الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}[النبأ:1] {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ:2] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3] {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:4] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:5] {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}[النبأ:6] {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}[النبأ:8] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:9] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ:10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ:11] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12] {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}[النبأ:13] {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ:14] {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا}[النبأ:15] {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}[النبأ:16] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، هذه سورة النبأ؛ وسورة النبأ سورة من القرآن المكي، وقد بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة ببيان هذا النبأ العظيم؛ وهو نبأ يوم القيامة، الرسول المُرسَل من الله -تبارك وتعالى-، القرآن المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-؛ والذي اختلف الناس فيه بين مؤمن وكافر، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- الدليل على ما جاء به هذا النبأ العظيم؛ كتاب الله -تبارك وتعالى-، رسوله الصادق الأمين -صلوات الله والسلام عليه-، بعد الأدلة الكونية التي ذكَرَها الله -تبارك وتعالى- هنا وقال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، يوم الفصل؛ يوم حُكْم الله -تبارك وتعالى- في الخلائق، ليفصل حُكْم الفصل بين الجميع؛ ويأخذ أهل الجنة جزائهم، وأهل النار يأخذون حسابهم ونصيبهم، هذا يوم واقع لا محالة.
قال -جل وعلا- {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}[النبأ:1]، يعني عن أي شيء يتسائلون؟ هؤلاء المُكذِّبون بيوم القيامة يسأل بعضهم بعضًا ويسألون الرسول سؤال إنكار واستبعاد، قال -جل وعلا- {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ:2] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3]، النبأ؛ الخبر العظيم، وهو نبأ؛ خبر عظيم، عظيم جدًا، ما في أعظم من هذا النبأ الذي يُنبِّئ الله -تبارك وتعالى- به عباده، القرآن هو النبأ العظيم المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- بأخبار عظيمة جدًا؛ بإخبار الخلْق بإلههم، وخالقهم، ومولاهم -سبحانه وتعالى-، أظهر الموجودات؛ لا أظهر من وجود الرب -سبحانه وتعالى-، ولا وجود أدل على وجوده ووحدانيته من الله -تبارك وتعالى-، كل ما في الوجود شاهد على أنه له إلهًا؛ ربًا، خالقًا -سبحانه وتعالى- قد خلَقَه، فهو الذي تشهد كل الموجودات بوجوده ووحدانيته -سبحانه وتعالى-، خبره خبر عظيم؛ خبر واقع لا محالة، اليوم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- يومًا للخلائق ليفصل بينهم -سبحانه وتعالى-، فالقرآن الذي جاء بهذا النبأ، يوم القيامة النبأ العظيم قال -جل وعلا- {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3]، الذي هم فيه؛ هؤلاء الكفار، مُختلِفون يعني في هذا اليوم بين مؤمن وكافر؛ بين مُصدِّقٍ ومُكذِّب، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}[النبأ:1] {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ:2] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3]، فُسِّر النبأ العظيم مرة بالقرآن؛ ومرة بالرسول -صلوات الله والسلام عليه-، ومرة بالبعث، وهذا لا شك أنه أمر من التفسير التنوُّعي لموضوع واحد؛ هذا أمر واحد، فالقرآن هو النبأ العظيم، لا نبأ ولا خبر أكبر من نزول هذا القرآن؛ وهو الذي به أصبح الرسول رسولًا، ونُبِّئ به؛ بهذا القرآن، وهو الذي جاء بهذه الأنباء العظيمة؛ بالأخبار العظيمة عن غيب الله -تبارك وتعالى-، سواءً عن غيبه السابق أو غيبه اللاحق الذي سيأتي كيوم القيامة وما يكون فيه من الجنة والنار، والنبي هو النبأ العظيم -صل الله عليه وسلم-، فخروجه، وظهوره، وبيانه، وتذكيره؛ النبأ العظيم، ويوم القيامة هو النبأ العظيم لأنه هو المُخبَر به، بهذا اليوم العظيم الذي هو الإخبار به أكبر خبر وأكبر حَدَث سيقع في الوجود يُغيِّر هذا الوجود؛ السماوات والأرض تتبدَّل، ويقوم الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى- ليأخذ كلٌ جزائه.
