذي يسير في الماء لا يأمن أن يكون أمامه حفرة لا يراها؛ أمامه شيء يضره، فهم يدخلون يعني أنهم كانوا يدخلون في الأحاديث بلا تبيُّن؛ ما يتبيَّن ما الذي يقول، يتكلَّم عن الله؛ وعن رسالاته، وعن غيبه، فيُكذِّب بالرسول ويُكذِّب بالله؛ وأنه لا بعث ولا نشور، ويُحِل ما يشاء ويُحرِّم ما يشاء، فهو خائض في العقائد وفي الدين بلا تبيُّن ولا تبصُّر؛ إنما بالظنون والتخبيط، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45].

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46]، يوم الدين؛ يوم الجزاء، يوم الله -تبارك وتعالى- الذي جعله الله -تبارك وتعالى- يومًا ليُجازي فيه العباد، فهذا يوم الدين؛ والدين هو الجزاء، تقول العرب ((كما تدين تُدان))، فتكذيبهم بيوم الجزاء لأنهم كانوا يستبعدون هذا كل الاستبعاد؛ أن هذا لا يمكن أن يكون، لأنهم يروا أن عظام الإنسان إذا بليَت وفنيَت وضاعت في الأرض فلا يمكن إعادتها مرة ثانية، مع إيمانهم بأن الله هو خالقهم لكنهم يُحيلون عليه -سبحانه وتعالى- أنه يستطيع أن يُعيدهم مرة ثانية؛ وأنه لا بعث ولا نشور، مع قيام الأدلة على هذا الأمر لكن كانوا يُكذِّبوا هذا، يرفضوا هذه الأدلة ويردوها فيُكذِّبوا بالحق الذي جائهم من الله -تبارك وتعالى-، {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:47]، الموت، يعني ظلوا على هذا الحال؛ لا يُصلُّون، ليس في قلوبهم رحمة لمسكين، يخوضون مع الخائضين، يُكذِّبون بيوم الدين، {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:47]، الموت، وعند ذلك يتيقَّن من أن الذي كان يُكذِّب به إنما هو حق واقع، فإنه إذا مات هذا الكافر فيُكشَف قناع عقله ويصير بصره حادًا فيرى الأمور على حقائقها؛ يُعاين ملائكة العذاب، يُعاين كذا، يُعاين كل أمر على حقيقته، الله يقول {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ........}[ق:19]، ففي سكرات الموت تأتي بالحق لأنه يُعاين مَلَك الموت ويُعاين العذاب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:19]، فيرى الأمور على حقيقتها ويُقال له {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22]، فاليقين؛ الموت، وإذا مات تيقَّن؛ عرف الحقائق كلها، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّأ قالت أم العلاء الشهادة عن عثمان ابن مظعون «شهادتي عليك أبا الثائب أن الله قد أكرمك، قال لها النبي وما يُدريكي أن الله قد أكرمه؟ فقالت سبحان الله يا رسول الله؛ ومَن يُكرِم الله إذا لم يُكرِمه؟ فقال لها واللي إني لرسول الله لا أدري ما يُفعَل بي غدًا، أما هو فقد جائه اليقين؛ وإني لأرجوا له الخير»، قال أما هو عثمان لمَّا مات فقد جائه اليقين خلاص؛ يعني أصبح ما هو فيه يقين وعاين موعود الله -تبارك وتعالى-، وإني لأرجوا له الجنة؛ يرجوا له النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقد قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، يعني الموت، لأن الموت به يصبح اليقين في كل الأمور؛ كل الأخبار التي أخبرها الله -تبارك وتعالى- تُصبح يقين، فقال -تبارك وتعالى- عن هؤلاء أنهم قالوا {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:47].

