الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (766) - سورة عبس 33-42

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22] {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23] {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[عبس:27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا}[عبس:28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا}[عبس:29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}[عبس:30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس:32] {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38] {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:39] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41] {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:42]، آخر سورة عَبَسَ، قول الله -تبارك وتعالى- {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، {قُتِلَ الإِنْسَانُ ........}[عبس:17]، دعاء من الله -تبارك وتعالى-، والله لا يدعوا وإنما حُكْم منه -سبحانه وتعالى- جاء في صيغة الدعاء عليه؛ على هذا الإنسان الكافر، {........ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]، ما أشد كفره.

ثم بيان وتذكير الله -تبارك وتعالى- للإنسان ببدءه؛ وخلْقِه، وطعامه، وشرابه، أن هذا صناعة الله -تبارك وتعالى-؛ وفعل الله -تبارك وتعالى- به، وهذا أمر من المعلوم ضرورةً لا يُجحَد، والله يُذكِّر الإنسان بهذه؛ ببدايته، يقول -جل وعلا- {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18]، سؤال ليتعِظ الإنسان ويعتبِر، للاعتبار؛ والاتعاظ، وللذِّكرى، {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18]، من أي شيء خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا الأنسان الذي يكفر به؛ يكفر بربه؟ {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19]، جواب الله -تبارك وتعالى- أن الإنسان مخلوق من هذا الشيء القذر، خلَقَه الله -تبارك وتعالى- هذا الخلْق خلْقًا من بعد خلْق في ظُلُمات ثلاث؛ نُطفة، عَلَقَة تعلَق بالرحِم، مُضغة تكون قطعة كقطعة اللحم التي تُمضَغ، ثم بعد ذلك تُخلَّق هذه المُضغة؛ تُخلَق العظام فيها وتُكسى باللحم، ثم يُنشأ نشء أخر بعد ذلك، فقَدَّرَه؛ أي بهذه الأقدار، ويسير كذلك بما وضَعَه الله -تبارك وتعالى- من مقادير لكل ذرَّة في كيانه، {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20]، قيل السبيل؛ الخروج من البطن، وقيل السبيل؛ سبيله في الحياة إلى الموت، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، يقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، إنَّا هديناه السبيل الذي يسير فيه بحسب اتجاه هذا العبد، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «اعمَلوا فكلٌ مُيسَّر لِما خُلِقَ له، فمَن كان من أهل السعادة فسيُيسَّر لعمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيُيسَّر لعمل أهل الشقاوة».

{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21]، كل إنسان لابد أن يموت يم يكون له قبره؛ وقبره إما في الأرض، وإما في بطن حوت، وإما في جوف نسر، قبر إنسان بحسبه، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، إذا شاء؛ الله -تبارك وتعالى وقت ما يشاء وهذا عِلمه إلى الله -تبارك وتعالى-، أنشره؛ أحياه مرة ثانية، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا البعث والنشور حقٌّ لازم عليه؛ وأنه لابد فاعله -سبحانه وتعالى-، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]، إي وربي؛ إي والله إن هذا لحق، لابد أن يحشر الله -تبارك وتعالى- الناس وينشرهم؛ ويُخرِجَهم من قبورهم، ولا يدع الله -تبارك وتعالى- {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، فكل نفس منفوسة ووجِدَ فيها الروح ولو سِقْط سقطَت من بطن أمها لم تكتمل؛ إلا لابد أن تُبعَث وتُنشَر، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، خلَقَه خلْق جديد؛ الخلْق الأخر، ثم يحيى ويقوم الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23]، الإنسان، وعلى الصحيح في معنى الآية أنه لا يقوم الإنسان بحق ربه كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-، فإن نعمة الله -تبارك وتعالى- على العبد؛ نعمة الإيجاد، ونعمة الرزق، ونعمة الحياة، أكبر من أن يقوم العبد بحقها وشُكرها كما ينبغي لله –تبارك وتعالى-، وحق الله على العباد أن يُذكَر فلا يُنسى؛ ويُشكَر دائمًا فلا يُكفَر به -سبحانه وتعالى-، وأن يُطاع فلا يُعصى -سبحانه وتعالى-، وأن يُتقى حق التقوى، وهذا لا يستطيع الإنسان مهما كان الإنسان أن يقوم بما أمَرَه الله -تبارك وتعالى- عليه، {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23].