قال -جل وعلا- {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3]، ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:4]، كلا؛ رفض وإضراب على تكذيب المُكذِّبين لهذا اليوم العظيم يوم القيامة، ثم قال -جل وعلا- {........ سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:4]، تهديد ووعيد منه -سبحانه وتعالى- لهؤلاء المُكذِّبين، {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:5]، كلا؛ رفض لتكذيبهم، ثم تهديد لهم على تكذيبهم فقال -جل وعلا- {سَيَعْلَمُونَ}، ثم قال -جل وعلا- لهؤلاء المُكذِّبين بالبعث والنشور؛ بهذا الرسول الذي جاء يُحذِّرهم من هذا اليوم، قال -جل وعلا- {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}[النبأ:6]، هذا أول شيء، هذي آية من آيات الله -تبارك وتعالى- الأرض التي يعيش عليها الجميع، يقول الله -جل وعلا- ألم نجعلها مِهادًا؟ مهَّدها بأن بسطها -سبحانه وتعالى- وجعلها مُمهَّدة؛ يعني مُسهَّلة لحياة الإنسان عليها، فانظر بسطها على هذا النحو وكذلك سهولة أمر الإنسان بأن يعيش عليها؛ بأن يبني عليها مسكنه، بأن يَخُطَّ فيها طريقه، بأن يزرع فيها فهي ممُهَّدة لأن تُخرِج له الزرع، بأن تسير فيها وتشُقَّ الأنهار فيها التي عليها الحياة، كل هذا مِهاد لهذا الإنسان، وهي ممُهَّدة كذلك كما نُمهِّد نحن مهْد الطفل لينام عليه، فهذا الذي مهَّدَ هذه الأرض؛ وجعلها مُمهَّدة على هذا النحو، وهذا جعلها بهذا الصلاح ليسكن الإنسان عليها؛ الرب العظيم، مَن الذي صنع هذا؟ صناعة مَن هذه؟ وخلْق مَن هذا؟ {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}[النبأ:6]، الله -سبحانه وتعالى-.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7]، جعل الله -تبارك وتعالى- الجبال أوتاد، سُمُّوا أوتاد لأن الجبل وتد بالفعل في الأرض لأن له جِذر مغروس في هذه الأرض ليكون على هذا النحو، ثم هي رواسي أرسى الله -تبارك وتعالى- بها الأرض، وأصبحت أوتاد كأوتاد الخيمة لأننا إذا نصبنا خيمة لا تقوم ولا تَثبُت إلا بأوتاد تُثبِّتُها في هذه الأرض، فثبَّتَ الله -تبارك وتعالى- الأرض ألا تميد بهذه الأوتاد؛ بهذه الجبال التي أرساها الله -تبارك وتعالى- فيها، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7]، قال -جل وعلا- {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}[النبأ:8]، خلقناكم أيها المُخاطَبون من البشر؛ من أولاد آدم، أزواجًا؛ ذكر وأُنثى، وهذا من رحمته كذلك، في هذا من بيان قُدرَته وإحسانه بخلْقِه أمور عظيمة جدًا لا يمكن أن تحويها الكتب، فأولًا التناسب بين الذكر والأُنثى في كل شيء؛ أن هذا إنسان وشقائق للرجال، وليكون السكن، والتوافق في أن هذا يُكمِّل هذا؛ الزوجان يُكمِّل بعضهم بعضًا، ثم يكون النسل على هذا، ثم ليكون استمرار الحياة، لو كانت الحياة رجال وحدهم ذكور بدون إناث لأصبحت الحياة في غاية الكآبة والمشقة؛ أو إناث بلا ذكور، فكون أن الله -تبارك وتعالى- يخلُق للإنسان زوجَهُ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ........}[الروم:21]، هذه العواطف التي قامت، عاطفة المودة والرحمة بين الذكر والأُنثى هذا من آيات الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أمر عظيم جدًا، ثم كذلك من دلائل الرحمة والقُدرة؛ قُدرة الرب -سبحانه وتعالى- على خلْق الذكر والأُنثى على هذا النحو، قال -جل وعلا- {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}[النبأ:6] {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7]، وخلقناكم أيها الناس حال كونكم أزواجًا.
ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:9]، الجعل؛ الخلْق، نومَكُم أيها الناس سُبات، السُّبات؛ السَّكينة، السبت؛ السكون، فالسُّبات اللي هو سكون وراحة، وقد عَلِمَ الناس الآن أن هذا النوم لابد لحياة الإنسان، ولو أن الإنسان في يقظة دائمة لانتهى؛ لاحترقت أعصابه، وانهدَّت قواه، وانتهى وجوده، لكن الله -تبارك وتعالى- أوجَدَ له هذا السُّبات ليستريح فيه؛ يتجدد فيه نشاطه، تذهب عنه متاعبه، يقوم بعد ذلك في حياة جديدة نشطة، {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:9] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ:10]، الليل بسواده، وسكونه، وبرودته؛ جعله الله لِباس، لِباس كأنه شيء يُغطِّي الوجود، وفي الليل بسكونه هذا مكان للراحة، بهدوئه وسواده مكان للراحة لأن الضوء يبعث النشاط ويبعث الحركة، والإنسان في حال السُّبات يحتاج إلى جو مُظلِم؛ وساكن، وبارد، هذا كله جعله الله -تبارك وتعالى- في الليل وأعطى الليل هذه الخواص، قال {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ:10]، مَن الذي خلَقَ هذا؟ ومَن الذي أعطى هذا؟ هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بقُدرَته؛ وبنعمته، وبرحمته بخلْقِه -سبحانه وتعالى-، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ:11]، جعلنا؛ صيَّرنا، جعل الله -تبارك وتعالى- وخلَقَ النهار على هذا النحو، معاش؛ يعني للمعايش، خلَقَه الله -تبارك وتعالى- أولًا بضوء الشمس ليكون نور وتكون الحرارة فتبعَث هذه الحياة والحركة ليبحث الناس في المعاش؛ فهذا يقوم بفلاحة أرضه، وهذا يقوم في مصنعه، وهذا يقوم في متجره، وهذا يقوم في نقله، فيقوم الناس في معاشهم؛ هذا يبني، وهذا يفعل، وهذا يصنع، فيكون هنا النهار بإشراقه؛ وبضوئه، وبحرارته، يكون وقت لطلب المعاش، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ:11]،
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12]، بنينا فوقكم أيها الناس سبع سماوات شِدادًا؛ يعني أنها قوية، مبنية بقوة وإحكام، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7]، أن الله -تبارك وتعالى- قد أحكَمَ بنائها، قال {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، وقال {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، قال -جل وعلا- {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}، يعني طبقات بعضها فوق بعض، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ}، يعني إلى السماء، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، هل ترى من تشقُّق؟ يعني هل هذه السماء العظيمة المبنية فوقكم هاوية مُتشقِّقَة؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12] {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}[النبأ:13]، الشمس جعلها الله سراج، السراج هو هذا المصباح الذي يُصبَح، فالله -تبارك وتعالى- جعل هذه الشمس المُضيئة؛ العظيمة، الكبيرة، التي هي أكبر من الأرض مليون مرة، جعلها سراج وهَّاج؛ وهَّاج بالحرارة وبالضوء، قد عرِفَ الناس الآن أنه يقوم فيها آلاف وملايين التفجيرات النووية التي تُخرِج منها ألسنة اللهب وتتوهَّج، وهي مُلتهبة على هذا النحو ومُتوهِّجة سراج يُضيء للناس على مدى هذه الحياة الطويلة بقُدرة الرب -سبحانه وتعالى-، مَن وضعَ هذا السراج في مكانه على هذا النحو مُتوهِّج بالضوء؛ ومُشِع لهذه الحرارة، وينشر ضوئه على هذا النحو ونحن في الأرض هذه نحصل على جزء صغير من ملايين الملايين الملايين من أجزاء هذا الضوء والحرارة التي يُرسِلَه هذا السراج الوهَّاج، {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}[النبأ:13]، مُتوهِّج، وتوهُّجُهُ هو إرساله بهذا لوَهَج؛ وَهَج ناره المُتتابِع.