قال -جل وعلا- {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]، خلاص؛ قُفِلَ الباب عليهم نهائي بالموت، ولا مجال؛ لا للعودة إلى الدنيا مرة ثانية، ولا لاعتذار عن ذنوبهم، ولا يجدون هناك مَن يشفع لهم، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]، أي شافع لا يشفع لهم لأن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل فيهم شفاعة قط، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعة قط في الكافر، مَن مات على هذا الكفر فإن الله لا يقبل فيه شفاعة ولو كان ما كان؛ ابن رسول، أو نبي قريب منه، اعتذر بأي عُذر ما يقبله، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]، وإنما شفاعة الشافعين تنفع من أذِنَ الله -تبارك وتعالى- له ومَن رضيَ الله -تبارك وتعالى- عنه، فإن الله لا يُشفِّع إلا مَن يرضى عنه -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- في الملائكة {........ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، وقد جاء أن بعض الكفار يتعلَّقوا بأهلهم وذويهم في المحشَر فلا يُقبَلوا، كما جاء في حديث الإمام البخاري من حديث أبي هُريرة أن النبي قال «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وقد سُربِل آزر بسِربال من قطران، فيقول له إبراهيم ألم أقُل لك لا تعصَني؟ فيقول له يا بُنَي الآن لا أعصيك، فيدعوا إبراهيم ربه ويقول ربِ لقد وعَدتَني ألا تُخزِني يوم يُبعَثون؛ وأي خزيٍ أكبر من أبي الأبعد؟ فيُقال له يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين وانظر تحت قدميك، فينظر تحت قدميه فإذا هو بذيخٍ مُلطَّخ بالدماء، فيؤخَذ من قوائمه ويُلقى في النار»، فالكافر الذي أتى ربه مُجرِمًا لا تنفعه شفاعة شافع، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48].

ثم قال -جل وعلا- في آخر هذا موعظة {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49]، ما الذي دهاهم؟ ما الذي دهى الكفار عن التذكِرة؟ التذكِرة الحقيقية؛ تذكِر الله -تبارك وتعالى- وما يُذكِّر الله به عباده من النار والعذاب، مُعرِضين؛ مُعطين عرضهم وهاربين، لِما؟ فما لهم؛ ما الذي دهاهم، {........ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49]، التذكِرة الحقيقية، مَن الذي يُذكِّر؟ الله يُذكِّر، ويُذكِّر بماذا؟ يُذكِّر بهذا العذاب العظيم الذي ينتظر المُكذِّبين، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49]، ثم وصَفَهم الله فقال {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51]، يعني أنهم في هروبهم من القرآن الذي يُذكِّرهم والرسول الذي يدعوهم كأنهم حُمُر؛ جمع حِمار، الحمار الوحش، مُستنفِرة؛ استُنفِرَت، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51]، فرَّت وحاصت من قسورة؛ الأسد، وهذا تشبيه عظيم جدًا بشدة نفورهم من أن يسمعوا شيئًا من القرآن وأن يتذكَّروا به، شبَّههم الله -تبارك وتعالى- بحُمُر الوحش عندما يجدون أن الأسد قد أصبح قريبًا منهم أو في وسطهم؛ فإن كلًا منهم ينفِر ويقفز إلى ناحية من النواحي هروبًا منه، فشبَّه الله -تبارك وتعالى- هروب الكفار من أن يسمعوا شيئًا من كلام الله -تبارك وتعالى-؛ وأن يعوه، وأن يتفكَّروا فيه، كحُمُر الوحش عندما يأتيهم قسورة؛ يعني الأسد، فينفِروا منه في كل إتجاه، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:51].

