الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8] {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}[الانفطار:9] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار:10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار:11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:12] {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:14] {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}[الانفطار:15] {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الانفطار:16] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17] {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:18] {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19]، سورة الانفطار وفيها يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- حال الناس يوم القيامة؛ ويُذكِّر بهذا اليوم العظيم، يقول -جل وعلا- {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1]، الانفطار؛ الانشقاق، ومثله قول الله -تبارك وتعالى- {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1]، فالفَطْر هو الشَّق، وهذا يكون في يوم القيامة عند النفخة الأولى في الصور؛ عندما يأذَن الله -تبارك وتعالى- بنهاية هذا العالم الذي جعل الله -تبارك وتعالى- له نهاية يوم خَلَقَه، يوم خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا الكون قد وضَعَ نهاية لهذه السماوات والأرض؛ هذا الكون المُشاهَد، كما قال -جل وعلا- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام:2]، فهذا أجل مُسمَّى الله -تبارك وتعالى- جعله أجل لنهاية هذه السماوات والأرض؛ وليقوم الناس بعد ذلك قيامة ثانية بعد الخلْق الأول لرب العالمين ليُحاسِبَهم -سبحانه وتعالى-، فتنفَطِر السماء وتنشَق بالنفخ في الصور، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، واهية خلاص؛ مُتهاوية، يعني أجزائها يسقط بعضها على بعض، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17].
{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، انتثَرَت؛ انفَرَط عِقدُها، هذه النجوم وهذه الكواكب قد نَطَمَها الله -تبارك وتعالى- في هذه السماء في نظام بديع مُحكَم، لا يخرج كوكب؛ ولا نجم، ولا جِرم في هذه السماء، بل ولا حجر من أحجارها المُعلَّقَة عن مكانه ومداره قط، حتى وإن كانت أحجار غير مُتساوية الأطراف كالحجر الواحد، الأرض عندما نراها والقمر عندما نراه؛ نراه أنه كرة مُستديرة وأطرافها متساوية، وفي السماء كذلك كُتَل صخرية غير متساوية الأطراف، فكل جِرم من هذه الأجرام يسير في مساره وكأنه عُقْد مُنتَظِم، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، وكل شيء بحساب وبنظام دقيق، ولا يوجد احتمام لإصطكاك نجم بأخر ولا واحد في ملايين المرات أنه يقع هذا، بل كل أمر مُنظَّم ومُنتظِم تمامًا؛ مُحكَم أحكَمَه الله -تبارك وتعالى-، أحكَمَه هذا الخالق العظيم الذي خلَقَ السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، لكنه في هذا اليوم العظيم ينفَرِط هذا العِقد، وبعد ذلك يُجمَع الشمس والقمر وهذه النجوم تتساقط بعضها على بعض، خلاص؛ إنما هو أشبه ببركان وانفجار يفرِط هذا العِقد المُنتَظِم، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، انتَثَرَت كما تقطع خرذات عِقد كان مُنتظِم وباقية فيه، ثم إذا قطَعت هذا العِقد انفرَطَت حبَّاته وكل حبَّة ذهبَت في مكان.