{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، ينظر إلى رحلة رغيف الخبز الذي يصِل إلى الفم؛ والثمرة التي تصِل إليه، وحبَّة من الطعام تصِل إليه، وشيء من النبات يأتي إلى فَمِه، فلينظر الرحلة الطويلة لهذا الخلْق وهذه السُّنَن الكونية التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى- حتى يصِل طعام الإنسان إليه، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لكل إنسان أن ينظر إلى طعامه ليتفكَّر في هذا، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، وقول الله -تبارك وتعالى- {إِلَى طَعَامِهِ}، نسبة الطعام إلى الإنسان لأنه به حياته؛ والذي به وجوده، وهذا هو شهوته وملذَّته، فلينظر الإنسان إلى هذا الشيء اللازم له؛ والذي لا يقوم إلا به، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24]، هل للإنسان في هذا من يد؟ في خلْقِه، في تيسيره، في تكوينه، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25]، أنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، فهذا صنيع الله -تبارك وتعالى-؛ المطر الذي هو الحياة، وصبَّه الله -تبارك وتعالى- صب، انظر إلى توزيع هذا المطر على هذه الأرض؛ وأن هذه الأرض لا تبقى يوم وساعة بدون أمطار تنزل مصبوبة هنا؛ وهنا، وهنا ...، أماكن في هذه الأرض دائمة المطر؛ مطر موسمي، مطر شتوي، مطر في الربيع، وهذا لتبقى هذه الأرض حيَّة بهذا الرزق النازل لها من السماء، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25].

{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26]، للنبتة؛ وهذا من آيات الله -تبارك وتعالى- العجيبة، فإن النبات يكون بذرة ضعيفة تنشَق عن الساق التي تخرج؛ والأوراق التي تخرج إلى أعلى، والجِذر الذي ينزل إلى أسفل، وتضرب أطباق التربة وتشُقُّها إلى أعلى، شقَّها الله -تبارك وتعالى- لها، {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[عبس:27]، من المأكول، عامة طعام الناس الحَب، {وَعِنَبًا وَقَضْبًا}[عبس:28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا}[عبس:29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}[عبس:30]، حدائق كثيرة، البساتين المُلتَفَّة، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31]، قال -جل وعلا- {مَتَاعًا لَكُمْ ........}[عبس:32]، أيها الناس، {وَلِأَنْعَامِكُمْ}، تتمتَّعون بهذه الحبوب؛ وهذه الزيوت التي تخرج منها، وهذه الثمار؛ شرابًا، وطعامًا، وادِّخارًا، {وَلِأَنْعَامِكُمْ}، أكل الأنعام، وهي أنعامكم؛ نسبها الله لهم لأنه خلَقَها لهم، وفيها منافعهم؛ صوفها، ووبرِها، وشعرِها، وجلودها، وطبعًا قبل هذا لحمها، وألبانها، وركوبها، {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس:32].

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33]، الصَّاخة؛ يوم القيامة، وسُمِّيَت بالصَّاخة لأنها تصُخُّ الآذان؛ يعني من شدتها لا تكاد تسمع، الصوت إذا كان بلغ من القوة مبلَغَه فإنه يصُخُّ الأُذُن فلا تسمع، {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33]، اسم من أسماء يوم القيامة، والله سمَّى يوم القيامة بأوصافه العظيمة؛ سمَّاها قارعة لأنها تقرع الناس أو تقرع على الناس قَرْع، وسمَّاها القيامة لأن الناس يقومون لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، وسمَّاها الساعة لأن لها ساعة مُحدَّدَة، وسُمِّيَت البعث لأنها يوم البعث؛ يوم النشور، فهذا يوم القيامة سمَّاه الله -تبارك وتعالى- بأسماء كثيرة؛ وكل اسم هو وصْف ينطبق على شيء من أوصاف هذا اليوم، {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33]، قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]، الفرار؛ الهروب والتوَلِّي عنه، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هنا حال الإنسان أن أعز الناس عنده وأقرب الناس إليه يَفِر منهم، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]، والأخ عضُد ومساعد لكن الإنسان من أخيه يَفِر، {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35]، يَفِر من أمه، انظر الهَول الذي يجعل الإنسان ينسى أمه؛ وينسى أباه، ولا يُفكِّر فيهما، {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36]، زوجته وأبنائه، إذن هذه كل الفئة التي تُحِب الإنسان والذين هم محِل الحُب في الدنيا؛ والتوَلِّي، والمُساعَدة، والمُساندة، كل هؤلاء الذين حول الإنسان ممَن كان الإنسان يعتَضِد بهم؛ ويتقوَّى بهم، ويرحمهم، ويجمعهم هذه الصِلة؛ صِلة الأبوَّة، البنوَّة، الأخوَّة، هذا كل ينفصل وكل إنسان يَفِر من هؤلاء الذين كانوا في الدنيا هم أقرب الناس إليه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36].

