الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (758) - سورة الإنسان 17-31

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ}[الإنسان:15] {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا}[الإنسان:17] {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}[الإنسان:18] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا}[الإنسان:19] {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20] {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان:21] {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}[الإنسان:22]، هذا وصْف من الله -تبارك وتعالى- لنعيم أهل الجنة؛ لنعيم أهل طاعته الأبرار، عباده المُقرَّبون -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ}، على هؤلاء الأبرار في الجنة، {ظِلالُهَا}، ظِلال الجنة؛ وظِلُّها دائم، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، تُطيعهم، قطوف الجنة؛ ثمارها مُذلَّلة لأهل الجنة، فالعبد المؤمن وهو مُتكئ على أريكته ما اشتهاه من ثمر يخِر عليه الغُصن بما يحمِل ليأكل ما يشتهي، لا يحتاج إلى أن يصعد نخلة؛ وأن تضربه شوكة، ولا أن يعلوا فوق شجرة، ولا أن يقطِف في مِقطَف ويذهب به، ولا أن يحفظه، وإنما هذه ثمار الجنة مُذلَّلة قريبة، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14].

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ........}[الإنسان:15]، آنية الخمر، وأكواب؛ أكواب الخمر، {كَانَتْ قَوَارِيرَ} {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ........}[الإنسان:16]، هذه القوارير يعني زجاج لكنه زجاج من فضة، فضة لكنها ليست مُعتِمَة كفضة الدنيا، فإن فضة الدنيا جسم مُعتِم لا يشِف عن ما خلفه، لكن هذه فضة الجنة إنما تختلف؛ إنها فضة شفافة تشِف عن ما في جوفها، {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16]، قدَّر الغِلمان عندما يصبُّوا الشراب؛ يعني هذا مُقدَّر حسْب شهوة المؤمن وحسْب ملذَّته، لا تفيض فتزيد ولا تقِل فتُطلَب؛ وإنما مُقدَّرة تقديرًا في أكوابهم، أو قدَّروها تقديرًا؛ عظَّموها تعظيمًا، يعني هذا النعيم يُقدِّره أهل الجنة تقدير عظيم جدًا فإنه أمر يفوق الوصف مما صنعه الله -تبارك وتعالى- وأكرم به عباده المؤمنين، {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا}[الإنسان:17]، الكأس هي كوب الخمر المُترَعَة المليئة، كان مِزاجها هذه الخمر ممزوجة بالزنجبيل، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}[الإنسان:18]، عين الخمر الحقيقي تُسمَّى سلسبيل، وسُمِّيَت سلسبيل من سلاستها؛ أنها سلسة في شربها، ليست تُصيب الشارب بغُصَّة أو يتأذَّى برائحة لها كما الشأن في خمر الدنيا؛ ولكن هذه خمر الآخرة تختلف، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا}[الإنسان:18].

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}، بهذا الشراب، وِلدان؛ أولاد، مُخلَّدون؛ مُخلَّدون وِلدانًا فإنهم لا يكبَرون، لا يكبَرون؛ ولا يشيخون، ولا يشيبون، والوِلدان في الخدمة من أميز وأعلى الخدمة، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}، أي بالشراب وبالطعام، {إِذَا رَأَيْتَهُمْ}، رأيت هؤلاء الوِلدان، {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا}، ظننت أنهم وهم يطوفون بما معهم من الآواني ومن الشراب كأنهم اللؤلؤ المنثور؛ المُتناثر في جنبات الجنة، {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا}، من صفائهم؛ وبياض بشرتهم، وجمالهم، أو {إِذَا رَأَيْتَهُمْ}، رأيت أهل الجنة، {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا}، من جمالهم؛ ونضارتهم، وحلاوتهم، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ}، رأيت ثمَّ هناك رأيت هذا، {........ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، إذا نظرت في الجنة وهي على هذا النحو؛ نهر مُطَّرِد، ثمار يانعة، وِلدان كأنهم اللؤلؤ المنثور، شراب، متعة، أرائِك، إذا رأيت ثمَّ هذه القصور؛ وهذه الدور، وهذه الخيام، وهذه النساء، وهذا النعيم، {........ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، نعيم بكل أطيافه وأنواعه، ومُلْك كبير؛ مُلْك كبير ملَّكَه الله -تبارك وتعالى- أهل الجنة، أي مُلْك أعظم من هذا المُلْك؛ مُلْك الجنة لأصحابها، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ}، إذا رأيت هناك، {........ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20].

