الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1] {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}[البروج:2] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3] {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4] {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6] {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}[البروج:7] {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:8] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[البروج:9]، هذه سورة البروج، يبدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا القَسَم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1] {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}[البروج:2] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3]، والمُقسَم عليه {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4]، حُكْم الله -تبارك وتعالى- على أصحاب الأخدود بالقتل واللعنة، {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6].
قول الله -تبارك وتعالى- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالسماء ذات؛ يعني صاحبة، البروج؛ البُرج هو المبنى العظيم، الشاهق، الكبير، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، يعني في حصون عالية يظُن الإنسان أنها بعيدة عن أسباب الموت، فالسماء ذات البروج؛ هذه النجوم العظيمة التي تقوم فيها بهذا البناء الشامخ العظيم، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذه السماء؛ وقَسَمه بالسماء وبروجها تعظيم له -سبحانه وتعالى-، فإن هذا الخلْق خلْقٌ عظيم والذي خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، وخالق العظيم عظيم؛ وهو أعظم منه -سبحانه وتعالى-، فالذي خلَقَ هذه السماء العظيمة وجعل فيها هذه البروج؛ أي هذه الكواكب النيِّرات، العالية، المُرتفِعَة، الشاهقة، هو الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}[البروج:2]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- باليوم الموعود وهو يوم القيامة الذي وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- عباده فيه؛ وأنه لابد كائنٌ لا محالة، ووَعَدَهم؛ وَعَدَ أهل الجنة بالجنة ودخولها في هذا اليوم، ووَعَدَ أهل النار بالنار ودخولها في هذا اليوم، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- باليوم الموعود، وإقسام الله بهذا اليوم أولًا هذا تعظيم له لأن هذا يوم عظيم، ثم تأكيد له بأنه يوم قائم؛ وهو موعود وآتٍ لا محالة.
ثم قال -جل وعلا- {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3]، شاهِد هنا جاء على التنكير ومشهود على التنكير؛ وهذا قد يصدُق على كل شاهِدٍ وكل مشهود، فمن الشاهِد كل رسول يشهد على قومه، ومن المشهود هذا الجمع العظيم؛ جمع يوم القيامة، كما قال -تبارك وتعالى- في هذا اليوم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}، قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103]، يشهَدُه الأولون والآخرون؛ كل الأولين والآخرين يُجمَعون في مقام واحد فيشَهَدون هذا اليومن فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بكل شاهِد ومشهود، كذلك يوم عرفة يوم مشهود؛ يوم يجمع الله -تبارك وتعالى- فيه مَن يجتمِعون في هذا اليوم، والله -تبارك وتعالى- يُباهي بأهل عرفة ملائكته -سبحانه وتعالى-، يقول «انظروا عبادي هؤلاء؛ قد جائوا شُعسًا، غُبرًا، ضاحين، أُشهِدكم بأني قد غفرت لهم»، فيُشهِدهم الله -تبارك وتعالى- فيكونوا شهداء؛ الملائكة شُهداء في هذا اليوم، وشُهداء على أن الله -تبارك وتعالى- غفَرَ لأهل الموقِف، فيدخل فيه هذا وهذا؛ كل ما هو داخِل في معنى الشاهِد والمشهود يُقسِم به الله -تبارك وتعالى-، {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3].
