الجمعة 18 شوّال 1445 . 26 أبريل 2024

الحلقة (76) - سورة البقرة 264-267

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد؛ فيقول الله –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:264] ينادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؛ قائلا" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" ينهاهم الله - تبارك وتعالى- أن يبطلوا صدقاتهم بالمن، والأذى، يعنى إذا تصدقوا لله-سبحانه وتعالى، ولوجه الله، فيحذرهم الله من أن يبطلوا ثواب الصدقة التي أصبحت لهم ثوابا عند الله بأمرين؛ يبطلان الصدقة المن، والأذى؛ فأما المن فهذا الرياء بعد الصدقة بأن يذكر على سبيل المدح لنفسه فعلت، وفعلت مادحاً لنفسه، وليس على سبيل الحث لغيره؛ وإنما هنا يمن بهذا يقول فعلت، وفعلت،  أو أن يؤذى من تصدق عليه؛ فيقول له تصدقت عليك وفعلت لك وفعلت لك أو نحو ذلك، أو يذكر أنه فعل لفلان، وتصدق؛ فينشر هذا في الناس فيؤذيه بهذا الأمر.

أخبر -سبحانه وتعالي- أن من تصدق فكان له أجره، من تصدق لله فكان له أجره عند الل،  ثم بعد ذلك منً أو آذي؛ فإنه  أبطل ثواب صدقته، وأن حال هذا كحال المرائي، الذي تقع صدقته باطلة من البداية، فمن توجه بالصدقة، ولكنه لا يريد بها وجه الله، وإنما يريد بها المدحة فهذا تقع صدقته باطلة منذ البداية لا أجر له عند الله،  وكذلك من كان لا يؤمن بالله، واليوم الآخر فهذا تقع صدقته باطلة، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- منه عمل مهما كان،  فجعل الله -تبارك وتعالى- من منّ وآذي وكان له أجر عند الله لأنه تصدق لله فهذا يصبح لا ثواب له عند الله، كالذي توجه من البداية مرائيا و كالذي ينفق وهو لا يؤمن بالله-تبارك وتعالي- واليوم الآخر كما جاء في حديث يعنى أم المؤمنين أنها سألت النبي عن عبد الله بن جدعان كان رجل في الجاهلية، مطعاما، مضيافا، يذبح مئة من الإبل للحاج كل يوم أو من يوم الموسم قالت هل ينفع ذلك عند الله، فقال النبي لا، "إنه لم يقل يومٍ رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".

 ثم ضرب الله -تبارك وتعالي- مثل لهذا الذى يرائي، والكافر الذى ينفق مع كفره، ضرب لهم الله -تبارك وتعالي- المثل، وهذا المثل الثاني في سياق هذه الأمثال، أمثال أربعة ضربها الله -تبارك وتعالي- في بيان الصدقات وكلها بالزرع من واقع ما يراه الناس في الزرع خاصة.

 قال -جل وعلا-  { فمثله}، مثل هذا المرائي، والذى ينفق، ولا يؤمن بالله، واليوم الآخر، { كمثل صفوان عليه تراب}، الصفوان هو الحجر الأملس، ويأتي عليه طبقة تراب غبار، فيأتي الجاهل بالزرع فيضع بذره على هذا التراب فوق هذا الصفوان، ثم يكون الآتي { فأصابه وابل}، الوابل المطر الشديد، هذا الوابل المطر الشديد إذا سقط على هذا الصفوان الذى عليه هذه الطبقة القليلة من التراب فإنه يجرف ويزيح هذا التراب من على الصفوان فيتركه.

 قال -جل وعلا- { فَتَرَكَهُ صَلْدًا} صلداً يعنى صخريا أملس، إذن  انتهى الزرع هذا يزرع في غير تربة، وتربته التي زرع فيها إنما هي طبقة رقيقة من التراب عليها، لا ليست مستقرة يضرب فيها جذر النبات ويقوم، فيجرف، وتذهب بذوره مع هذا الانجراف { فَتَرَكَهُ صَلْدًا}  إذن  هذا زارع زرع على الصخر،  فالذي زرع فوق الصخور، هذه فوق الصفوان لا ينبت له زرع، إذا  كان ينبت لهذا زرعا فإنه يكون لمن تصدًق وهو كافر، أو تصدق وهو مرائي أجر عند الله - تبارك وتعالى-.

