الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (757) - سورة الإنسان 7-17

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}[الإنسان:6] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:11] {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان:12] {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا}[الإنسان:13] {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ}[الإنسان:15] {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا}[الإنسان:17] {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}[الإنسان:18]، الآيات من سورة الإنسان وفيها يُفصِّل الله -تبارك وتعالى- نعيم أهل الجنة؛ نعيم الأبرار، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عذاب الفُجَّار فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، قال -جل وعلا- بعد ذلك {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5]، هذا شربهم لخمر الجنة، مِزاجُها؛ تُمزَج بالكافور، عينًا؛ صِرفًا خالصًا، يشرب بها عباد الله؛ وهم الطائفة التي هي أعلى من الأبرار، يُفجِّرونها تفجيرًا يعني أنهم يُحوِّلونها إللى أماكنهم من حيث يسير نهر الجنة ولكن يملأ المؤمن كأسه في مكانه دون أن يذهب ليغترِف؛ وإنما تتحوَّل إليه، يُفجِّرونها تفجيرًا إلى كؤوسهم.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، بيَّن الله -تبارك وتعالى- إكرامه لهؤلاء؛ وبيَّن أنهم قد أسلَفوا في الدنيا ما أسلَفوه من هذا العمل، قال {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وإذا كانوا يوفون بالنذر وهو ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات فلا شك أنهم قد أدوا ما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليهم، لأن في تسلسل أداء الواجبات ما فرَضَه الله أولًا ثم ما يفرِضه العبد على نفسه ثانيًا، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وهو النذر غير المشروط؛ النذر الذي نذروه لله –تبارك وتعالى- قُربةً إليه -سبحانه وتعالى- لا بشرط، {........ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]، يوم القيامة، شر هذا اليوم مُستطير يعني أنه مُنتشِر في كل مكان، فأولًا بالنسبة للكافر فإن شرَّه كل الشر على الكافر، وأما كل أهل المحشَر من أهل الإيمان ومن غيرهم فإن اليوم يوم عصيب عظيم، فإن الناس يقومون لله -تبارك وتعالى- في رَشَحِهم إلى أنصاف آذانهم، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «يوم يقوم الناس إلى رب العالمين؛ قال يقومون في رَشَحِهم إلى أنصاف آذانهم»، وقال «إذا كان يوم القيامة دنَت الشمس من الرؤوس حتى تكون قدْر ميل، ومن الناس مَن يأخذه العَرَق إلى كعبيه؛ ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ركبتيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى حِقوَيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ثدييه، ومنهم مَن يُلجِمه عَرَقَه، ومنهم مَن يغطُّ في عَرَقه غطيطًا»، وهؤلاء هم أهل الإيمان يتفاوتون في شدة الموقف حسْب إيمانهم وعملهم الصالح.

فهذا يوم شديد طويل؛ وفيه مواقف عظيمة منها وقت تطاير الصُحُف، كما قال النبي «ثم تطاير الصُحُف فآخذ بيمينه وآخذ بشِماله»، ثم من أصعب أوقات يوم القيامة هو المرور على الصراط؛ والعبور على الصراط لكل أحد، لكل أحد من أهل الإيمان لا دخول للجنة إلا وضِعَ على الصراط، قال النبي «ثم يُضرَب الصراط على ظهراني جهنم، قيل يا رسول الله صِفهُ لنا، قال صحدٌ مذلَّة؛ عليه خطاطيف تخطِف الناس بأعمالهم، خطاطيف مثل شوك السعدان؛ أتدرون ما شوك السعدان؟ إنها شوكة عُقيفاء تكون بنجد ولكن لا يقدِر قدرها إلا الله، فناجٍ مُسلَّم؛ ومخدوش ناجٍ، ومكدوس على رأسه في جهنم»، وهؤلاء هم الذي يخطِفهم الكُلَّاب إنما هم من أهل الإيمان؛ من عُصاة المؤمنين، فهذا أمر عظيم، فيوم القيامة إنما أمره وصعوبته على الجميع، لكنه على الكافر أشد وعسير لأنه آيسٌ من رحمة الله -تبارك وتعالى-، أما المؤمن فإنه ينتظر بعد هذه الشدة الطويلة رحمة الله -تبارك وتعالى-، وإن كان من أهل الإيمان مَن يكون في هذا اليوم في ظِل الله -تبارك وتعالى-، كما في الحديث «سبعة يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِل إلى ظِلُّه؛ إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل قلبه مُعلَّقٌ في المساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصِب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله، ورجل تصدَّق أخفى حتى لا تعلم شِماله ما تُنفِق يمينه، ورجل ذكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه»، فهذي أصناف يُكرِمُها الله -تبارك وتعالى- في هذا اليوم؛ ويُظِلُّها في ظِلِّه يوم لا ظِل إلى ظِلُّه -سبحانه وتعالى-.

