الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (770) - سورة المطففين 1-25

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3] {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}[المطففين:4] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[المطففين:5] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6] {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}[المطففين:7] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}[المطففين:8] {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}[المطففين:9] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[المطففين:10] {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المطففين:11] {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[المطففين:12] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[المطففين:13] {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14] {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15] {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ}[المطففين:16] {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[المطففين:17]، سورة المُطفِّفين قيل أنها من القرآن المكي؛ وقيل أنها من القرآن المدني، وقيل أنها نزلت بين مكة والمدينة، على كل حال في هذه السورة آيات تُشبه القرآن الذي نزل بمكة؛ وآيات تُشبه القرآن الذي نزل بالمدينة.

يقول الله -تبارك وتعالى- {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1]، الويل كلمة تهديد؛ وهذا تهديد من الله -سبحانه وتعالى- لهؤلاء، وقيل أن الويل كما جاء في الحديث «أنه وادٍ في جهم بعيد قعرُهُ، إذا أُلقي فيه المُعذَّب فإنه يمكث أربعين سنة لا يصِل إلى قاعه»، -عياذًا بالله-، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1]، تطفيف الكيل هو أن يبخَث الإنسان عند البيع، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المُطفِّفين فقال {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3]، فهم في الكيل عند شرائهم فإنهم يستَوفون ما لهم؛ يأخذونه وافيًا، وأما عند البيع {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3]، يُنقِصونَهم، وهذا التطفيف لا يُغني وإنما أحيانًا يكون في شيء قليل؛ ولكن فيه هذا التهديد والوعيد من الله -تبارك وتعالى-، فإذا كان هذا الوعيد الشديد في مَن يُنقِص ولو شيئًا قليلًا عند البيع؛ وهو حريص على أن يستَوفي ما له، لكنه عند البيع يُخسِر الناس ويُنقِصُهُم؛ فكيف بمَن يأخذ أموال الناس ظُلمًا، وغصبًا، وسرقةً، وغير ذلك؟ لا شك أن هذا يكون الوعيد فيه أشد وأعظم من هذا الذي يبخَث الناس بهذه الطريقة الخثيثة الخفية.

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3]، وكونه يستوفي لنفسه ويبخَث لغيره قد يكون الاستيفاء للنفس؛ يعني إذا أخذ الإنسان حقَّه وافيًا لا شيء فيه، لكن أن يكون حريص على أن يأخذ ما له وافيًا وأن يُعطي الناس ناقِصًا يصبح هنا حرصه على الوفاء لنفسه جريمة، يصبح جريمة إذا تلازم هذا أنه عندما يبيع للناس وزنًا أو كيلًا فإنه يُنقِصُهُم، كما جاء في قول النبي -صل الله عليه وسلم- «ومنعًا وهات»، فهذا مما كَرِهَ الله -تبارك وتعالى- أن يكون الإنسان منوع لكنه سَئُول، فكما تسأل وتُحِب أن يُعطيك الناس إذن لا تكُن مَنوعًا كذلك؛ لا تمنع، فهذا لا؛ مَنْع وهات، فالمَنوع دون أن يكون سائل للناس أقل شرًّا وأقل ضررًا من السَئُول الذي يُكثِر سؤال الناس ولكنه يمنع رِفدَه ويمنع خيرَه، وكذلك قد يكون المُطفِّف الذي يُنقِص الناس ولكنه كذلك لي عنده حِرص على أن يستَوفي ما له أقل شر وضرر من هذا الحريص الذي يستَوفي لنفسه عندما يُكال له أو يوزَن له؛ ولكنه هو عندما يكيل ويَزِن للناس فإنه يُنقِصُهُم، صفة سيئة والله -تبارك وتعالى- يُهدِّد بهذا التهديد في هذا العمل، وإذا كان العمل هذا قد ينظر إليه بعض الناس أنه من صغائر الذنوب لكن جاء فيه هذا التهديد وهذا الوعيد العظيم، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3]، وقد قال أهل العِلم إذا كان هذا الوعيد الشديد في مَن يصنع هذا الصنيع؛ فكيف بما يصنع ما هو أكبر منه من استيلائه على أموال الناس، وغصبه أموال الناس بالباطل؟ لا شك أن الوعيد في هذا أكبر من هذا، فإذا هدَّدَ الله -تبارك وتعالى- توعَّدَ فاعل هذا؛ فاعل التطفيف بهذا الوعيد الشديد، فكيف بما هو أكبر منه وأعلى منه؟.