قال -جل وعلا- {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، لك امرئٍ منهم؛ من هؤلاء، يومئذٍ؛ في هذا اليوم، شأن؛ شأنه الخاص، يُغنيه؛ يعني عن الأخرين، يُغنيه عن النظر في الأخرين فهمُّه نفسه، همُّه نفسه وإنقاذ نفسه فلا يُفكِّر أحد في أن يُنقِذ غيره؛ يقول نفسي نفسي، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- ذكَرَ هذه الآية مُتمثِّلًا عندما سألته أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بعد أن قال «يُحشَر الناس إلى الله -تبارك وتعالى- حُفاة؛ عُراة، غُرلًا»، عُراة؛ من الثياب، حُفاة؛ من النِّعال وما يُلبَس في الأقدام، غُرلًا؛ يعني غير مختونين، {........ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، «فقال يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض»، يعني يُحشَر الكُل في مقام واحد؛ يعني ما يُحشَر الرجال في مكان بأنفسهم، والنساء يُحشَرنَّ في مكان بأنفُسِهِن... لا، وإنما الرجال والناس كلهم مع بعض؛ ينظر بعضهم إلى بعض، «فقال لها الأمر أكبر من أن يُهِمَّهُم ذلك»، يعني أن أمر الهَول في هذا اليوم أكبر من أن يُهِمَّهم ذلك؛ أن يهتموا لهذا الأمر، ثم قرأ قول الله -تبارك وتعالى- {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، يعني يُغنيه عن الأخرين ولا يُفكِّر إلا في فكاك نفسه حتى الرُسُل، قد جاء في حديث الشفاعة الطويل أنهم يفزَع إليهم المؤمنون يوم القيامة من آدم إلى عيسى -عليه السلام-؛ وكلهم يقول نفسي نفسي، ولا يبقى إلا نبينا محمد -صل الله عليه وسلم- الذي يقول في الشفاعة أنا لها، فقد جاء في حديث الشفاعة يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «تدنوا الشمس من الرؤوس حتى تكون قَدْر ميل»، ويقول جابر راوي الحديث لا أدرى أعنى ميل المسافة أم ميل الذي يُفيد هذا القُرب؟ ويبدوا والله -تبارك وتعالى- أعلم أنه ميل المسافة، يقول النبي «فمن الناس مَن يأخذه العَرَق إلى كعبيه؛ ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى رُكبَتيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى حِقوَيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ثدييه، ومنهم مَن يُلجِمَه العَرَق، ومنهم مَن يغُطُّ في عَرَقِه غطيطًا، يمكثون على هذا الحال ما شاء الله -تبارك وتعالى- أن يمكثوا»، وقت طويل.

«ثم يقول الناس بعضهم لبعض ألا تنظروا إلى أحد يشفع لنا عند الله -تبارك وتعالى-؟»، فيُلهَمون أن مَن يشفع لهؤلاء البشر؛ أبوهم آدم، «فيذهبون إلى آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر؛ خلَقَك الله بيديه، وأسجَد لك ملائكته، وعلَّمَك أسماء كل شيء»، هذه أمور من المناقي التي أعطاها الله -تبارك وتعالى- لآدم، فمن الأمر الذي اختَص الله -تبارك وتعالى- به آدم أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَه بيديه، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- لإبليس {........ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص:75]، فيقولوا «خلَقَك الله بيديه، وأسجَد لك ملائكته، وعلَّمَك أسماء كل شيء، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإن قد عصيت ربي فأكلت من الشجرة، اذهبوا إلى غيري، نفسي، نفسي، نفسي»، فيقول نفسي يعني أن همُّه الآن هو نفسه ولا يُفكِّر في فَكاك الأخرين في هذا الآن؛ وإنما يُفكِّر في فَكاك نفسه، «اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى نوح، فيذهب الناس إلى نوح فيقولون يا نوح أنت الذي سمَّاك الله -تبارك وتعالى- عبدًا شكورًا»، اللق قال عن نوح {........ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3]، «وأنت أول رسول أرسَلَه الله إلى أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله -تبارك وتعالى-؟ فيقول نفس المقالة التي قالها آدم، إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي فدعوت على قومي»، يجعل دعوته على قومه أنها معصية؛ وأنه كان ينبغي أن يصبر عليهم حتى يأتي حُكْم الله -تبارك وتعالى- فيهم، قال فدعوت على قومي بالهلاك، عِلمَا أن دعوته على قومه -عليه السلام- كانت لمَّا رأى أنه لا فائدة تُرجى من ورائهم، {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}[نوح:8] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح:9] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:12]، إلى أن قال {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا}[نوح:24]، وقال {........ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27]، فدعى عليهم.

