الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1] {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4] {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}[الإنسان:6] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:11]، سورة الإنسان قد كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يقرأ بها في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، كل فجر يوم جمعة يجمع بينها وبين {الم}[السجدة:1]، يقرأ {الم}[السجدة:1] في الركعة الأولى وسورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ........}[الإنسان:1] يقرأها في الركعة الثانية، وقيل أن سبب مداومة النبي -صلوات الله والسلام عليه- على قراءة هاتين السورتين في فجر يوم الجمعة أن هاتين السورتين اشتملتا على أصول عقائد الإيمان، عامة مسائل الإيمان كلها قد جمعتهما هاتين السورتين؛ {الم}[السجدة:1] و{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}.
في سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}، الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ قصة الخلْق؛ ولِما خلَقَ الإنسان؟ وأنه مخلوق طارئ على هذه الأرض، وأنه خلَقَه لمهمة، وأن الناس سينقسِمون في النهاية إلى قسمَين؛ مؤمن وكافر، ثم أجمل الله -تبارك وتعالى- ما سيلقاه الكافر؛ وفصَّل الله -تبارك وتعالى- في نعيم أهل النعيم، وفي ختام السورة أخبر بأن هذه موعظة عظيمة لعباده؛ وأن هذا هو الطريق، قد بيَّنَّا لكم الطريق؛ هذا طريق الرُّشْد، وهذا طريق الجنة، وهذا طريق النار، وليتخذ كلٌ منكم طريقه الذي يُريد، قال {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29]، وبيَّن أن مشيئة الإنسان هي في مشيئة الرب -تبارك وتعالى-؛ أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكُن، {........ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29]، وقال {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31].
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا السؤال الذي يُراد به التقرير {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1]، وهذا أمر مُقرَّر وحق، فإن الإنسان حتى بشهادة الكفار مخلوق طارئ على هذه الأرض؛ كان قبل أن لم يكُن، قد سبَقَه مخلوقاته كثيرة، وهذا الخلْق سبَقَته الأرض، الأرض عاشت بدون الإنسان دهور طويلة من عُمرِها لم يكُن الإنسان موجودًا فيها، ثم إن الإنسان طرأ وجاء قادم على هذه الأرض، هل أتى على الإنسان؛ هذا جنس الإنسان، حين من الدهر؛ وقت منه، لم يكُن شيئًا مذكورًا؛ في الوجود، ما كان مذكورًا في الوجود ولا كان له ذِكْر، والله -تبارك وتعالى- هو الذي في أول الأمر ذكَرَ شأنه لملائكته -سبحانه وتعالى- فقال للملائكة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:30]، وجاء أن الله -تبارك وتعالى- أرسل جبريل إلى الأرض؛ هذا الكوكب المعروف، أتى جبريل وأني يأتي الله من تُربَتِها، فجاء جبريل وأخذ من تراب هذه الأرض؛ من سهلها وكذلك من حَزنِها من الأعالي، من أعالي وأسافِل الأرض، ثم أن هذا التراب أصبح طينًا، خُمِّر ليكون طينًا في السماء؛ وأن الله -تبارك وتعالى- سوَّى آدم بيديه، وقال الله للملائكة {........ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}[ص:71] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص:72] {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[ص:73] {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ص:74]، وقصَّ الله -تبارك وتعالى- قصة بداية خلْق هذا الإنسان؛ خلْقَه في السماء، ثم إسكانه الجنة، ثم معصية إبليس عن أن يسجد له، إسكان آدم في الجنة وتحذيره من إبليس، أكل آدم -عليه السلام- من الشجرة، توبته ورجوعه إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم إنزال آدم إلى هذه الأرض، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124].