قال -جل وعلا- {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}[المطففين:4] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[المطففين:5]، الظن اللي هو الرُّجحان، ألا يحسِبون حسابًا ويظنون ظن أنهم سيوقَفوا أمام الله -تبارك وتعالى-؛ وأنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، يوم عظيم؛ يوم القيامة، وسمَّاه الله -تبارك وتعالى- عظيم لأن كل شيء فيه عظيم؛ من طوله، من شدته، من الحساب فيه، من المآل الذي سيئول الناس إليه، فهذا يوم عظيم جدًا يجب أن يُعظَّم وأن يُعمَل له ألف حساب لِما فيه من هذه الأهوال الشديدة ومن هذا الأمر العظيم؛ حيث يُحاسَب الإنسان على مثقال الذرَّة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، ومن طوله؛ خمسين الف سنة، ومن الأهوال التي فيه، {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}[المطففين:4]، بعد موتهم، {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[المطففين:5] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، يوم يقوم الناس من قبورهم؛ يقومون لرب العالمين، ليَحكُم بينهم -سبحانه وتعالى- ويفصل في كل أعمالهم، وتُعرَض عليه -سبحانه وتعالى- كل أعمالهم بما فيها خباياهم وما أخفوه، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10]، تُبلى؛ تُهتَك، حتى سريرة الإنسان التي كان يُسِرُّها ويُخفيها كلها تُهتَك في هذا اليوم؛ ويظهر كل شيء، ما في شيء سيخفى في هذا اليوم وإنما كله سيُنثَر، منثور هذا الصندوق المُغلَق؛ الصدر، هذا الصندوق المُغلَق الذي أغلَقَه الإنسان وقد يُغلِقَه على ما يُغلِقَه من الأسرار التي لم يطَّلِع عليها أحد؛ يوم القيامة يُفتَح ويُنثَر ما فيه، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9]، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6].

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا}، كلا؛ كلمة زجر عن هذا العمل وعن كل عمل يعمَلَه الإنسان يكون عمل سيئ سيُحاسَب عليه بين يدي ربه -سبحانه وتعالى-، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}[المطففين:7]، كتاب الفُجَّار المُسجَّل فيه أسماؤهم لَفي سِجِّين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}[المطففين:8]، قيل سِجِّين هو أسفل هذا الكون؛ محِل النار -عياذًا بالله-، الجنة في العلوا؛ الجنة تحت عرش الرحمن -سبحانه وتعالى- في السماوات، والنار في الأرض السُفلى؛ في أسفل هذا الوجود الذي خلَقَه الله -تبارك تعالى-، وسُمِّيَ سِجِّين بالمبالغة في السجن لأنه سجن لا مثله قط؛ فإن مَن دخَلَه أُغلِقَ عليه، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، لا تُفتَح؛ لا يستطيع الناس أن يفتحوها، ولا تُحطَّم، ولا يُعتلَى أسوارها، ولا يُخرَج منها، فهذا كتابهم مرقوم في سِجِّين، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ ........}[المطففين:7]، فاعلوا الفجور؛ والفجور هو الإثم والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، وأعظم الفجور الكفر، والتسلُّط على أموال الناس، وأخذ أموال الناس بالباطل هذا من الفجور، {لَفِي سِجِّينٍ}، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}[المطففين:8]، ما أدراك؛ أسلوب تفخيم، وتعظيم، وتهويل لهذا الأمر، أن ما أدراك ما سِجِّين يعني مهما بلَغَ التصوُّر والخيال في هذا السجن العظيم فإنه لن يبلُغ حقيقة ما هو عليه الأمر، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}[المطففين:8].

