الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (762) - سورة النبأ 25-40

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:18] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}[النبأ:19] {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20] {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21] {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[النبأ:22] {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24] {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25] {جَزَاءً وِفَاقًا}[النبأ:26] {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ:27] {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}[النبأ:28] {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}[النبأ:29] {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}[النبأ:30]، سورة النبأ بعد أن بدأها -تبارك وتعالى- بهذا الصنيع الذي عليه أهل الكفر من تسائلهم مُكذِّبين بيوم القيامة؛ النبأ العظيم، قال -جل وعلا- {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}[النبأ:1] {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ:2] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:3]، ثم أتاهم التهديد الإلهي فقال {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:4] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}[النبأ:5]، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعال- طائفة من آياته في الخلْق تعريفًا للعباد بربهم؛ وإلههم، ومولاهم، وقدرته عليهم -سبحانه وتعالى-، وأنه مُنفِذ وَعْدَه ووعيده -سبحانه وتعالى-، وأن ما يعِد الله -تبارك وتعالى- عباده من هذه التغييرات الهائلة والنُقلة الهائلة من هذه الدار الدنيا إلى الدار الآخرة؛ وما في من الأهوال العظيمة، ومن الاختلاف البيِّن، حيث يتحوَّل أهل النار وقد كانوا ما كانوا في هذه الدنيا تمكينًا وقوة إلى النار، وأهل الجنة وقد كان فيهم المُستضعَفون إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، قال -جل وعلا- {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}[النبأ:6] {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}[النبأ:8] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:9] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ:10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ:11] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12] {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}[النبأ:13] {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ:14] {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا}[النبأ:15] {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}[النبأ:16]، هذه آيات قُدرته -جل وعلا-؛ اليس هذا فعل الرب وصنيعه؟.

قال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17]، هذا يوم الفصل النبأ العظيم الذي تُكذِّبوا به، هذا يوم مؤقَّت عند الله -تبارك وتعالى-؛ له ميعاد معلوم، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:18]، انظر بيان قُدرة الرب على الأمر وسهولة هذا عليه؛ كل هذا التحوُّل يكون بنفخة من مَلَك من ملائكة الله -عز وجل-، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ........}[النبأ:18]، في القرن، {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ ........}[النبأ:19]، هذه العظيمة بهذه النفخة، {........ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}[النبأ:19]، ينزل منها الملائكة، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20]، الجبال الراسيات هذه تُسيَّر؛ تُنسَف، تصبح كثيب مهيل، تكون كالعِهن المنفوش ثم تُسيَّر إلى حيث يشاء الله، {........ فَكَانَتْ سَرَابًا}[النبأ:20]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21]، كانت بالرَصَد مُعدَّة؛ جاهزة، موجودة، {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[النبأ:22]، نهاية يئوبون إليها وينتهون فيها، {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}[النبأ:23]، مُدد مُتطاوِلة من الزمان، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24] {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25]، الحميم؛ الماء الحار، ماء العذاب في النار الذي هو كالمُهل يشوي الوجوه؛ بئس الشراب، أما الغسَّاق فهو شراب أخر لأهل النار -عياذًا بالله-، قيل سُمِّيَ غسَّاق من الغَسَق وهو الظُلمة؛ يعني أنه مُظلِم شديد الظُلمة، ثم قد جاء أنه مُنتِن شديد النتَن، قيل أن هذا الغسَّاق هو ما يسيل من أجساد أهل النار؛ يسيل في أودية يشربون منها، فهذا شرابهم -عياذًا بالله-، {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25]، هذا في هذه المُدد المُتطاوِلة في السجن؛ النار المُعدَّة المُهيَّأة، ثم هذا شرابهم، ثم لا يذوقون فيها أي نوع من الراحة؛ برد، ولا شرابًا ينفعهم إلا هذا الشراب الذي هو جزء من العذاب -عياذًا بالله-.

