الثلاثاء 02 جمادى الآخرة 1446 . 3 ديسمبر 2024

الحلقة (77) - سورة البقرة 267-271

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[البقرة:267-269] يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بعد أن يناديهم بأحب الأسماء فيقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} فيأمرهم -سبحانه وتعالى- أن ينفقوا من كسبهم الطيب، والكسب الطيب ما شرعه الله -تبارك وتعالى-،  كبيع حلال بشروطه المشروعة ونتاج زراعةٍ أو نتاج عمل، وخير ما يكسب الإنسان من عمل يده ومشاركة أو مقارضة،  كل الوجوه التي شرعها الله -تبارك وتعالى- للكسب، وضده الكسب الخبيث ما يأتي من الطرق التي حرم الله -تبارك وتعالى- الكسب منها أعلاها الربا والقمار الميسر وبيع ما حرم الله -تبارك وتعالى- كبيع الخمر وبيع الأصنام وثمن الكلب، ومهر البغي كل هذا جاء،  تشريع بتحريم الكسب منه أنه كسب خبيث وبيوع الغرر والغش وأكل كل ما هو داخل في أكل المال من الباطل كل هذه مكاسب خبيثة، من أنفق فيها شيئاً في سبيل الله؛ فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبلها كما جاء في الحديث « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»  فهنا يقول الله -عز وجل- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}  أنفقوا في سبيل الله من الكسب الطيب الذى كسبتموه، ويدخل فيه كذلك أن يكون هذا الشيء الذى يتصدق به طيب في نفسه، كطعام جيد مما يحبه الإنسان، ونحو ذلك مما يحب، أما  إذا  كان الشخص يكرهه؛ فإن الله -تبارك وتعالى- كذلك لا يقبل إلا طيبا {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ........}[آل عمران:92].

 {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرض}  أي أنفقوا كذلك مما أخرجنا الله -تبارك وتعالى- هو الذى يخرج فهو زرع -سبحانه وتعالى-  {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:63-64].

 { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} أي من هذا الخارج تنفقون، الخبيث هنا بمعنى الرديء، {وَلا تَيَمَّمُوا}  تقصدوا  الرديء من هذا الذى يخرج من الأرض، كالثَقَل، والحشف من التمر والرديء من الحنطة، ونحو ذلك يجعل الزارع ما يخرج رديئاً من زرعه لله -سبحانه وتعالى- هذا أمرُ عظيم.

{ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}  إذا  كنت محل الفقير وأعطي لك هذا، فإنك لا تأخذه إلا على مضض { إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} تغمض عينك لتأخذه؛ فهذا مثال من  يأخذ الشيء، وهو كاره له.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} هذا تذكير منه  -سبحانه وتعالى- أنه هو الذى يأخذ الصدقات، والله -تبارك وتعالى- غنى أن تعطي الله -تبارك وتعالى- ما تكره؛ فاعلم أن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل هذا؛ إذا أعطيت هذا لله لا يقبله -سبحانه وتعالى- وهو غنىُ عن صدقاتكم، وإنما يأمركم بما يأمركم به من النفقة من أجلكم؛ ثم هو المحمود -سبحانه وتعالى- لأنه ذو الصفات الحميدة، الرحمن الرحيم الغفور الودود ؛فكيف تعطي ما تكره كيف تعطي الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذى تكرهه حتى لنفسك لو أنك في محل الآخذ فإن تأخذ على مضض، وعلى كراهة؛ فالله غنى -سبحانه وتعالى- عن صدقة من تصدق من كسب خبيث، أو أخرج الرديء لله -تبارك وتعالى-، وقد كان هذا من صفة الكفار، وقد نعى الله -تبارك وتعالى- عليهم هذا {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}[النحل:62].

 ثم قال-جل وعلا- {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفقر ويأمركم بِالْفَحْشَاءِ........}[البقرة:268] "{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْر}لأنه جالس للمؤمن عند النفقة؛ فيحذره من الإنفاق خوف الفقر؛  فدائماً كلما توجه المؤمن لينفق في سبيل الله أتى الشيطان وخذله ووسوس له، وحرضه يقول له: لمَ تنفق في هذا، ادخر لنفسك، اجعله لأولادك، ونحو هذا من وسوسته.