ثم قال -جل وعلا- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}[المطففين:9]، الرَّقْم؛ الكتابة، يعني أنه كتاب مكتوب ومُسجَّل فيه أسماء هؤلاء وأعمالهم، {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}[المطففين:9]، ثم قال -جل وعلا- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[المطففين:10]، ويل؛ كلمة تهديد، يُهدِّد الله -تبارك وتعالى-، يومئذٍ؛ في هذا اليوم، يعني العذاب والهلاك في هذا اليوم، للمُكذِّبين؛ للمُكذِّبين بيوم القيامة، للمُكذِّبين بهذا البعث، للمُكذِّبين بيوم يقوم الناس لرب العالمين، للمُكذِّبين بهذه الدار؛ بسِجِّين، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[المطففين:10] {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المطففين:11]، وقيل لهم أنهم مُكذِّبون لأنهم جائهم الصدق فكذِّبوه، هذا الكلام صدق عن الله -تبارك وتعالى-؛ إخبار الله -تبارك وتعالى- عن يوم القيامة، وعن غيبه، هذا كله صدق من الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، هؤلاء الكفار لمَّا جائهم هذا الكلام كذَّبوه؛ قالوا هذا كذب، فكذِّبوا الصدق فهم مُكذِّبون، {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المطففين:11]، يقولون عن يوم الدين بأنه كذب؛ والحال أنه حق لا شك فيه، وأنه آتٍ لا ريب فيه، قال -جل وعلا- {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[المطففين:12]، لا يُكذِّب بيوم الدين إلا كل مُعتدٍ؛ مُعتدٍ على حدود الله، وعلى حق الله، وعلى أمر الله -تبارك وتعالى-، هذا عدوان؛ فكل خروج عن طاعة الله عدوان على أمره -سبحانه وتعالى-، أثيم؛ فاعل الإثم، هذا الوصْف هو اللائق بهذا؛ كل مَن يُكذِّب بيوم الدين هذا هو المُعتدي، الأثيم؛ الذي يُريد أن يفعل الإثم، لا يُريد أن يسير حيث أراد الله -تبارك وتعالى- له أن يسير في الصراط المستقيم، فهو فاعل الإثم؛ مُعتدٍ على أوامر الله -تبارك وتعالى-.

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[المطففين:13]، وهذا أكبر عدوان، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ........}[المطففين:13]، آياتُنا هذه المتلوَّة التي تأتي من الله -تبارك وتعالى-، قال؛ أي هذا الأفَّاك، الأثيم، المُعتدي، {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، قال هذه أساطير، أساطير جمع أسطورة، الأولين؛ الذين سبقوا النبي محمد، يقول أن هذا أمر قد سطَّرَه وكتَبَه، أساطير؛ خُرافات، وقصص، وحكايات سطَّرَها الأولون الذي قبله وقد جائت إلى النبي، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، اكتتبها النبي، فهذا من افتراء الكذب، يعني أنه يفتري الكذب وإن كان يعلم أنه كاذب لكنه يُصدِّق نفسه، كانوا يُصدِّقون أنفسهم في النهاية وهم يعلمون أنهم هم الذي يفترون هذا الكذب، وهذا أمر لا يمكن لعقل أن يقبل بأن يكون هذا القرآن المجيد؛ المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد الصادق الأمين، أن يكون افتراء افتراه؛ وأن يكون هذه أساطير سطَّرَها الأولين، القصص والحكايات التي سطَّرَها الأولون معلومة؛ أين هذا من هذا الكتاب الهادي إلى طريق الحق والصواب؟ قال؛ أي هذا الأفَّاك، الأثيم، المُعتدي، قال على القرآن أساطير الأولين.