ثم قال -جل وعلا- {جَزَاءً وِفَاقًا}[النبأ:26]، يعني هذا الذي فيه أهل النار على هذا النحو جزاء لفعلهم الخبيث، وِفاقًا؛ موافِق لجُرمِهم، يعني أنه مناسب تمامًا للجُرْم؛ وليس ظُلمًا لهم، ولا تحميل لهم لِما لا يحملوه، ولا عذاب لا يستحقوه، بل هو عذاب موافِق للذنب، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- ذنبهم فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ:27]، إنهم؛ يعني هؤلاء الكفار الذين آل به المآل إلى هذا المصير، {........ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ:27]، لا يتوقعون ولا ينتظرون حسابًا عند الرب -تبارك وتعالى-، ظنوا أن الأمر في هذه الدنيا لعب؛ وسُدى، وتركهم الله، خلَقَهم وتركهم يعبثون ما يعبثون؛ ويلعبون ما يلعبون، ويلهون ما يشائون، ثم لا تكون هناك حكومة ولا حساب، {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ:27] {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}[النبأ:28]، كذَّبوا بآياتنا؛ آيات الله -تبارك وتعالى-، آيات الله بكل أنواع الآيات، كذَّبوا بالآيات المنظورة؛ وهذه آيات قد نصبها الله في كل الوجود، كل شيء في الوجود آية من آياته، فهي آية في الخلْق؛ أولًا في الإحسان والإجادة، ثم هي شاهدة بأن لها رب وإله، ثم كلها في تكامُل هذا الخلْق ووحدته دليل على وحدة الخالق وعلى عظَمَته -سبحانه وتعالى-؛ فهي شاهدة لله -تبارك وتعالى-، فهم عموا عن هذه الآيات المنظورة، ثم الآيات المسموعة؛ نزلت لهم آيات الله -تبارك وتعالى-، وجائهم الرُسُل بآيات الله -تبارك وتعالى- المقروءة التي يسمعونها؛ يقرأها الرُسُل عليهم فكذِّبوها، والتكذيب؛ رد، وإبعاد، عرِفوا أنها الصدق؛ يعني عَلِموا أن هذه الآيات آيات صدق، وأنها من الله –تبارك وتعالى-، ولكنهم كذَّبوا بها كِذَّابًا يعني تكذيب وغلوا في هذا التكذيب، {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}[النبأ:28]، تكذيبًا عظيمًا.

قال -جل وعلا- {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}[النبأ:29]، كل شيء من أعمالهم؛ من كفرهم هذا، وعنادهم، وتكذيبهم، وأعمالهم الصغيرة والكبيرة، أحصيناه؛ عددناه، الإحصاء؛ العَد، كِتابًا؛ حال كونه مكتوبًا كتابة عليهم، فلا يلفِظ الإنسان من قول إلا لديه رقيب عتيد يُسجِّل كل إجرامه؛ كل إجرامه هذا قد سجَّلَه الله -تبارك وتعالى- ودوَّنَه صغيره وكبيره، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}[النبأ:29] {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}[النبأ:30]، كلمة تُقال لأهل النار الذي آل مآلهم هذا المآل، فذوقوا؛ أي أيها المُعذَّبون، {........ فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}[النبأ:30]، يعني مما أنتم فيه إلا عذاب، ما في زيادة إلا في العذاب -عياذًا بالله-؛ سواءً كان في مُدده الطويلة التي لا تنتهي، في نوعه، في كميته، النار كلما فتَرَت يزدادون فيها وكلما استغاثوا يُغاثوا بعذاب فوق عذاب، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}[النبأ:30]، فهذا هو ما أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لهذه الطائفة المُكذِّبة التي كذَّبَت رُسُل الله -تبارك وتعالى-؛ ولم تُفلِح فيها هذه الآيات المنظورة ولا الآيات المسموعة.

