الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا وببينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[القيامة:1] {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:2] {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[القيامة:3] {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة:4] {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10] {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:12] {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13] {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15]، سورة القيامة وهي من القرآن المكي، يقول الله -تبارك وتعالى- في أول السورة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[القيامة:1]، هذا قَسَم من الله -تبارك وتعالى- يُقسِم بيوم القيامة، ويوم القيامة اللي هو اليوم الآخر سُمَّيَ بيوم القيامة؛ ومن أسماء هذا اليوم يوم الدين، وذلك أن الناس يقومون فيه إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، وقال النبي «يقوم الناس في رَشَحِهم إلى أنصاف آذانهم»، يعني يقوم الناس لرب العالمين في هذا اليوم الذي طوله خمسين ألف سنة، في رَشَحِهم؛ يعني في عَرَقهم حتى يصِل عَرَق بعضهم إلى أنصاف أُذُنيه، فهو يوم عصيب عظيم وقد بشَّعه الله -تبارك وتعالى-؛ وحذَّرَ منه، وأخبر بتهاويله وشدته في آيات كثيرة من القرآن لأن هذا أكبر نِذارة؛ نِذارة عظيمة، كقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[الحج:1] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:2]، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10]، فهذا وصْف هذا اليوم، {......... يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:8]، وقال {........ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}[الفرقان:26]، فهذا يوم شديد عسِر.
قال -جل وعلا- {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[القيامة:1]، أن هذا يوم عظيم والله -تبارك وتعالى- يُقسِم به لعظَمَته؛ وتهاويله، وما يكون فيه، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، ثم قال -جل وعلا- {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:2]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنفس اللَّوَّامة، قيل أن اللَّوَّامة هي التي تلوم صاحبها على التقصير، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- النفس في مواضع من القرآن، ذكَرَها في حال الطيبة؛ نفس طيبة، وذكَرَها في حال الخُبث، وذكَرَها هنا في حال اللَّوَّامة، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}[الفجر:27] {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}[الفجر:28] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}[الفجر:29] {وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر:30]، فذكَرَ النفس بأنها المُمطمئنة وهذه نفس أهل الإيمان فإنها خلاص؛ إطمئنَّت إلى ربها -سبحانه وتعالى-، هنا قيل النفس اللَّوَّامة؛ أنها نفس تلوم صاحبها على التقصير، يعني إذا قصَّر العبد تؤنِّبه وتُخاطِبه من داخلهح لِما قصَّرت في هذا الأمر؟ أو إذا وقع في معصية فهي تؤنِّبه، وهذه النفس التي تلوم صاحبها وتُحرِّكه هي نفس على طريق الهُدى والخير، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الإثم ما حكى في الصدر وتلجلج في القلب وكرِهت أن يطَّلِع عليه الناس»، فكأن المؤمن تلومه نفسه عند الإثم ويرى أن هذا الأمر إثم فيحوك في صدره؛ ويتململ منه، وينفِر منه لذلك، {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[القيامة:1] {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:2].
قال -جل وعلا- {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[القيامة:3]، يحسَب؛ يظن، يعني هل يظن هذا الإنسان الكافر أن لن نجمع عظامه؟ جمع العظام ليستوي وقد تفرَّقَت وأرِمَت، وكانت هذه مقالة الكفار في أن الله -تبارك وتعالى- لن يُعيدهم لأن عظامهم إذا بليَت تفرَّقَت في الأرض؛ فمَن يستطيع أن يُعيدها مرة ثانية؟ فكانوا يستعظمون هذا {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]، مَن؛ هذا ليس سؤال للاستفهام وإنما للاستبعاد، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:79]، وقال الكفار {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، ظللنا في الأرض يعني ذابت أجسامنا في هذه الأرض وتُهنا فيها كما تقول العرب ((ضل السمن في الطعام))، يعني أنه تفرَّقَت أجزاء السمن في الطعام فأصبح لا يمكن أن تُخرِجَه مرة ثانية، {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:49]، نُضَم ونُبعَث خلْق جديد بعد أن نكون عظام ورُفاة، والرُّفاة هي العظام التي قد فُتَّت وانتهت، فقول الله أيحسَب الإنسان؛ وهذا الإنسان الكافر، {........ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[القيامة:3].
