الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4] {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6] {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير:7] {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9] {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}[التكوير:10] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}[التكوير:11] {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}[التكوير:12] {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}[التكوير:13] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، سورة التكوير؛ وهي من القرآن المكي، يقول الله -تبارك وتعالى- {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، الشمس هي هذا المخلوق العظيم الذي هو أكبر من أرضنا هذا بنحو مليون مرة، هذا السراج الوهَّاج يوم القيامة يختلف حاله؛ فإنها تُكوَّر، تكوير الشيء هو جمع أطرافه بعضها على بعض، ومنه يُقال كوَّرت العِمامة؛ جمعت أطرافها، فتكوير الشمس هو جمع أطرافها بعضها على بعض، وقد عُلِمَ الآن أن الشمس كُتلة هائلة غازية، معنى هذا أن يوم القيامة يذهب هذا الوَهَج ويُضَم أطرافها بعضها مع بعض؛ وتصبح كتلة حارة لكن يذهب ضوئها، قال السَّلَف في التفسير أنه يُذهَب بضوئها؛ ذهب ضوئها بالتكوير، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، وهذا كله من يوم القيامة عندما يأمر الله -تبارك وتعالى- هذا الكون والنفخ في الصور؛ فهذا ما يحدث للشمس، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، وقد جاء في الحديث «الشمس والقمر مُكوَّران في جهنم»، يعني أنها في النهاية تصبح كرة من الكرات التي يُلقى بها في جهنم لتكون كذلك حسرة وندامة لِمَن عبَدَها في الدنيا، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، والشمس والقمر كان من أكثر الأشياء التي كان لها عُبَّاد عبَدوها من دون الله -تبارك وتعالى-، فعندما يروا أن هذا معبودهم وإلههم الذي عَبَدوه قد أصبح كرة من الكرات التي قد أُلقيَ بها في بطن جهنم.
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2]، هذه النجوم المُتلألِئة؛ بهية المنظر، التي هي من زينة السماء، زيَّن الله -تبارك وتعالى- بها السماء الدنيا على هذا النحو لكنها يوم القيامة تنكَدِر،قيل إنكدارُها؛ ذهاب ضوئها وأنها تعلوها الكُدرة، والكُدرة هي نوع من السواد والظُلمَة، فتنكَدِر؛ يذهب ضوئها، ولا تصبح بهذا الاشتعال واللمعان المعهود بها في هذه الدنيا، {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3]، الجبال العظيمة على الأرض تُسيَّر؛ وتُسيَّر إلى حيث يشاء الله -تبارك وتعالى-، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- أن تسييرها إنما هو على مراحل، أولًا النسف فقال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105]، هذا يوم القيامة، {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، وقال {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، وقال قبل ذلك -سبحانه وتعالى- {........ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، الكثيب هو كوم الرمل، المَهيل؛ الذي يهيل بعضه على بعض، ثم {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، كالصوف الذي بُعِدَ بين شعراته وأطرافه، ثم بعد ذلك يذروها الله -تبارك وتعالى- إلى حيث يشاء، فهذه تُسيَّر؛ يُسيِّرُها الله -تبارك وتعالى-، وتبقى الأرض بغير هذه الجبال المعهودة، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2].
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4]، العِشار اللي هي النياق الحوامل إذا بلغت عشرة أشهر تُسمَّى عُشَراء؛ أنها بلغت عشرة أشهر من الحمْل، وتظل تُسمَّى بهذه التسمية إلى أن تضع حَمْلها، والعِشار هي أحب الأموال إلى أصحابها، ما في مال أعز عند الناس وكان العرب بالذات أفضل أموالهم وأحسن أموالهم الإبل الحمراء؛ حُمْر النَّعَم هذه، والعِشار منها يعني الناقة إذا كانت في وقت الحَمْل تكون أعز مال على صاحبها لأنه يُرجى نِتاجُها بعد ذلك، ويُعتنى بها عناية خاصة حتى تضع حَمْلُها ولِما يُرجى بعد ذلك من نِتاجِها ومن حليبها، هذه العِشار التي هي أخص وأعز الأموال تُسيَّب، عُطِّلَت؛ تُرِكَت لم يُعتنى بها، لا يسأل عنها صاحبها ولا يعتني بها فقد قامت القيامة وجاء النفخ في الصور، فتُترَك وتُسيَّب في صحاريها لا يسأل عنها أصحابها، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4] {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5]، الوحش هو كل حيوان مُتوَحِّش يعيش بمُفرَدِه بعيدًا عن استئناس الإنسان، حُشِرَت؛ جُمِعَت، وحَشرُها هو جمعها يوم القيامة، فإن يوم القيامة الله -تبارك وتعالى- يحشر كل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من دابة، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38]، فكل دابة خَلَها الله -تبارك وتعالى-؛ من البعوضة الصغيرة إلى الفيل الكبير، كل دابة الله -تبارك وتعالى- قد أحصاها وكتَبَها في كتاب، لا يُنسى ولا يُترَك في هذا الكتاب المكتوب؛ كتاب المقادير، كتاب الخلْق، ولا بعوضة واحدة مما خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ........}[الأنعام:38]، كتاب الخلْق، {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، يوم القيامة، يعني تموت هذه، عُمر بعض الحشرات أسبوع أو أسبوعان ثم تموت، يعني النحل عُمره خمسة أسابيع فقط ويموت ويتجدد، ولكن كل هذه الحشرات وكل هذه الوحوش التي تتعاقَب في هذه الأرض؛ كلها أولًا بعِلم الله -تبارك وتعالى-، لم ينسها كتاب الخلْق، ثم إلى ربهم يُحشَرون في يوم القيامة، يقول -جل وعلا- {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5].