فهذا اليوم العظيم الذي يقول فيه الله {شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، يستطير شرُّه في كل مكان، انتشر شرُّه؛ وعَظُم، وأصبح يوم ثقيل، يوم عظيم، يوم فيه هذه الأهوال العظيمة، كذلك يُعذَّب فيه بعض عُصاة المؤمنين بعذاب دون النار؛ عذاب في الموقِف، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ما من صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاتهما إلا صُفِّحَت له صفائح، ثم أُحميَ عليها في نار جهم، ثم يُكوى بها جبينه، وجنباه، وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، فهذا يوم عيظم والله يقول {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51]، وأهل الإيمان في خوف دائم من هذا، هنا الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنهم يخافون هذا اليوم، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن عباد الله المؤمنين في خوف دائم من هذا اليوم، كما يقول أهل الجنة عندما يدخلوها {........ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}[الطور:26]، كُنَّا قبل؛ قبل ما ندخل الجنة في الدنيا، في أهلنا؛ أي في الدنيا، مُشفِقين؛ خائفين أشد الخوف، وقال -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28]، قال -جل وعلا- أن هؤلاء {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7].

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8]، يعني أن من عملهم إيفاؤهم بالنذر؛ خوفهم من يوم القيامة وعملهم له، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ........}[الإنسان:8]، على حبه؛ على حب الطعام، يعني وهم في أشد الحاجة إليه؛ وهم يُحِبونه، لكن مع ذلك يؤثِرون غيرهم؛ مسكينًا، ويتيمًا، وأسيرًا، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ........}[الإنسان:8]، قيل على حبه كذلك الضمير هنا يعود على الإطعام؛ يعني أنهم يُطعِمون الطعام وهم يُحِبون هذا الإطعام، بمعنى أنهم يُحِبون أن يُطعِموا في سبيل الله، فيُحِبون العمل لأن هذا العمل في سبيل اللهن فلا يفعلون الفعل وهم كارِهون له كما هو الشأن في المنافقين، {........ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54]، لا؛ وإنما أهل الإيمان إنما يُنفِقون ويُحِبون الإنفاق، يعني أنهم يُحبون أن يكونوا مُنفِقون، ثم كذلك أيضًا يُحِبون على شوقِهم للطعام؛ وحاجتهم له، وكذلك على نفاسته، يعني {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ........}[الإنسان:8]، لأنه طعام مثلًا نفيس ومحبوب عندهم ومع ذلك يُنفِقونه في هذه الوجوه، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، يعني من الذي تُحِبونه، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8]، المسكين؛ المُحتاج الذي قد لا يُفطَن له، واليتيم هو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، كل مَن مات أبوه وهو دون البلوغ هو يتيم، وبعد البلوغ فلا يُتم بعد احتلام، وأسيرًا معروف؛ المأسور، وتفضيلهم يعني هذه الأصناف من المُحتاجين؛ فهذه أصناف من أهل الحاجة، وكونهم يُعطون الطعام المحبوب لديهم أو النفيس عندهم إلى هؤلاء كل هذا إنما يفعلوه لله -تبارك وتعالى-، وقد جاء في الأسير أن النبي كان يقول «أكرِموا الأسرى»، لمَّا حصل في بدر يقول فكُنَّا نُطعِمُهم الخبز ونأكل التمر، يعني الخبز لنفاسته لأن الخبز أنفس عند العرب وأشرف من التمر، فكانوا يُطعِمونهم ما هو نفيس عندهم وما هو محبوب لديهم؛ ويأكلون الدون من الطعام إكرامًا للأسير، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8].

