الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (755) - سورة القيامة 20-40

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20] {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24] {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة:26] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:27] {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}[القيامة:28] {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:29] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:30] {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}[القيامة:31] {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[القيامة:32] {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}[القيامة:33] {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35] {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة:36] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}[القيامة:37] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى}[القيامة:38] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}[القيامة:39] {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:40]، هذي آخر سورة القيامة وقد مضى أنها من القرآن المكي، قول الله -تبارك وتعالى- {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20] {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21]، زجر عن ما هم فيه من التكذيب بيوم القيامة، فإن الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ الكافر والذي يحمله على المُضي في فجوره بأنه يقول {........ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، قال -جل وعلا- {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- هذا اليوم فقال {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10]، البحث عن المهرَب في وقت لا مهرَب فيه، {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:12] {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13].

ثم قال -جل وعلا- {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:15] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة:20]، بل تُحِبون؛ وهم الكفار، العاجلة؛ الدنيا، {وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21]، تَذَرونها؛ تتركونها، إما لعدم إيمانهم بأنه لن تكون هناك آخرة قط، ولذلك جعلوا همهم وعملهم إنما لهذه الدنيا فقط، أو أن مع ظنهم أن تكون هناك آخرة إلا أنهم نسوها ونسوا العمل لها، وأهملوا هذا وجعلوا همهم وعملهم واجتهادهم في هذه الدنيا، ولكن هذه الآخرة التي إما أُهمِلَت بسبب نسيانها وتُرِكَت بسبب إهمالها ونسيانها؛ أو تُرِكَت بسبب ما عند الكفار من الشك فيها وأنها لا تكون، ولكن انظروا كيف ستكون أحوال الناس يوم القيامة، قال -جل وعلا- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23]، هذه وجوه أهل الإيمان الذي آمنوا بالآخرة وعملوا لها يذكر الله -تبارك وتعالى- أعلى مُتعَتِهم وأعلى سعادتهم؛ أنهم يوم القيامة يكونون ناظرين إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22]، النُضرة هي البهاء؛ والإشراقة، والنور، وجريان ماء الحياة في وجوههم، وذلك من سعادتهم وأعلى سعادتهم برؤية ربهم -سبحانه وتعالى-.

{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23]، وناظرة من النظر وليس للانتظار كما أوَّلَه وحرَّفَه مَن ينفون رؤية الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، ورؤية الله -تبارك وتعالى- في الآخرة حق بهذه الآية؛ وكذلك بقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ........}[يونس:26]، الحُسنى؛ الجنة، والزيادة على الحُسنى والذي أعلى منها النظر إلى وجه الله -سبحانه وتعالى-، وقد جائت الأحاديث الكثيرة قطعية في هذا كقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «سأله الصحابة فقالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال هل تُضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب أو حجاب؟ هل تُضامون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب أو حجاب؟ ثم قال النبي إنكم سترَون ربكم كذلك»، سترَون ربكم كذلك أي سيراه كلهم وهم في مكانهم في الجنة كما أنهم لا يُضامون يعني يتزاحمون عند رؤية الشمس ورؤية القمر، وكذلك قوله -صل الله عليه وسلم- «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»، فإذا كشف الله -تبارك وتعالى- هذا الحجاب بينه وبين عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى- رأوا أنهم لم يُعطَوا من النعيم مثل ما أُعطوا من رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-، وقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إنكم سترَون ربكم كما ترَون الشمس ليس دونها سحاب أو حجاب، فإذا استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، فأوصى النبي المؤمنين بالمحافظة على صلاتين؛ صلاة العصر وصلاة الفجر، والربط بين هاتين الصلاتين ورؤية الله -تبارك وتعالى- أنا المحافظة على هاتين الصلاتين اللَّاتي هما في أوقات بالنسبة للإنسان تأتي بعد نوم وبعد الراحة، وأنه لابد لِمَن يُحافظ عليهما أن يترك الأمر اللذيذ له والذي يحبه من النوم في الليل فيقوم لصلاة الفجر؛ ومن النوم في الظهيرة ليقوم لصلاة العصر، قال النبي «فإذا استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، فأسعد الناس حظًّا يوم القيامة برؤية الله -تبارك وتعالى- الذي يحافظ على هاتين الصلاتين، فكلما كان العبد ذاكِرًا لله -تبارك وتعالى-؛ قائمًا بحقه، عابِدًا له، كلما كان أسعد حظًّا برؤية ربه -سبحانه وتعالى-، ولا يساوي النعيم الذي في الجنة كلها ما يُساوية رؤية المؤمنين لربهم -سبحانه وتعالى-، كما جاء في الحديث «الله -تبارك وتعالى- يُنادي أهل الجنة يا أهل الجنة هل تُريدون شيئًا أزيدُكم؟»، ماذا تتمنَون؟ «فيقولوا يا ربِ ماذا نُريد وقد بيَّضت وجوهنا؛ وأدخلتنا الجنة، وأعطيتنا ما لا يعن رأت؛ ولا أُذُن سمِعَت، ولا خطر على قلب بشر، فيقول الرب -تبارك وتعالى- أُفرِغ عليكم رضواني وأرضى عنكم رضاءً لا أسخَط عليكم بعده أبدًا»، ثم يكشف الله -تبارك وتعالى- الحجاب عن وجهه فيروا أنهم لم يُعطَوا كما أُعطوا من رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من هؤلاء الذي يُمتِّعهم الله -تبارك وتعالى- برؤيته يوم القيامة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23].