{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}، هذا لِباس أهل الجنة، عاليهم؛ يلبَسون، ثياب سُندُس؛ السُّندس هو الحرير الناعم، خُضْر؛ ألوانه، واستبرق؛ الحرير السميك، يعني يلبَسون من هذا ومن هذا؛ من حرير ناعم رقيق، وكذلك من حرير سميك، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}، حُلُّوا؛ من التحلية، والتزيين، والتجميل، يعني جُمِّلوا كذلك بأساور من فضة؛ هذا للرجال، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}، وسقاهم ربهم؛ الله -تبارك وتعالى- هو الذي سقاهم برزقه وعطائه في الجنة -سبحانه وتعالى-، شرابًا؛ خمرًا، طهورًا؛ ليس بنَجِس، وليس بخبيث كما هي خمر الدنيا، فإنها خبيثة في طعمها؛ في أثرها، في نزفها بمعدة صاحبها، في أثرها بعد ذلك في ما تُصدِّعه إذا أكثر من الشراب، أما الجنة فإنه شراب طهور؛ طاهر بكل معاني كلمة الطهور، فلا أثر للآثار الفاسدة لخمر الدنيا وإنما هو شراب طهور؛ خمر قد صَفَت وقد برِئَت من كل نقص، فإنما هي لذَّة كاملة، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}.

ثم يُقال لهم بعد ذلك {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً ........}[الإنسان:22]، إن هذا؛ النعيم الذي أنتم فيه في الجنة، كان لكم جزاءً؛ أي جزاء من الله -تبارك وتعالى- لعملكم، مقابل العمل الذي عملتموه في الدنيا من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح؛ فالله جازاكم بما أنتم فيه من هذه النعمة العظيمة، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}، وكان سعيُكم؛ يعني عملكم ودأبُكُم في الدنيا بالطاعات، مشكورًا؛ ومعنى مشكورًا أنه مُزاد فيه، التسبيحة وهي لا تُكلِّف العبد جُهد؛ ليس جُهد، هي خفيفة على اللسان، لكنها عند الله -تبارك وتعالى- بأجر عظيم؛ نخلة في الجنة، يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، فيبني الله -تبارك وتعالى- له قصر في الجنة، يفعل عمل قليل فإذا به يَمُدُّ الله -تبارك وتعالى- له في مُلْكِه، والجنة لا ثمن لها؛ ليس لها ثمن، لو كل الدنيا بما فيها أُعطاها عبد، وضِعَت الدنيا كلها بما فيها بما زخرها الله -تبارك وتعالى- من الخيرات فإنها لا تُساوي موضِع سوط في الجنة، «موضِع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، نصيف امرأة فقط من أهل الجنة؛ ليس امرأة كاملة وإنما نصيفها، يقول النبي «ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، فالجنة لا ثمن لها؛ لا يقوم ولا يعدِل أمامها شيء، وهذا أعطاه الله -تبارك وتعالى- عطاء من عنده، هو جزاء بالنسبة للعمل لكنه عطاء من الله -تبارك وتعالى-، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}، أي مُزادًا فيه، زادكم الله -تبارك وتعالى- في هذا؛ فالحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، ثم بعد ذلك الجزاء على هذه الأضعاف هذا أمر لا يعدِله شيء، مهما كان العمل فإن جزاء الله -تبارك وتعالى- لا يعدِلَه شيء، {إِنَّ هَذَا}، المُشار إليه هو ما فيه أهل الجنة من النعيم، {كَانَ لَكُمْ}، أيها المؤمنون، {........ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}[الإنسان:22].