ثم قال -جل وعلا- مُبيِّنًا السبب في كذبهم هذا وفي عمايتهم عن الحق فقال {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14]، كلا؛ زجر لمقالتهم هذه البعيدة في الإثم، بل؛ الحقيقة، {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الرَّين اللي هو الغطاء والتغطية، يعني ما يأتي من غشاوة ومن غطاء يُغطِّي على القلب، ران على قلوبهم؛ غطَّاها وغلَّفَها، {........ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14]، يعني الإثم الذي اكتسبوه بهذا التكذيب وبفعل المعاصي التي عصوها فإنها سوَّدَت قلوبهم وغلَّفَتها؛ فإذن لا ينفُذ الهُدى إليها، لا يمكن للهُدى بعد ذلك أن ينفُذ إلى هذا القلب الذي غطَّته؛ وغشَّته، وران عليه هذا الرَّين وهذا السواد الذي تسوَّدَ به هذا القلب، كل معصية لها أثر كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- «تُعرَض الفِتَن على القلب كما يُعرَض الحصير عودًا عودًا، فأيُّما قلبٍ أنكرها»، أنكر الفتنة، «نكتت فيه نُكتةً بيضاء، وكل عبدٍ شَرِبَها»، أخذ الفتنة وفُتِن؛ فُتِن بمعصية، جهات الفتنة كثيرة فهي اختبارات وابتلاءات، أُشرِبَها؛ أُشرِبَ هذه الفتنة، «نكتت فيه نُكتةً سوداء حتى تصير القلوب إلى قلبين؛ قلب أبيض لا تضرُّه فتنة مادامت السماوات والأرض، وقلب أسود مُربادًا؛ كالكوز مُجخِّيًا»، مثل الكوز الذي يُشعَل عليه النار حتى يسوَد بعد ذلك من النار التي سوادها يعلَق بالإناء من كثرة الوقود تحتَه، المقصود بالوقود الحطب وما له من دخان، «لا يُنكِر مُنكَرًا ولا يعرف معروفًا»، فهذه الفِتَن وكذلك المعاصي لها أثر أسود يُسوِّدَ القلب، فهؤلاء بكثرة معاصيهم وكثرة خروجهم عن طاعة الله -تبارك وتعالى- ران على قلوبهم، جاء هذا الرَّين وهذا السواد فغطَّى قلوبهم؛ فأنَّى لهم أن تُشرِقَ قلوبهم نور هذا القرآن؟ ما يدخل هذا النور إلى هذه القلوب التي أظلمت بهذه المعاصي، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14]، الذي كانوا يكسِبونَه؛ أثر معاصيهم وكفرهم بالله.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، هذه عقوبة من نفس المعصية، إنهم؛ إن هؤلاء الذين اسودَّت وجوههم بفعل معاصيهم فلم يدخل الهُدى إليهم، يوم القيامة عن ربهم لمحجوبون، كما حُجِبوا هنا في هذه الدنيا عن آياته المتلوَّة؛ وعن طريقه، وعن النور الذي أنزله، فإنهم يوم القيامة يحجُبَهم الله -تبارك وتعالى- عنه يوم القيامة، إنهم لمحجوبون؛ يُحجَبون عن رحمته، يُحجَبون عن رؤيته -سبحانه وتعالى-؛ لا يمكن أن يرَوه، ولا يمكن أن تنالهم رحمته -سبحانه وتعالى-، فيُحجَبون عنه ويُخلِّيهم الله -تبارك وتعالى-، لمَحجوبون؛ فلا يرحمه الله –تبارك وتعالى-، ويُخلِّيهم، ويتركهم، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {........ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[الجاثية:34]، فإنهم يُترَكون ويُحجَبون عن رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ وعن النظر إلى الله -تبارك وتعالى-، وأما أهل الإيمان فلأنهم أشرَقَ في قلوبهم نور هذا الوحي؛ وقَبِلوا نور الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا، فإن نورهم يُعظِمَه الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة؛ وكذلك لا يُحجَبون عن ربهم -سبحانه وتعالى- بل يرَون ربهم -جل وعلا-، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23]، وقال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إنكم ستَرَون ربَّكم كما ترَون الشمس ليس دونها سحابٌ أو حجاب؛ وكما ترَون القمر ليلة التِّم»، ليلة تمام القمر اللي هي ليلة أربعة عشر، «ليس دونه سحابٌ أو حجاب، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، فبيَّن أن الطاعة، وعبادة الرب -تبارك وتعالى-، وإشراق القلب بالصلاة، الصلاة نور وخاصة في هذه الصلوات الشريفات؛ صلاة الصبح وصلاة العصر، أشرف صلاتين وأعلاهما؛ أعلى صلاتين، فإن هذه بعد الليل وهذه في المساء؛ العصر في وقت الأصيل، «فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، فهؤلاء أعظم الناس حظًّا برؤية ربهم -سبحانه وتعالى- أما الكافر فإنه محجوب عن ربه، الكافر محجوب عن ربه -سبحانه وتعالى-؛ عن رؤيته في القيامة، وعن رحمته -جل وعلا- {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15].