{ويأمركم بِالْفَحْشَاءِ} هذا عمله يأمر أتباعه بالفحشاء، والفحشاء هو الذنب الغليظ في الإثم  وفى القبح، وغالبًا إذا ما  أطلقت تأتي على الزنا لأنه من أفحش الجرائم، ولكن يدخل فيه كل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه فهو فاحش، لأنه كفى  فحشاً وإثما معصية الرب -تبارك وتعالى-،  فهذا عمل الشيطان أنه يخذٍل عن الخير، ويأمر بالفحشاء.

{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} والله -سبحانه وتعالى- إنما يعدكم مغفرة منه بالنفقة، فإنما  يأمركم بما يأمركم به ليغفر ذنوبكم ويحط عن سيئاتكم -سبحانه وتعالى- ، وفضله أعظم فضل بالنسبة لعباده منه  الجنة، ورؤية وجهه الكريم -سبحانه وتعالى-.

{ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }واسع؛ بمعنى أنه الكبير، العظيم -سبحانه وتعالى- واسع العطاء والمن والفضل ليس لعطائه حد -جل وعلا- يقرب هذا المعنى قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث الإلهي «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم  وإنسكم  وجنكم وقفوا في صعيد واحد وسألني كل مسألته، فأعطيته إياها ما نقص هذا من ملكي شيئا ألا كما ينقص المخيط اذا أدخل البحر فلينظر بما يرجع» وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «يد الله ملأى سحاءُ الليل والنهار» ملأى بالخير؛ ثم يقول النبي « أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنها لم تُغض ما في يمينه» أي أرأيتم ما أنفق الله على عباده منذ خلق السموات والأرض من الأرزاق ومن الخيرات و الأنعام كم منذ خلق الله السموات والأرض وهو ينفق على عباده لم تغض ما في يمينه لم تنقص شيئاً مما عنده -سبحانه وتعالى-،  فالله واسع العطاء -جل وعلا- فلا يخاف الفقر، ولا ينقص عطاؤه مما عنده شيئاً -سبحانه وتعالى- {عليم} بمن ينفق لله -تبارك وتعالى- فهذا تذكير منه سبحانه وتعالى عبده المؤمن أن يحسن عمله لأن الله بصير به؛ ثم ألا يخاف من أن  يضيع شيء من أن يضيع شيء من عمله؛ وذلك أن الله عليم  بشئون عباده لا يخفى عليه شيء، وهو لا يظلم مثقال ذرة سبحانه وتعالى.

الله هنا  يجعل للعبد المؤمن مقابلة بين ما يعده الله -تبارك وتعالى- به، ويأمره به، وبين ما يعده به الشيطان ويأمره به،  إما أن تكون من عباد الله -تبارك وتعالى- وإما أن تكون من عباد الشيطان؛ فالله -سبحانه وتعالى- يعد عباده مغفرة منه وفضلا {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قادر أن يعطي عطاءه -سبحانه وتعالى- وريث له لعبده المؤمن، وأما الشيطان فإن مهمته أن يخذل هذا العبد عن الخير؛ كلما انطلق العبد إلى الخير حاول أن يقعده، وكذلك يحركه  إلى المعاصي بأمره له بها وتزيينه له بها، يعني   إما أن تطيعوني وإما أن تطيعوا الشيطان؛ مقابلة لاشك أنها مفارقة بعيدة كل البعد بين طريق الله -تبارك وتعالى- وصراطه، وبين صراط الشيطان.

 ثم قال -جل وعلا- {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[البقرة:269]

