الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8] {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10] {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:11] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12] {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16] {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، هذه سورة عبس فيها عتاب من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم-، قد كان نبينا -صلوات الله والسلام عليه- حريصًا كل الحرص على هداية الناس؛ وكان يتمنَّى أن يؤمن به كبراء الناس وأشرافهم، ليكون هذا عِزًا للإسلام؛ وِرعًا له، ودرئًا له، ومعلوم أن الذي سبق إلى الإيمان بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- كثيرًا من المُستضعَفين قبل أشراف الناس وكبرائهم، وهذا هو حال عامة الرُسُل وكل الرُسُل أن أسبق الناس إيمانًا بهم هو ضعفاء الناس وسقَطُهم، كما في حديث هرقل لمَّا سأل أبا سُفيان أشراف الناس يتَّبِعونه أم ضعفائهم؟ قال بل ضعفائهم، فقال له هرقل هؤلاء هم أتباع الرُسُل، يعني هم أتباع الرُسُل وهذا على الحقيقة؛ فإن كل أتباع الرُسُل إنما كانوا من الضعفاء، وأما الكبراء فإنه دائمًا الملأ من القوم هم الذي يُكذِّبون بما عندهم من الغِنى؛ ومن الثراء، ومن المكانة، فإن هذا يُطغيهم ويُبعِدهم عن قبول الحق.
قيل أن الرسول -صل الله عليه وسلم- كان يومًا يُخاطِب أُبي ابن خلف أو أُميَّة ابن خلف؛ وكأن النبي طمِعَ في إيمانه لِما خاطب النبي بشيء من اللين، وكان في هذه الأثناء والنبي يُخاطِبه؛ ويدعوه إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، ويقول له هل ترى في ما جئت به من بأس؟ ففي هذا الوقت جاء عبد الله ابن أُم مكتوم الأعمى -رضي الله تعالى عنه- إلى النبي -صل الله عليه وسلم- وبدأ يسأله عن بعض هذا؛ يقول له أرشِدني يا رسول الله في هذا الوقت، فالنبي كأنه أعرض عنه -صلوات الله والسلام عليه-، وانصرف إلى هذا الغني من أغنياء قريش؛ يدعوه، ويُلِح عليه، فعاتب الله -تبارك وتعالى- رسوله في هذا ونزل قوله -جل وعلا- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4]، العبوس؛ تقطيب الوجه، والتوَلِّي؛ توَلِّي بالجسم، يعني أنه توَلَّى عنه؛ ابتعد عن الأعمى إلى هذا الغني، {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2]، الأعمى؛ عبد الله ابن أُم مكتوم، وذلك بإجماع المُفسِّرين الذين ذكروا أن سبب نزول هذه الآية هي عبد الله ابن أُم مكتوم -رضي الله تعالى عنه-.
قال -جل وعلا- {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3]، وما يُدريك لعلَّه أي هذا الأعمى؛ عبد الله ابن أُم مكتوم -رضي الله تعالى عنه-، يزَّكَّى؛ أي بتعليم النبي ودعوته، والنبي مُزكِّي -صلوات الله والسلام عليه- لأن الله أنزل له هذا الدين ليُزَكِّي الأُميين، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2]، وهذا هدف الدين؛ هذا هدف الرسالة، أن الله -تبارك وتعالى- أرسَلَ رسوله أولًا للبلاغ؛ ليُبلِّغ الجميع، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، ثم في العباد المؤمنين أن يُزَكِّيهم بأن يُعلِّمهم؛ يؤدِّبهم، يُرشِدهم، فتعليمهم العبادة؛ نهيهم عن المعصية، أمرهم بالطاعة، تنشيط مَن كَسَلَ منهم، إرجاع مَن غلا منهم إلى الحق، إقامتهم على طريق الدين؛ هدايتهم وإرشادهم إليه، تربيتهم بكل معاني التربية بكل ما تحمل؛ التربية على الخير، وعلى البِر، وعلى الإحسان، وتزكيتهم، والنبي -صل الله عليه وسلم- هو النبي المُعلِّم المُربِّي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3]، وهذه مهمة النبي -صل الله عليه وسلم- في تزكية أهل الإيمان، فإذن يحصُل هدف وغاية إرسال الرسول من تزكية عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين؛ بتعليمهم، وتربيتهم، وتوجيههم، وإرشادهم، فهذا هو المُتزَكِّي، وأما الذي ابتعد عن الهُدى والحق فإن مهمة الرسول فيه البلاغ؛ فقد أن يُبلِّغَه ليس عليه منه شيء، فلو أعرض، وكفر، وعاند؛ فليس على النبي -صل الله عليه وسلم- من مسئولية نحوه.