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9]، يعني أن في اعتقادهم وفي أنفسهم هذه مقالتهم لأنفسهم، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ}، يعني أنما يُطعِمون هؤلاء، {لِوَجْهِ اللَّهِ}، يعني مُريدين وجه الله -تبارك وتعالى-، من أجل الله -تبارك وتعالى- فإنهم يفعلون هذا، {........ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9]، يعني أن مقالتهم لهؤلاء في تقديمهم الطعام المحبوب عندهم لهؤلاء المساكين، واليتامى، والأسرى، مقصِدَهم في هذا أن يفعلوه لا يُريدون إلا وجه الله -تبارك وتعالى- وثوابه، لا نُريد منكم؛ يعني الذي يُطعِمونهم، جزاءً؛ يعني مُقابلة لهذا الإحسان بإحسانٍ منهم، ولا شكورًا؛ ولا أن يشكروهم سواءً باللسان أو بغيره، ما يُريدون شيء سواءً شكروهم أو ما شكروهم؛ يعني جازوهم، لا يُريدون ذلك وإنما فقط يُريدون بفعلهم هذا العظيم وجه الله -تبارك وتعالى-.

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10]، فهذا الذي حَمَلَهم على أن يفعلوا ما هم ضد رغبات النفس؛ وهو إخراج ما عندهم من الطعام لغيرهم على هذا النحو، يقولون {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10]، يوم القيامة، وصِفَ هذا اليوم بأنه عبوس لأن كل شيء فيه يؤدي إلى العبوس، والعبوس هو تقطيب الوجه وظهور الكرب والكآبة في الوجوه، والله جعل كأنه هذا اليوم هذا وجهه وهذا حاله؛ يوم عبوس، قمطرير؛ شديد التقطيب، يعني القمطرير هو شديد تقطيب الوجه، يعني الذي هو شديد العبوس؛ يعني عبوس شديد العبوس، فهذا اليوم العظيم الطويل الشاق يقولون من خوفهم من هذا اليوم فإنهم يفعلون هذا، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، لجزاء الله -تبارك وتعالى-، {........ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10].

قال -جل وعلا- {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:11]، لمَّا فعلوا لله ولوجه -سبحانه وتعالى-؛ مُريدين وجه الله -تبارك وتعالى-، فإن الله كافأهم -جل وعلا- فأول شيء قال {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ........}[الإنسان:11]، اليوم الذي خافوه؛ اليوم العبوس القمطرير، والذي عمِلوا هذا العمل من أجله، الله -تبارك وتعالى- وقاهم شر هذا اليوم؛ فهم آمنون في ظِلال الرب -سبحانه وتعالى-، في رحمته، وقاهم الله شر ذلك اليوم، وهذا كلام مُجمَل يعني أنه وقاهم كل شرور هذا اليوم؛ فوقاهم طوله، وصعوبته، وعُسرَه، والأهوال التي تكون فيه، كل هذا الله -تبارك وتعالى- قال {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:11]، في الجنة، نضرة في الوجوه وهي البِشر والنور ونضارة الحياة التي تجري في وجوههم، وسرورًا؛ في قلوبهم، فأصبحم ظاهِرًا وباطِنًا في غاية السعادة، السعادة نالتهم في الظاهر والباطن؛ ففي قلوبهم سرور وفي وجوههم نور، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}.