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} أي الله- يسبحانه وتعالى- الحكمة، الحكمة هي العلم التام الذى يجعل صاحبه يضع الأمور في نصابها،  فمن كان عنده علم يضع كل أمر في نصابه، وطريقه مسدد إلى الخير، طريق رشد هذا الحكيم، وقد تطلق الحكمة، ويراد بها السنة التي جاء بها النبي -صلوات الله والسلام عليه- اذا جاءت بعد القرآن، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة2] فالكتاب المنزل من الله -تبارك وتعالى- والحكمة سنة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- والله -تبارك وتعالى- {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} هذا العلم؛ العلم الذى جاء به الكتاب، والتي جاء به السنة هو علم تام يجعل صاحبه حكيما، يضع كل أمر في نصابه،  ولاشك أن من وفق إلى إنفاق ماله في الخير حكيم، لأنه وضع الأمر في نصابه، وهو أن هذا المال وضعه في يد الله -سبحانه وتعالى- وإذا وضعه بيد الرب -جل وعلا- فالله ينميه ويكثره ويثمره وتكونه التمرة الواحدة كالجبال من الأجر ولابد أن يجده، وأما اذا غاب عنه هذا الباب ووضعه في طريق الشيطان ضاع عليه فهذا هو السفيه الضائع الذى اتبع الشيطان وأنفق ماله حسب ما أمره به فحجبه عن الخير، ووضعه في الفحشاء وفي المنكر،  فهنا الحكمة هنا  ظاهرة أن المنفق هذا هو الحكيم، والممسك هذا هو السفيه الغبي الجاهل الذى لم يعرف كيف يستثمر ماله على الوجه الصحيح.

{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} فهذا توفيق منه -سبحانه وتعالى- فالهداية هذه اختصاص، فالهداية هذه اختصاص، وهذا العلم اختصاص، والتوفيق هذا منه اختصاص؛ بمعنى أنه من يشاء الله -تبارك وتعالى- من يختصه الله -تبارك وتعالى-  بهذا اختصه، وهذا عنده -سبحانه وتعالى-.

{ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} من يعطيه الله -تبارك وتعالى- الحكمة، وهى هذا العلم التام الذى يجعله يضع كل أمر في نصابه{ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} أعطي خيراً كثيرا من الله -تبارك وتعالى- وذلك أنه مسدد، وموفق كل أمر وضعه في نصابه، في مكانه الصحيح؛ فاستفاد من كل شيء.

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}لا يتذكر بهذا الكلام بمعنى أنه يقدره، ويعلمه ويذكره، ويكون حاضراً في ذهنه، ويعمل بمقتضاه { إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أهل العقول اللب العقل، القلب الواعي؛ فأهل القلوب الواعية، المتفتحة، المنشرحة لكلام الله -تبارك وتعالى- هذا ذو اللب هو الذى يستفيد بهذا؛ وإلا فالجاحد الكافر الذى أغلق فهمه وأغلقت مناقل المعرفة عنده لا يستفيد شيئاً بكلام الله -سبحانه وتعالى-.

 جمع الله -تبارك وتعالى- هنا بين الحكمة، والإنفاق، ولا شك أن الإنفاق في مكانه من الحكمة، وهذا أعظم ما يعطاه  العبد أن يسلط ماله في نفقة في سبيل الله، أن يعلمه الله -تبارك وتعالى- الحكمة فيقضي بها ويعلمها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- «لا حسد إلا في اثنتين رجل آته الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» فهذا الذى يحسد بمعنى يغبط، وليس يحسد بمعنى يتمنى زوال ما عنده، فإن تمنى زوال النعمة من الغير هذا من الشر هذا من الشر أما إذا غبط،  الغبطة هو أن يرى المسلم من أنعم الله -تبارك وتعالى-  بنعمة،  فيتمنى أن يكون له مثلها ليكون كذلك فهذه غبطة ، فالحسد في قوله  "لا حسد إلا في اثنتين"  بهذا المعنى حسد ليس لزوال نعمته، ولكن ليكون للحاسد مثل ما للمحسود  «لا حسد إلا في اثنتين رجل آته الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق» وجًه هذا المال سلًط هذا المال، بمعنى أنه وجهه لينفق على هلكته، على ما يهلك هذا المال في الحق على نفسه على من يعول في طرق الخير فهذا موفًق، والمال و أجره في هذه النفقة عظيم، حتى على النفس،  كما قال النبي -صلوات الله وسلم- «دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه على مسكين ودينار تنفقه في سبيل الله أعظمها أجراً الذى تنفقه على أهلك»  فالنفقة على الأهل مع احتساب أجرها هذه أعظم النفقات كما قال النبي لسعد « واعلم أنك  لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك» فالذي وفق في أن يضع ماله، والله أعطاه مال، ووضع  المال سلطه على هلكته في الحق هذا محسود، ينبغي أن يغبطه الناس ، ويحسده يتمنى أن من لم يكن كذلك أن يجعله الله كذلك، والشخص الثاني رجل آتاه الله الحكمة، والعلم التام، فهو يقضي بها في كل شئونه ويعلمها  غيره {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[البقرة:269].