قال -جل وعلا- {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4]، أو يتذكَّر بما تُعلِّمَه وبما تقرأ عليه، {........ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4]، لأنه مؤمن؛ جاء إلى الإيمان، جاء يسعى إلى الرسول ليتعلَّم منه، فتنفعه الذِّكرى لأن الذِّكرى نافعة، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6]، أما مَن استغنى عن الدين؛ وعن الرب، وعن الحق، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6]، والتصدِّي بمعنى التزامه؛ والإلحاح عليه، والإمساك به، ومحاولة هدايته وإرشاده بكل سبيل، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6]، قال –جل وعلا- {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7]، وما عليك؛ ما يضُرُّك، ألا يزَّكَّى؛ إذا لم يتزكَّى هذا، ولم يؤمن، ولم يدخل في الدين، لا يضُرُّك شيء، يعني أنه لا يضُرُّك منه شيء لأن الله -تبارك وتعالى- غير سائل، إنما سؤال الله -تبارك وتعالى- لرسوله والأمر الذي كُلِّفَه البلاغ، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، كأن الله -تبارك وتعالى- يقول له إلحاحُك وتصدِّيك لهذا المُعرِض عن الذِّكرى لست مُطالبًا به، وإنما النبي -صل الله عليه وسلم- مُطالَب فقط بأن يصبر نفسه مع أهل الدين وأهل الحق الذي جائوا وحَبوا هذا، كما قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، وقال له {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، هذه نزلت أولًا ثم نزلت {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، وكل هذه آيات مكية؛ نزلت في مكة، دعى الله -تبارك وتعالى- رسوله فيها إلى أن يجعل وقته، وجهده، وعمله مع هؤلاء الذين آمنوا به، وأما الذين أعرَضوا عن هذا؛ واستغوا عن هذا، وتصدُّوا، فإنه يُخلِّيهم ويتركهم مادام أنه قد بلَّغَهم رسالة الله -تبارك وتعالى-.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8] {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9]، وهو عبد الله ابن أُم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- ومَن على مثله، {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8]، يسعى؛ يسير السير الحثيث إليك، {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9]، يخاف الله -تبارك وتعالى-، فجائك طالبًا ما عند الله -تبارك وتعالى-؛ راغبًا في الهُدى، مُريدًا للحق ويسعى لذلك، هو بنفسه جاء ساعيًا؛ ليس النبي هنا سعى وإنما هو الذي سعى إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9]، يخاف الله -تبارك وتعالى-، {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10]، تلهَّى؛ تتلهَّى عنه ولو بدعوة هذا، قال –جل وعلا- {كَلَّا}، كلا؛ لا تفعل، {........ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:11]، إنها؛ هذه الرسالة المُنزَلة من الله -تبارك وتعالى- على الرسول -صل الله عليه وسلم-، تذكِرة؛ أمر يُذكِّر العالم، يُذكِّرهم بربهم وبطريقهم إليه، وهذه التذكِرة فقط يُراد بها البلاغ، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12]، مَن شاء أن يتذكَّر بهذه التذكِرة فهاك الطريق مفتوح له ليُقبِل على الله -تبارك وتعالى-، ومعنى هذا فإن مَن لم يشأ وأعرَض فليتخِذ طريقه؛ لكن طريقه إلى النار، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12]، ذكَرَ هذه؛ تلقَّى تذكِرة الله -تبارك وتعالى-.