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان:12]، جزاهم؛ كافأهم الله -تبارك وتعالى- على عملهم، بما صبروا؛ بسبب صبرهم، {جَنَّةً وَحَرِيرًا}، {بِمَا صَبَرُوا}، الصبر هنا على أمور كثيرة؛ أولًا صبروا على الطاعة، فتقديمهم ما تشتهيه أنفسهم إلى غيرهم ابتغاء وجه الله -تبارك وتعالى- إذن صبروا؛ حرموا أنفسهم مما يُحِبون في سبيل الله، كذلك لمَّا نذروا لله -تبارك وتعالى- الأعمال التي نذروها؛ من صوم، ومن غيره، ومن طاعة، وأدوها لله -تبارك وتعالى-، فإن كل هذه العبادات تحتاج إلى صبر، الصبر هو الأساس والعمود الفقري للدين كله، فلا دين إلا بالصبر لأن العبادة تحتاج إلى صبر، الطاعة، أداء ما فرَضَ الله -تبارك وتعالى-؛ هذا كله يحتاج إلى صبر، والكَف عن المعاصي يحتاج إلى صبر؛ صبر في فِطام النفس عن شهواتها، والأحداث التي لابد أن تجري على العبد تحتاج إلى صبر لابد، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، لابد أن يُجري الله -تبارك وتعالى- ابتلاءات واختبارات على العباد، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2] {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، فهذه الأحداث التي تجري تحتاج إلى صبر، فالله -تبارك وتعالى- جازاهم فقال {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا ........}[الإنسان:12]، بسبب صبرهم؛ صبرهم على الطاعة، وصبرهم عن المعصية، وصبرهم على الأحداث والابتلاءات، {جَنَّةً}، عنده -سبحانه وتعالى-، جنة الله -تبارك وتعالى-؛ بستان الرب -سبحانه وتعالى- الذي عرضه كعرض السماوات والأرض، جنة للسُكنى وحريرًا للِّباس، يعني أن لِباسهم كما قال -تبارك وتعالى- {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، وحرير الدنيا هو أطيب اللباس؛ يعني أشرف وأعلى لباس لأهل الدنيا هو الحرير، وهو لباس أهل الجنة ولكن شتَّان بين حرير وحرير، يعني أن حرير الدنيا وحرير الآخرة لا شك أن بينهم من التفاضل ما بين هذه الدنيا والآخرة، فكل شيء في هذه الدنيا وذُكِرَ مثيله في الجنة فإنه شتَّان بين هذا وهذا، ولذلك قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- "ليس في الجنة مما ذُكِرَ لكم إلا الأسماء"، فالأسماء نعم لكن الحقائق مختلفة؛ فلا الرُمَّان هو الرُمَّان، ولا الشراب هو الشراب، ولا الخمر هي الخمر، ولا النساء هُنَّ النساء، هذا أمر كله مختلف؛ فنساء أهل الجنة غير نساء الدنيا، نساء الجنة مُطهَّرات من كل عيب ونقص؛ عيب في الخلْق، وعيب كذلك في الخُلُق، فلا حيض؛ ولا نِفاس، ولا ولادة، أهل الجنة لا يبصقون؛ ولا يمتخِطون، ولا يبولون، ولا يتغوَّطون، رَشَحُهم المِسك، هذا أمر مختلف تمامًا، ليس نعيم الجنة كالنعيم في الدنيا، فعندما يقول الله -تبارك وتعالى- {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان:12]، نعلَم أن الحرير الذي في الجنة ليس كالحرير الذي في الدنيا، وإن كان يُسمَّى هذا حرير وهذا حرير لكن بينهما من التفاضل كما بين التفاضل بين الجنة والدنيا.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، هؤلاء هم عباد الله الأبرار، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}،الاتكاء هو أن يميل الإنسان أحد جانبيه فيضع يده على وسادة ونحوها، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، الأريكة هي السرير أو الكرسي الواسع، فهم مُتكئين فيها وهذا يدل على راحتهم وخلوِّهم من الشغل ومن الهموم، فلا همَّ يحملونه ورائهم لعمل؛ أو لكَد، أو لكَدح، أو لمواعيد ورائهم، وإنما هم مشغولون فقط بنعيمهم ولذَّتِهم، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}، واتكائهم فيها يعني الإخوة والأصدقاء والأحباب الذي كانوا في هذه الدنيا، كما قال -تبارك وتعالى- {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا}[الإنسان:13]، هؤلاء المُنعَّمون أهل الجنة؛ الأبرار وعباد الله، لا يرَون في الجنة شمسًا لأنها مُضائة بغير شمس، الدنيا مُضائة بهذه الشمس؛ السراج الوهَّاج، لكن الجنة مُضائة بغير شمس؛ بغير شموس، فلا شمس فيها ولا زمهريرًا، الزمهرير؛ البرد الشديد، لمَّا قال لا شمس فإن الشمس هي كذلك مصدر الدفء والحرارة لهذه الأرض، وغيابها عن مكان في الأرض إنما يقتضي حصول الزمهرير، فالله نفى الشمس ونفى الزمهرير كذلك، البرد الذي هو إذا فُقِدَت الشمس فإنه قد يأتي الزمهرير؛ فنفى هذا وهذا، فهواء الجنة مُعتدِل دائمًا، كما قيل أنه هواء مُعتدِل دائمًا؛ لا برد فيه، ولا حر فيه، ولا ملل فيه، ولا سئامة فيه، لا شمس ولا زمهرير، الزمهرير هو الريح الشديدة الباردة، {........ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا}[الإنسان:13].