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24]، باسِرة؛ عابسة، شدة العبوس من الهم، والغم، والكرب، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24]، عابسة، ذليلة، قد علاها كل الهموم والغموم وهي وجوه الكفار -عياذًا بالله-، {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25]، تظُن؛ والظن هنا بالاعتقاد، {........ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25]، الفاقِرة هي الداهية العظيمة التي تُحطِّم الظهر؛ تكسِر فِقار الظهر، الداهية العظيمة والداهية الكبرى التي لا أدهى منها ولا أفظع منها هي الذهاب إلى الجحيم -عياذًا بالله-، فصوَّر لنا الله -تبارك وتعالى- ونقل لنا الله أخبار هؤلاء الكفار؛ وأنها وجوه تعبس أشد العبوس، كما قال -تبارك وتعالى- {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، كأن قطع من الليل جائت والتصقت بوجوههم -عياذًا بالله-، وقال -جل وعلا- {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه:99] {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}[طه:100] {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه:101] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102]، والزُّرقا؛ شدة السواد، يعني نحشرهم وجوههم سوداء كاملة السواد، وقال -جل وعلا- {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ........}[آل عمران:106]، فهذه الوجوه الباسِرة؛ الكالحة، العابسة، {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25]، يعني ها دول أصحابه يظنوا؛ يعتقدوا، يظنوا أن يُفعَل بهم فاقِرة وذلك أنهم يُساقوا إلى النار -عياذًا بالله-، وهنا صوَّرَ الله -تبارك وتعالى- حال المؤمنين في قمة سعادتهم؛ وحال الكفار في بداية شقائهم، فإذا كانت هذه البداية هكذا؛ البداية سواد الوجه، عندما تسوَد الوجوه من الكرب والأمر العظيم فكيف بما بعد ذلك عندما يكونون في الجحيم -عياذًا بالله-، إذا كان هذا الحال؛ يعني سواد الوجه وعبوسه، وبعد هم في طريقهم إلى النار -عياذًا بالله-؛ لم تنزل بهم النار بعد، {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25].