 قال -جل وعلا- { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} لا يقدرون، لا يستطيعون على شيء مما كسبوه من نفقة لا  يحصلون أي ثواب، وأي أجر عند الله -تبارك وتعالى- لما يعنى أنفقوه.

 { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} يعنى أن هذه العقوبة أنه  بذل ولم ينل شيئاً ولم يحصل شيئاً لأنه كان كافرا والله لا يهدى الكافرين، لا يهديه طريق الحق، ولا يهديه لأن يضع ماله حيث يجد ثمرته، وثوابه، فهذا أضله الله -تبارك وتعالى- هذا الضلال؛ فهو ينفق، ولا يجد محصولا لنفقته. هذا المثل الثاني وهو مثل ظاهر بيٍن يجعل هذا الأمر المعقول الغيبي يجعله كأمر محسوس منظور بهذا المثل الذى يراه الإنسان.

 ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- مثل لمن ينفق في سبيل الله، وهو مؤمن بالله -تبارك وتعالى- يرجو ثواب الله -جل وعلا - فقال {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه} هذا مثل آخر، وهذا المثل الثالث في هذه الأمثال الأربعة{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه }هذه النية؛ فنيتهم يريدون رضوان الله -تبارك وتعالى- عليهم لا نية لهم ولا توجه لهم إلا هذا؛ ثم { وتثبيتاً من أنفسهم} لأن الصدقة برهان، والصدقة من الصدق؛ فإذا  تصدقوا فإنما يعربون عن صدقهم، وتصديقهم بموعود الله -تبارك وتعالى- فيثبتون، ويتثبتون في الدين، { تثبيتاً من أنفسهم} في الدين بأنهم مؤمنون بالله -تبارك وتعالي- واثقون من أن صدقتهم عند الله، وأنه يثيبهم عليها -سبحانه وتعالى-، فالصدقة برهان لهم على إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- وتثبيتاً من أنفسهم.

  قال -جل وعلا- { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}الجنة البستان، الربوة يعنى المرتفع من الأرض، وهذا أحسن أحوال البساتين، إذا  كان البستان في أرضٍ منخفضة فإنه يكون فيه ركود في الهواء  وقلة في الضوء، فلا يأخذ البستان حظه من الضوء ومن الهواء ومن انتشاره؛ أما اذا كان فوق مكان مرتفع على ربوة تأتيه الشمس من كل جهاتها ويأتيه الضوء ويتخلله الهواء فإن  ذلك تقوى أشجاره، وتحسن ثماره { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَة} هذه أعظم أنواع الجنان.

 { أَصَابَهَا وَابِلٌ}هذه  الجنة وهى في مرتفعٍ من الأرض، ربوة من الأرض ويأتيها الوابل، الوابل وهو المطر الغزير الشديد،  قال -جل وعلا-  { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أكلها ثمارها ضعفين مضاعفة، فبدلا ما أن  الشجرة في العادة تنتج غسق يأتها غسقين، وذلك من الوابل العظيم المطر العظيم الذى جاءها في الموسم.

  { فإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ}إن لم يأت في هذه السنة مطر غزير{ فطل}والطل هو الندى الذى يقع في الليل على الأشجار، وهذه تشرب هذا الماء القليل، وتحيا به إذن  أيضاً تثمر ولكن ثمار قليلة لابد تثمر  فتثمر بهذا وهذا، وقيل أن  الفرق بين هذا وهذا إما هو لضعف لقلة فاذا أنفق نفقة قليلة فهذه، واذا أنفق نفقة عظيمة فكذلك ، أو لحال منفق، فإن حال المنفق الصدقة ليست على مستوى واحد من الأجر كما جاء في الحديث أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-  « يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا فقال تصدق وأنت شحيح بخيل تأمل الغنى وتكره الفقر ولا تنتظر حتى اذا بلغت الحلقوم  قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان"،  فهذا الذي يتصدق وهو سليم صحيح، وهو أيضا شحيح يحب المال، ولكنه يهزم ويقهر نفسه ويتصدق لله -تبارك وتعالى-، فهذه معاناته غير معاناة الآخر، قال ولا تنتظر لا تنفق حتى تنتظر حتى إذا  بلغت الحلقوم الروح آخر وقت في العمر، عند ذلك  تبدأ الصدقة، يبدأ الصدقة هنا، يرى أنه سيموت، وأن المال سيبقى لوارثه، وأنه قد لا يكون وارثا من الصلب، فيقوم يوزع المال، فيقول لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان، أي  في ذمتي ونيتي أن أعطيه، فأعطوه الآن؛ فهذا الذى تصدق في آخر العمر غير الذى تصدق في مقتبل العمر وهو صحيح سليم هذا أجره أكبر،