ثم قال -جل وعلا- {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة:4]، بلى؛ يُبيِّن الله -تبارك وتعالى-، قادرين؛ الله -سبحانه وتعالى- يتكلَّم عن نفسه بصيغة الجمع لأنه الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، {........ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة:4]، وتسوية الخلْق يعني إعادته كما كان، والبنان؛ الأصبع، وذِكر الله -تبارك وتعالى- للبَنان يدل على أنه من أكثر جسم الإنسان تعقيدًا في البناء وخصوصية له، وإلا مثلًا ما ذكَرَ الجمجمة أو ذكَرَ عظام أخرى بل ذكَرَ البَنان، وقيل بأن البَنان بالفعل هو أكثر أجزاء الإنسان حكمة وأسرار في الخلْق، فإن الخيوط العصبية التي تتصِل في الأصبع وتُحرِّكه واختصاص بَنان الإنسان بهذه التجاعيد الموجودة في الجلد؛ والتي عَلِمَ الناس بعد ذلك أن كل هذه التجاعيد وهذه الرسوم الموجودة في طرف البَنان لا يشتبه أصبع في الإنسان مع أي أصبع أخر، وكذلك لا يمكن أن تتطابق بصمة إنسان في كل الوجود مع بصمة إنسان أخرح وهذه من قدرة الرب -تبارك وتعالى- الهائلة والعظيمة على الخلْق، كيف يوجِد رسم في كل أصبع أو في كل طرف أصبع لا يتطابق مع أي بَنان أخر من ملايين الملايين الملايين من البشر؛ ما يمكن يتطابق هذا مع هذا، يكون هذا كذلك دليل مُعجِز على القرآن أن الله ذكَرَ البَنان وفيه هذه الخصوصيات؛ يعني خصوصية البناء، فيمكن إعادة مثلًا فخذ؛ عظمة الفخذ مثلًا إعادتها وصياغة مثيل لها، أما إعادة عظام البَنان وتركيبه على هذا النحو فهو أكثر عُقَد الإنسان ومفاصل الإنسان تعقيدًا من كل ما ركَّبَه الله -تبارك وتعالى- في هذا الكيان، فيكون قول الله -تبارك وتعالى- {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة:4]، يعني أن حتى هذا البَنان الذي هو أدق الخلْق في الإنسان الله قادر على أن يُعيده كما كان تمامًا؛ ببصمته الموجودة، بكل شيء فيه.
ثم قال -جل وعلا- {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5]، يعني أن الكافر هذا إنما يكفر فقط لفجوره؛ وليس لأنه فقد دليل، ولا عنده قضية عقلية منطقية بالفعل تُحيل يوم القيامة وتمنع البعث... لا، وإنما الإنسان يُريد أن يفجر؛ يُريد أن يسير في فجوره غير عابئ بشيء، وأما التزامه بالدين فإنه يضبِط عمله وحركته؛ ويجعل يسير في صراط الله المستقيم، ويؤمن، والإيمان تكليف وهو لا يُريد هذا؛ هذا الكافر لا يُريد هذا، يُريد أن يتفصَّى من كل هذا وأن يخرج من كل هذا؛ وأن يسير في فجوره غير عابئ بشيء، {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5]، أي أن الكافر يسير في فجوره لا يعبأ بشيء، {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، يسأل مُستهزئًا {........ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، بعيد، أيان ما قال أين وإنما أيان من استبعاد أن يقع يوم القيامة، {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، يعني هيهات هيهات لِما تُوعَدون؛ يعني أن هذا أمر بعيد لا يمكن تحقيقه ولا وقوعه.