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، هذه البحار العظيمة تُفجَّر؛ يعني يُفجَّر بعضها على بعض، فإن هذا الزلزال الضخم العظيم الذي يقوم في الأرض يُفجِّر بعضها على بعض فتكون بحرًا واحدًا؛ ثم تُفجَّر نارًا، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، هذه القبور التي كان مُصطَفَّة وكانت موجودة كلها تُبَعثَر؛ يعني محتوياتها كل شيء فيها يُبَعثَر، وبَعثرته؛ نشره وتوزيعه في كل مكان، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، قال -جل وعلا- {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، بعد هذا يقوم الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى- في أرض ليس فيها عَلَمٌ لأحد؛ وعند ذلك تعلم كل نفس ما قدَّمَت وأخَّرَت، ما قدَّمَت من عمل قبل موتها؛ كل ما عَمِلَه الإنسان سُجِّل ودوِّن، وكذلك ما أخَّرَته بعد الموت وهو يلحَقُها؛ وهو يلحَق الإنسان لأن أثر الإنسان له، إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًّا فشَر، كما قال -صل الله عليه وسلم- «مَن دعى إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور مَن اتَّبعَه؛ لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعى إلى ضلالة كان عليه من الوِزر مثل أوزار مَن تَبِعَه؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء»، فالإنسان وما خلَّف؛ فإن كان خلَّفَ خيرًا ورائه فإن هذا الخير سيلحَق به، وإن كان خلَّفَ شرًّا ورائه؛ بِدعة، وشر، فإن هذا الشر الذي تسبب فيه كذلك هو لاحِقٌ به، وكل إنسان له عمله، وكما يقول النبي «إذا مات الإنسان انقطَعَ عمله إلا من ثلاث»، هذا العمل الصالح، «صدقة جارية، أو عِلمٌ يُنتَفَع به، أو ولدٌ صالح يدعوا له»، لأنه هذا من عمله، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ........}[يس:12]، فالذي قدَّمَه الإنسان مكتوب والذي أخَّرَه الإنسان كذلك من أثره خيرًا وشر مكتوب، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]، ففي هذا اليوم العظيم الذي تحصُل فيه هذه التغييرات الهائلة كلها في السماوات وفي الأرض؛ ويقوم الناس بعد ذلك على أرض مُختلِفَة وعلى سماء مختلفة، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48]، وبرزوا؛ ظهروا كلهم من باطن الأرض إلى ظاهِرها، لله؛ ليُحاسِبَهم، الواحد؛ الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، القهَّار؛ الذي قهَرَ كل شيء وذَلَّ له كل شيء -سبحانه وتعالى-، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، ما الذي قدَّمَته قبل وفاتها وما الذي أخَّرَته، وهذا العِلم هو العِلم الذي سيترتَّب عليه بعد ذلك كل شيء، المؤمن يفرح الفرح العظيم عندما يرى عمله الصالح، والكافر يرى الهَم العظيم عندما يرى ما قدَّمَه وما خلَّفَه.
قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]، هنا الخطاب الإلهي لهذا الإنسان بعد أن يُذكِّرَه الله -تبارك وتعالى- بالمآل الذي سيئول إليه؛ وبهذا الموقِف العظيم الذي سيكون فيه، وأن هذا بعد هذه التغييرات الهائلة، فالله -تبارك وتعالى- يأتي هنا بالخطاب للإنسان، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ}، خطاب لكل أحد؛ لكل أحد من الإنسان يعقِل، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6]، هذا خطاب مُباشِر من الله لكل إنسان؛ وهذا من عظَمَة هذا القرآن، ومن تلطُّف الله -تبارك وتعالى-، ومن رحمته وإحسانه، أن يُخاطِب كل عبد من عباده بهذا الخطاب المُباشِر منه -سبحانه وتعالى-؛ ولم يجعل كلامه حكاية يحكيها جبريل، ولا حكاية يحكيها والرسول ويقول إن الله يأمركم بكذا ويأمركم بكذا دون أن يأتينا من الله خطاب مُباشِر، لذلك كان هذا القرآن من أعظم نِعَم الله -سبحانه وتعالى- على عباده؛ إذ يُخاطِبَهم الله -تبارك وتعالى- فيه بنفسه خطابًا مُباشِرًا منه إلى الإنسان.