ثم أخبر -تبارك وتعالى- بعلوا وقيمة هذه التذكِرة المُنزَلة من عنده -سبحانه وتعالى-، قال {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13]، القرآن هذا المكتوب مكتوب في السماء في صُحُف مُكرَّمة؛ نفيسة، عظيمة، {مَرْفُوعَةٍ ........}[عبس:14]، عند الله -تبارك وتعالى- في السماء؛ مرفوعة عن أن يمسَّها نجِس من الشياطين وغيرهم، فهي مرفوعة في السماء السابعة، {........ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14]، من كل دَنَس وإثم؛ وأن يدخل فيها ما ليس منها، أو أن ينالها نَجِس أو كذَّاب، {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15]، الملائكة سُمُّوا سَفَرَة، قيل في معنى سَفَرَة؛ أنهم بيض الوجوه، وهذا هو المعنى الصحيح كما جاء في وصْف الملائكة ببياض وجوههم في مواضِع كثيرة كقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إذا كان العبد المؤمن في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا أتاه ملائكة بيض الوجوه؛ كأن وجوههم الشمس، ومعهم حَنوط من الجنة وكَفَن من الجنة»، وقال -جل وعلا- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38]، مُسفِرَة أي أنها مُبيَضَّة؛ وجوه أهل الإيمان، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15]، يعني أن هؤلاء الملائكة سَفَرة؛ يعني أنهم بيض الوجوه، وقال النبي كذلك -صل الله عليه وسلم- في وصْف هؤلاء الملائكة «الماهر من القرآن مع الكِرام السَفَرَة البررَة يوم القيامة»، وقيل في معنى سَفَرَة أنهم سُفراء، يعني أن الملائكة سُفراء بين الله -تبارك وتعالى- وبين الرُسُل بما يحملونه من هذه الرسالة إلى الرُسُل، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، كرم؛ نفاسة، نفاسة معدنهم، فإن الله -تبارك وتعالى- خلَقَهم من نور؛ ونفاسة أخلاق، ونفاسة صفات، فهم على أتم الصفات من حيث الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ وتقواه، ومحبة الخير؛ والبِر، والإحسان، كل صفات الخير مُجتمِعَة فيهم؛ في ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، يعني أنهم في طاعة الله -تبارك وتعالى- أبدًا، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، وأنهم مُحِبون للخير؛ يُريدون له، فاعلون له، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، بَرَرَة من البِر؛ والبِر هو الخير، يعني كل صفات الخير مُجتمِعَة فيهم، فإذن هذه الرسالة المُعظَّمَة؛ المُكرَّمَة، التي صُحُفها في السماء؛ وصُحُفها يقرأها الملائكة الذين هذا حالهم، فهذه يُصرَف عنها! يخرج الإنسان عن هذه؛ لا يُريدها، يبتعد عن هذه ويُوَلِّي ظهره إليها، فيا له من مجرم هذا الذي نئى بنفسه عن قبول رسال الرب -تبارك وتعالى- التي هذه صفتها؛ نازلة منه، ثم هذه الآيات مُكرَّمة في السماء، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13]، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، نزلت إلى الرُسُل على هذا النحو لتُقرأ على الناس؛ ولتُرشِدَهم إلى طريق الحق والخير، وفيها هذا الهُدى والنور، بعد ذلك يُعرَض عنها.
قال -جل وعلا- بعد ذلك {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، {قُتِلَ الإِنْسَانُ ........}[عبس:17]، هذا حُكْم من الله -تبارك وتعالى-، دعوة على هذا الإنسان؛ هذا الإنسان الكافر، {........ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، ما أشد كُفرَه! تعجُّب من كفر الإنسان الذي تأتيه رسالة الله -تبارك وتعالى- ثم يجحدها ويبتعد، ومنها هذا الذي تصدَّى له النبي -صل الله عليه وسلم-؛ يتصدَّى له، ويدعوه، ويُسمِعه القرآن، ويدعوه إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وهو مُعرِض، شامخ بأنفه، مُبتعِد عن ربه -سبحانه وتعالى-؛ والنبي يدعوه إلى ربه، ويدعوه إلى ماذا؟ إلى الفوز بالسعادة الكبرى، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18]، هذا المُتكَبِّر؛ المُتعَجرِف، المُبتعِد عن طريق الحق، {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18]، سؤال له ليتعِظ ويعتبِر.