أهبط الله -تبارك وتعالى- آدم من السماء إلى هذه الأرض ليسكُنها؛ وليعمُرها، وليعيش فيها، وجعل الله -تبارك وتعالى- ذُريَّته بعد ذلك خلائف يخلفون هذه الأرض، فالإنسان وجِدَ وقد كان قبله وقت ما كان موجودًا ولا كان مذكورًا عند أحد؛ لا مذكور في السماء ولا مذكور في الأرض، ثم جعله الله -تبارك وتعالى- مذكورًا في السماء وهذا ذِكره، ثم أنزله إلى هذه الأرض ليكون مخلوقًا طارئًا عليها، ثم حدَّدَ له الله –تبارك وتعالى- حد من يوم ما أنزل آدم إلى الحد الذي تنتهي فيه هذه الأرض؛ وتنتهي فيه هذه الدنيا، ويقوم الناس لرب العالمين، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2]، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1]، والجواب لا شك نعم، قد أتى على الإنسان حين من الدهر؛ وقت من الدهر يعلمه الله -تبارك وتعالى-، لم يكُن شيئًا مذكورًا لا في السماوات ولا في الأرض، ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- ذِكرَه يوم بدأه عندما قال للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، وخلَقَه الله -تبارك وتعالى- في السماء ثم أهبطه إلى هذه الأرض.
قال -جل وعلا- {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2]، هذه بيان لإرادة الرب -تبارك وتعالى-؛ وبيان حكمَته من خلْق هذا الإنسان، قال إنَّا خلقنا الإنسان؛ اللي هو جنس الإنسان، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}، أمشاج؛ أخلاط، وعُلِم الآن أن هذه النُطفة إنما هي أخلاط؛ فيها ما تُبرِزه البرستاتا، فيها ما تُبرِزه الخصيتين، فيها الحيوان المنوي الموجود الذي يخلُقه الله، فمن هذه الأخلاط ومن هذه النُطفة خلَقَ الله -تبارك وتعالى- الإنسان، ثم كذلك من أخلاط اجتماع نُطفة الرجل مع بويضة المرأة، من هذه الأخلاط خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان، {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ........}[الإنسان:2]، أراد الله -تبارك وتعالى- أن يختبره؛ وهذا الابتلاء إنما هو بإحسان العمل، كما قال -جل وعلا- {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ........}[الملك:2]، قال {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ........}[هود:7]، نبتليه؛ يختبره الله -سبحانه وتعالى- بإحسان العمل، قال -جل وعلا- {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، جعلناه؛ جعلنا هذا الإنسان، سميعًا بصيرًا؛ له سمعٌ وبصر، وهذه منافذ المعرفة؛ هذه ليعرِف؛ وليتعلَّم، وليترقَّى، وليتدرَّب، والسمع والبصر من أعظم النِعَم، قدَّم الله -تبارك وتعالى- السمع على البصر لأنه أكثر نفعًا للإنسان من البصر، يعني إذا قُلنا بين السمع والبصر فإن السمع أكثر نفعًا للإنسان من بصره؛ فإنه وسيلة المعرفة، ولذلك يتعلَّم السميع وإن فقد بصره، يسهُل تعليمه عن طريق الأُذُن فيُعلَّم كل العلوم، أما الذي فقد سمعه وإن كان وجِدَ البصر فيعثُر تعليمه، تعليم الذي لا يسمع أصعب ولذلك يوجد من العُميان في كل الفنون والعلوم يتعلَّم، وأما البُكْم بإن تعليمهم عسِر؛ أصعب، {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، الله ركَّبَ له هاتين الآلتين العظيمتين؛ السمع والبصر، وذلك ليهتدي، ويتعلَّم، ويُبصِر.