الشاهد أنه قال «نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى إبراهيم، فيذهب الناس بعد ذلك إلى إبراهيم ويشتكون له؛ ويُذكِّرونه، ويقولون يا إبراهيم أنت خليل الرحمن؛ ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟»، فيقول لهم نفس الكلام؛ نفسي، نفسي، نفسي، «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات؛ يقول النبي ثِنتَين منهُنَّ في ذات الله، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى موسى، فيذهب الناس إلى موسى فيقول نفس المقالة كذلك بعد أن يُذكِّروه؛ يا موسى أنت كليم الله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة؛ نفسي، نفسي، نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فقتلت نفسًا لم أُأمَر بقتلها، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى عيسى، فيذهب الناس إلى عيسى ويُذكِّرونه ويقولون أنت روح الله وكلمته القائلة مريم؛ ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ لا يذكر ذنبًا ولكن يقول نفسي؛ نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى محمد، عبد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، فيذهبون إلى النبي -صلوات الله عليه وسلم- فيقول النبي أنا لها»، يقوم النبي يدعوا الله بدعاء يُعلِّمه إياه في ذلك الوقت، يقول النبي «يُلهِمني الله -تبارك وتعالى- من تسبيحه وتحميده أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك؛ وسَل تُعطى، واشفع تُشفَّع، فأقول يا ربي أُمَّتي أُمَّتي، فيُقال أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب»، ثم يسمَح الله -تبارك وتعالى- بدخول المؤمنين إلى الجنة أرسالًا أرسالًا بحسب أوصافهم.

الشاهد من كل هذا أن هذا اليوم يوم عظيم؛ وأن كل أحد يَفِر من كل أحد، كل أحد يكون همُّه نفسه فمَن هم أقرب الناس إلى الإنسان يَفِر منهم، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]، جاء في الحديث أن «الرجل يقول لزوجته يا زوجتي أي بعلٍ كُنت لكي؟»، أي في الدنيا، ثم يسألها شيء من الحسنة يتبلَّغ به لعلَّه ينجوا به من النار، فتقول له والله ما أيسر ما طلبت؛ ولكني لا أستطيع أن أتنازل لك عن شيء، وكذلك لا يستطيع أحد أن يتنازل لأحد، فكلٌ يَفِر من الأخر لأنه همَّه وشغله أن ينجوا بنفسه في هذا اليوم العصيب؛ هذه الصاخة، {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}[عبس:33] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، عندما نقرأ هذا فنقول يا ويل مَن يدَّعي الدعاوى الكاذبة؛ وأنه سيُقام له يوم القيامة منبر من نور، وأنه يُنادى ادخل أنت؛ وأتباعك، ومُحبِّيك إلى الجنة، والحال أن حتى الرُسُل أنفسهم -عليهم صلوات الله وتسليمه- في هذا اليوم كلٌ منهم يقول نفسي؛ نفسي، نفسي، وأنه لا يشفع للأخرين ولا يقوم بهذه الشفاعة إلا النبي محمد، واحد من البشر كلهم جعل الله -تبارك وتعالى- له هذا الأمر؛ هذا المقام المحمود الذي جعله الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم-، وقد قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، هذا المقام المحمود الذي يَحمَده عليه الأولون والآخرون عندما لا يقوم في هذا المقام إلا هو -صلوات الله والسلام عليه-، أما أن يكون هناك غير النبي مَن يقوم ويدَّعي أن له مثل هذا المقام المحمود؛ وأن الله يُناديه ويجعل له منبر من نور في عرصات القيامة، ويُقال له أدخِل أولادك؛ وأدخِل أتباعك، وأدخِل مَن تشاء؛ أدخِلهم الجنة، هذا أمر يبقى من الدعاوى الفاجرة الكافرة، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37].