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، سُجِّرَت؛ اشتعلت نيرانًا، فإن الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ حال البحار في يوم القيامة بالنفخ في الصور أنها تُفجَّر، قيل تفجيرها أنه تفجير بعضها على بعض؛ أنها تُفجَّر فيدخل هذا في هذا، الحلو في المالح؛ يعني البحار العذبة في البحار المالحة، البحار المالحة في البحار العذبة، فتُفجَّر بعضها بعضها على بعض، وقيل أن تفجيرها هو تفجيرها بالنيران؛ أنها تُفجَّر نارًا، وأنا تُسجَّر كذلك تُسجَر نارًا، فيصبح هذا البحر المسجور؛ البحر الذي يشتعل نارًا، يصبح هذا الماء نار، لعلَّه من عِلم الناس الآن أنما الماء أصله من مادتين؛ مادة تشتعل وهي الهيدروجين، ومادة تُساعِد على الاشتعال وهو الأُكسجين، فهو من ذرَّات الأُكسجين والهيدروجين لعلَّ هذا من ما يُقرِّب هذا المعنى؛ وأن هذه المياه تتحوَّل بعد ذلك نيرانًا، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، سُجِّرَت نارًا، {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير:7]، النفوس؛ كل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من البشر، زُوِّجَت؛ يعني أنه إنضَمَّ كل مثيل إلى مثله، فالأزواج هم المُتماثلين، فأهل النار بأشكالهم بعضهم مع بعض وكذلك أهل الجنة، كما قال -جل وعلا- {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7]، أصناف ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11]، فهذا حال الناس يوم القيامة، {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الواقعة:1] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}[الواقعة:2] {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}[الواقعة:3] {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة:4] {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5] {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}[الواقعة:6]، هباء؛ الهباء هو هذه الذرَّات العالقة في الجو، {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}[الواقعة:6] {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}[الواقعة:7]، أزواجًا ثلاثة؛ أصنافًا ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[الواقعة:8] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[الواقعة:9] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}[الواقعة:10] {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:11]، قال -جل وعلا- {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ}[الصافات:22] {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23]، وأزواجهم؛ وأشكالهم، فيوم القيامة تُزوَّج فيه الأزواج بمعنى أن كل شخص يُجذَب ويجتمع مع أمثاله وأشكاله؛ فالمؤمنون مع المؤمنين، والفاسقون الفاجرون مع أهل الفسوق والفجور، {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير:7].
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9]، الموءودة؛ المقتولة وءدًا، والوَءد هو قتل الطفل بعد ولادته، وكان من عادة العرب أن يَئِدوا أطفالهم؛ والبنات خاصة، وذلك تخفيفًا على أنفسهم من مؤونة إطعامهم؛ وكذلك خوفًا من عار البنت، وأنها لا تركب حصانًا ولا تُقاتِل عدوًا وإنما قد تقَع غنيمة للعدو، وقد كانت الإغارة؛ والغزو، ونهب الأخرين من سُبُل معايشهم، بل هو السبيل الأساس عندهم في المعايش نهب الأخرين والتسلُّط على أموالهم، فكانوا يَئِدون البنات من أجل الفقر، ووعَظَهم الله -تبارك وتعالى- في هذه الجريمة الشنعاء فقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء:31]، وقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فهذه الموءودة التي قُتِلَت ظُلمًا على هذا النحو تُسأل {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9]، سُئِلَت؛ السؤال لها، والسؤال إذا كان لها فيكون هذا تبكيتًا وإلزامًا لِمَن قتَلَها بجريمته، والحال أنها لم تُقتَل بجريمة وإنما هذه مولودة الآن ولم يحصُل منها فعل يستحق الوَءد؛ وإنما قُتِلَت بغير ذنب، والقول بأنها عِبء الله -تبارك وتعالى- هو الرزَّاق -سبحانه وتعالى-، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9]، وقد جاء في الحديث أن «الموءودة في الجنة»، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9].