ثم عرَضَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الصفحة المُقابِلة لهؤلاء وهم أهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتقواه فقال -جل وعلا- {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}[النبأ:31] {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}[النبأ:32] {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}[النبأ:33] {وَكَأْسًا دِهَاقًا}[النبأ:34] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}[النبأ:35] {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}[النبأ:36]، إن؛ بالتأكيد، للمُتقين؛ الذي اتقوا ربهم، وتقوى الله؛ مخافته، يعني الذين خافوا الله -تبارك وتعالى-، وخوف الله -تبارك وتعالى- هذا حَمَلَ أهله على أن يؤمنوا به -سبحانه وتعالى- كما أخبرهم -جل وعلا-؛ وكذلك ان يلتزموا طاعته، فالتقوى التزام بالطاعة كما أمَرَ -تبارك وتعالى-؛ وانتهاء عن ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، وكل هذا ابتغاء مرضاة الله وخوفًا من عقوبته -جل وعلا-، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ........}[النبأ:31]، الذين جعلوا وقاية لهم وحماية لهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- بأن آمنوا بالله -تبارك وتعالى-؛ وساروا على طريقه خائفين من عقوبته -جل وعلا-، مفازًا؛ فوزًا عظيمًا، فازوا فوزًا عظيمًا، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}[النبأ:31]، مفازة عظيمة أي فوزًا عظيمًا عند الله -تبارك وتعالى-، والفوز هو نيل المطلوب الأكبر.

{حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}[النبأ:32]، حدائق؛ بساتين، وأعنابًا؛ ثِمار الأعناب، ليس عنب؛ يعني نوع فقط، بل أنواع من هذه الأعناب وهي من أشرف فواكه أهل الأرض، ولذلك كانت العرب تُسمِّيه الكرم من كرمه؛ فإنه غذاء، ودواء، وتفكُّه، وادخارٌ، وقوت، فالعنب هذا أمر عظيم، {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}[النبأ:32]، أنواع من الأعناب، {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}[النبأ:32] {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}[النبأ:33]، كواعِب جمع كاعِب، الكاعِب هي الفتاة التي تكعَّب ثديُها؛ بدء أن يستدير الثدي، استدارة الثدي في بداية البلوغ، ونساء الجنة كواعِب أبدًا، يعني أنهُن لا يَكبُرنَّ فيترهَّلنَّ وتكبُر أثدائهُنَّ وتنزل... لا، وإنما هذه صفة من صفات نساء الجنة يقول الله أنهُنَّ كواعَب؛ أنها في مُقدِّمة شبابها، فأهل الجنة يدخلون في قمة شبابهم ويظلُّون شبابًا أبدًا، فنساء الجنة كواعِب، أترابًا؛ يعني أنهُنَّ في سِنٍّ واحدة، ليس فيهِنَّ كبيرة عجوز؛ أو مُسِنَّة، أو كبيرة السِّن، أو أنها صغيرة، وإنما كلهُنَّ في سِنٍّ واحدة؛ سِن البلوغ، سِن بداية البلوغ وهُنَّ في هذه السِّن لا يُجاوِزنها، فالمُنعَّم في الجنة يُعطى من نساء الجنة بهذه السِّن ويبقينَّ هكذا، ونسائهُنَّ كلهُنَّ في سِنٍّ واحدة؛ أتراب، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}[النبأ:33] {وَكَأْسًا دِهَاقًا}[النبأ:34]، الكأس؛ كوب الخمر، الكوب إذا امتلأ خمرًا فهذا هو الكأس، دِهاقًا؛ مُترَعَة، يعني أكواب مُترَعَة بالشراب؛ مليئة بالشراب، انظر يصِف الله -تبارك وتعالى- نعيمه الذي أنعم به -سبحانه وتعالى- على هؤلاء المُتقين، {وَكَأْسًا دِهَاقًا}[النبأ:34].