قال -جل وعلا- {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، هديناه؛ الهُدى هنا بمعنى أنه ألزَمَ ووفَّقَ كل إنسان واتخذ كل إنسان سبيله من مؤمن وكافر، إما شاكرًا لربه -سبحانه وتعالى- وإما كفورًا، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، قيل الهُدى هنا بمعنى الإرشاد والبيان، ولكن الصحيح هنا أن الله -تبارك وتعالى- قد يسَّرَ كل إنسان إلى عمله، مَن كان من أهل السعادة يسَّرَه الله -تبارك وتعالى- إلى عمل أهل الشقاوة، ومَن كان من أهل يسَّرَه الله -تبارك وتعالى- إلى عمل أهل الشقاوة، كما قال النبي «اعملوا؛ فكلٌ مُيسَّر لِما خُلِقَ له، فمَن كان من أهل السعادة فيُيسَّر إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيُيسَّر إلى عمل أهل الشقاوة»، وكما قال -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، نُيسِّره؛ نجعل طريق اليُسرى وهي الجنة سهل عليه، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، ونُيسِّره يعني نجعل طريق العُسرى وهي النار سهل عليه، يسير إلى النار وهو يضحك؛ وهو مسرور، فكل إنسان قد يسَّره الله -تبارك وتعالى- وهداه إلى طريقه الذي يستحقه، كما قال -جل وعلا- {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4]، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2]، هدى كل مخلوق وكل إنسان إلى طريقه الذي يستحقه؛ والذي هو الجدير به واللائق به، خلاص كل إنسان يسير في مساره، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا ........}[الإنسان:3]، أي لربه وهذا هو المؤمن، شاكر لربه؛ قائم به، مؤمن به، الشاكر لا يكون إلى مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى-؛ مُصدِّقًا بوعيده، حامدًا لله -تبارك وتعالى- على إنعامه، قائمًا بمُقتضى هذه النِعَم حسْب ما يُريد الله؛ وهذا معنى الشكر، {وَإِمَّا كَفُورًا}، وإما أن يكون كفور، وكفور هذا اسم فاعل فيه مبالغة من الكفر؛ يعني شديد الكفر، والكفر هو الجحود؛ والستر، والتغطية، يعني جاحد؛ مُنكِر، مُغطٍ لأدلة الإيمان، جاحد بها، مُكذِّب، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا ........}[الإنسان:3]، يعني إما إنسان شاكر لربه -سبحانه وتعالى-، {وَإِمَّا كَفُورًا}، يعني إنسانًا كفورًا جحودًا.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في بيان ما أعدَّه لهؤلاء وهؤلاء، فبدأ بالكفور وذكَرَ آية واحدة فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، أجمل الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية ما أعدَّه لهؤلاء الكافرين، قال {إِنَّا أَعْتَدْنَا}، أعتدنا يعني هيَّأنا؛ وأوجدنا، وحضَّرنا، أمر موجود؛ حاضر، ومُهيَّأ، وليس سيُنشِئه الله -تبارك وتعالى- وإنما هيَّأه الله -تبارك وتعالى- وأوجده، {لِلْكَافِرِينَ}، لهؤلاء الكافرين؛ اللي هو العبد الكفور هذا، {سَلاسِلا}، السلاسل معروفة ليُسلسل بها ويُقيَّد بها، {وَأَغْلالًا}، الغُل؛ القيد، يعني قيود تُقيِّد الأيدي وتُقيِّد الأرجل، {وَسَعِيرًا}، سعير؛ نار مشتعلة، النار المشتعلة التي تتقِد بالحجارة وتتقِد بالأجساد، وهذا يكفي؛ يعني هذا في الإجمال لا شك أنه يكفي عن التفصيل، لأن خلاص؛ فليذهب الذِهن بما وراء هذا، ماذا وراء السلاسل والأغلال والسعير؟ وقد فصَّل الله -تبارك وتعالى- هذا العذاب للكفار في آيات كثيرة من القرآن موعظة للعباد، كقوله في السلاسل {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة:30] {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}[الحاقة:31] {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة:32]، قيل سبعون ذراع بذراع المَلَك، {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:33]، وفي السعير ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- صفة النار؛ وسوادها، وبُعْد قعرها، واتساعها وتغيُّظها، وزفيرها، وكيف تتقِد؟ وأنها من الحجارة تتقِد ومن الأجساد النار تتقِد، وصَفَ عذاب أهلها؛ وصراخهم، واستغاثتهم، وطلبهم المرة تلوا المرة أن يخرجوا من النار، وأنهم يُنادون ويدعون على أنفسهم بالهلاك والثبور، كل هذا ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- تفصيلًا، وهنا قد أجمله الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية المُجمَلَة {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4].