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا}، زجر بعد زجر عن إتخاذ طريق الغي ووعظ من الله -تبارك وتعالى- لعباده أن يتخذوا طريق الرُشْد، ثم ذكَّر الله -تبارك وتعالى- باللحظة التي سيُفارِق فيها الإنسان الحياة فقال {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة:26] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:27] {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}[القيامة:28] {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:29] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:30]، إذا بلغت التراقي وهي الروح، والروح عندما تخرج من الجسم تخرج من الأطراف أولًا؛ من أطراف الجسم من الأرجل، عندما ينزِعُها مَلَك الموت فإنه يُخرِجُها من أطراف الإنسان إلى أن تصِل إلى حلقِه؛ ثم تصعد بعد ذلك ويتَّبِعُها البصر، كما قال النبي «إن العين تتبَع الروح»، ولذلك أُمِرنا أن نُغمِضَ العين بعد الموت وذلك أنها تبقى شاخِصة؛ تبقى العين شاخِصة، لأنها إذا رأت روحها قد خرجت تشخَص وتبقى هكذا، فالروح آخر مرحلة لها في جسم الإنسان هي عند التراقي؛ وهي عند الحُلقوم، والتراقي هي العظام التي تجتمع بجوار ثُغرَة النحر، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة:26]، أي بلغت روح الإنسان تراقيه، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:27]، قال مَن حوله بعد أن يئسوا من أي علاج يبحثوا عن الراق الذي يرقى بالرُقية، فإن الرُقية يُلجَأ إليها بعد ذلك بعد اليأس من الأسباب المادية في العلاج، خلاص انقطع الرجاء من كل علاج ولم تبقَ إلا الرُقية، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:27] {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}[القيامة:28]، ظن هذا المُحتَضِر بأنه الفراق، الظن هنا بمعنى اليقين، أنه الفراق؛ سيُفارِق، وأنه خلاص؛ روحه قد بلغت الحُلقوم وأنها خارجة، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:29]، أي بعد خروج الروح لابد من لف هذا الجسد لحمله فيُربَط ساقه بساقه؛ وتُلَف ساقه بساقه أي بكَفَنِه.

قال -جل وعلا- {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:30]، إلى ربك؛ يعني إلى الله -تبارك وتعالى-، {........ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:30]، فأخذ هذا الجسد في رحلته إلى القبر إنما هي بداية الرحلة إلى الله -تبارك وتعالى- ليوم القيامة والروح كذلك، وقد بيَّن النبي -صلوات الله والسلام عليه- هذه الرحلة فقال «الجنازة إذا حُمِلَت فإن المؤمن وقد بُشِّر بالجنة عند خروج روحه يقول لحامليه قدِّموني قدِّموني»، يعني يرى الإسراع وذلك أنه ذاهب إلى ربه -سبحانه وتعالى- حيث الكرامة، وأما الكافر والمنافق فيصرخ ويقول يا ويلها؛ إلى أين تذهبون بها؟ أما الروح فقد أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- فقال «إذا كان المؤمن في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا أتاه مَلَك الموت فجلس عند رأسه وقال لروحه اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت تسكن في الجسد الطيب، يقول النبي فتفيض كما تفيض القطرة من فِي السقاء، فلا يدعها ملائكة الرحمة وقد جائوا مع مَلَك الموت فيجلسون من المؤمن مَدَّ بصره؛ معهم حَنوط من الجنة ومعهم كَفَن من الجنة، فلا يدعون الروح في يد مَلَك الموت طرفة عين إلا أخذوها؛ حنَّطوها بذلك الحَنوط، وكَفَّنوها بهذا الكَفَن، ثم صعدوا بها إلى السماء التي فيها الله، كلما مروا على ملأ من الملائكة شمُّوا منها كأطيب ريح مِسك وجِدَ على سطح الأرض، فيقولون روح مَن هذا الطيب؟ يقولون روح فلان ابن فلان بأطيب أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، ثم يقول الله -تبارك وتعالى- للملائكة رُدُّوا روح عبدي إليه؛ فإني منها خلَقتهم، وفيها أُعيدهم، ومن أُخرِجَهم تارة أخرى، فتُرَد روحه إلى قبره فيأتيه ملَكَان فيسألانه؛ مَن ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول المؤمن ربي الله؛ ديني الإسلام، وأقول في هذا الرجل أنه عبد الله ورسوله؛ أتانا بالهُدى من الله فآمنَّا وصدَّقنا، فيُقال أن صدَقَ عبدي فافتحوا له بابًا إلى الجنة، فينظر مكانه في الجنة ويُقال له هذا مكانك يوم يبعثُكَ الله، ويُقال له نَم نومة العروس التي لا يوقِظُها إلا أحب أهلها إليها»، فهذه رحلة روح المؤمن في البرزخ، ثم بعد ذلك رحلته يوم القيامة إلى الله -تبارك وتعالى- للعرض والحساب، ثم إلى الجنة.