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6]، ما الذي يجعلك تغتَر بربك؟ فتظُن به ما ليس من الحق؛ وتنسُب له ما ليس فيه، وتنسى ما يُذكِّرك به؛ تنسى مُهِمَتُك، وتخرج عن الصراط والطريق، ما الذي غرَّرَك بهذا؟ الشيطان؟ هذه الدنيا؟ يعني أي شيء يجعلك تتغرَّر وتُغَرِّر بربك؟ {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ}، أصل التغرير هو الظن بأن هذا الذي يعتقده الإنسان هو من الخير والحال أنه من الشر، وأن يظُن في الأمر التافه أنه عظيم؛ وفي الأمر العظيم أنه حقير، وفي الهُدى أنه ضلال، وفي الضلال أنه هُدى، فهذا من التغرير كما يُقال للطفل أنه غرير لأنه يُضحَك عليه ويُغرَّر؛ فيوهَم بالأمر وهو لا يدرك حقيقة ما يُلقى عليه، فقد يُكذَب عليه ويظُن أنه صدق، ما غرَّك؛ ما الذي جعلك تغتَر، أي افتراءٍ وأي كذبٍ دخل في عقلك فغرَّرَك بربك؟ هل هو الشيطان الذي فعل هذا؟ أي شيطان؟ أي دنيا؟ {........ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6]، يعني أنه ينبغي أن لا يكون هناك شيء من ذلك، هذا خطاب الله -تبارك وتعالى- منه؛ خطاب الصدق، خطاب الصدق من الله -تبارك وتعالى-؛ كيف تؤخَذ عنه؟ كيف تُغرَّر عن هذا الكتاب ولا تؤمن به وتذهب إلى غيره؟ ما الذي غرَّك بربك؟ وهو الله الذي يُخاطِبك؛ وهو ربك الكريم بصفاته -سبحانه وتعالى-، فصفاته كلها حُسنى عُليا، فهو الرب الرحمن؛ الرحيم، الرؤوف، المُتعال، الإله الذي لا إله إلا هو ملِك السماوات والأرض، الله -سبحانه وتعالى- الكريم بكل صفاته وكل أسمائه -سبحانه وتعالى-؛ ما الذي يُغرِّرُكَ به؟ كيف يُصرَف عنه؟.
ثم هذا ربك {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]، انظر إكرام الله -تبارك وتعالى- لك يا أيها الإنسان المُخاطَب بهذا الخطاب الكريم من الرب الكريم -سبحانه وتعالى-، الذي خلَقَك؛ خلْق من العدم، فهو أخرجك من العدم؛ ما كنت شيء، ثم خلْق تسوية؛ هو الذي سوَّاك وجعلك على هذا النحو الذي أنت عليه، يديك، قدميك، عينيك، أُذُنيك، رأسك، رجليك، كل ذرَّة في جسمك؛ الله هو الذي سوَّاك والذي أعطاك كل هذا -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ........}[الانفطار:7]، التسوية؛ أنه عدَّلَك وجعل كل شيء فيك مُستوي، انظر استواء اليدين؛ استواء القدمين، استواء العينين في المكان الصحيح، الله -تبارك وتعالى- خلَقَ الإنسان في أحسن تقويم، {........ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]، عَدَلَنا الله -تبارك وتعالى- بأن جعلنا مُستويين نسير على قدَمَين، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]، فعَدَلَك؛ فعَدَّلَك، يعني بِنية الإنسان أجمل بِنية؛ أجمل بناء لأجمل مخلوق، الإنسان هو أجمل مخلوق؛ أجمل مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، انظر في ما حولك كله من المخلوقات؛ الحيوانات التي تمشي على أربه ووجهها للأرض، الزواحف التي تسير على بطنها، الطيور بريشها ومِنقارها، لا أجمل من الإنسان في كل الوجود، والله -تبارك وتعالى- خلَقَه هذا الخلْق البديع الجميل؛ سوَّاه وعَدَّلَه -سبحانه وتعالى-، فالذي أعطاك هذا الخلْق المُستوي؛ وهذه الصورة الحسنة، وجعلك في أحسن تقويم، فما الذي يُغرِّرُك به؟ هذا ربك الذي خلَقَك؛ كيف تُصرَف عنه؟ كيف تُغَر عنه؟ كيف يأتيك عدو ويُميلُك ويُبعِدُك عن طريقه؟ {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]، والقراءة الثانية فعَدَّلَك.