ثم قال -جل وعلا- {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4]، هذا دعاء وهو هنا من الله -تبارك وتعالى- حُكْم منه -سبحانه وتعالى- بالقتل واللعنة على أصحاب الأُخدود؛ والأُخدود هو الشَّق الذي يكون في الأرض، وأصحاب الأُخدود قد جاء في صحيح مُسلِم بإسناد مُسلِم -رَحِمَه الله- إلى صُهَيب -رضي الله تعالى عنه-؛ وقد رواه الإمام أحمد كذلك، ورواه الإمام الترمذي، حديث عبد الله ابن السَّامر وجاء أيضًا في سيرة ابن هشام، وقصَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- على أصحابه أن قد كان مَلِك من ملوك اليمن؛ يبدوا أنه قد كان في نجران، وكان له ساحر على عادة الملوك الذي كانوا يستعينون بالسَّحَرة في تدبير أمور ممالِكهم، ولمَّا كبِرَ هذا الساحر قال للملِك إني قد كَبِرَ سِنِّي فانظر لي غلامًا ذكيًا أُعلِّمه السحر قبل أن أموت، فأُوتيَ له بغلام من أذكى الغِلمان، جاء في سيرة ابن هشام من رواية ابن إسحاق أن هذا عبد الله ابن السَّامِر؛ يُقال له عبد الله ابن السَّامِر، وبدأ هذا الغلام يتردد بين أهله وبين الساحر كل يوم يتعلَّم السحر من الساحر؛ والساحر من جلساء الملِك، وكان في مروره بين أهله وبين الساحر يمُر على راهب مُعتزِل الناس في هذه البراري؛ راهب من رُهبان النصارى، فجاء يومًا فاطَّلَعَ عليه في صومعته فأعجَبَه حاله، فدلَفَ إليه فعلَّمَه الدين، أخذ منه الدين؛ أخذ منه النصرانية، ثم كان إذا ذهب إلى الساحر يقول له ما الذي حَبَسَك؟ لِماذا تأخَّرت؟ فلا يستطيع أن يخبره فيضربه، ثم إذا رجع كذلك يمُر في رجوعه من الساحر إلى أهله على الراهب فيمكُث عنده، فيسأله أهله لِماذا تأخَّرت؟ فلا يخبرهم فيضربونَه، فشكى إلى الراهب أن أهله يضرِبونَه وأن الساحر يضربه إذا تأخَّرَ عنده، فقال له إذا ذهبت إلى الساحر فقُل حبَسَني أهلي، يعني إذا سألك ما الذي حبَسَك؟ قُل حبَسَني أهلي؛ يعني حتى لا يدُل على الراهب، وإذا ذهبت إلى أهلك وقالوا لك ما الذي حبَسَك؟ فقُل حبَسَني الساحر.
يخبر النبي -صل الله عليه وسلم- في سياق الحديث «بينما عبد الله ابن السَّامِر يومًا في الطريق إذ وجَدَ دابة عظيمة قد حبَسَت الناس»، يبدوا أن وحش أو نحو ذلك أو ثُعبان عظيم حبَسَ الناس وقطَعَ طريقهم فلا يستطيعون أن يعبروا، فقال في نفسه اليوم أعلم أي الشأن عند الله -تبارك وتعالى-؛ يعني الساحر أم الراهب عند الله -تبارك وتعالى-، فأخذ حصاة؛ أخذ حجرًا، ثم قال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ثم ضرب الدابة هذه بهذا الحجر فماتت؛ فجاز الناس بعد ذلك، ثم أتى الراهب فأخبره خبره وأنه وقع له كذا وكذا، فقال له أي بُنَي إنك اليوم أفضل مِنِّي، طبعًا هذي كرامة له من الله -تبارك وتعالى- كونه غلام؛ ويأخذ حجر، ويقتل دابة عظيمة حبَسَت الناس؛ الناس لا يستطيعون أن يجوزوا رُعبًا وخوفًا منها، كونه يضربها بحجر في يده ويقتُلها هذا أمر خارقٌ للعادة، فقال له أي بُنَي إنك اليوم خيرٌ مِنِّي؛ وإن ستُبتلى، فإذا ابتُليت فلا تدُل علي، قال له إذا اختُبِرت وابتُليت؛ يعني جائك اختبار، لا تدُل علي؛ لا تخبر أحد أني أنا الذي علَّمتُك الدين، فكان هذا الولد أجرى الله -تبارك وتعالى- على يديه كرامات عظيمة؛ كان يُبرئ الأكمَه والأبرَص، الأكمَه؛ الأعمى، ويشفي من البَرَص والمشلول، فكان للملِك جليس أعمى فقال لهذا الغلام تسامَعت أنك تشفي من العمى، أتى له بهدايا عظيمة وقال له كل هذه الهدايا لك إن أنت رددت إليَّ بصري، فقال له أنا لا أرُدُّ بصرًا وإنما يرُدُّه الله -تبارك وتعالى-، إن آمنت بالله دعوت الله -تبارك وتعالى- فرَدَّ عليك بصرك، فآمن ومسَحَ على عينيه فشفاه الله -تبارك وتعالى- ورجع مُبصِرًا.