 كذلك من يعطي مع ضيق اليد، وضيق الحال غير من يعطي عن ظهر غنى هذا غير هذا كما في قول الله –عز وجل-  {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وقال {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّه........}ِ[الإنسان:8-9] وكذلك النفقة فى وقت المحن والشدائد، غير النفقة فى وقت اليسر، والرخاء؛ كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- « لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق  مثل أحد  ذهبَ ما بلغ مُدَ أحدهم ولا نصيفه»،  هذا النبي يقوله لخالد، وخالد من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- لكن أصحابه الأُول كما قال-تبارك وتعالى- {........لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى........} [الحديد:10] فالذين أنفقوا قبل الفتح ثوابهم مضاعف أضعاف كثيرة عن الذين أنفقوا بعد الفتح فهذا يختلف عن هذا.

 كذلك مجال الصدقة فالصدقة، يعنى في سبيل الله في الجهاد غير الصدقة فيما دونها في باب آخر وهكذا،  فلعل قول -الله تبارك وتعالى- { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي  أن ثواب الصدقة كائن كل حال، وأنها تتضاعف أضعاف كثيرة في حالات، وتكون أقل منها في حالات بحسب حالات النفقة، لكن المنفق في سبيل الله لابد وأن يجد ثواب عمله، فهذا المثل بيان أن من أنفق بهذين الشرطين؛ ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم إيمان ونية كما قال النبي في الصوم « من صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »  فهذا تصدًق كذلك إيماناً بأن الله -سبحانه وتعالى- فرض هذا الأمر، ويثبت نفسه ففي هذا التثبيت، هذا الإيمان، وكذلك محتسب عند الله-تبارك وتعالى- يريد وجه الله -سبحانه وتعالى- فهذا له الأجر.

 قال الله -تعالى- في ختام هذا المثل { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}وهذا التعقيب توجيه من الرب -تبارك وتعالى- للعباد بأن يحسنوا كل أمر يمس  الصدقة، إحسان النية، إحسان العطاء، مراعاة الأمر ، لأن الله مبصر بعمله، - فاذاً أنت راقب الرب -تبارك وتعالى-  واعلم أن الله يراقبك، ومن علم بأن الله يراقبه فإنه يحسن عمله، كما جاء في معنى الإحسان قال: «أن  تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

 ثم بعد ذلك ضرب الله مثل آخر، وهو المثل الرابع في سياق هذه الأمثال المتتابعة، وهذا المثل لمن بدأ صدقته لله، ولكنه ذهب وأبطلها  بالمن أو الأذى، فربنا ضرب له مثل قال -جل وعلا- {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:266] { أيود أحدكم} أيحب أحدكم أيها  المخاطب من  المؤمنين، أن تكون له جنة من نخيل وأعناب، جنة بستان فى هذه الأرض من نخيل وأعناب، وهذه أعظم أنواع الفواكه فى الأرض النخيل؛ فالنخلة شجرةٌ مباركة، وثمارها أعظم من ثمار ما فى الأرض نفع للإنسان فهي فاكهة فى الفواكه، غذاء فى الأغذية، دواء فى الأدوية نافعة بكل حال بل يمكن للإنسان أن يستقل بثمرات النخيل مع الماء ويكتفى بذلك عن الطعام مدد، وقد عاش الصحابة على هذا شهورا وسنين من حياتهم؛ كما جاء فى حديث أم المؤمنين رضى الله -تعالى- عنها عائشة أنها كانت تقول:" كنا نتراءى ثلاثة أهلة فى شهرين. ولا  يوقد فى أبيات رسول الله نار - أبياته عند كل زوجاته-  قيل: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء" أي  يمر علينا شهرين لا يأكلون خبزة واحدة من الطعام فلا يوقد نار، النار هي أساس الخبز وأساس الغذاء فيقول: فما طعامكم تقول: التمر والماء، وكان النبي إذا أرسل جيشا أحيانا لا يزوده إلا بتمر فقط جراب تمر فقط، وهو من أعظم الأسباب التي أعانت المسلمين فى فتوحاتهم أنهم كانوا يعتمدون فى طعامهم على التمر والماء فقط، والتمر غذاء لا يحتاج إلى حفظ وإلى معاناة بالطبخ والنار،،  ولا كذا فى الحفظ فإنه لا يصيبه الآفة كبقية الفواكه فمن أعظم الأمور ، فالنخيل هنا قدم الله النخيل لأن النخيل من أعظم الثمار  التى خلقها الله -تبارك وتعالى- لأهل الأرض.