{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}[النبأ:35]، أهل الجنة لا يسمعون فيها لغوًا، اللغوا هو فارغ الكلام الذي لا ثمرة من ورائه؛ لا فائدة تُرجى منه، لغوا الكلام في الدنيا هو الكلام الذي لا فائدة منه في دنيا ولا في دين، فهذا اللغوا غير كلام الإثم؛ فإن كلام الإثم ليس من اللغوا هذا كلام إثم، كلام اللغوا اللي هو الفارغ الذي لا فائدة فيه في الدنيا مأمور المؤمن أن يبتعد عنه؛ وهو يُنغِّص الخاطر، ويحشوا الوقت بلا فائدة فيه، أهل الجنة كلامهم كله سلام، وخير، وبِر، وإحسان، وليس فيه لغوا بأي صورة، لا يسمعون فيها لغوًا قَط، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ولو كان شيء قليل، وهذا لتمام سرورهم، وحبورهم، وامتلاء أوقاتهم بما يُسعِدهم؛ ويُفرِحهم، ويتفكَّهون به، فليس هناك شيء يغُم النفس ولو كان شيئًا قليلًا، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}[النبأ:35]، ولا تكذيب، يعني لا يقول واحد كلامًا فيُكذِّبه الأخر والثاني يرُدُّ عليه؛ فلا سِباب ولا خصومة بين أحد، ولا تشاتم، ولا تكذيب، كل كلامهم إنما هو خير؛ كلام سِلم، صدق، وأمن، وأمان، ومحبة، {........ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]، فهذا انتفاء حتى هذا الشيء القليل الذي يُكدِّر الخاطر أو يُشوِّش النفس؛ كل هذا منَعَه الله -تبارك وتعالى-، ممنوع ولا وجود له في هذه الجنة التي زخرها الله -تبارك وتعالى- وملأها بكل النعيم؛ وأبعد عنها -سبحانه وتعالى- كل ما فيه تكدير الخاطر ولو كان شيئًا قليلًا، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}[النبأ:35].

قال -جل وعلا- {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}[النبأ:36]، هذه الجنة؛ جنة المُتقين هذا تقييمها بالنسبة إلى ربنا، فأولًا هي جزاء من الله، وكونها جزاء من الله فأصبحت عظيمة هكذا لأنها عطاء من الله -تبارك وتعالى-، العطية على قدْر المُعطي، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يُعطي وهو الذي يُجازي، عبد يعمل عمل قليل؛ قد يكون سقى كلب في هذه الدنيا عطشان ظامئ، وتكلَّف العبد في هذا الأمر فإن الله -تبارك وتعالى- يُعطيه الجنة، يشكر الله -تبارك وتعالى- عمله هذا فيُعطيه الجنة، رجل أزال غُصنًا عن طريق المسلمين «قال لأُنحيَنَّ هذا عن طريق المسلمين، فشكر الله -تبارك وتعالى- له فغفر له فأدخله الجنة»، رجل خرج من بيته ليزور أخًا له في الله في قرية أخرى، خرج من هذه القرية إلى قرية أخرى يسعى ويسير؛ أين ذاهب؟ الله يُرسِلَ له مَلَك على مدرجة الطريق يتصوَّر له في صورة رجل؛ يقول له إله أين؟ يقول له إلى هذه القرية، قال له ما لك فيها؟ قال والله أنا أزور أخًا لي في الله، فقال له هل لك من نعمة ترُدُّها عليه؟ قال لا والله؛ وإنما أردت أن أزورَه في الله، قال له فإن الله قد غفر لك بذلك، هذا مسير ساره إنسان قد يكون استغرق له ربع يوم؛ أقل من هذا، ساعة من نهار بذلها عبد ليذهب ويعمل عمل لله -تبارك وتعالى-، الله أخذ هذا العمل -سبحانه وتعالى-؛ وقَبِلَه، وشَكَرَ هذا العبد أنه قام بهذا العمل لله -تبارك وتعالى-، فالله هو الشكور -سبحانه وتعالى-، عبد عَبَدَ الله -تبارك وتعالى- عُمرَه؛ ما عُمر الإنسان؟ سبعين سنة، ثمانين سنة، مائة سنة، يعني يفعل الأمور التي فرضها الله -تبارك وتعالى- عليه وينتهي عما حرَّمَه الله -عز وجل-، وكل الذي أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به هو من العدل؛ ومن الإحسان، ومن الخير، لو لم يكُن عليه جزاء فيكفي أن العبد يتنعَّم بهذه العبادة في هذه الدنيا لأنها استقامة على الطاعة؛ نظافة وطهارة، الدين نظافة؛ وطهارة، وحق، يجب أن يؤدى هذا الدين ولم يكُن بعده جزاء، لكن الله -تبارك وتعالى- الرب الشكور العليم -سبحانه وتعالى- يتقبَّل عمل هذا العبد ويُعطيه الخلود، سنوات من عُمرِه قضاها في طاعة الله -تبارك وتعالى- فيُعطي الله -تبارك وتعالى- هذا العبد الخلود الأبدي، يحيى حياة لا تنقطع في جنة وارثة الظِّلال؛ عيون مُطَّرِدة الجريان، أشجار مُثمِرة أبدًا، كواعِب أتراب، صداقات حميمة في الجنة، قصور، دور، خيام، مُلك عظيم، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، باقي أنت في هذا بقاءً لا ينتهي ولا ينقطع أبدًا؛ هذا في مُقابِل ماذا؟ في مقابل هذا الالتزام؛ هذه العبادة القليلة التي قام بها في هذه الدنيا، فانظر هذا التمليك الذي ملَّكَهم له الله -تبارك وتعالى-؛ وقال لهم {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أمر عظيم جدًا، فهو جزاءً لكن هذا جزاء من ربك؛ ربك الموصوف بهذه الصفات، رب العالمين -سبحانه وتعالى-، رب السماوات والأرض الذي له هذا المُلك العظيم الذي لا يُعرَف إلى أين ينتهي؛ ما نهاية لمُلكِه، ولسلطانه، ولعظَمَته، فلمَّا يُعطي يُعطي الرب -تبارك وتعالى- على مقدار عظَمَته؛ وكبريائه، وإنعامه، وإفضاله -جل وعلا-.

{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً ........}[النبأ:36]، هبة؛ عطاء منه -سبحانه وتعالى-، ثم {حِسَابًا}، أي أن الله -تبارك وتعالى- يُنزِل أهل الجنة هنا منازلهم بحسب أعمالهم، فلا يُسوِّي بين الجميع في منزِلَة واحدة لأنه من عباد الله -تبارك وتعالى- مَن سعى السَّعي الحثيث؛ قام ليله، صام نهاره، بذل ماله، أدى قُصارى جُهدِه، وهناك المُقتصِد الذي اكتفى بفعل الفرائض وانتهى عن المُحرَّمات، وهناك الظالم لنفسه من أمثالنا الذي قصَّرَ في كثير من الواجبات؛ فعل كثيرًا من المُحرَّمات، تجاوز الله -تبارك وتعالى- عنه فأدخله الجنة، لا يمكن أن يكون هؤلاء جميعًا في منزِلَة واحدة، فإن الله -تبارك وتعالى- يُنزِل أهل الجنة منازِلَهُم بحسب أعمالهم؛ فالشُهداء والسابقون السابقون في منازل، ودونهم مَن دونهم، مَن دونهم ...، إلى آخر عبد يكون في الجنة؛ لا شك أن مُلكَه مُلك عظيم كذلك وهو آخر العباد، لكن يتفاضل أهل الجنة فيها تفاضُلًا عظيمًا بحسب أعمالهم، «إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله -تبارك وتعالى- للمُجاهِدين في سبيله؛ ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض»، ويقول النبي «إن أهل الجنة ليترائون الغُرَف فوقهم كما تترائون النجم البعيد الغابر في الأُفُق من المشرِق والمغرِب لِبُعد ما بين الدرجتين»، فهذا التباعُد العظيم بين درجات الجنة إنما أصبح هذا التباعُد بحسب الأعمال، بحسب إيمانهم وبحسب عملهم الصالح أنزلهم الله –تبارك وتعالى- هذه المنازل فكانت حسابًا على هذا، وكذلك حساب لأن الله -تبارك وتعالى- سيُعطي كل فاعلٍ عملًا من أعمال الخير ثوابًا له، ما في عمل من أعمال الخير ولا ذرَّة من ذرَّات الخير إلا لها ثواب، وبالتالي يكون مَن سبَّحَ تسبيحةً واحدة زائدًا عن أخيه فينال هذا الذي سبَّحَ التسبيحة الزائدة هذه أجر على هذا؛ وبالتالي منزِلَة في الجنة على هذا فهو حساب، فهناك أهل مسجد يُصَلُّون صلاة واحدة لكنهم يتفاضلون في الأجر والثواب تفاضُلًا عظيمًا، وهم أهل مسجد واحد صلُّوا صلاة واحدة لكن هذا أتى من مكان بعيد فهذا يأخذ أجر غير الذي كان بيته قريب من المسجد؛ وهذا أتى سائرًا على قدميه، وهذا أتى راكبًا على وسيلة أوصلته؛ حمار، أو دابة، أو سيارة، أو غير ذلك، فهذا الذي سار على قدميه وجاء إلى المسجد أخذ أجرًا أكثر من أجر الذي قد نقلته وسيلة ما إلى المسجد؛ وهكذا ... .