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؛ وجاء هنا التفصيل والإذهاب في ذِكر نعيمهم، قال -جل وعلا- {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5]، {إِنَّ الأَبْرَارَ}، الأبرار جمع البار؛ والبار مأخوذ من البِر، يعني أنه فاعل الخير، والبِر هو الخير، الأبرار؛ الذين فعلوا الخير وهم عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنون، وكل شُعَب الإيمان إنما هي كلها خير، بدءًا بقول لا إله إلا الله؛ أعظم كلمة، وأحق كلمة، أحق كلمة قالها العبد هي أن يقول لا إله إلا الله، ثم الصلاة، ثم الصيام، ثم الزكاة، ثم الحج، صلة الأرحام، الإحسان إلى الوالدين، صدق الحديث، وهكذا ...، فالأبرار هم فاعلوا البِر، {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ........}[الإنسان:5]، هذا أول ما وصَفَ الله -تبارك وتعالى- من نعيمهم هو استمتاعهم بخمر الجنة، {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}، الكأس هي كوب الخمر إذا كانت مُترَعَة وملئى، ولا يُقال كأس إلى إذا كانت مملوءة بالشراب، {........ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5]، تُمزَج بالكافور، نوع من أنواع الخمر أعلى من ذلك النوع، {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}[الإنسان:6]، عينًا يعني صِرفًا، فعين الكافور الصِرف يشربوا بها؛ يعني شراب مَن هم أعلى، وهم عباد الله؛ وصَفَ الله بأنهم عباد الله، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، إذن هناك عندنا نوعَين من أنواع النعيم أو مستويين، المستوى الأول بالنسبة للأبرار؛ فإنهم يشربون خمرًا ممزوجًا بخمر أخر أعلى منها، أما عباد الله فإنهم يشربون هذا النوع الثاني صِرفًا؛ غير مخلوط بغيره، {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ........}[الإنسان:6]، ثم قال -جل وعلا- {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، يعني يُملأ الكأس من هذه الأنهار الجارية وهو في مكانه، فإن كأسه يُملأ؛ ينفجِر الشراب إليه فيملأ كأسه دون أن يذهب ويغترِف، بل يُفجِّرونها تفجيرًا فيتحوَّل قرن الشراب إليهم ويملأ كأسه وهو في مكانه، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، وكون الله -تبارك وتعالى- يبدأ بذِكر نعيم أهل الجنة في بيان مجالس شربهم قبل أن يُبيِّن لِباسهم؛ وطعامهم، وشرابهم، وذلك أن هذا نهاية المُتعة؛ يعني قمة المتاع، فإذا عُلِمَ هذا فلا شك أن ما دون هذا فكيف يتصوَّر؟ هذا قمة متاعهم بدأ الله -تبارك وتعالى- به لأن مجالس الشرب هي فضول وزيادة النعيم؛ والبهجة، والسرور.
قال -جل وعلا- بعد ذلك {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، يعني كأن الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن لِما استحق هؤلاء هذه الكرامة من الله -تبارك وتعالى-، قال {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، النذر هو ما يوجِبه المؤمن على نفسه دون إيجاب من الله -تبارك وتعالى-؛ فهو الذي يفرِضُه على نفسه، والوفاء هو الإتيان بالشيء وافيًا؛ يعني على أتمِّه، وكونهم يوفون بالنذر وهو أنهم يؤدون وافيًا ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات إذن لابد أن يكونوا قد أوفَوا ما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليهم، فإن الذي يوفي ما ألزمه على نفسه لا شك أنه قبل هذا يكون قد أوفى ما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه، لأنه لم يكتفي بما أوجبه الله عليه بل زاد وأوجب على نفسه طاعات وعبادات لله -تبارك وتعالى- لو يوجِبُها الله -تبارك وتعالى- عليه؛ وهذا من هِمَّته ومن اجتهاده، وهذا النذر الذي هو النذر غير المشروط؛ والذي يوجِبه المؤمن على نفسه هكذا قُربى إلى الله -تبارك وتعالى-، وأما النذر المشروط هو ما يقول فيه المؤمن ربي إن فعلت لي كذا فعلت كذا؛ فإن هذا مكروه، ولا يُمدَح الإنسان المؤمن عليه، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن النذر ليأتي بخير ولكن يُستخرَج به من البخيل»، فهذا البخيل الذي يُشارِط ربه يقول ربي إن فعلت كذا، يعني مثلًا إن شفيتَني من هذا المرض تصدَّقت بكذا؛ أو صُمت كذا، أو فعلت كذا، فهذا بالمشارطة؛ فإن وجد أن الله -تبارك وتعالى- فعل هذا قام بهذا، والحال أن الله -تبارك وتعالى- لا يُعطيه لأنه شارطه، فإن رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- يقول «إن النذر ليأتي بخير»، يعني ليس هذا الخير الذي يأتي به هو من أجل المُشارطة، «ولكن يُستخرَج به من البخيل»، لكن شُرِعَ هذا لأن البخيل الذي يُشارِط ربه هذه طريقة استخراج هذه الطاعة منه وهي له في النهاية؛ يعني عباده له لنفسه، يعني أن الله ليس فقيرًا إلى عبادة العبد -سبحانه وتعالى-، أما هؤلاء أهل الإيمان فإن نذورهم غير مشروطة، إنما هم أوجَبوا على أنفسهم ما أوجبوه من الطاعات والعبادات قُربى إلى الله -تبارك وتعالى-؛ يُريدون أن يتقرَّبوا إلى الله -جل وعلا- به، فيُحمِّلون أنفسهم حِمْل أخر غير ما أوجبه الله إرادة لِما عند الله -سبحانه وتعالى-.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]، انظر يعني هؤلاء فعلوا الطاعات التي أمَرَ بها الله؛ وأوجبوا على أنفسهم طاعات أخرى لو يوجبها الله ووفُّوها، كل هذا وفُّوه ومع ذلك ومع ذلك هم خائفين من الله -تبارك وتعالى-؛ خائفين من يوم القيامة، وهذا هو قمة الإيمان؛ هذه هي التقوى الحقيقية، {........ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]، فهم مع فعلهم للطاعات إلأن أنهم خائفين، كما وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- في الآية الأُخرى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60]، والذي يؤتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجِلَة؛ خائفة أنهم إلى ربهم راجعون، وفي حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «سألت رسول الله عنه هذا؛ قُلت يا رسول الله هل يسرقون ويزنون ويخافون؟ قال لا؛ يُصلُّون ويصومون ويخافون»، فهم مع صلاتهم وصيامهم إلا أنهم خائفين من الله -تبارك وتعالى-، ومثل هذا قول الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65]، قيل صلُّوا الليل إلى السَحَر ثم استعاذوا بالله -تبارك وتعالى- من النار في السَحَر؛ بعد العبادة، فهم مع أدائهم للعبادة وتقرُّبهم إلى الله بصنوف هذه القُرُبات إلا أنهم خائفون، كما أيضًا قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28].
فهم دائمون على صلاتهم؛ مُخرِجون حق الله -تبارك وتعالى- في أموالهم، مؤمنون بيوم القيامة، خائفون من يوم القيامة أشد الخوف، فمع قيامهم بهذه الطاعات إلا أنهم خائفون من ربهم -تبارك وتعالى- أشد الخوف، فهؤلاء هنا وصَفَهم الله -تبارك وتعالى-؛ هؤلاء عباد الله، قال -جل وعلا- {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ}، فمع إيفائهم بالنذر هم يخافون الله -تبارك وتعالى-، قال {........ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]، يوم؛ يوم القيامة، وصَفَ الله هذا اليوم فقال {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، والاستطارة هي الانتشار في كل مكان، يعني أن شر هذا اليوم في كل مكان ليس محصور على طائفة مُعيَّنة؛ يعني مثلًا الكفار... لا، هذا اليوم شره في كل مكان ولذلك تقول الرُسُل في هذا اليوم «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله»، والكُل يقول نفسي، نفسي، نفسي، كل رسول يقول نفسي، نفسي، نفسي، فيُفكِّر في هم نفسه وليس له في أن يشفع عند الله -تبارك وتعالى- في غيره، وكذلك أحوال أهل الإيمان تكون في شدة طويلة وكرب، فإن هذا يوم طويل؛ عبوس، قمطرير، و-إن شاء الله- في الحلقة الآتية نأتي إلى تفصيل ما ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في شر هذا اليوم، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7].
نقف هنا والحمد لله رب العالمين.