قال -جل وعلا- {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10]، صوَّر الله -تبارك وتعالى- هنا حال هذا الكافر المُعانِد الآن؛ الذي يجلس والشمس مُشرِقة، والأرض مُستوية، وكل شيء أمامه مُستقِر على حاله، فيقوم يفجُر ويسير في تكذيبه وفجوره غير عابئ بشيء، لكن عندما سيتبدَّل الحال يوم القيامة {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7]، وبَرِقَ البصر يعني يبرُق البصر عند هذا الانفجار المُدَوي الذي يهدِم هذا العالم، {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8]، القمر يُخسَف؛ يذهب نوره وضوئه، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9]، يجتمع الشمس والقمر يعني أنه يلتصق بعضهم ببعض فينفرِط العِقد، هذا العِقد وهذا النظام الذي كان يضبِط كل جِرم من أجرام هذه السماء في مكانه ينفرِط، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:2] {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3]، وقال {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، فالكواكب تنتثِر؛ يصطَك بعضها في بعض، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، خراب لهذا العالم المُشاهَد، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9]، يعني في هذا الحال الشديد العظيم {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10]، يقول الإنسان؛ هذا الإنسان الكافر، يومئذٍ؛ في هذا اليوم العصيب، الذي لم يُصبِح فيه شمس في مكانها؛ ولا قمر في مكانه، ولا هذا في مكانه، أين يهرب؟ أين المفَر؟ أين يفِر من هذا الهَول الذي أحاط بالسماوات والأرض؟ أين المفَر؟.
قال -جل وعلا- {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11]، كلا؛ يعني لقوله أين المفَر؟ ما في مفَر، لا وزَر؛ الوزَر هو الملجأ أو المخبأ الذي يهرَب إليه صاحبه ليختبئ ويختفي... لا، {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:12]، إلى ربك؛ لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-، يومئذٍ المُستقَر؛ مُستقَر العباد، يعني قرارهم، وقيامهم، ومكوثهم، ووقوفهم إنما إلى الله -تبارك وتعالى- الذي يُحاسِب الجميع؛ ويُحاسِبهم جميعًا في وقت واحد كلهم، كل واحد يُخاطِبه ربه -تبارك وتعالى-، فكلهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ والجميع إلى ربك -سبحانه وتعالى-، وقول الله لنبيه إلى ربك هذا فيه ربك الذي آمنت به؛ والذي ترتكِن إليه، وهذه قوته، وهذه عظَمَته -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13]، يُنبَّأ؛ يُخبَر، والنبأ هو الخبر العظيم، يومئذٍ؛ في هذا اليوم، الإنسان؛ كل إنسان، {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، فالله -تبارك وتعالى- يعرض له كل عمله ويُقال له {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، ألم تفعل كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ ويُنبَّأ كذلك بأن تشهَد عليه حتى حواسه، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24]، وقال -جل وعلا- {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ........}[فصلت:21]، الأرض التي كان يسير عليها ويعمل معاصيه وفجوره عليها تشهد عليه، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، تُحدِّث الأرض أخبارها فتقول فُعِلَ عليَّ كذا وكذا يوم كذا وكذا، فإذن سيُنبَّأ الإنسان بما قدَّم وأخَّر، إما يُنبِّئه الله -تبارك وتعالى- إخبار مُباشِر «ألم يأتِكَ رسولي فبلَّغَك؟ وأتيتك مالًا وأفضلت عليك؛ فما قدَّمت لنفسك؟»، وإما أن الله -تبارك وتعالى- يُعطيه كتابه ويُنبَّأ بما في هذا؛ ويقرأ كتابه فيعرف الذي فيه، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ........}[آل عمران:30]، ويُقال للكافر هذا {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، وإذا أنكر فيُستشهَد عليه؛ تشهد عليه أعضائه، تشهد عليه الأرض التي عصى فيها، كل هذا يشهد عليه، {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13]، بما قدَّم من عمل قبل أن يموت وبما أخَّر كذلك ورائه من عمل، فإن بعض الناس طبعًا تؤخِّر الشر، «فمَن دعى إلى ضلالة كان عليه من الوِزر مثل أوزار مَن اتَّبَعَه لا يُنقَص من أوزارهم شيئًا، ومَن دعى إلى الهُدى كان له من الأجر مثل إجور مَن اتَّبَعَه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»، فكل واحد وما قدَّمه من العمل وما أخَّرَه يعني وكان هو نتيجة عمله كله سيُنبَّأ به، {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13].