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}[التكوير:10]، وهذا يوم القيامة، في عَرَصات القيامة تتطاير الصُحُف، كما أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- «فآخذٌ بيمينه وآخذٌ بشِماله»، فالمؤمن يأتيه كتاب أعمال ويتناوله بيمينه، وأما الكافر والمنافق فإنه يأتيه كتاب أعماله فيأخذه بشِماله؛ ويأخذه بشِماله من خلف ظهره، يعني يأتيه هذا الكتاب مُتطاير، فحال تطاير الصُحُف هذا من الحال الشديد، فمَن أوتيَ كتابه بيمينه هذا هو الفرِح المُستبشِر، كما قال -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19] {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22]، وقال -جل وعلا- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[الحاقة:25] {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}[الحاقة:26] {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27] {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، فهذه الكُتُب يأخذها المؤمن بيمينه ويأخذها الكافر بشِماله؛ عياذًا بالله من حالهم، {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}[التكوير:10]، أي وزِعَت على أهل الموقِف جميعًا، كل إنسان تأتيه صحيفته؛ كتاب أعماله، كما قال -جل وعلا- {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، مفتوحًا، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، فكل إنسان سيُعطى كتاب أعماله، ولذلك قال مَن قال من السَّلَف ((أنت تُملي ما ستقرأه غدًا))، كل إنسان يُملي في كتابه ما سيقرأه غدًا، عملك أيها الإنسان إنما هو إملاؤك، فأنت تُملي الملائكة تكتُب عليك كل كلمة، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، الملائكة تُسجِّل كل أقوالك؛ تُحصي عليك كل حركاته وسكناتك، ويوم القيامة يُسلَّم كل إنسان كتابه؛ يُقال له هذا كتاب أعمالك، والكافر عندما يفتح كتابه ويقرأ فيه فيقول {وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}، صغيرة؛ همزة، لمزة، كلمة قالها ولم يتبيَّن فيها؛ قالها بمَزح، كل ما تفوَّهَ به ولَفَظَ به من لفظ إذا هو مكتوب كما هو، {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}[التكوير:10].
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}[التكوير:11]، السماء؛ هذه التي علينا، وهي سبع سماوات كما أخبر الله -تبارك وتعالى- تُكشَط، وكشطُها؛ إزالتها، الكشط هو الإزالة، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن صفة هذه الإزالة فقال {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، فالسماء تُكشَط، كل سماء يطويها الله –تبارك وتعالى- ويُزيلها من مكانها سماءً سماءً، {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}[التكوير:11] {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}[التكوير:12]، الجحيم؛ نار الله الموقَدَة، السجن الذي أعدَّه لأعدائه، سُعِّرَت؛ أُشعِلَت بالنيران، هي مُسجَّرة دائمًا؛ هي مُشتعِلَة دائمًا منذ خلَقَها الله -تبارك وتعالى-، وهذا اشتعال جديد بعد اشتعال، {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}[التكوير:12]، سُعِّرَت بنارها أو سُعِّرَت بمَن يُلقى فيها؛ وذلك أن النار سعيرها الناس والحجارة، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وقودها الناس؛ فالناس هم الذي يتَّقِدون بها فهذا إشعالها، وكما قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ........}[البقرة:24]، فاتقوا النار التي وقودها؛ يعني ما يُشعِلُها، هذا الوقود هو إشعالُها بالناس والحجارة -عياذًا بالله-، {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}[التكوير:12]، بأجساد الكافرين -عياذًا بالله- مع الحجارة التي فيها، {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}[التكوير:13]، الجنة؛ بُستان الرب العظيم والتي عرضها كعرض السماوات والأرض، أُزلِفَت؛ قُرِّبَت، قُرِّبَت لأهل الموقِف، فهذه الجحيم سُعِّرَت -عياذًا بالله- وهذه الجنة أُزلِفَت؛ قُرِّبَت لأهلها ليدخلوها.