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، في أي صورة من الصور ما شاء الله -تبارك وتعالى- ركَّبَك، هذا فيه معاني؛ المعنى الأول أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَ كل إنسان بصورة مُستقِلَة، يعني صورة له خاصة، انظر هذه الملايين التي يخلُقُها الله -تبارك وتعالى- فأعطاك صورة خاصة بك، ما جعلَك صورة طِبق الأصل من أمثال كثيرين غيرك؛ بل أعطاك صورة خاصة، يعني أنت لك بصمتك الخاصة، فهذا أيضًا من النِعَم العظيمة؛ أنه أعطاك خصوصية في هذه الصورة التي لك، في أي صورة ما شاء الله -تبارك وتعالى- ركَّبَك في هذه الصورة، وانظر هذه الصورة التي خلَقَ الله -تبارك وتعالى- فيها الإنسان تأكيدًا للمعنى السابق، في أي صورة ما شاء الله -تبارك وتعالى- ركَّبَك؛ وهذا دليل عظَمَته، ودليل سِعَة عِلمه -سبحانه وتعالى-، إذن أنه المُصوِّر؛ ومن تصويره انظر كل هذه الملايين التي يخلُقُها الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تتطابق في الصورة، ثم عَلِمَ الناس بعد ذلك باالبحث في هذه البِنية الإنسانية؛ في هذا البيان الإنساني، الذي هو مازال بالرغم من العلوم الكثيرة ماذال مجهولًا، ما نجهله من بِنية الإنسان هذه المادية أعظم كثيرًا من ما نعلَمُه، فقد علِمنا أشياء كثيرة لكن ما خَفِيَ علينا من حقيقة الخلية؛ وما فيها داخلها، وما حقيقة هذا، أكثر كثيرًا مما عَلِمناه بالتشريح؛ والطب، والبحث، والتقصِّي، لكن ما عَلِمناه لا شك أنه أقل كثيرًا مما نجهله في هذا الإنسان، فالإنسان مازال ذلك الكيان المجهول بالنسبة لنا، والله -تبارك وتعالى- هنا يُبيِّن أن كل إنسان قد خلَقَه الله -تبارك وتعالى- لم يُميِّزَه علي غيره بالصورة الخارجية فقط؛ بل بالدقائق التي له، فكل إنسان في أموره الدقيقة الداخلية خاص، شفرة وراثية في داخل خليَّتِه لا يمكن أن تتطابَق مع غيره؛ هذا فضلًا عن بصمات الأصابع، خليط الدم، خليط العَرَق، خلطة هذا العَرَق مكوناتها لا يمكن أن تتطابَق قط مع نقطة عَرَق أخرى مع أي إنسان أخر، فالإنسان له مميزاته الخاصة بالدقيقة، فالله هذا دليل عظَمَته -سبحانه وتعالى- ودليل سِعَة عِلمه -جل وعلا-، هذا الرب الذي خلَقَنا هذا الخلْق الدقيق البديع؛ وأعطى كل مخلوق مِنَّا صورته الخاصة في الشكل الظاهري وكذلك في كل دقيقة من دقائقه، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8].
ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}[الانفطار:9]، هذا من التغرير وهذا الذي غرَّ هذا الإنسان بربه؛ أنه قد كذَّبَ بالدين وبالجزاء، بالجزاء؛ بأن الله -تبارك وتعالى- لا يُجازيه على عمله وأنه خلَقَ الخلْق هكذا سُدى، فكثير من هؤلاء الذي آمنوا بالله -تبارك وتعالى- كرب خالق لك يؤمنوا به كرب مُجازي؛ حَكَم، عدل، يأمر وينهى، وأنه سيبعَث العباد ليُحاسِبَهم -سبحانه وتعالى-، بل ظنوا أنه قد خلَقَ خلْقَه سُدىً وعبثًا؛ وخلَّى الناس كلٌ يفعل ما يشاء، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}[الانفطار:9]، بالجزاء، وهذا الذي حَمَلَ الناس على أنهم يغتَرُّوا بربهم -سبحانه وتعالى- ويفعلوا ما يشائوا، {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}[القيامة:5] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة:6]، ما في يوم قيامة، فهذا الذي حَمَلَهم أنه مادام ما في جزاء فليفعَلوا ما يشائوا، مادام أنه لم يؤمن بالجزاء إذن فليفعَل ما يشاء مادام أنه لن يُجازى على عمله، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}[الانفطار:9].