أما الكافر والمنافق فإنه إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا؛ اللي هي دقائقه القليلة في الحياة الباقية، أتاه مَلَك الموت فجلس عند رأسه، وأتاه ملائكة من النار معهم حَنوط من النار، ومعهم كَفَن من النار، فيقول مَلَك الموت لروحه اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت تسكن في الجسد الخبيث، يقول النبي «فتتفرَّق الروح في بدنه فينتزعها»، يعني مَلَك الموت ينتزع الروح من جسده، «كما يُنتزَع السَفُّود من الصوف المُبتَل»، والسَفُّود اللي هو حديدة اللحم، الصوف إذا ابتَل فإنه يشتد فإذا كان فيه حديد وخرج منه فإنه يكون له شدة في إخراجه، النبي يقول «كما يُنتزَع السَفُّود من الصوف المُبتَل، فلا يدعونها»، يعني ها دول ملائكة العذاب لا يدَعون الروح في يد مَلَك الموت، «طرفة عين إلا وحنَّطوها بذلك الحَنوط من النار»، الحَنوط؛ رائحة خبيثة -عياذًا بالله-، وكَفَّنوها بهذه المسوح من النار، «ثم يصعدون بها إلى السماء، كلما مروا على ملأ من الملائكة شمُّوا منها كأنتن جيفة وجِدَت على سطح الأرض»، فالملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم، «فيقولون روح مَن هذا الخبيث؟ فيقولون روح فلان ابن فلان، ثم إذا أتوا بها إلى السماء تُقفَل أبواب السماء في وجوههم»، وتلى النبي قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40]، عند ذلك عندما تُقفَل السماء يُلقون روحه إلقاء، وتلى النبي قول الله -تبارك وتعالى- {........ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:31]، ثم تُعاد روحه إلى قبره فبدَنِه، «يأتيه مَلَكان يسألانه؛ مَن ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول ها ها لا أدري؛ سمِعت الناس يقولون شيئًا فقُلته، فيُقال أن كذب عبدي؛ فافرشوا له فراشًا من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار ليرى مكانه فيها، يُقال له هذا مكانك يوم يبعثُكَ الله»، في هذا المكان حيث تُبعَث، «فيقول ربي لا تُقيم الساعة؛ ربي لا تُقيم الساعة»، يفزَع من قيام الساعة.

فهذا هو المساق إلى الله -تبارك وتعالى- بدءًا من خروج الروح ثم يوم القيامة عندما يخرج الناس من قبورهم، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، فإن مسار الكفار بعد ذلك إلى النار رأسًا من خروجهم من قبورهم؛ فإنهم يُساقون سَوقًا إلى النار -عياذًا بالله-، فيسوَد وجهه بمجرد ما يخرج من قبره في البعث؛ ويعلم بعد ذلك أنه داخل النار لا محالة، كما قال الله -تبارك وتعالى- {........ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}[الكهف:53]، اعتقد الكفار أنهم مواقِعون النار لأنهم خلاص؛ في الطريق إليها ولم يجدوا عنها مصرِفًا، هنا صوَّرَ الله -تبارك وتعالى- حالهم في هذا الوقت العصيب فقال {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}[القيامة:24] {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:25] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة:26] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:27] {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}[القيامة:28] {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:29] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:30].

وهذا الكافر الذي سِيق قال -جل وعلا- {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}[القيامة:31]، فلا صدَّق؛ أي بالرسول الذي جاء بالحق من عند ربه فإنه لم يُصدِّقه، ولا صلَّى لله -تبارك وتعالى- وقام بحق الله -تبارك وتعالى- الذي خلَقَه لعبادته -جل وعلا-، فهو لا كان من أهل الإيمان ولا كان أيضًا من أهل العمل بمُقتضى الإيمان؛ الصلاة، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[القيامة:32]، جمع التكذيب والتوَلِّي كذلك عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، ولكن كذَّبَ؛ كذَّبَ الحق، وردَّه، ولم يُصدِّقه، وتوَلِّى؛ أعرض بنفسه عن قَبوله، {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}[القيامة:33]، يعني في الدنيا هذا حاله؛ لا صدَّق بالله، ولا صلَّى، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[القيامة:32] {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}[القيامة:33]، أي أنه كان في الدنيا فَرِح مسرور وعندما يذهب إلى أهله يقوم يتمطَّى؛ يعني يتمطَّط، والتمطِّي هو التبختُر والعُجْب بالنفس، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:13]، لا يحمل هم الآخرة؛ ولا يُفكِّر في هذا، ولا يُفكِّر أن مآله على هذا النحو، ولا أن مرجِعَه إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا أنه مُحاسَب على عمله، فعاش فَرِحًا؛ مسرورًا، خالي الذِهن، يتبختَر في مشيته كما يشاء، {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}[القيامة:33].