ثم رجع ليجلس في مجلس المَلِك وقد رُدَّ عليه بصَرَه، فقال الملِك يا فلان مَن الذي رَدَّ عليك بصرك؟ فقال له ربِّي، قال له أنا؟ وذلك أنه كان يدَّعي الربوبية، قال له ربي وربُّك الله، يعني أنه لست أنت الإله إنما الله -سبحانه وتعالى-، قال له ألَكَ إلهٌ غيري؟ فأُخِذ؛ وضُرِب، وعُذِّب ليدُل على مَن ردَّ عليه بصَرَه فتحت التعذيب دلَّ على عبد الله ابن السَّامِر؛ دلَّ على الغلام، فأُخِذَ الغلام فعُذِّب كذلك وهو في التعذيب دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب وقيل له ارجع عن دينك وإلا قتلناك، فلم يرجِع عن دينه فشُقَّ له في الأرض ووضِعَ المنشار على رأسه فنُشِرَ حتى وقع فلقتين، ثم جيء بالأعمى وقيل له ارجع عن دينك هذا وآمن؛ يعني آمن بربهم اللي هو الملِك، وإلا قتلناك فلم يرجِع، فأوتيَ كذلك بالمنشار فوضِعَ على رأسه فنُشِر حتى وقَعَ فلقتين، ثم جيء بالغلام فهُدِّد بالرجوع عن دينه، وجاء الملِك من حِرصه عليه فإنه لا يُريد أن يقتله لأنه هو الذي تعلَّم السحر ويُريد أن يستمكِنَه، قال هذا الملِك للغلام أبلَغت من السحر أن تشفي من العمى ومن البرَص؟ قال له ليس سِحرًا وإنما يشفي الله -تبارك وتعالى-، فقال له ألَكَ إلهٌ غيري؟ فقال له ربي وربك الله، ثم قال لجماعة عنده من جنوده؛ قال لهم اذهبوا به إلى جبل عالٍ، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه منه، فلمَّا أخذوه وصعدوا به إلى الجبل دعى الله -تبارك وتعالى- فقال اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجَفَ بهم الجبل فوقعوا فقُتِلوا، أما هو فأنجاه الله -تبارك وتعالى- ورجَعَ بقدميه إلى الملِك، فلمَّا رجَعَ مرة ثانية قال المَلِك لجماعة أُخرى من جماعته ومن جنوده خذوه في قُرقور، قُرقُور؛ قارب صغير، ولجِّجوا به، لجِّجوا به يعني اذهبوا به للُجَّة البحر، فإن رجَعَ عن دينه وإلا فألقوه في البحر وارجِعوا، فلمَّا ركَبوا ودخلوا في لُجَّة البحر قال عبد الله اللهم أكفنيهم بما شئت؛ دعى عليهم، فرجَفَ بهم البحر وزلزلهم فوقعوا فيه، أما هو فإن الله -تبارك وتعالى- أنجاه، جعل له وسيلة؛ خشبة، ركِبَها حتى صعَدَ إلى البَر.