قال -جل وعلا- {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار:10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار:11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:12]، يعني كيف تُكذِّب بالجزاء والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد جعل عليكم حافظين؛ مُحصين، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، مُحصي يُحصي عليها كل عملها، لا يعمل الإنسان عمل من الأعمال إلا وهناك مَلَك يُحصي عليه أعماله؛ بل هناك مَلَكان، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، رقيب؛ مُراقِب لعمله، عتيد؛ حاضر يُسجِّل عليه كل عمل عَمِلَه حتى ولو لفظ يقوله، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}، المُتلَقِّيان؛ ملائكة الكتابة، {........ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، فكيف تُكذِّب بالدين؟ يعني كيف تُكذِّب أيها الإنسان بالدين؛ بالجزاء؟ والحال أن أعمالك، وأقوالك، وحركاتك، وسكناتك، بل وخطَرَات قلبك مُسجَّلَة عليك؛ مكتوبة مُسجَّلَة، والذين يُسجِّلونه ملائكة الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار:10] {كِرَامًا ........}[الانفطار:11]، يعني ملائكة مُكرَّمين عند الله -تبارك وتعالى-؛ أهل نفاسة من حيث الخلْق، ومن حيث الصفات والأخلاق، {........ كَاتِبِينَ}[الانفطار:11]، يكتبون، انظر أن أنا الإنسان دودة من ديدان هذه الأرض ولا عناية؛ وليس عليَّ مسئولية بل أفعل ما أشاء، يعني كأن الرب لن يهتَم بهذا ولن يعتني... لا، أنت أيها الإنسان مخلوق... نعم، قد يكون الإنسان في مستوى الخلْق أقل في السُّلَّم من الملائكة الكرام؛ الكاتبين، الذين خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من نور، لكن هذا الخلْق مُكلَّف؛ وهو مخلوق، ومُعتنى به، وأنه مُكلَّف، وأنه مأمور، وأنه خُلِق لمهمة، وأن كل ما يفعله مُدوَّن ومُسجَّل، وأنه مُوكَّل به هؤلاء الملائكة الذي قد يكونون أشرف في الخلْق منه؛ لكنهم موكَّلون به، وأن الله أقامهم يكتبون عمَلَه ويُتابِعونه ليلًا ونهارًا؛ ما يتركونه لا ليلًا ولا نهارًا بل هم قائمون معه، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، يقول فكيف تُكذِّب؟ يعني كيف تُكذِّب أيها الإنسان بالدين؟ والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد أقام عليك هؤلاء الملائكة، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار:10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الانفطار:11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:12]، هؤلاء الكرام الكاتبون يعلمون ما تفعلون، كل الذي تفعلون هم على عِلم به.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13]، تأكيد منه -سبحانه وتعالى- أن الأبرار في نعيم، يعني نهاية الحساب ماذا؟ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13]، الأبرار جمع البار؛ والبار هو فاعل البِر، والبِر؛ كل خِصال الخير تدخُل في البِر، فالصدق، والأمانة، والصدقة، والصِّلَة، وكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به من الخير؛ هذا كله من البِر، ففاعل هذا البِر هو البار، البار لا يكون بارًا إلا إذا كان مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى-؛ مُتقيًا له، قائمًا بأمره، مُبتعِدًا عن نواهيه -سبحانه وتعالى-، فهؤلاء الأبرار قال -جل وعلا- {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13]، هذه نتيجة الجزاء، لفي نعيم؛ الجنة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- هي دار النعيم، كل ما يُتنَعَّم به مما يُعلَم ومما لا يُعلَم مزخور في هذه الجنة، {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13]، الجنة، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:14]، بالتأكيد، إن للتأكيد؛ يؤكِّد الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر، الفُجَّار؛ الفاجر هو الخارج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، فاعل الفجور، وكل إثم ومعصية هي خروج عن طاعة الله؛ فهي فجور، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:14]، النار -عياذًا بالله-، النار -عياذًا بالله- هي الجحيم؛ هذا السجن العظيم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- نكالًا لهؤلاء الفُجَّار.