ثم قال -جل وعلا- {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35]، أولى لك يعني خلاف هذا، يعني الأَولى والأحرى بك ألا تسلُك هذا الطريق؛ طريق الكفر والعناد، الكذب التوَلِّي عن الله -تبارك وتعالى-، بل أولى لك الإيمان والتصديق لأن مآلك إلى الله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {فَأَوْلَى لَهُمْ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، يعني أن هذا الأليَق وهذا الأفضل، {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35]، تذكير ووعظ من الله -تبارك وتعالى- للإنسان الكافر أن يرتدِع عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب؛ وأن يتخذ ما هو أولى له من الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، والتصديق، والصدق، أو قيل {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35]، أنها تهديد؛ كلمة تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المُكذِّبين.

ثم قال -جل وعلا- {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة:36]، أيحسَب؛ يظن، الإنسان؛ الكافر، {........ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة:36]، يعني أن يتركه الله -تبارك وتعالى- سُدى، السُّدى هو المُضيِّع الذي لا يؤمَر ولا يُنهَى؛ وأنه خُلِقَ هكذا، وأنه لا أمر ولا نهي، وأن الذي خلَقَه -سبحانه وتعالى- لا أمر له عليه؛ ولا طريق له، وأن يفعل ما يشاء هكذا، كما قال -جل وعلا- {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116]، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يخلُقَ الخلْق وأن يتركهم وأن يُهمِلَهم على هذا النحو؛ وأن يترك الفاجر في فجوره، والصالح في صلاحه، ولا يُحاسِب فاجرًا على فجوره وكافرًا على كفره، ويثيب مؤمنًا على طاعته، يستحيل هذا؛ هل يستوي مَن آمن به -سبحانه وتعالى- واتخذ طريقه مع مَن كفر به؛ وعانده، وسار في طريق العناد؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8] {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}[الانفطار:9] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار:10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار:11]، قال -جل وعلا- {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}[التين:7] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين:8]، يعني ما الذي يحمِلُك على التكذيب بالدين والجزاء؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين:8]، الله هو أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى-، ولا يمكن أن يكون أحكم الحاكمين قد خلَقَ هذا الخلْق عبث ولعب، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ........}[المؤمنون:115]، وقال {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الدخان:38] {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الدخان:39]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27].

{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة:36] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}[القيامة:37]، هذي نشأته، انظر عظيم خلْق الله -تبارك وتعالى- فيه، من مَني؛ من هذا الشيء القذر هذا، {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ........}[القيامة:38]، في رحِم أمه، {فَخَلَقَ فَسَوَّى}، خلَقَه الله -تبارك وتعالى- وسوَّاه بداية من هنا، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}[القيامة:39]، جعل منه؛ من هذه العَلَقَة، الزوجَين؛ الاثنين الذكر والأُنثى، زوجَين يعني الزوج واحد والزوج واحد، الذكر والأُنثى هذا دليل عظَمَته وقدرته -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:40]، أليس ذلك الذي خلَقَ الإنسان من نُطفة إذا تُمنى، ثم أنشأه هذه النشأة؛ وجعله عَلَقَة صغيرة، يعني بويضة صغيرة مُلقَّحة تعلَق في الرحِم، ثم خلَقَه الله -تبارك وتعالى- وأنشأه حتى جعل منه الذكر والأُنثى، هل يعجَز الذي خلَقَ الإنسان على هذا النحو وجعله بعد ذلك رجل كامل وامرأة كاملة أن يُعيد هذا الخلْق مرة ثانية؟ فما الذي يحمِلُك أيها الكافر على التكذيب بيوم القيامة؟ الله هو أحكم الحاكمين ولا يمكن أن يخلُقَ خلْقَه سُدىً وعبثًا، وهذه قدرة الله -تبارك وتعالى- ماثلة في الخلْق، والذي قَدَر على أن يخلُق خلْقَه على هذا النحو قادر على إعادته -سبحانه وتعالى-.

الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله في البدء والختام.