ثم قال -تبارك وتعالى- بعد أن بيَّن ما ينتظر الكفار {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، وما ينتظر أهل الإيمان {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5]، إلى هذا الوصْف المُسهَب لنعيم أهل الجنة، قال -جل وعلا- بعد ذلك {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا}[الإنسان:23]، إنَّا؛ الله، ثم أكَّد الله -تبارك وتعالى- هذا الضمير بنحن ليكون هذا تأكيد بعد تأكيد؛ وأنه الله -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا}[الإنسان:23]، هذا القرآن إنما الله -سبحانه وتعالى- هو مُنزِّله -سبحانه وتعالى-؛ وهذا لتقدير هذا الكلام، وأن الله هو مُنزِله، الله رب العالمين؛ خالق السماوات والأرض، رب كل شيء ومليكه -سبحانه وتعالى-، هو مُنزِل هذا القرآن وهو الذي وصَفَ لكم ما وصَف من الجنة؛ ووصَف ما وصَف من النار، وبيَّن أن كل الناس مآلهم إلى طريقين؛ أهل سعادة وأهل شقاوة، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، وهذا نعيمه، فالله هو مُنزِّل هذا القرآن، وتأكيد الله -تبارك وتعالى- لهذا المعنى لتعظيم الأمر؛ لتعظيم هذا القرآن، وأن هذا كلامه؛ هو مُنزِله -سبحانه وتعالى-، وهو يؤكِّد هذا حتى ترتفع النفوس والقلوب إلى استعظام هذا الأمر وتقدير؛ وأنه كلام الله -تبارك وتعالى- ليس كلام أحدٍ غيره، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا}[الإنسان:23]، تنزيل على هذا النحو تأكيد لنزوله وكذلك تنزيلًا بعد تنزيل.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، مادام أن الله -تبارك وتعالى- مُنزِل هذا {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، اصبر لِحُكْم الله -تبارك وتعالى-، وحُكْم الله -تبارك وتعالى- بأن تجري عليه هذه الأمور؛ بأن يُكلِّفَه ما كلَّفَه، وأن تجري عليه هذه الأمور، وأن يبتليه الله -تبارك وتعالى- بالكفار ويبتلي به، كما قال الله -تبارك وتعالى- «إنما بعثتك لأبتليَك وأبتليَ بِك»، وحمَّله الله -تبارك وتعالى- هذا الحِمْل، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، هذا الحِمْل من دعوة الناس، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ........}[المائدة:67]، فكُلِّف بحَمْل هذا، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، فالله -تبارك وتعالى- يأمره أن يصبر لحُكْم الله -تبارك وتعالى- حيث حمَّلَه هذه الرسالة؛ وحمَّلَه هذا البلاغ، وأمَرَه بهذه الأوامر، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، الحُكْم هذا الشرعي الديني وتحميله هذه الرسالة، وكذلك الحُكْم الكوني القدَري؛ فإن الله حَكَمَ كونًا وقدَرًا بأن يُعادى، كما قال الله -تبارك وتعالى- له {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31]، فهذا الجعل الكوني القَدَري لابد أن يكون لكل نبي مجرمون يناوئونه ويؤذونه، فلابد أن يكون لأن هذا حُكْم الله -تبارك وتعالى- الكوني القَدَري فاصبر له، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، الحُكْم الكوني القَدَري وكذلك حُكمِه الشرعي الديني في ما كلَّفكَ الله -تبارك وتعالى- به، {........ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}[الإنسان:24]، ولا تُطِع منهم؛ من الكفار، آثِم؛ فاعل إثم، أو كفور؛ جحود، يعلم الحق ولكنه يجحده ويكفره، {........ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}[الإنسان:24].

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الإنسان:25]، هذا يدخل فيه في الصلاة؛ الصلاة دخول أوَّلي، وكذلك الذِّكر حيث يكون ذاكِرًا لله -تبارك وتعالى-، بُكرة؛ في الصباح، البكور، وأصيل؛ وقت الأصيل هو ما بعد الزوال اللي هو العصر، فبُكرة وأصيلًا؛ في البكور والأصيل اذكر اسم ربك، وهذا يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر، وكذلك تسبيح الله -تبارك وتعالى-؛ وتحميده، والثناء عليه، في هذين الوقتين يعني عند بداية النهار وعند بداية الليل؛ في آخر النهار، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الإنسان:25]، ليكون قلبه ولسان وذِكرَه مع الله -تبارك وتعالى-.

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}[الإنسان:26]، أمر كذلك من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يقوم من الليل؛ أي بعضه، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ........}[الإنسان:26]، اللي هي قيام الليل، {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}، يعني خُذ وقت طويل من الليل، وقد أمَرَه الله -تبارك وتعالى- بأن يقوم من الليل من ثُلُثه إلى ثُلُثَيه، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}[الإنسان:26].

{إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ........}[الإنسان:27]، إن هؤلاء؛ الكفار، يُحِبون العاجلة؛ الدنيا، وسُمِّيَت العاجلة غير الآجلة؛ أنها مُعجَّلة قريبة، {........ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان:27]، وهذا من قِلَّة العقل وقِلَّة الفهْم؛ كيف تُحب الأمر العاجل وتَذَر ورائك أمر عظيم ثقيل جدًا؟ {........ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان:27]، ومعنى أنهم ذَروه ورائهم؛ نسوه، تركوه، يومًا ثقيلًا؛ يوم القيامة، اليوم الذي طوله خمسين ألف سنة، لم يُقدِّروا هذا؛ ولم يُقدِّروا العذاب الذي فيه، ولم يُقدِّروا أن في نهايته دخول الكفار إلى النار خالدين فيها خلودًا أبَديًا، ما قدَّروا هذا وإنما أحبوا هذه الدنيا وجعلوا همَّهم لها؛ وهمَّهم فيها، وعملهم من أجلها، وأي عاقل يجب أن يهتَم للأمر العظيم؛ ولا يتشاغل بالأمر الحقير عن الأمر العظيم، كيف يشغَل الإنسان نفسه بأمر حقير ويترك أمرًا عظيمًا؟ فهؤلاء تشاغلوا بأمر حقير وهو هذه الدنيا؛ وجعلوا كل همِّهم، وكل عِلمِهم، وكل شُغلِهم فيها، وتركوا الآخرة بما فيها؛ لم يحمِلوا لها همًّا، ولم يعملوا لها، والحال أن فيها ما فيها؛ فيها أولًا هذا العذاب العظيم الذي لا فكاك منه لِمَن أتى الله -تبارك وتعالى- كافرًا مجرمًا، وفيها هذا النعيم المُقيم الذي لا نفاد له ولا نهاية له، فهذه الحياة {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ ........}[الحديد:20]، هذه الدنيا وفي الآخرة {عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، فالذي انشغل يلهوا ويلعب في هذه الدنيا وانشغل بهذه الزينة لاهي لاعب وترك الأمر العظيم الخطير؛ ترك الآخرة، وفي الآخرة {عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، فكيف ينشغِل الإنسان الذي ورائه عذاب شديد ينتظره إن لم يسعَ؛ وأمامه كذلك جنة عظيمة من جنة الله -تبارك وتعالى-؟ كيف ينشغل بالتافه من الأمور في هذه الدنيا عن هذا الأمر العظيم في الآخرة؟ {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان:27]، وفي قول الله {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ}، يعني نسوه وتركوه وإلا فهذا اليوم أمامهم، اليوم أمامهم لكن لأنهم نسوه وخلُّوه خلف ظهورهم فكأنهم أبدًا لا يذكُرونه، {........ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان:27].

ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، خلَقناهم؛ خلْق إنشاء من العدم إلى الوجود، {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}، الأسر هي هذه الأربطة التي تربط أعضاء الإنسان بعضها ببعض، فهذه اليد مُرتبطة بأربطة عظيمة تشُد هذه اليد إلى الجسم، والرجل مربوطة، والعُنُق مع الرأس مربوط، كل جسم الإنسان قد شدَّه الله -تبارك وتعالى- بالأسر؛ إما بهذه الأربطة، وكذلك بالعضلات التي تشُد بعضها بعض، قال {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}، فخلْق الإنسان على هذا النحو وشد الله -تبارك وتعالى- أسره؛ جعل له هذه الأربطة التي تربطه، الله هو فاعل هذا -سبحانه وتعالى-، {........ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}[الإنسان:28]، إذا شِئنا؛ إذا شاء الله -تبارك وتعالى-، {بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}، يعني يستطيع الله -تبارك وتعالى- أن يُزيحَهم وأن يخلُق خلْقًا أخر -سبحانه وتعالى-، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}[فاطر:16] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[فاطر:17]، فليس بمُمتنِعٍ على الله -تبارك وتعالى- أن يُذهِبَ هذا الخلْق من أولاد آدم وأن يأتي بخلْقٍ جديد؛ فهذا كله يسير على الله -تبارك وتعالى-، {........ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}[الإنسان:28].