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ........}[الإنسان:14]، دانية؛ قريبة، عليهم؛ على أهل الجنة، ظِلالُها؛ قريبة، أي أنها مُظلَّلة وهي ظلٌ دائم لا يتحوَّل ولا تنسخه شمس، كما قال -تبارك وتعالى- {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ........}[الرعد:35]، أي وظِلُّها دائم، فأُكُلُها؛ ثمارها دائم، فثمارها في الأشجار دائمة؛ ما تُقطَف ثمرة إلا ويحُل غيرها مكانها، ولا تأتي ثمرة صيفًا فقط أو شتاءً فقط أو في خريفًا فقط؛ بل طيلة الوقت ثمارها دائمة، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ........}[الإنسان:14]، الدائمة، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، ذُلِّلَت؛ الذليل هو المُطيع أشد الطوع، والله وصَفَ قِطاف الجنة وهي ثمارها بأنها مُذلَّلة؛ يعني مُذلَّلة أشد التذليل للمؤمن، فإنها تأتيه حيث يُريد، يعني وهو مُتكئ على أريكته فإذا اشتهى ما اشتهى من ثمرة أتته؛ مال عليه الغُصن حتى يأكل منها ما يشاء ثم يرتفع، فهذه القِطاف مُذلَّلة له تأتيه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:47] {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن:48] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:51] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52]، من كل فاكهة مما وجِدَ مثله في الدنيا؛ مثله في الاسم وليس في الطعم والشكل، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:53] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، فهم حال اتكائهم على الفُرُش التي بِطانتها من استبرق؛ وهو الحرير، لكن جنى الجنتين يعني ثمار الجنتين دانٍ؛ يعني أنه قريب، لا يحتاج إلى أن يربط وسطه ويُشمِّر يديه ورِجليه ويأخذ الحبل ويصعد النخلة أو يصعد الشجرة ويأتي بها وتضربه إبرها؛ كل هذا الذي يكون في الدنيا في الجنة الحال مختلف تمامًا، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14].

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ ........}[الإنسان:15]، يُطاف عليهم بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله والذي يطوف عليهم الوِلدان المُخلَّدون، بآنية؛ الأواني وهي الأوعية، من فضة؛ يعني أنها خلَقَها الله -تبارك وتعالى- من الفضة، والفضة هي المعدن المعروف، وأكواب؛ يعني أواني الخمر والأكواب التي يُصَب فيها، وهذه الآنية اللي هي الأباريق والأكواب الله -تبارك وتعالى- أخبر أنها من فضة لكنها {كَانَتْ قَوَارِيرَ}، والقوارير اللي هي الزجاجة، قال -جل وعلا- {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16]، فهي قوارير يعني كالزجاج الشفاف لكنه من الفضة؛ فضة شفافة، الفضة التي في الدنيا إنما هي معدن سميك لا يشِف عما ورائه، لكن هذه الفضة التي في الجنة فضة شفافة فيُرى الشراب في داخلها، وهذا أمتع؛ هذا من عظيم مُتَع أهل الجنة، فيشربون في آنية الفضة لكنها فضة شفافة يُرى الشراب في داخلها، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ}[الإنسان:15] {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16]، قدَّروها تقديرًا يعني أن الذي يصبُّون الشراب لهم في هذا يُقدِّرونها تقدير حسب شهوتهم وبحسب لذَّتهم؛ فلا هو قليل ويشتهون، ولا هو كثير ولا يشتهون، فإنما يُقدَّر في صبِّه تقديرًا حسب شهوتهم وحسب ما يُريدون، وقيل قدَّروها تقديرًا يعني قدَّروا مجلس الشراب هذا وهذه الآنية أنها من فضة أنها أمر عظيم له قدْر عظيم، وذلك أنه كرامة الله -تبارك وتعالى-؛ وخلْقُه آنية الجنة بهذا الرونَق وبهذا البهاء، {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16].

{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا}[الإنسان:17]، يُسقَون بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله والله -تبارك وتعالى- هو الذي يسقيهم لأنه هو رازقهم -سبحانه وتعالى-؛ هذا رزق الله -تبارك وتعالى-، والذي يصُبُّ لهم إنما هم الوِلدان، كأسًا؛ تُطلَق الكأس على الكوب إذا مُلِئَت خمر، إذا كانت مملوءة بالخمر فهي كأس، {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا}[الإنسان:17]، خمر قد مُزِجَت بزنجبيل؛ والزنجبيل معروف لأهل الدنيا، وإنما هذا زنجبيل الجنة.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون وعباد الله -تبارك وتعالى- المسلمين من أهلها، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.