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ:14]، أنزل الله -تبارك وتعالى- من المُعصِرات، المُعصِرات؛ السحاب، وهذا المُعصِرات هي السحاب الذي يكون مع الإعصار الذي يدور يُنزِل ماء ثجَّاج؛ والثَّج هو شدة الهميان والهطول، يعني أنها هاطلة ومُنصبَّة انصبابًا عظيم، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ:14]، ومنه قول النبي -صل الله عليه وسلم- في معنى الثَّج «الحجُّ هو العَجْ»، وهو رفع الصوت بالتلبية والثَّج؛ والثَّج هو الذبح، لأن في الذبح نهر للدم؛ دم الذبائح التي تُذبَح لله، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ:14]، كثير وقوي الهطول، قال -جل وعلا- {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا}[النبأ:15]، يعني أن من حِكمة الله -تبارك وتعالى- من إنزال هذا الماء الذي يُنزِله من هذا السحاب يُخرِج به حَب الذي يأكله الإنسان؛ كالقمح، والأرز، وهذه الحبوب الكثيرة، ونباتًا؛ نباتات كثيرة، المملكة النباتية ملايين النبات؛ أكثر من مليوني نوع من النبات عرفها الناس، نبات للمنافع الشتَّى التي فيه؛ هذا يؤكَل أوراقه، وهذا سيقانه، وهذا ثِماره، وهذا عصفه، وهذا دواء، وهذا غذاء، أمر لا حصر له يُخرِجَه الله -تبارك وتعالى- مع ما فيه من البهجة والسرور بالنظر وبإزهاره، {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا}[النبأ:15] {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}[النبأ:16]، يعني أن ماء المطر الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- يُخرِج الله -تبارك وتعالى- به هذا الحَب والنبات، وجنات؛ اللي هي البساتين، يُسمَّى البستان جنة إذا عَلَت أشجاره والتفَّت أغصان هذه الأشجار بعضها ببعض حتى تُصبح جنة، جنة يعني أن الداخِل فيها يُسْتَر خلاص من التفاف الأغصان، بعض أغصان هذه الشجرة يلتَف بأغصان هذه الشجرة الأخرى فتصبح جنة لأنها كالستارة تُجِن مَن يدخل فيها، {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}[النبأ:16]، كثيرة، مُلتفَّة الأغصان؛ أغصانها يلتَف بعضها على بعض، {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}[النبأ:16].
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، تأكيد بعد ذلك، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- آياته -سبحانه وتعالى- في الخلْق قال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، يوم الفصل؛ يوم الحُكْم، يوم أن يحكُم الله -تبارك وتعالى- بين الخلائق ويفصل بينهم -سبحانه وتعالى- في القليل والكثير؛ فيكون كل أحد يأخذ حُكمَه بعد ذلك، ثم يكون الفصل بين أهل الجنة والنار، أهل الجنة يذهبون إلى طريقهم؛ إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، وأهل النار يذهبون إلى طريقهم؛ إلى غضب الله -تبارك وتعالى- وسخطه -عياذًا بالله من ذلك-، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، يعني وقت أقَّتَه الله -تبارك وتعالى- وحدَّدَه ولكنه عنده -سبحانه وتعالى-، لم يُطلِع الله -تبارك وتعالى- على ميقات هذا اليوم أحد قط، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ........}[الأعراف:187]، فهذا الميقات أخفاه الله -تبارك وتعالى- عن الخلْق كلهم ووقَّته؛ جعله موقَّت منذ أن خلَقَ الله الخلْق، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ........}[الأنعام:2]، قضى أجلًا لكل مخلوق، وأجلٌ مُسمَّى عنده؛ لكل هذه الدنيا أجلٌ مُسمَّى عنده -سبحانه وتعالى- لم يُطلِع الله -تبارك وتعالى- عليه أحدًا من خلْقِه فقال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17].
ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:18]، بدأ الله -تبارك وتعالى- بتفصيل ما سيكون؛ كيف سيكون هذا اليوم؟ وما هي الأمور العظيمة التي ستكون في هذا النبأ العظيم؟ {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ........}[النبأ:18]، الصور؛ القرن، ويُنفَخ هنا لم يُسنِد الله -تبارك وتعالى- الفعل إلى فاعله؛ وفاعل هذا النفخ إنما هو إسرافيل -عليه السلام-، كما جاء في الأحاديث أنه صاحب القرن، مَلَك وكَّله الله -تبارك وتعالى- بهذا القرن، والقرن هذا لا يعلم قَدْرَه وعَظَمَته إلا الله -تبارك وتعالى-، فإسرافيل إذا نفخ في هذا النفخة الأولي فهي هدم وانتهاء هذا الكون، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، هذه من النفخة الأولى، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، ثم النفخة الثانية {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، النفخة الثانية يقوم الناس فيها لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:18]، هذي النفخة الثانية تأتون أيها الناس أفواجًا، الأفواج؛ جماعات، يعني جماعة إثر جماعة؛ إثر جماعة، إثر جماعة ...، يأتي كل الناس من أماكنهم؛ من أجداثهم، تُخرِج الأرض أثقالها ويخرج الناس من بطن هذه الأرض إلى ظهورها، ثم بعد ذلك يدعوهم الداعي خلاص؛ فكلٌ يتوجَّه إلى الأرض التي هي محشرهم، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:18]، جماعات جماعات.
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}[النبأ:19]، هذه السماء العظيمة تُفتَح، {........ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}[النبأ:19]، ينزل كل ملائكة السماء إلى هذا الموقِف العظيم ويُحيط كل ملائكة السماء بأهل الموقِف، ثم يطوي الله -تبارك وتعالى- السماوات سماءً سماءً، كما قال -جل وعلا- {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}[النبأ:19]، فكانت أبوابًا أي لنزول الملائكة، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20]، سُيِّرَت الجبال فكانت سرابًا؛ هذا آخر مطافها، فإنه بالنفخ في الصور تُنسَف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، ثم {........ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، ثم بعد ذلك تكون كالعِهن المنفوش، ثم بعد ذلك يُسيِّرُها الله -تبارك وتعالى- إلى حيث يشاء، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20]، سرابًا يعني تنظر إليها من بعيد وهي سائرة كما يترائى السراب لرائيه، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20].
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21]، هذا أول اليوم؛ وهذا يوم الفصل، جهنم هي هذا السجن الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لأعدائه، وهذا هو السجن العظيم العميق الذي سيسَع الكفار أولهم وآخرهم؛ وتقول فيه النار هل من مزيد، وفي هذا السجن العميق يُلقى الحجر ...، يقول النبي «يُلقى الحجر من على شفير جهنم»، شفيرها هو حافتُها من أعلاها، «فيهوي سبعين خريفًا لا يصِل قعرها»، لا يصل قعر النار في سبعين سنة وهو ينزل، فهذا السجن العظيم هو جهنم -عياذًا بالله-؛ والتي هي دركات بعضها أنزل من بعض إلى قاعها -عياذًا بالله-، الله يقول {........ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21]، بل رَصَد؛ يعني حاضر، مُهيَّئة، مرصودة، المرصود القائم؛ الجاهز، الموجود، كما يُقال رصيدك في البنك هو مالك الذي حفظته وأبقيته، فالأمر الرَصَد هو هذا ؛ والذي ينتظر، فهي بالانتظار؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- خلَقها، وهيَّأها، وأوجَدها، وهو مرصودة؛ موجودة، تنتظر الداخلين إليها من أهل عذاب الله -تبارك وتعالى- عياذًا بالله من ذلك، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21]، قال -جل