قال -جل وعلا- {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، هذا خبر هذه الجُمَل الشرطية المُتعاقِبَة، خبرها {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، يعني إذا حصلت هذه الأمور عند ذلك تعلم كل نفس ما أحضرت؛ تعلمه على الحقيقة، عَلِمَت كل نفس ما ما أحضرت عِلم على الحقيقة، وشتَّان بين عِلم مَن أحضر الإيمان؛ والتقوى، والعمل الصالح، وعِلم مَن أحضر ما يُخزيه؛ وهو الكفر، والعناد، والعصيان، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، أي من عمل، كل نفس عند ذلك تعلم الذي أحضرت؛ فالكافر يرى عمله واضحًا تمامًا، والمؤمن يرى عمله واضِحًا تمامًا، والمؤمن يستبشِر بعمل أيَّما استبشار ويفرح به، والكافر يُغَم بما يراه أمامه من عمله الذي قدَّمَه؛ هذا عمل الذي قدَّمت، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، من عمل.
ثم قال -جل وعلا- {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}[التكوير:15] {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}[التكوير:16] {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير:17] {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التكوير:18] {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[التكوير:19]، أقسام يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بها، يحلِف الله -تبارك وتعالى- بهذه الأقسام؛ بهذا الحَلِف، يمين بعد يمين على أن هذا القرآن حق ومنه -سبحانه وتعالى-، فيقول -جل وعلا- {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}[التكوير:15]، الخنوس هو التأخُّر أو الاختفاء، قيل الخُنَّس هي النجوم، فإنها تخنَس؛ أي بالنهار تختفي، وتظهر بالليل، {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}[التكوير:15] {الْجَوَارِ ........}[التكوير:16]، في فَلَكِها في السماء، {........ الْكُنَّسِ}[التكوير:16]، قيل الكُنَّس إنما هو دخولها كِناسُها، والكِناس يُقال كِناس الظبي وهو مأواها وجُحرُها الذي تأوي إليه، وقيل هنا الكُنَّس من الكنس؛ والكنس هو الجمع والإزالة، ومن الآيات الكونية الآن أن النجوم في دورانها إنما تكنِس السماء؛ وذلك أن هذا الرماد الكوني، السماء فيها رماد كثير؛ تراب كوني موجود في إطار النجوم، فإذا سار هذا النجم فإنه يلتحِق به كثير من هذا الرماد؛ ويلتحِق بها، ويلُف بها، فكأن هذه النجوم في جريانها تكنِس السماء؛ وهذه آية عظيمة، آيات كونية من آيات الله -تبارك وتعالى-، فالنجوم في مواقِعها العظيمة، {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، مواقِع مُتباعِدة كل التباعُد، مما عَلِمَه البشر الآن أن في سِعَة هذا الكون أنه لا يمكن الإحاطة بسِعَتِه، وأن سِعَة مجموعة واحدة من المجرات التي نحن جزء منها؛ جزء من مجموعتنا الشمسية، الشمس والمجموعة التي تدور حولها من هذه الكواكب؛ والأرض تابِع من توابِع هذه الشمس، نحن في المجموعة الشمسية جزء من مجموعة هائلة من النجوم تُسمَّى المِجرَّة، المِجرَّة فيها ملايين الملايين من النجوم، نحن في هذه المِجرَّة لو أردنا أن نخرج منها؛ نخرج من مجموعتنا الشمسية هذه، ولو بسرعة الضوء فإننا نحتاج إلى مئات الملايين من السنين حتى نخرج من هذه المجموعة الكبيرة؛ يعني المِجرَّة التي نعيش فيها لو أردنا أن نخرج إلى مجموعة أخرى، فهذا أمر عظيم جدًا؛ هذا كون مُتَسِع لا يلعم مقدار سِعَتِه إلا الله –سبحانه وتعالى- خالقه، عظَمَة هذا الخلْق تدُل على عظَمَته -سبحانه وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- أكبر من كل موجود، كل هذه الموجودات إنما هي ذرَّة صغيرة أو حبَّة خردل صغيرة في يده -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، فهو الرب العظيم؛ الكبير، المُتعال، العلي، العظيم، الذي كل خلْقِه إنما هم شيء صغير بالنسبة إليه -سبحانه وتعالى-.