وكذلك وقفوا في الصلاة فهذا وقفَ حاضر القلب؛ وعى صلاته كلها، وهذا انشغل قلبه في أثناء الصلاة يمينًا أو شِمالًا فكُتِبَ له من العمل بحسب ما وعى قلبه من هذه الصلاة، وذاك كُتِبَ له من العمل بحسب ما وعاه كذلك، يقول النبي «إن رجلًا يُصلِّي فلا يُكتَب له من صلاته إلا نصفها؛ إلا ثُلُثُها، إلا رُبعُها، إلا خُمسُها، إلا سُدُسُها، إلا سُبُعُها، إلا ثُمُنُها، إلا تُسُعُها»، فكل واحد أخذ الوقت الذي حضَرَه قبله، «ليس لك من صلاتك إلا ما وعيت»، فالذي وعاه في صلاته وكان حاضرًا فيه كُتِبَ له؛ والذي شرَدَ فيه ذِهنَه لم يُكتَب له، وهذا وقف في صلاته وبصره مُعلَّق بمكان سجوده؛ وقلبه خاشع لله -تبارك وتعالى-، واجتمع بكليته على صلاته، وهذا صار يُسارِق النظر؛ ينظر هنا وينظر هنا، «سُئِلَ النبي عن النظر في الصلاة فقال ذلك سرقة يسرقها الشيطان من صلاة بني آدم»، الشيطان لِص يعلم أن بحضور قلب العبد في الصلاة يُكتَب له كل الوقت في أجره، يُريد أن يسرِق منه وأن يصرِفَه فيقوم يُشغِلَه؛ ينظر ببصره الناحية هذه، ففي هذا الوقت الذي التفت فيه بصره إلى هذه الجِهة قد يكون ثواني وقد يكون أكثر من ذلك؛ فهذا خرج من صلاته، إذن الحساب عند الله -تبارك وتعالى- حساب دقيق، حساب أهل الجنة بالنسبة لعملهم حساب دقيق وبالتالي كل مَن عَمِلَ عمل من أعمال الخير فإنه يُجازى ويُكافأ عليه، ولمَّا كان الناس يتفاضلون في أعمالهم هذا التفاضُل فإن كلًا منهم يُنزِله عمله المنزِلَة التي يستحقها بهذا العمل عطاءً من الله -تبارك وتعالى-، {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}[النبأ:36].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- صفة هذا الرب الذي يُعطي هذا العطاء فقال {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ ........}[النبأ:37]، فالله الذي يُعطي هذا العطاء هو رب السماوات والأرض، ربها؛ خالقها، السماوات هو كل ما علانا؛ وهي سبع، والأرض كل ما تحتنا، وما بينهما مما خلَقَ الله -تبارك وتعالى-؛ نجوم، شموس، مجرات، أقمار، ما عَلِمنا وما لم نعلم من هذا الخلْق العظيم بين السماء والأرض الله ربه -سبحانه وتعالى-؛ هو خالقه، ومُدبِّره، ومُصرِّفه -سبحانه وتعالى-، الرحمن الذي وسِعَت رحمته كل شيء؛ فكل شيء إنما هو قائم برحمته، وكل موجود من الموجودات قد نالته رحمة من رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ الرحمة التي خلَقَته، التي أبقته، التي أقامته، التي جعلت في قلبه شيء من الرحمة لغيره كما ترحَم الطيور صغارها؛ العجماوات ترحَم أولادها، كل هذا من الرحمة التي بثَّها الله -تبارك وتعالى- في خلْقِه؛ وأقام بها خلْقَه -سبحانه وتعالى-، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، {الرَّحْمَنِ}، قال -جل وعلا- {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا}، هؤلاء المجرمون يوم القيامة لا يملكون من الله -تبارك وتعالى- خطابًا؛ يعني لا يستطيعون أن يُخاطِبونه.