وعلا- {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[النبأ:22]، طاغين جمع طاغي، والطاغي؛ فاعل الطُغيان، وأصل الطُغيان هو مُجاوزة الحَد، كل مَن جاوز الحَد يكون طغى، وفي قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}[الحاقة:11]، طغى الماء يعني ارتفع وزاد عن حدِّه، بعد أن كان الماء يسير في أنهاره أو في البحر الله -تباك وتعالى- أمَرَ الأرض أن تُخرِج عيونًا؛ والسماء أن تُسقِطَ مطرًا، فعلا الماء وطغى؛ ارتفع إلى أعالي الجبال، إلى قمم الجبال، لم يصبح جبل في الأرض بعد ذلك إلا وقد غطَّاه الماء، فالطاغي من البشر؛ الطُغيان هو مُجاوزة الحد، العبد له حَد؛ أنت عبد، الإنسان عبد لله -تبارك وتعالى-؛ خلَقَه الله -تبارك وتعالى- وأوجَدَه في هذه الأرض ليعبده، وهو خُلِق ليؤمَر ويُنهى، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، وله مُدَّة مُعيَّنة في هذه الأرض يُختبَر فيها ويُبتلى، ثم يموت بعد ذلك، ثم يُبعَث ويُحاسَب، فلمَّا يجيء عبد يطغى أول شيء من طُغيانه رفض أمر الله -تبارك وتعالى-، ليس لك أن ترفض أمر الله -تبارك وتعالى-؛ أن ترُدَّه، يأتيك الصدق فتُكذِّبه؛ هذا طُغيان، التكذيب بالصدق؛ تكذيب كلام الرُسُل، ثم مُجاوزة الحَد الله -تبارك وتعالى- يأمرك وينهاك فتتعالى عن أمره ولا تستجب له؛ هذا طُغيان، كل عاصٍ عن الله -تبارك وتعالى-، ومُعانِد لأمره، وراد له؛ هذا طاغي، فالله -تبارك وتعالى- جعلها للطاغين بالكفر؛ والعناد، والبُعْد عن الله -تبارك وتعالى-، {........ مَآبًا}[النبأ:22]، مرجِع، يعني أوبة هؤلاء إلى هذا المكان، جعل الله -تبارك وتعالى- هذه النار التي هيَّأها؛ وأعدَّها، وجعلها بالرَصَد، لتكون مآلًا؛ مؤِلًا، مرجِعًا لهؤلاء الطُغاة.
قال -جل وعلا- {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[النبأ:22] {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23]، اللُّبث؛ المكوث، يعني أنهم ماكثون فيها أحقابًا، أحقابًا جمع حِقبة؛ والحِقبة من الزمان هي المُدة المُتطاوِلة، فهذه مُدد مُتطاوِلة، لكن هذه الأحقاب لا نهاية لها، يعني لا تنتهي حِقبة من الزمان إلا وتليها حِقبة؛ وتليها حِقبة، وتليها حِقبة ...، هكذا إلى ما لا نهاية، فليس {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23]، يعني حِقَب من الزمان معدودة مُعيَّنة؛ عشر، خمسة عشر، ثم يأتي حَد وتنتهي إليه وتفرُغ... لا، وإنما {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23]، يعني مُدد مُتطاوِلة من الزمان كلما انتهت مُدة تأتي مُدة؛ انتهت مُدة تأتي مُدة، وهكذا دون انقطاع -عياذًا بالله-، {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24]، في هذه المُدد المُتطاوِلة وهم في هذا السجن الذي أرضه نار؛ وجُدرانه نار، وغطائه نار -عياذًا بالله-، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ ........}[الزمر:16]، في هذا السجن {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ........}[النبأ:24]، بردًا نافع، {وَلا شَرَابًا}، ولا شراب نافع، واستثنى الله -عز وجل- فقال {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25]، لا شراب نافع لكن هذا استثاءً قطع؛ يعني أن هذا الذي يذوقوه الحميم -عياذًا بالله- والغسَّاق، أما الحميم فهو الماء الذي حمأ ووصَل حدَّه من الحموا؛ النار، وماء العذاب هذا في النار -عياذًا بالله- ليس كالماء الذي يعهده الناس في هذه الدنيا؛ ماء رقيق، شفاف، يغلوا مثلًا إلى درجة مائة من الحرارة... لا، هذا ماء غليظ؛ مُنتِن، كالمُهل، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، في ثِقَلِه كالمعدن المُذاب؛ كحديد مُذاب، أو رصاص مُذاب، {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، والغسَّاق أشد من هذا.
سنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات مرة ثانية في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.