قال -جل وعلا- {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}[الانفطار:15]، يصلونها؛ يُعذَّبون بها، يوم الدين؛ يوم الجزاء، فيوم الجزاء هو اليوم الذي يُجازى فيه؛ أهل الجنة يدخلون دار النعيم، وأهل النار نارهم في هذا اليوم، قال -جل وعلا- {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}[الانفطار:15] {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الانفطار:16]، ما هم؛ هؤلاء الكفار، عنها؛ عن هذه النار، بغائبين؛ ولا واحد، لن يغيب كافر، ومجرم، وفاجر عن النار، بل كلهم لابد من أن يحضُروا، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}[مريم:68]، يقول الله فوربِّك؛ يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بنفسه، وهو رب محمد -صل الله عليه وسلم-، لنحشُرَنَّهم؛ لنجمعنَّهم، والشياطين؛ كذلك الشياطين، وإن كان يظُن الناس أن الشيطان مثلًا هذا خفي، ما في شيطان سيَفِر وسيُعجِز الله -تبارك وتعالى- فرارًا أو بُعدًا؛ بل سيأتي، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}[مريم:68] {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}[مريم:69] {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}[مريم:70]، فكلهم لن يغيب عن النار أحد، {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الانفطار:16].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17]، هذا أسلوب التفخيم والتعظيم لتفخيم هذا اليوم وتعظيمه، جاء في القرآن ما أدراك وما يُدريك، قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- كل ما أدراك في القرآن فقد أعلَمَه الله -تبارك وتعالى- به، وأما وما يُدريك فإنه لم يخبره الله -تبارك وتعالى- به، الخطاب للرسول -صل الله عليه وسلم- وهو لتفخيم الأمر وتعظيمة، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17]، تفخيم لهذا؛ وتعظيم، وتهويل لهذا اليوم، يوم الدين؛ يوم الجزاء، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:18]، إعادة لهذا التفخيم والتعظيم لهذا اليوم؛ وأنه أعظم مما تتصوَّره العقول مهما كانت وتتخيَّلُه، لأن الهَول أكبر من هذا؛ الهَول وعظَمَة هذا اليوم أكبر من هذا، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:18].
ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا اليوم بهذه الصفة فقال {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19]، في هذا اليوم؛ يوم الدين، لا تملِك نفس؛ أي نفس، نفس نكرة؛ أي نفس، لنفس؛ أخرى شيئًا، ما أحد يستطيع أن ينفع أحد في هذا اليوم أبدًا؛ ما يملِك له شيء، لا رسول، ولا مَلَك مُقرَّب؛ ما أحد يملِك لأحدٍ شيئًا، كما خَطَبَ النبي -صل الله عليه وسلم- أول ما خَطَب فحذَّر الناس وقال «يا بني فلان، يا بني فلان؛ نادى بطون قريش، إلى أن قال يا بني هاشم؛ يا صفية عمَّة رسول الله، يا عباس؛ يا ابن عبد المُطَّلِب، يا فاطمة بنت محمد، اعملوا؛ لا أُغني عنكم من الله شيئًا»، اعملوا؛ يعني أن المُنجي في يوم القيامة إنما هو عمل الإنسان، قال «لا أُغني عنكم من الله شيئًا»، قال «يا فاطمة بنت محمد سَلِيني ما شئتي»، يعني السؤال هنا، أما بالنسبة ليوم القيامة «سَلِيني ما شئتي؛ لا أُغني عنكي من الله شيئًا»، فلا أحد يملِك لأحدٍ شيئًا؛ والشفاعة كلها لله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يأذَن للشافِع؛ هذا لا ينفي الشفاعة، وإنما الشفاعة كلها لله؛ فهو الذي يأذَن للشافِع ويأذَن عن المشفوع -سبحانه وتعالى-، {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19]، الأمر هنا اللي هو مفرد الأوامر؛ وليس الشأن، وإنما الأمر يعني أن الحُكْم كله لله -تبارك وتعالى-، فالأمر في هذا اليوم له -جل وعلا- وليس لغيره -جل وعلا-.
بهذا تنتهي هذه السورة العظيمة؛ وفيها هذه المواعِظ الجليلة الكبيرة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الذِّكر الحكيم، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.