ثم قال -جل وعلا- {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19]، فأولًا أن الإنسان مخلوق من نُطفة، وكونه مخلوق من نُطفة؛ ليس شيئًا ثمينًا، وشيئًا عظيمًا، وإنما هذا شيء قذر مَذِر، ثم من هذه النُطفة خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان خلْق أخر، هذا دليل عظَمَة الرب -تبارك وتعالى- وقُدرته أن خلَقَ من هذا الشيء المَهين؛ من هذا الماء المَهين، خلَقَ منه هذا الإنسان المكين صاحب القُدرات العظيمة؛ العقل، السمع، البصر، أنشأه الله -تبارك وتعالى- خلْق أخر تمامًا، انظر النُقلَة الهائلة من النُطفة إلى الإنسان؛ فما يتعِظ؟ هل هذا الإنسان الذي كانت بدايته على هذا النحو ثم خلَقَه الله على هذا النحو؛ بعد ذلك يشمَخ بأنفه، ويبتعد عن الله -سبحانه وتعالى-، ما يتعِظ؟ أن هذه النقلة العظيمة هذه وهذا الخلْق العظيم هذا هو خلْق الله -تبارك وتعالى- له، {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19]، فقدَّرَه يعني أنه درجات من قَدَر إلى قَدَر؛ من نُطفة، إلى عَلَقَة، إلى مُضغَة، إلى عظام، كسى الله العظام، أنشأه خلْقًا أخر، أخرجه طفل ثم سار في هذه طَور بعد طَور حتى أصبح هذا الرجل العظيم الثمين؛ الذي بعد ذلك ينأى بنفسه عن طريق ربه -سبحانه وتعالى-، {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20]، قيل في معنى {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20]، السبيل؛ الخروج من هذه الأقدار والمقادير التي كان فيها في بطن أمه، يسَّر الله -تبارك وتعالى- له السبيل للخروج، ينظر الإنسان في الأجِنَّة فيجد الجنين هذا في بطن أمه كان رأسه إلى أعلى وجسمه إلى أسفل؛ وكان يتغذَّى بحبله السُّرِّي، ويسبح في بطن أمه؛ في رحِمِها، ثم لمَّا يحي وقت الخروج إذا به ينقلِب ويضع رأسه في الخلف، ثم بعد ذلك يأخذ سبيله للخروج، الجنين في بطن أمه ما يرى شيء؛ في ظُلمة دامسة ما يرى شيء، لكن الله -تبارك وتعالى- يُيسِّر له هذا، {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20]، إلى الخروج من بطن أمه، وقيل {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20]، في الدنيا؛ فإن كل إنسان مُيسَّر لِما خُلِقَ له، كما قال -جل وعلا- {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، فكلٌ مُيسَّر لِما خُلِقَ له، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، فكلٌ مُيسَّر لِما خُلِقَ له، ثم السبيل يعني في هذه الحياة يسَّرَه.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21]، أماته؛ حَكَمَ عليه بالموت، وأقبَرَه؛ جعلها ذا قبر يُقبَر فيه، وهذا حُكْم كوني قَدَري من حُكْم الله -تبارك وتعالى- يسير على الإنسان، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21]، ولابد، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، ثم إذا شاء؛ وقت ما يشاء الله -تبارك وتعالى-، أنشَرَه؛ يعني خلَقَه خلْقًا أخر، النشور هو الحياة، {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}، نُنشِزُها يعني يخلُقُها الله -تبارك وتعالى- من جديد، {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}، هذه مقالة الله -تبارك وتعالى- للعُزَير الذي جعله الله -تبارك وتعالى- آية، فالنشور هو البعث، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، يعني بعثه من قبره إنسانًا بنفس الخلْق الذي كان فيه، {........ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، فكيف يكفر الإنسان بربه الذي هذا صنيعه به؟ هذه صنعة الله –تبارك وتعالى- بهذا الإنسان؛ كيف يكفر بعد ذلك؟ وهو يعلم أنه من أي شيء خلَقَه؟ خلَقَه من هذه النُطفة؛ وأنه قدَّرَه بهذه المقادير، وأنه يسَّرَ له الخروج؛ ويسَّرَ له سبيله في هذه في هذه الحياة على هذا النحو، ثم حَكَمَ عليه بالموت ولابد، أين يا أيها الإنسان تذهب من ربك؟ هذا ربك؛ فكيف تكفر به؟ فقول الله {قُتِلَ الإِنْسَانُ ........}[عبس:17]، يعني دعاء عليه بالقتل، {........ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، ما أشد كفره وهو يعلم أنه قد كان في هذه السلسلة وفي هذا الطريق الذي هذه نهايته، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22].
ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23]، كلا؛ زجر عن الكفر، ثم بيان أن هذا الإنسان {........ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23]، الإنسان بهذه النِعَم الجليلة عليه من الله -تبارك وتعالى-؛ خلَقَه من العدَم، وسوَّاه، والوجود، والرزق، هذه نِعَم لا كِفء لها، لا يستطيع أحدُنا أن يُكافئ ربه –جل وعلا-؛ وأن يقوم بحق شُكر هذه النعمة كما ينبغي -سبحانه وتعالى-، وأن يتقي الله، يعني حق الله –تبارك وتعالى- على هذا العبد المخلوق على هذا النحو عظيم جدًا؛ أن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُتقى حق التقوى، لا يستطيع أحد أن يقوم بما يجب عليه نحو الرب -تبارك وتعالى-، يقول الله -جل وعلا- {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23]، لمَّا يقضي الإنسان ما أمَرَه الله -تبارك وتعالى- به، قال بعد السلَف أنه لا يقوم إنسان بما هو مُتوجِّب عليه نحو ربه؛ وخالقه، ومولاه -سبحانه وتعالى-، فإن نعمة الله -تبارك وتعالى- على الإنسان؛ وخلْقَه على هذا النحو، وإنعامه، لا يمكن للإنسان أن يقوم بها كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، هذا كذلك من عناية الرب -سبحانه وتعالى- بالإنسان، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، وطعامه هو الذي به حياته وتفكًّهه، هذا طعامك اللازم لك؛ انظر إليه، هل لك يدٌ في صناعته؟ {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25]، انظر الرحلة الطويلة التي يأخذها أي شيء تأكله عند الوصول إلى فمِك، انظر الرحلة من البداية؛ رحلة ثمَرَة تصِل إلى فمِك، رحلة قرص من الخبز يأتيك، رحلة كوب من الماء حتى يصِل إلى فمِك؛ ما رحلته الطويلة؟ ما العناية الربَّانية والأسباب الكونية التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى- حتى يتحوَّل هذا الشيء بداية إلى نهاية؟ قال -جل وعلا- {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، ثم قال -جل وعلا- {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25]، من السماء؛ ماء المطر، وصب الماء من السماء عملية طويلة وسُنَّة كونية عظيمة، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26]، بالنبات، وكون الأرض تنشَق وتشُقَّها النبتة؛ آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، فإن النبتة أحيانًا تكون حبَّة مثل حبَّة الخردل، وعندما تخرج منها الساق إلى أعلى أحيانًا تكون تحت طبقة كثيفة من التربة؛ عشرة سنتيمتر، خمسة عشر سنتيمتر، ويخرج منها جِذر بعد ذلك إلى الأسفل، هذه النبته الضعيفة تضرب الأرض وتشُقَّها إلى أعلى، أي قوة هذه التي تجعل هذه النبتة تضرب الأرض على هذا النحو؟ وأحيانًا بعضها يكون تحت قدم وقدمين من التربة ومع ذلك تشُق الأرض وتخرُج، فالله -تبارك وتعالى- يقول {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26].
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[عبس:27]، انظر النبات الذي يخرج؛ الحَب كالقمح، والأُرز، والعدس، والفول، ونحو ذلك من هذه الحبوب التي هي طعام الإنسان، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[عبس:27] {وَعِنَبًا ........}[عبس:28]، والعنب، بدأ الله -تبارك وتعالى- بالحَب الذي هو لعلَّه قوت الناس وعامة غذائهم، ثم العنب الذي هو أشرف أنواع الفاكهة، {........ وَقَضْبًا}[عبس:28]، قيل القضب هو ما يكون من الحشائش وغيرها كالجَت لطعام الحيوان، {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا}[عبس:29]، الزيتون معروف، {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ}[المؤمنون:20]، {........ وَنَخْلًا}[عبس:29]، وفيها ما فيها من التمور كذلك التي هي من أشرف أنواع الفاكهة؛ فاكهة مع الفاكهة، ودواء من الأدوية، وغذاء في الأغذية، وقوت في الأقوات يُدَّخَر؛ ويُقتات به، ويُعاش عليه، {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}[عبس:30]، حدائق؛ بساتين، غُلبًا؛ كثيرة مُلتفَّة الأغصان، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31]، فواكه من التين؛ والبرتقال، ومن أنواع عظيمة، غُلبًا؛ كثيرة، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31]، قيل الأب هو كل ما ينبُت على وجه الأرض مما تأكله الأنعام.
قال -جل وعلا- {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس:32]، يعني كل هذا الذي خلَقَه الله –تبارك وتعالى- إنما هو متاع لكم أيها العباد؛ تتمتعون به غذاء، ودواء، وفواكه، وشراب، تتمتعون به بأنواع المتاع، ولأنعامكم كذلك طعام للأنعام، والأنعام تعيشون عليها كذلك، فهي أنعامكم التي تستفيدون بها هذه الفوائد العظيمة؛ من طعامكم، وشرابكم بألبانها، وركوبكم عليها، وما فيها من المنافع الأخرى؛ من الأصواف، والأشعار، والأوبار، {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس:32]، ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38] {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:39] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41] {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:42].
إلى آخر هذه السورة -إن شاء الله- نعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قول هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.