ثم قال -جل وعلا- {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14]، أقام الله -تبارك وتعالى- كل إنسان على نفسه ليُبصِر على نفسه فيكون مسئول عنها، يعني أنه مسئول عن نفسه وقائمٌ عليها، {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15]، ولو ألقى معاذيره يوم القيامة؛ قال ما شوفت، ما رأيت، أنا غَفِلت، فأي عُذر يعتذر به عن أنه لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- ولم يتَّبِع طريق الهُدى ما يُقبَل، {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15]، لا تُقبَل، فلا يُقبَل من كافر عُذر، فيومئذٍ الكافر مهما تقدَّم من عُذر الله -تبارك وتعالى- لا يقبله لأن الله -تبارك وتعالى- قد أعذر إلى الخلْق بالبلاغ، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ........}[النساء:165]، ويُقال له {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، يعني ألم تُعمَّر في الدنيا وتبقى فيها ما هو وقت كافي للذِّكرى؟ وجائكم النذير؛ الشَيب يُنذِرُك، والرسول يُنذِرُك، {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15].
ثم قال -جل وعلا- لرسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، كان رسول الله -صل الله عليه وسلم- إذا نزل عليه القرآن في أول الأمر كان يُعاني من التنزيل شدة، فكان إذا جائه الوحي فيقوم يُحرِّك لسانه به مع الوحي حتى لا ينسى منه شيء؛ حتى يحفظه، فالله -تبارك وتعالى- قال له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ........}[القيامة:16]، أي عند الوحي، {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، لتعجَل بقرائته قبل أن يُقضى إليك وحيُك، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ........}[القيامة:17]، علينا جمع هذا القرآن في صدرك، علينا؛ على الله -سبحانه وتعالى- أن يجمعه في صدرك فلا تنساه، ثم فإذا قرأناه؛ يعني قرأه المَلَك عليك، فاتَّبِع قرآنه؛ يعني أنصِت إلى قرائة المَلَك، امشي معه وأنصِت له، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، بعد ذلك علينا أن نُبيِّنَه لك، وهذا البيان إنما هو وحي من الله -تبارك وتعالى- ليُعلِّم الله -تبارك وتعالى- رسوله ما الذي يُريد الله -تبارك وتعالى- بخطابه، هذا كلام ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وأن النبي كان يُعاني من التنزيل شدة فكان يُحرِّك لسانه -صل الله عليه وسلم- مع الوحي، ثم قيل له {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، لا تعجَل به أن تقرأه قبل أن يُقضى إليك وحيه، هنا قال -جل وعلا- {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، لتعجَل به؛ أي لتعجَل بقرائته قبل أن ينقضي، بل انتظر حتى تنقضي القراءة، إن علينا؛ على الله -تبارك وتعالى-، قال {........ جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، جمعه قال ابن عباس في صدرك، وقرآنه؛ أن تقرأه بعد ذلك على لسانك كما أنزله الله -تبارك وتعالى-، فإذا قرآناه؛ قرأه المَلَك، فاتَّبِع قرآنه؛ اتَّبِع قراءة القرآن، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، أن يُبيِّنه الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- والنبي قد جاء، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، والبيان لا شك أنه بوحي من الله -تبارك وتعالى-، فالقرآن وحي الله إلى رسوله والبيان كذلك إنما هو بيان الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم-.
ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20] {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24] {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25]، هذه الآيات اللي هي قول الله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، جائت في سياق سورة القيامة على هذا النحو وكأن الآيات هنا مُتطِعة بين سياق السورة الذي يتكلَّم عن يوم القيامة؛ وما يكون فيه، ونقاش الكفار فيه وتحذيرهم منه، ثم موعظة من الله -تبارك وتعالى- في آخر السورة {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20]، مناسبة مجيء هذه الآيات تذكير الله -تبارك وتعالى- لرسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18]، أولًا فيها تذكير بأن القرآن هذا من عند الله -تبارك وتعالى-؛ أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وليس من عند النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولا شك أن جمع القرآن في صدر النبي هو بذاته مُعجِزة، فإن هذا القرآن مع ما فيه من التشابه اللفظي؛ تشابه الآيات بعضها ببعض تشابه لفظي غير التشابه في المعنى، فإنه يحتاج إلى حِزق هائل ومهارة هائلة في حفظه؛ ومداومة على هذا الأمر حتى يُحفَظ، فكيف والنبي أُمِّي -صلوات الله والسلام عليه-؛ لا يقرأ ولا يكتب ولا يرجع إلى كتاب؟ كيف كان يقرأه في المرة الواحدة ثم يُقرِئه أصحابه؟ تأتي عليه الآيات فيُقرِئه إياها، ثم يقرأ بهذه القراءة لا تتغير ولا تتبدَّل، فحفظ النبي للقرآن إنما هو في ذاته من أعظم الأدلة أن هذا القرآن إنما هو من عند الله -تبارك وتعالى-؛ وليس من عند النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقول الله هنا {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17]، تذكير للعباد كذلك بأن النبي كان يُعاني من القرآن شدة؛ وأن الله -تبارك وتعالى- أخبره بأنه سيجمع هذا القرآن في صدره، وأنه هو الذي سيجعله سيقرأه سليمًا على لسانه، ثم إنه -سبحانه وتعالى- هو الذي سيُنزِل عليه الوحي ببيانه، فيبقى النبي -صل الله عليه وسلم- بحفظه للقرآن وبشرحه له آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ ويبقى أنه آتيه من الله -تبارك وتعالى- وليس مُنشِئًا لهذا القرآن من عند نفسه، الأمر الأخر أنه لعل في نزول هذا الوحي كان النبي يُحرِّك لسانه، فأنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذه الآيات تذكير.
ثم قال -جل وعلا- لهؤلاء الكفار {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20]، كلا؛ إضراب لِما هم عليه من التكذيب والعِناد، وبيان عِلَّتهم كذلك في التكذيب أنهم يُحِبون العاجلة ويذَرون الآخرة؛ وهذا من ضعف الفهم والعقل، بل من ضياع العقل أنكم تُحِبون العاجلة، العاجلة؛ الدنيا، وأنها عاجلة أنها هي المُعجَّلة الآن قريبة، {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21]، والآخرة باقية والعاجلة مُوَلِّية؛ ذاهبة، هاربة، ليست ماكثة، فقال -جل وعلا- تُحِبون العاجلة مع ما فيها من النقص؛ أنها ناقصة ووقت المقام فيها قليل، وهي مُنغَّصَة بما فيها من المُنغِّصات؛ فهي لا تصفوا لأحد، بل لابد فيها {........ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، هي فيها الخير والشر وعُمركم فيها قليل ومتاعها زائل، {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21]، تَذَرون؛ تتركون الآخرة، والآخرة فيها النعيم المُقيم الذي لا ينقطع، والنعيم بكل أنواع النعيم؛ نعيم في الصحة، العافية، النضارة، كل ألوان السرور والحبور، لِباس أهل الجنة، دورهم، قصورهم، بهجتهم، فكيف تُفضِّل هذه على هذه؟ ثم إن الآخرة فيها هذا النعيم المُقيم وفيها العذاب المُقيم كذلك، وفيها العذاب المُقيم الذي لا ينقضي ولا ينقطع، فكيف يليق بصاحب العقل أن يُحِب هذه العاجلة ويركَن إليها؛ ويَذَر ويترك الآخرة؟ فلا يعمل للهروب من النار ولا يعمل لدخول الجنة، لا شك أن هذا ضياع عقل مع أن هذا حق يقين؛ والخبر فيه جاء من الله -تبارك وتعالى- رب السماوات والأرض، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20] {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21].
ثم أتى الله -تبارك وتعالى- بشيء مما في هذه الآخرة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24] {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25]، وجوه ووجوه، وجوه أهل الإيمان؛ أهل الجنة، {........ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22]، النُضرة هي البهاء، والجمال، والوضائة، فهذا ماء الحياة يجري في وجوه أهل الجنة بما هم فيه؛ من السرور، والسعادة، والحبور، وكافة أنواع النعيم الذي هم فيه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23]، أعظم وأشرف وأعلى ما في الجنة من المتاع رؤية الرب -تبارك وتعالى-، وهذا الأمر -إن شاء الله- سنأتي إلى تفصيله في الحلقة الآتية -إن شاء الله-.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.