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[البقرة:270]

 {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} أي نفقة تنفقونها {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ}نذرتم من نذر،  النذر هو باب من أبواب النفقة يوجبه المسلم على نفسه فيقول لله علىً أن أفعل هذا مما لم يوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه، ولكن هو أوجبه على نفسه، كمن نذر أن يتصدًق كل يوم بدينار، قال لله علىً أن أتصدق كل يوم بدينار لله، أو أن أضع في هذا الباب من أبواب الخير مثلا هذا الكسر هذا المقدار من المال،  فهذا نذر فالله يقول أي نفقة تنفقونها، أي نذر تنذرونه فإن الله يعلمه، يعلمه -سبحانه وتعالى- هذا تثبيت، وتأنيس للعبد المؤمن أنه يا أيها المنفق أي نفقة تنفقها ولو صغيرة، ولو فلسا واحدا تنفقه؛ فاعلم أن الله -تبارك وتعالى- يعلمه، وبالتالي ما دام أن الله يعلمه والله -تبارك وتعالى- لا يضيع  أجراً، فهو عند الله -تبارك وتعالى- فلا يضيع، وكذلك إن نذرت أي نذر فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمه كذلك.

{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} والظلم  هو وضع الأمر في غير محله من أنصار،  لا يجعل الله -تبارك وتعالى- لهم ناصرا من دونه -سبحانه وتعالى-،  وهذا تكريه في الظلم لاشك أنه من الظلم، يدخل في الظلم توجيه المال إلى  غير وجوهه،  فإن هذا ظالم الذى أعطاه الله -تبارك وتعالى- المال وحجبه عن النفقة الصحيحة، ولم يوجهه فهذا ظالم، هذا لا نصير له لأنه ضاع ماله فيما ضاع، ولا أجر له فيه، ويكون إثمه بعد ذلك،  إثم هذه النفقة الباطلة عليه يوم القيامة.

  في هذا كذلك توجيه بأن من نذر يجب أن يوفي لأن الله يعلمه عندما يقول لك { أو  نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} إذن  أوفِ، ويجب الوفاء بالنذر سواء كان نذراً  مشروطاً أو غير مشروط النذر الغير مشروط وهو النذر الأفضل، والأحسن، والأولى كمن يقول لله علىً مثلاً أفعل كذا دون شرط يشترطه على الله -تبارك وتعالى- وأما من قال ربى إن شفيتني من هذا المرض أو شفيت مريضي من هذا المرض، أو إن رددت هذا الغائب، أو إن حصل هذا الأمر، تصدقت بكذا وكذا ، أو فعلت كذا فهذا نذر مشروط،  وهذا قد قال النبي فيه -صلى الله عليه وسلم- « إن النذر لا يأتي   بخير ولكن يستخرج به من البخيل»   يأتي بخير لا يغير قدر،  لا يغير قدر ليس لأنك نذرت هذا فإن الله يحقق لك هذا من أجل النذر فهذا أمر مفروغ منه، ولكن من نذر على هذا النحو يجب أن يوفي، فيخبر النبي بأن الله شرع هذا لأنه يستخرج به من البخيل،  والبخيل هو الذى لا ينفق إلا أن يشترط على الله تبارك وتعالى يقول لا أفعل هذا إلا أن تفعل لي هذا،  أما من ينذر بغير شرط أوجب على نفسه  أمراً لم يوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه وهذا فيه مسارعة  مرضاة الرب -تبارك وتعالى- {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[البقرة:270].

 

 ثم قال -جل وعلا- {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ........}[البقرة:271]

{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} تظهرونها عندما يتصدق{ فَنِعِمَّا هِيَ} نعمًا هي،  نعمة هي نعم شيئاً، نعم شيء هي، بمعنى أنه حسن،  هذا أمر حسن أن يبدى الإنسان الصدقة مادام نيته لله -تبارك وتعالى-،  وقد يكون في الإعلان خير من باب حث الغير على أن يتصدق.