ثم قال -جل وعلا- {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}[المدثر:52]، من إجرامهم، وكِبرِهم، وعنادهم؛ أن كل واحد منهم يُريد أن يُرسِل الله -تبارك وتعالى- له رسالة خاصة، يُرسِل له رسالة خاصة ويقول له آمن بي، ويقول لِما ينزل هذا القرآن على رسول وحده؟ لِما لم ينزل علينا كذلك مثله؟ {........ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، أليس هناك مَن هو أفضل من محمد لينزل عليه هذا القرآن؟ فهم في أنفسهم مُتعالين؛ مُتكبِّرين، يُريدون أن ينزل لكل منهم رسالة خاصة من الله -تبارك وتعالى- ليُبلِّغه بها، وأحيانًا يطلبوا ما هو أكبر من ذلك؛ أي أننا لن نؤمن حتى تأتي لنا بالله -تبارك وتعالى- لنراه، والملائكة كذلك يأتون لنراهم في مقابلنا، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}[الفرقان:21] {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:22]، {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}[المدثر:52]، صُحُف من الله -تبارك وتعالى- مُنشَّرة؛ منشورة ومفتوحة له ليُدعى جنابه للإسلام، فلا يكتفي بأن الله -تبارك وتعالى- قد اختار أشرف خلْقِه؛ وأحسنهم، وأفضلهم، وهو منهم -صلوات الله والسلام عليه- محمد ابن عبد الله، وجائهم بهذا الكتاب من عند ربهم وقال لهم هذا الكتاب من عند الله -تبارك وتعالى-؛ لا أسألكم عليه أجر إنما أجري على الله -تبارك وتعالى-، وهذا كلام الله -عز وجل- ربكم يدعوكم إليه -سبحانه وتعالى-، استنكفوا هذا واستكبروه وكان كلٌ منهم يُريد أن تأتيه رسالته الخاصة، {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}[المدثر:52].

قال -جل وعلا- {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ}[المدثر:53]، بل هذا الذي يدَّعونه ويقولونه ويفِرون منه؛ السبب أنهم لا يخافوا الآخرة، أن هذه النِّذارة وكلام الله -تبارك وتعالى- قد أهملوه وتركوه، وبالنسبة للآخرة لا تُحرِّك عندهم أي خوف وبالتالي يقولون مقالتهم هذه الغليظة في الكفر، فالشخص الذي لا يخاف الآخرة ويعتقد أن ما في يوم قيامة -وهذا عندهم أكيد- فبالتالي مهما جائته النِّذارة فإنه يرى أن هذا كذب؛ وأنه لا يكون، {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ}[المدثر:53]، لأنهم أصلًا لا يرجونها ولا يظنون أن هذا أمر واقع، ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}[المدثر:54]، إنه؛ القرآن، تذكِرة؛ أعظم تذكِرة بهذه الآيات البيَّنات؛ الواضحات، بهذا الأسلوب المُعجِز، بهذا الإيضاح من الرب -تبارك وتعالى- لِما ينتظر المُكذِّبين تذكِرة بكل معاني التذكِرة، {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}[المدثر:54]، لهؤلاء الكفار، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[المدثر:55]، فمَن شاء ذكَرَه، يذكُر هذا ويُقدِّره ويأخذه على أنه تذكِرة، وطبعًا مَن شاء أن يترك هذه التذكِرة إذن فلينتظر ما يأتيه الله -تبارك وتعالى- به، {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}[المدثر:54]، وهذا أيضًا كذلك إخبار للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بأن يُذكِّر به، فقط أن تصِل لهم الذِّكرى؛ وأن يصِل لهم الخبر، وأن تصِل لهم هذه النِّذارة، ثم بعد ذلك ليس القرآن حاملًا لهم بالقوة على أن يسيروا في الطريق... لا، وإنما القرآن يُذكِّرهم ويضع كل إنسان منهم أمام مسئوليته؛ أنت مسئول عن نفسك، {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15]، {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}[المدثر:54] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[المدثر:55].