{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ}[المطففين:16]، ثم؛ زيادة على هذا وإضافة على هذا عن حجابهم عن ربهم -سبحانه وتعالى- وعن رحمته، {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ}[المطففين:16]، صالوه؛ قاسوه وقاسوا حرِّه، يعني أنهم مُحتِرقون فيه، الجحيم؛ النار العظيمة، النار العظيمة هي السجن الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المُكذِّبين، {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[المطففين:17]، ثم بعد ذلك يُقال لهم؛ تقول لهم الملائكة، هذا؛ يعني هذا الجحيم هو الذي كنتم به تُكذِّبون أيها المُكذِّبون، وهذا لتبكيتهم؛ وتقريعهم، وتأنيبهم، {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[المطففين:17]، هذه صفحة هؤلاء الذي جاء فيها وعيدهم؛ صفحة هؤلاء الفُجَّار، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}[المطففين:7].

ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن الصفحة الأخرى؛ صفحة أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}[المطففين:18]، كلا؛ زجر كذلك لِما سبق من أقوال الكفار، {........ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}[المطففين:18]، كتابهم الذي كُتِبوا فيه، الأبرار؛ فاعلوا البِر، لفي عليِّين؛ السماء العليا، تحت عرش الله -تبارك وتعالى- الجنة، فالجنة في العلوا والنار في السُّفُل، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}[المطففين:19]، لتفخيم هذا الأمر؛ وتعظيمه، وتكبيره، أنه أمر فخم عظيم؛ هذه جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، زخَرَها الله -تبارك وتعالى- بما يعلم العباد مثيله وبما لا يعلمون مثيله؛ وإن كان ليس في الجنة مما ذُكِرَ لنا إلا الأسماء، فهذا أمرٌ عالٍ جدًا ومُلْكٌ عظيم مهما سرح الخيال وسرح العقل في تصوُّرِه وفي تخيُّله فإن الأمر أكبر من هذا، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}[المطففين:19].

ثم قال -جل وعلا- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}[المطففين:20]، كتاب مرقوم؛ مكتوب، أنه مرقوم؛ مكتوب بأسماء أهل الجنة، وقد جاء في الحديث أن النبي -صل الله عليه وسلم- «خرج قبل موته -صل الله عليه وسلم- بكتابين في يده وقال هذه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم، والكتاب الأخر قال في هذا أسماء أهل النار وأسماء آبائهم»، مكتوب فيها كل شيء، فَرَغَ الله -تبارك وتعالى- من الناس؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد حَكَم بمَن يدخل الجنة ومَن يدخل النار، وهذا أمر مفروغ منه ومُنتهى منه، قال -جل وعلا- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}[المطففين:20]، مرقوم؛ مكتوب، ثم قال -جل وعلا- {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين:21]، يشهَدُهُ المُقرَّبون من الله -تبارك وتعالى-، فإنما أهل الجنة إنما هم درجات كذلك، المُقرَّبون اللي هم السابقون ومَن دونهم من الأبرار وعموم المؤمنين، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين:21]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[المطففين:22]، الأبرار؛ فاعلوا البِر، كل فاعلوا البِر  من أهل الإيمان سُمُّوا أبرار لأنهم فعلوا البِر؛ والبِر هو كل خِصال الخير، لفي نعيم؛ الجنة، يُتنعَّم بكل شيء فيها؛ بثمارها، وظِلالها، وأنهارها، ونسائها، ولِباسها، وطعامها، وشرابها، ومناظرها البديعة، وما زخَرَ الله -تبارك وتعالى- فيها من الأثاث البديع؛ زرابي مبثوثة، أكواب مصفوفة، الجنة غادة حسناء؛ وعينٌ مُطَّرِدة، وشجرة مُثمِرَة، وفرحٌ دائم، وسرور دائم لا ينتهي ولا يتحوَّل؛ فهذا النعيم.