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ........}[النبأ:38]، يوم القيامة يقوم الروح؛ روح الله، المَلَك اللي هو جبريل -عليه السلام-، والملائكة؛ جميع الملائكة، {صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ}، يعني حال كونهم مصفوفون صفوف لا يتكلمون من خوف الرب -تبارك وتعالى-؛ ومن تعظيمه، ومن هيبته -جل وعلا-، {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}، أن يتكلم كما يتكلَّم الرُسُل في بعض المواقِف، كما قال النبي «ولا يتكلَّم يومئذٍ إلا الرُسُل، وكلام الرُسُل يومئذٍ يا ربِ سلِّم سلِّم؛ سلِّم سلِّم»، {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، يعني قال قولًا صوابًا، الصواب هو الموافِق للحق، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}، ذلك؛ إشارة إلى هذا اليوم الذي يكون فيه حال الناس على هذا النحو، هو اليوم الحق؛ الثابت الذي لابد أن يكون، هو النبأ العظيم الذي هم فيه مُختلِفون لكنه يوم حق، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}، قال -جل وعلا-  {........ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}[النبأ:39]، بعد هذا مَن شاء منكم أيها الناس بعد أن استمعتم إلى كلام الله –تبارك وتعالى-، {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}، يعني اتخذ طريقا؛ وإلى مَن؟ إلى ربه -سبحانه وتعالى- الذي سيُحاسِبَه على كل عمل، {........ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}[النبأ:39]، مرجِع، يأخذ مآبه؛ مرجِعه إلى الله -تبارك وتعالى- ويُقدِّر هذا.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا}، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، أنذرناكم؛ بهذا الكلام وبمثل هذه السورة، {عَذَابًا قَرِيبًا}، عذاب؛ هذا يوم القيامة، قريب؛ لأنه آتٍ لا محالة وهو قريب، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}[المعارج:6] {وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج:7]، فمادام هو آتي فلابد أن يكون قريب؛ وما أقربه بالنسبة إلى الإنسان؟ فإن الإنسان إذا مات خلاص؛ قامت قيامته، والموت أدنى من شراك نعل الإنسان، كما قال النبي -صلوات الله عليه وسلم- «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك»، يعني مَن مات خلاص انتهى؛ دخل في مُقدِّمات هذا اليوم، ودخل في الحساب، ودخل في هذا، ورأى الجنة، ورأى النار، ثم بعد ذلك إنه لا يأتي وقتٌ إلا وتقوم القيامة، {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ........}[النبأ:40]، المرء؛ كل إنسان، الرجل ينظر ما قدَّمَت يداه؛ الذي قدَّمَته يداه، كل شيء فعله فقد قدَّمَه لهذا اليوم؛ سيلقاه أمامه، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، الكافر؛ جنس الكافر، كل كافر، مقالة للتفجُّع والتوجُّع لا تُفيد في هذا اليوم، {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، يتمنَّى أُمنية لكنها لا تكون، كُنت تُرابًا؛ لم أُخلَق قط، أو خُلِقْت تُرابًا من التراب وكنت على هذا النحو؛ تدوسه الإقدام، ولم أكُن بشرًا أُأمَر؛ وأُنهى، وأُكذِّب هذا التكذيب فيكون مآلي النار،وقيل {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، عندما يرى أن الأنعام التي هي الأنعام الله يقول لها في يوم القيامة؛ تُحشَر ثم يقول الله لها كوني تُرابًا فتكون تُرابًا، يتمنَّى أن يكون مثل هذا؛ كان نعجة، أو كان خروفًا، أو كان حمارًا، أو كان ما كان ثم يكون مآله التراب بعد ذلك، لكنه لا يُفيده هذا؛ لا يُفيده هذا التمنِّي بعد ذلك، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}.

إلى هنا تمَّت هذه السورة، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.