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}[المدثر:56]، وما يذكرون يعني يتذكَّرون؛ ويؤمنون، وتُحدِث لهم هذه الآيات والمواعظ ذِكرى في قلوبهم، فيتذكَّر ويتعِظ ويتخذ طريقه إلى الله -تبارك وتعالى- إلا أن يشاء الله؛ لأن أمر العباد كله إنما هو إليه -سبحانه وتعالى-، فإنه هو العليم بخلْقِه وهو العليم بعباده؛ العليم بمَن يهتدي ومَن يضِل -سبحانه وتعالى-، العليم بمَن يهتدي ويشكر ربه -سبحانه وتعالى- فيوفِّقه الله -تبارك وتعالى- للطريق، والعليم بمَن يختار طريق الهداية ومَن لا يصلح لهذه الهداية فيُعمي الله -تبارك وتعالى- قلبه، كما قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ........}[الأنعام:53]، قال –جل وعلا- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، فالله أعلم -سبحانه وتعالى- بمَن يشكره -سبحانه وتعالى- فيهديه؛ ومَن يكفره -سبحانه وتعالى- فيُضِله، فإن الهُدى والإضلال إليه -سبحانه وتعالى- وهو الأعلم بخلْقِه -جل وعلا-، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ ........}[المدثر:56]، الله -سبحانه وتعالى-، {أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}، هنا جمع الله -تبارك وتعالى- بين صفتيه العظيمتين -سبحانه وتعالى- في معاملة أهل الكفران وأهل الإحسان، فهو أهل التقوى؛ يعني أهلٌ لأن يُتقى، أهل لأن يُخاف وذلك أنه الرب العظيم؛ الكبير، المُتعال، المُتكبِّر، شديد العقاب، الذي يؤاخِذ بالذنب، والذي لا يُعذِّب أحد كما يُعذِّب هو، ولا يُسلسل أحد كما يُسلسل هو، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25] {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، والذي يؤاخِذ بالذنب وإن كان صغير في أعين الناس لكنه إذا كان في ميزان الرب -تبارك وتعالى- كبير فهو يُعاقِب به، وهو العليم بكل أعمال عباده -سبحانه وتعالى- فهو القائم على كل نفس بما كسبت، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، يعني أن كل ذرَّة من كيان الإنسان الله يعلمها.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، قد أحكم الله -تبارك وتعالى- خلْقَه لا يفوته شيء -سبحانه وتعالى-، ما يفوت الرب -تبارك وتعالى- شيء عِلمًا وكذلك بعد ذلك حسابًا، قال {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، فهذا الرب الذي يؤاخِذ بالذنب؛ والذي هذه مؤاخذته وعقوبته على هذا النحو هذا أهلُ لأن يُتقى، إذا كنت لا تتقي الله وهو الله -تبارك وتعالى- يخبر أنه يُعاقِب ويؤاخِذ بالذنب؛ فكيف؟ فالله أهل لأن يُتقى، ثم هو أهل لأن يغفر؛ هو أهل المغفرة، فإنه غفور، رحيم، ودود، مُسامِح، كريم، كل مَن عاد إليه قَبِلَه ولو بعد أي جُرْم؛ لو أجرم في حقه ما أجرم، وسبَّه، وشتمَه، وسبَّ أوليائه؛ وشتمهم، وعابهم، وقاتلهم، وقتَّلَهم، لكنه يعود إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- هو الغفور الودود، فهو أهل لأن يغفر لأنه الغفور الودود -سبحانه وتعالى-؛ الرحمن، الرحيم، كل مَن عاد إليه فإنه يقبله -سبحانه وتعالى-، فجمع الله -تبارك وتعالى- بين هاتين الصفتين؛ بين أنه أهلٌ لأن يُتقى وأهلٌ لأن يغفر ليُذكِّر العباد، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، وكثيرًا ما يجمع الله -تبارك وتعالى- في القرآن بين هاتين الصفتين ليكون هذا تذكير لكل العباد، مَن أرا الرحمة فهذا طريقها والله -تبارك وتعالى- هو الرحمن الرحيم، ومَن أراد العقوبة فهذا طريقها ولينتظر العقوبة الشديدة منه -سبحانه وتعالى-.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين، بهذا تمت هذه السورة؛ سورة المُدثِّر، ولله الحمْد والمِنَّة.