فالله يُقسِم بهذه المخلوقات العظيمة فيقول {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}[التكوير:15] {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}[التكوير:16] {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير:17]، الليل آية من آيات الله -تبارك وتعالى- على سطح هذه الأرض، ويأتي الليل في مجيئه عَسْعَسْ يعني أنه قَدِم، ويأتي كأنه العَسس الذي يسير سيرًا حثيثًا ويدخل إلى مكان النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير:17] {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التكوير:18]، أيضًا تصوير هنا بهذا الأسلوب القرآني الباهر لحركة ومجيء النهار، أن الصبح يأتي إذا تنفَّس وكانه نائم يصحوا؛ ويقوم، ويتنفَّس، فيتنفَّس كل الوجود مع تنفُّس الصبح؛ تتنفَّس الطيور من رُقادِها، تتنفَّس الأشجار التي كانت نائمة، والنبات الذي كان نائمًا فإذا به عندما يأتي الصبح الكُل يتنفَّس، {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التكوير:18]، ظهر ضوئه وبدأ ضوئه في النهار وتنفسَّت المخلوقات؛ وتفتَّحَت ليوم جديد، وهذا منظر عظيم وآية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ مجيء الليل عندما يُعسْعِس ويُغطِّي الأشياء، والنهار عندما يأتي وكأنه يرتفع النوم والنُعاس عن المخلوقات فتتنفَّس، {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التكوير:18] {إِنَّهُ}، القرآن، {........ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[التكوير:19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:20]، {........ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[التكوير:19]، هذا الرسول هو جبريل -عليه السلام-؛ الرسول المَلَكي من الله -تبارك وتعالى- إلى رُسُل الله -تبارك وتعالى- من الإنس من أولاد آدم، فالله -تبارك وتعالى- جعل جبريل هو القائم برسالة الله -تبارك وتعالى- من الله –تبارك وتعالى-؛ ويأتي من السماء إلى رُسُلِه في الأرض، فالقرآن قوله؛ أنه هو ناقله، هو رسول ناقل، نسَبَ الله -تبارك وتعالى- هذا القول إلى هذا الرسول بحيث أنه هو ناقِله؛ وهو سامِعه من الله -تبارك وتعالى-، وهو الذي نَقَلَه إلى رُسُل الله -تبارك وتعالى- في الأرض، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[التكوير:19]، الكرم؛ نفاسة، وشرف، ومكانة عند الله -تبارك وتعالى-.
{ذِي قُوَّةٍ}، وصَفَه الله -تبارك وتعالى- بالقوة؛ القوة الشديدة، القوة العظيمة جدًا، وقد أبان الله -تبارك وتعالى- لنا شيئًا من قوته في نتق جبل، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، إذن نتَقَه جبريل، اقتلع جبل من مكانه ووضعه على بني إسرائيل كلهم؛ وكانوا نحوًا من مليون إنسان وضعه فوق رؤوسهم، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ}، من قوته قال الله -تبارك وتعالى- في قُرى لوط؛ فإن جبريل حمَلَها على طَرَف جناحه، يعني أدخل جناحه إلى تحت هذه القُرى، مُدن عظيمة عامرة بأهلها؛ وبيوتها، ورجالها، ونسائها، وأنعامها، وطُرُقاتها، وأرضها، ضرب جبريل جناحه تحتها ثم أصعدها وأفَكَها على وجوه أصحابها؛ قوة هائلة جدًا، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- رآه على صورته التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها مرتين، هذه السورة نزلت في مكة عندما رآه المرة الأولى، وهو يقول «رأيت المَلَك الذي جائني في حراء؛ رأيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سدَّ الأٌفُق، كلما نظرت»، يعني في الأٌفُق؛ في دائرة الأٌفُق كلها، «وجدته أمامي، له ستمائة جناح»، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ........}[فاطر:1]، فمن زيادة الله -تبارك وتعالى- في الخلْق خلْق جبريل الذي له ستمائة جناح.
الله -تبارك وتعالى- وصَفَه فقال {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:20]، عند ذي العرش؛ صاحب العرش، الله -سبحانه وتعالى- هو صاحب العرش، وصَفَ نفسه بأنه صاحب العرش لأن العرش أعظم المخلوقات؛ وأكبرِها، وأعلاها، وليس فوقه إلا الرب -سبحانه وتعالى- المُستوي على عرشه، وهذا العرش هو قُبَّة العالم كله؛ قُبَّة السماوات والأرض، السماوات كلها والأراضين والخلْق كلهم تحت عرش الله -تبارك وتعالى-، والعرش هو هذا الفَلَك العظيم المُحيط بكل خلْق الله -تبارك وتعالى-، والله صاحب العرش العظيم -سبحانه وتعالى-، وصَفَ الله عرشَه بأنه العرش العظيم والعرش الكريم، فجبريل هو الرسول الكريم {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:20]، مُمكَّن؛ صاحب مكانة، صاحب مكانة عظيمة؛ فمكانته ومكانه أشرف الأماكن وأعلاها عند سِدرة المُنتهى، عند سِدرة المُنتهى هذه التي ينتهي إليها جبريل وهي أعلى ما في هذا الوجود؛ وفوقها عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-.
نقِف هنا و-إن شاء الله- نُكمِل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.