{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إن تخفوا الصدقات وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، وذلك أنه  يكون فيها صدقة على الفقير وإحسان إليه بعدم  أذاه وكسر عينه وإظهار فقره للناس وإظهار منة الذى تصدقً بصدقته عليه؛ فإذا جاءت الصدقة خفية بالنسبة للفقير ففيها إحسان مع إحسان، إحسان بالتصدق عليه، وإحسان بالستر عليه { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} هنا خير  تفضيل،  أخير لكم؛ فهذا أفضل، وأعلى درجة.

{ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} يكفر الله -تبارك وتعالى- أي بصدقاتكم من سيئاتكم، والصدقة أعظم، أو من أعظم أبواب المغفرة كما قال -صلى الله عليه وسلم- «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» فأعظم وسيلة لمغفرة الذنوب أن يتصدقً العبد، ولذلك لما وعظ النبي النساء  عن بعض المعاصي التي تقع منهن، وتتلبس الكثيرات منهن من المؤمنات وعظهن النبي بالصدقة وقال: «يا معشر  النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر  أهل النار دخولا للنار» يقول النبي «وقفت على باب النار فوجدت عامة من دخلها النساء» فالنبي قال في خطبته في يوم عيد "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن -وبالبناء طبعا لما لم يسمى فاعله طبعا هذا لايريه إلا  الله -سبحانه وتعالى- أكثر أهل النار دخولا للنار فقلن: بم يا رسول الله فقال: بكفركن قلن أنكفر بالله قال تكفرن العشير -العشير الزوج-  يحسن إلى أحداكن الدهر ثم إذا  رأت منه شيئاً، قالت ما رأيت خيرا منك قط وقال: « وما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن» وقال تكثرن اللعن؛ فالنبي عدد ثلاثة معاصي كبيرة قد تقع كثيراً من المسلمات قال «تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن» أي أنكن تغيرن رأى الرجل الحازم، حتى الحازم فقد يترك واجباً، وقد يفعل محرماً، وقد  يتغير رأيه من الخير إلى الشر بهذا الإيحاء والتأثير.

 فالشاهد أن النبي دلًهن على أعظم ما يكفر هذه السيئات فقال تصدقن، قال تصدقن، وذلك أن الصدقة هي أعظم، أو من أعظم مكفرات الذنوب؛ فقول الله -تبارك وتعالى- {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} يكفر الله -تبارك وتعالى- عنكم بالصدقات من سيئاتكم.

 { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الله -جل وعلا- خبيرُ بأعمالكم، والخبرة هي العلم الدقيق الخفي،  فالمعنى أن الله مطلع -سبحانه وتعالى- وعليم بأموركم حتى هذه الخفية،  فهو عليم بها -سبحانه وتعالى- وناسب هذا هنا إعلام العباد بأن الله خبير بحًث الرب -جل وعلا- عباده على إخفاء الصدقة؛ فيقول ربنا أخفِها هذا أفضل لك وأنا عليم بخفايا الأمور،  فإن الله عليمٌ بخبايا الأمور،  إذن  اعلم يا من تخفي صدقتك أن الله مطلع عليها، لأنه هو الرب الخبير -سبحانه وتعالى- والخبرة هي العلم الدقيق الخفي بخفايا الأمور، فناسب هذا، هذا الختام، هذه الآية{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

 

ثم قال -جل وعلا{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[البقرة:272]

نزلت هذه الآية بشأن بعض الأنصار، كانوا ينفقون على بعض أهاليهم،  الأغنياء منهم مؤثرون ينفقون على بعض أقربائهم وأهاليهم من الكفار رجاء أن يسلموا،  من باب تأليف قلوبهم للدين ورجاء أن يسلموا؛ ثم استبطئوا إسلامهم،  فقطعوا النفقة، قطعوا عنهم نفقتهم لما قالوا لهم،  أنتم تركتم الإسلام قطعوا نفقتهم فأنزل الله قوله { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هدى العباد ليس عليك أيها العبد، وإنما هذا إلى الله -سبحانه وتعالى- {.وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}"

وقد أدركنا الوقت، وعلى موعدنا في الحلقة الآتية إن شاء الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على عبده ورسوله محمد.