{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[المطففين:22] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين:23]، أرائك جمع أريكة؛ والأريكة هي الكرسي المُمتَد الذي يجلس عليه أكثر من واحد، {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين:23]، ينظرون هنا دون ذِكر ما ينظرون إليه، ينظرون ما ينظرون؛ ينظرون مُلكَهم، فالمؤمن يرى آخر مُلكِه كما يرى أوَلَه، ليس كما نحن في الدنيا للنظر حَد ينتهي إليه؛ وإذا أراد الإنسان ما بعد هذا النظر لابد أن يسير إليه، ثم إذا أراد حدًّا أخر لابد أن يسير إليه، ثم له حَد يسير إليه... لا، في الجنة الإنسان يرى آخر مُلْكِه كما يرى أوَلَه؛ وهذا من جميل الاستمتاع، فينظرون إلى مُلكِهِم، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، فينظرون إلى قصورهم؛ إلى دورهم، إلى خيامهم، إلى زوجاتهم، كذلك إلى أصدقائهم، إلى ما زخَرَ الله -تبارك وتعالى- به هذه الجنة العظيمة مما زخَرَه الله -تبارك وتعالى- فيها، {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين:23]، وكذلك ينظرون بعضهم بعض عندما يجلسون في هذه الأرائك وهم صَحب؛ وأصدقاء، وأحباب، {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.

قال -جل وعلا- {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}[المطففين:24]، تعرف في وجوههم؛ في وجوه هؤلاء المُنعَّمين اللي هم الأبرار، نضرة النعيم؛ نضرته اللي هي زهوَتَه وإشراقته، فالإشراقة؛ والبهاء، والثناء الذي في وجههم تعلم أنه من النعيم، فالإنسان إذا كان مُنعَّمًا فإنه يُشرِق وجهه بالبِشْر والسرور؛ وكان وجهه يبرُق فيه الضوء والسرور، فنضرة النعيم؛ النعيم الذي هم فيه من الطعام، والشراب، والزوجات، والأصدقاء، والأثاث، والخِلَّان، والقصور، كل هذا النعيم يملأ وجوههم بِشرًا، وحبورًا، وسرورًا، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}[المطففين:24] {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}[المطففين:25]، هذا خمرهم، {........ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}[المطففين:25]، يعني أنهم تأتيهم الخمر المختومة؛ التي خُتِمَ عليها، مُلِئَت زِنان الخمر في الجنة وخُتِمَ عليها فهم الذين يفتحونها، {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ}[المطففين:25] {خِتَامُهُ مِسْكٌ}، الخِتم الذي على أواني الخمر من المِسك رائحةً، {........ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26]، وفي ذلك؛ في الوصول إلى هذا النعيم، في الجلوس إلى مجالس أهل الجنة؛ مجالس شُربِهم وخمرهم على هذا النحو، التي هي ليست كخمر الدنيا إذا أكثر الإنسان منها نزف؛ وإذا شرب منها قلَّت... لا، فالله يقول وفي ذلك يعني في الوصول إلى هذا {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، والتنافُس؛ المسارَعَة، المُسارعَة هي أن يبدأ كل إنسان بنفسه وأن يُحاوِل أن يكون أسبَقَ من غيره في هذا فإن هذا هو مجال التنافُس؛ مجال الرَّكض إلى الله -تبارك وتعالى- والسعي إلى هذا المُلْك العظيم، {........ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26]، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهل ذلك.

نقِف هنا ونُكمِل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.