{ وأعناب} الثمرة الثانية، وهى من أنفع كذلك الثمار بعد التمر، وهو شبيهه فى أنه فاكهة فى الفواكه، غذاء فى الأغذية،  فهو كذلك يدخر ويصبح قوتا هو من القوت عندما يجفف العنب فيصبح قوت، وشراب فى الأشربة؛ فهذي الجنة من نخيل وأعناب.

 { تجرى من تحتها الأنهار} فلا مشقة فى السقي، والماء حياة البستان  وحياة الجنة، والأنهار هنا جارية، وليست مجرد ماء يستنبط من بئر وإنما فيها أنهار تجرى { له فيها من كل الثمرات} هذا تنوع الثمرات كلها، يعنى الفواكه، الخضار كل أنواع الثمار موجودة { لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ثم "وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ" يعنى عندما أصبح عنده هذا البستان بلغه وهو رجل كبير مسن  { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} أولاده صغار السن فهذا الذي له هذا البستان وهو على هذا الحال يكون متعلقا به كل التعلق،  أولاً لأن هذا بستان فيه كل الخيرات، ويغنيه، ثم هو رجل كبير السن  إذا  ذهب عنه هذا لا يستطيع أن ينشئ شيئا آخر ما بقي فى العمر بقية، ثم عنده أولاد صغار لا يستطيعون أن يقوموا بعد ذلك بإنشاء  شيء آخر؛ لأن هذا أصبح لأنهم صغار السن ليسوا فى حال يؤهلهم لفتح عمل جديد ومشروع جديد،  ثم هذا الرجل الذى هذا حاله، ويتعلق هذا التعلق، ويتشبث هذا التشبث يكون متشبثا هذا التشبث بهذا البستان إذا به قال -جل وعلا- { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ}  يعنى أصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت،  و الإعصار هو الريح التي تلتف كفعل العاصر، وهذه الريح التي يلتف وتدور يعنى يكون فيها دوامة تدور هي أفسد الرياح للأشجار فإنها تقتلع الأشجار من عروقها وتدمر البيوت فهي ريح مدمرة، ثم يكون فى هذا الإعصار عندما يصير كذلك معه نار، فيرسلها حيث يذهب فاحترق هذا البستان، أو هذه الجنة احترقت.

فمصيبة هذا الشخص أعظم مصيبة، فهو أولا  كبير السن وليس فى مجال بأن يبدأ حياته من جديد، وأولاده صغار لا يستطيعون أن يقوموا بإنشاء شيء جديد، وهذا البستان كما يقال أنفق فيه ما أنفق وبلغ فيه ما بلغ وكان بهذا الجمال والزهو والراحة والذخر؛ جعل الله -تبارك وتعالى- مصيبة من ينفق فى سبيل الله ويكون له ثواب عظيم عند الله،  ثم بعد ذلك يتلف عمله الذى كان له عند الله أجره الذى كان له عند الله بالمن والأذى كمصيبة صاحب هذه الجنة الأرضية،  أي أن من أنفق فى سبيل الله كان له أجر بنفقته عند الله تقبل الله نفقته وجعل له بستان جنة  فى الآخرة وبعد ما صار له هذه الجنة فى الآخرة فإذا به يمن بعمله فيحترق هذا تحترق جنة الآخرة يذهبها الله يذهب الله أجره، أو يؤذي من تصدق عليه فكذلك أتلف عمله،  تشبيه لمصيبة هذا بمصيبة هذا، فتلك المصيبة التى هي مصيبة غيبية،  المنفق هذا في يوم القيامة يجد أنه قيل له قد كان لك هذا الأجر العظيم , ولكن كله ذهب هباءً منثوراً،  بمنك وبأذاك؛ فالله يضرب لنا مثل هذا فى الدنيا انظروا   أن مصيبة هذا فى الآخرة كمصيبة هذا الذى كانت له هذه الجنة، والبستان فى الدنيا، ووقع له، فى هذا الإعصار.