ثم قال -جل وعلا- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38]، مُسفِرَة؛ مُضيئة، هذه وجوه أهل الإيمان، {........ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38]، أي مُضيئة بالبِشر والترحاب، {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:39]، ضاحكة مستبشِرَة بما أعطاها الله -تبارك وتعالى-؛ وبما بشَّرَها الله -تبارك وتعالى- به من دخول الجنة، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[المطففين:22] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين:23] {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}[المطففين:24] {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}[المطففين:25] {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26] {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}[المطففين:27] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين:28]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}[المطففين:29]، أي في الدنيا، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}[المطففين:30] {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ}[المطففين:31] {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ}[المطففين:32] {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}[المطففين:33] {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}[المطففين:34]، يوم القيامة ضحكهم من الكفار؛ وضحكهم كذلك بما أعطاه الله –تبارك وتعالى- لهم، فهم يضحكون من الكفار عندما يرَونَهم في هذا الخِزي؛ والعار، والشنار الذين ذهبوا إليه، المسرورة تنقلِب؛ يعني الكافر كانوا يضحكون من أهل الإيمان في الدنيا، فالأمر يختلِف؛ يُصبح المؤمنون يضحكون من الكفار في الآخرة، وكما يُقال ((مَن يضحك أخيرًا هو الذي يضحك كثيرًا))، فالذي يضحك أخيرًا أهل الإيمان؛ هم الذين يكون ضحكهم من الكفار هو الباقي والدائم، أما ضحك الكفار من المؤمنين فإنما هو ضحك وقتي في هذه الدنيا فقط، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38] {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:39]، بما أعطاها الله -تبارك وتعالى-، البُشرى هي الإخبار بما يَسُر، المؤمن يُخبَر بما يَسُر بدءًا من خروجه من قبره ويُقال له أبشِر بهذا اليوم.

وهذه الوجوه الأخرى {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40]، الغَبَرة؛ ما يصعد من تراب الأرض ويلصَق بالوجه، {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41]، ترهَقُها؛ تعلوها، القَتَرَة؛ السواد -عياذًا بالله-، ويسوَد الوجه من الكَمَد؛ ومن الغيظ، ومن الهَم العظيم، والحُزن الشديد، والكرب العظيم؛ كرب هذا اليوم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:26] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:27]، كأنما أُغشيَت وجوههم؛ غطَّت وجوههم قِطعًا من الليل مُظلِمًا، صوَّر الله -تبارك وتعالى- سواد وجوههم كأن هناك طبقات سوداء من الليل أُلصِقَت بوجوههم، وهنا قال الله -تبارك وتعالى- {........ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41] {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:42]، أولئك؛ بالإشارة لهم بالبعيد، هم الكفرة؛ الذي كفروا بالله -تبارك وتعالى-، الفَجَرَة؛ أهل الفجور.

جاء في حديث الصحيحين حديث أبي هُريرة -رضي الله تعالى عنه- «عن إبراهيم وأبيه آزر قال النبي -صل الله عليه وسلم- يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وقد عَلَت وجه آزر غَبَرَة وقَتَرَة»، فهذا من الكفار وإن كان هو أبو نبي لكنه لمَّا مات على الكفر والشِّرك؛ وعاند الرب -تبارك وتعالى- ولم يؤمن به، فإن هذه حياته يقول النبي «وقد عَلَت وجه آزر غَبَرَة وقَتَرَة، فيقول له إبراهيم يا أبتي ألم أقُل لك لا تَعصَني؟»، يعني أما قُلت لك في الدنيا لا تَعصَني؟ «فيقول له يا بُنَي الآن لا أعصيك، فيدعوا إبراهيم ربَّه يوم القيامة بهذا الدعاء ويقول ربي قد وَعَدتني ألا تُخزِني يوم يُبعَثون»، فهذا كان من الدعاء الذي دعى به في الدنيا، {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88] {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89]، فيقول «قد وَعَدتني ألا تُخزِني يوم يُبعَثون؛ وأي خِزي أكبر من أبي الأبعَد؟ فيُقال يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين»، كل الكافرين ولو كان هذا الكافر أب لنبي، فهذا الكافر أب لنبي ولكن لا تنفعه شفاعة ابنه؛ شفاعة نبي، كما قال -جل وعلا- {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]، «فيُقال يا إبراهيم إني حرَّمت الجنة على الكافرين؛ وانظر تحت قدميك، فينظر تحت قدميه فإذا هو بذيخ مُلطَّخ بالدماء فيؤخَذ من قائمه ويُلقى في النار»، فهنا قول الله -تبارك وتعالى- {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40]، وجوه الكفار مهما كانوا، {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41]، يعلوها السواد، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:42]، كل كافر؛ وكل كافر فاجر، كل مَن كَفَر فقد فَجَر لأن الفجور هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- والتمادي في الإثم، فكل كافر كَفَر بالله -تبارك وتعالى- فهو فاجر، فهؤلاء الكفرة هذا مصيرهم؛ وأهل الإيمان هذا مصيرهم، والمُخبِر بهذا كله هو الله -تبارك وتعالى-، هذا قرآن الله النازل من عنده؛ الخبر الصادق، كتاب الله -تبارك وتعالى-، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس:38] {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}[عبس:39]، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس:40] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس:41] {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:42]، عياذًا بالله -تبارك وتعالى- من عقوبته.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.