ثم قال -جل وعلا- في ختام السورة {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}، إن هذه؛ هذه السورة وما فيها، تذكِرة؛ تُذكِّر، موعظة بليغة وأمر عظيم يُذكِّر؛ ذكَّرَت بالله -تبارك وتعالى-، ذكَّرَت هذا الإنسان بأنه سائر في طريقين؛ وهذا ختام هذا الطريق، وهذا ختام هذا الطريق، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، هذا ختام طريق أهل الكفر، أما طريق أهل الإيمان {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}[الإنسان:5]، فانظر هذا وهذا؛ وأن هذا حتم لابد أن يكون، فالله يقول {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29]، قد وضُحَ الأمر واتضح فالذي له بعد ذلك عقل ولُب يجب عليه أن يتخذ سبيله إلى الله، {........ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29]، للنجاة من عذابه -سبحانه وتعالى-، وسبيلًا إلى جنته وضوانه هذا هو السبيل إلى الله، وكون أن يكون هذا إلى ربه إذن ربه الذي يستحق هذا لأنه ربه؛ خالقه، ومُصوِّره -سبحانه وتعالى-، ورازقه، وهو مُرشِدَه إلى الطريق، فهذا يتخذ الطريق إلى الله، ومَن اتخذ الطريق إلى ربه لا شك أنه آمِن؛ سعيد، راجع إلى الله -تبارك وتعالى- الذي لا يُخلِف وَعْدًا ولا تسقط له كلمة -سبحانه وتعالى-، فإذن أي واحد عاقل سمِعَ هذا الكلام؛ سَمِعَ كلام الله -تبارك وتعالى-، وذكَّرَه الله بهذا، فهذا عليه أن يتخذ طريقه إلى الله، قال -جل وعلا- {........ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29].

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ........}[الإنسان:30]، مشيئة الله -تبارك وتعالى- هي الكائنة، ومشيئة العبد إنما هي داخلة في مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكُن، وكل مَن شاء الخير لا يمكن أن يفعله إلا إذا وفَّقَه الله -تبارك وتعالى- إليه، فإذا أراد سلوك الطريق فإن هذا بتوفيق الله -تبارك وتعالى- وبتيسيره؛ فإن الأمر كله له -سبحانه وتعالى-، وما تشائون؛ أي أيها العباد، إلا أن يشاء الله؛ إلا إذا شاء الله -تبارك وتعالى-، لأن الأمر كله إليه وهو الموكَّل بكل شيء -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، وهو الذي يهدي مَن أحب الله -تبارك وتعالى- وأراد الله هدايته؛ ويُضِل مَن أراد الله إضلاله، فالأمر كله إليه -سبحانه وتعالى- يُضِل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ........}[الإنسان:30]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، عليم بكل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، حكيم؛ يضع كل أمر في نِصابه، فلن يهتدي إلا مَن أراد الله له الهداية؛ ومَن كان يعلم الله -تبارك وتعالى- فيه أنه يستحق هذا الأمر، وأما مَن عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- منه جحوده؛ وكفره، ونُكرانه، فإن الله يُضِله -سبحانه وتعالى-، فالأمر إليه -جل وعلا-؛ يضع كل أمر في نَصابه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ........}[الأنعام:53]، قال -جل وعلا- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، أليس الله بأعلم بالشاكرين؛ فهو أعلم بالشاكرين -سبحانه وتعالى-، فعِلم الله -تبارك وتعالى- السابق في خلْقِه هو الذي يكون في النهاية، فمَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يهديه هداه، ومَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يُضِله أضله.

قال {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ........}[الإنسان:31]، يُدخِل الله -تبارك وتعالى- مَن يشاء يعني مَن يشاء الله -تبارك وتعالى- أن يُدخِلَه في رحمته أدخله، {........ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31]، الظالم وهو الذي وضع الأمور في غير نَصابها؛ ترك توحيد الله -تبارك وتعالى- وعَبَدَ غيره -جل وعلا- هذا أكبر ظُلم، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، الذي خرج عن طريق ربه -سبحانه وتعالى- وسار في طريق الشر فهذا الظالم الذي ظلم نفسه بالكفر والمعاصي، فهذا الله يقول {........ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31]، أعدَّه؛ هيَّأه -سبحانه وتعالى- وجعله حاضرًا، عذاب أليم؛ عذاب النار -عياذًا بالله-، لا عذاب أكبر من هذا العذاب، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يشرح صدورنا للإسلام؛ وأن يوفِّقنا إلى طريقه -جل وعلا-، وأن يشاء -سبحانه وتعالى- هدايتنا، وأن يُمسِّكنا طريقه حتى نلقاه.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.