 قال -جل وعلا-{  كذلك} ، كهذا البيان والإيضاح. { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}  كذلك، كهذا  البيان، والإيضاح بضرب الأمثال، وتوضيح الصورة، وتقريبها لكم حتى تنظروا فيها يبين الله لكم الآيات؛ الله -سبحانه وتعالى- خالق السموات والأرض ربكم يبين لكم هذه الآيات هذا البيان بكلامه -سبحانه وتعالى-  { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فى الأمر، ولاشك يكون لكم فكر فى الأمر أن كل من وعد الله -تبارك وتعالى- إذا  قرأ، وسمع هذا البيان من الله -تبارك وتعالى- وكان له فكر، ونظر فإنه لا يمكن أن يقدم على أنه يبطل صدقته بمن أو أذي بل إذا  تصدق جعل صدقته لله إن كانت سراً أبقاها سراً، وإن كانت جهراً فإنه لا يمن بها بل هي جعلها لله، ولا يمكن فى أن يفكر فى أن يمن بعمله بعد ذلك، ولا أن يؤذى من تصدق عليه.

أربعة أمثال عظيمة، وكلها طبعاً فى موضوع الصدقة، وكلها من واقع الزرع؛ ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة:267] هذا نداء من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أن ينفقوا  قال: { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم"} من  طيبات ما كسبتم يشمل أمرين الأمر الأول أن يكون فى ذاته طيب غير خبيث، الأمر الثاني أن يكون من كسب طيب، والكسب ما يكسبه الإنسان من المال والخير،  إما أن يكون من شيء طيب كتجارة أو عمل أو ري أو زراعة هذا كله كسب مباح، وأما أن يكسب كسب خبيث من ربا من سرقة من بيع محرم من الإيجار على محرم فهذا كسب خبيث؛ فكسب الربا، والمقامرة وكل المكاسب التى حرمها الله هذه مكاسب خبيثة.

 فهذا إذا  أنفق لا يكون قد أنفق من طيبات ما كسب، وكذلك لو كان عنده طعام طيب، وطعام رديء ، زراعة محصول طيب من الزرع، ومحصول رديء ؛ فكذلك لا يكون الله –تبارك وتعالى- يوجهنا إلى أن ننفق من الطيب، مما نحبه {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران92] فلا يجوز للمؤمن أن ينفق شيئاً يكرهه؛ لأن هذا فعل الكفار {ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل62] فالأمر الذى يستنكف عنه  لباس لا يلبسه، طعام لا يأكله، متاع لا ساقط من عينه يجعله لله؛ لا بل يجب أن ينفق من الطيبات.

قال -جل وعلا { ومما أخرجنا لكم من الأرض} من ما، من ما، من الذى أخرج الله -تبارك وتعالى- لكم من الأرض الزروع والثمار { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} لا تيمموا تقصدوا الخبيث من الزروع والثمار والخبيث هنا بمعنى الرديء، وليس المحرم؛ كرديء مثلاً عنده قمح يأخذ رديئها تمر يأخذ الشيء الرديء الساقط منه { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} فيجعل الرديء لله -سبحانه وتعالى- ، وأما الجيد فيجعله لنفسه؛ قال -جل وعلا- { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ولستم بآخذيه،  لو أنك مكان الفقير وأُعطيت هذا الرديء فإنك لا تؤخذه إلاً عن إغماض عين،  أغمض عينه عن عيوبه، وهو مضطر بأن يأخذه لأن حاله هكذا حال فقر.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}  اعلموا أيها العباد أن الله غني عن عطاياكم،  فهذه الآية كالآية السابقة ختمت بأمر شديد جداً؛ فيه تقريع، وتأنيب لمن ينفق من الخبيث، والتقريع فى هذا أن الله هو الذى يأخذ، فأنت إذا  أنفقت الرديء تعطيه لله -سبحانه وتعالى-،  فالله يقول لك أنا غني عن هذا،  علماً بأنه يعطي ظنا العطية للفقير، نعم هي للفقير لكن أنت تعطي لله، أنت تعطيه لله والصدقة تقع فى يد الله قبل أن تقع فى يد الفقير،  قال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَنِيٌّ} عن صدقاتكم؛ فلا تعطى لله، يعنى الرديء؛ {حميد} يعني -سبحانه وتعالى- محمود بذاته -سبحانه وتعالى- هذا الرب الحميد المحمود -جل وعلا- لا ينبغي أن يعطيه العبد ما هو صغير فى عينه وما هو ، ردئ عنده بل يجب أن يعظم الرب -تبارك وتعالى- ولا يعطي ربه إلا أحسن ما عنده

وأصلي وأسلم على عبده محمد والحمد لله رب العالمين.