ثم لمَّا جاء ورجَعَ إلى البَر رجَعَ إلى الملِك مرة ثانية، ثم قال للملِك إنك لن تُسلَّط علي إلا إذا فعلت ما آمرك به، قال له وما هو؟ قال له تصرِمُني على جِذع، ثم تأخذ سهمًا من كِنانتك، الكِنانة اللي هي جراب السِّهام، وتقول بسم الله رب هذا الغلام وتضرِبُني؛ فإنك إن فعلت هذا قتلتَني، ففرِحَ الملِك بذلك، قال عبد الله ابن السَّامِر تجمع الناس كلهم في صعيد واحد وتفعل هذا أمام الناس، فجمَعَ الناس جميعًا في صعيد واحد ثم أوتيَ بعبد الله فنصَبَه؛ يعني صُلِب على جَذع، ثم أعطاه سهمًا؛ أخذ الملِك سهمًا من كِنانته، ثم وضَعَ السهم في كبد القوس وقال بسم الله رب هذا الغلام أمام هذا الجمع العظيم؛ وضربه فوقع السهم في صُدغِه، فوضع يده على صُدغِه ومات وهو على هذا الحال، فكل مَن كانوا في هذا الموقِف قالوا آمنَّا برب هذا الغلام، فقيل للملِك عند ذلك قد وقع بك حَذَرُك، قالوا ما كُنت تحذَر منه وهو أن يؤمن الناس قد وقع؛ لقد آمن الناس، فعند ذلك أمَرَ بالأخاديد أن تُسَق في أفواه الطُرُق؛ يعني على رأس كل طريق يُشَق أُخدود، وأن توضَع فيها النيران؛ تُملأ نيرانًا، وأن يؤتي بالناس وأن مَن لم يرجِع عن دينه أقحَموه في النار، فكان الناس يتسابقون إلى الوقوع في النار، وجاء في حديث أخر «أن امرأةً من هؤلاء الذي كانوا يُقحَمون في النار أتت وصغيرها على يدها فأحجَمَت»، يعني عندما جائت لتُلقى في النار أحجَمَت لصغيرها، «فأنطَقَ الله -تبارك وتعالى- الغلام وقال يا أُماه إنكي على الحق فأقبِلي، فألقَت بنفسها في النار».
فهؤلاء هم أصحاب الأُخدود، وهذا الملِك الطاغية، وزبانيته، ومَن معه على الكفر؛ هؤلاء الذي جاء فيهم قول الله -تبارك وتعالى- {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4]، أي لُعِنوا؛ لعنَهم الله -تبارك وتعالى- وقتلَهم بفعلهم هذا الشنيع في عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4] {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6]، {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5]، وقود النار من الحطب وغيره، يبدوا أنهم حفروا هذه الأخاديد ووضعوا فيها وقودهم وأشعلوا فيه النار، وكذلك وضعوا وقودًا إضافيًا كلما خَبَت هذه النار ألقوا فيها من هذا الوقود، {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5]، المُشتعِلَة، {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6]، إذ هم؛ اذكر إذ هم هؤلاء المجرمون، عليها؛ على النار، قعود؛ يعني مُصطَفُّون بكراسيهم قعود لينظروا إلى تعذيب المؤمنين ويتلذَّذوا بهذا، ويتمتَّعوا برؤية أجساد المؤمنين صغارهم وكبارهم وهو تُشوى في النار، {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6]، قال -جل وعلا- {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}[البروج:7]، وهم؛ هؤلاء المجرمون، {........ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}[البروج:7]، يعني شاهِدين؛ حاضرين، ينظرون هذا بأعيُنهِم، يعني إجرامهم ليس فقط أمرهم بقتل هؤلاء المؤمنين؛ وأنهم كانوا بعيدًا عنه، وأنه كان يتوَلَّى تعذيب المؤمنين طائفة أُخرى بالسر في دهاليز مُظلِمَة أو في سجون بعيدة عن الأعيُن... لا؛ وإنما كان الملِك، وحاشيته، وهؤلاء المجرمون يستمتِعون بهذا؛ ويتلذَّذون بهذا، ويجلسون وهم يُشاهِدون هذا المنظر أمامهم ولا ترِف لهم عين؛ ولا تدمَع لهم عين، ولا يرِف لهم جِفن، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}[البروج:7].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:8]، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ}، هذه النِّقمَة يعني عاقبوا هؤلاء المؤمنين هذه العقوبة الشديدة، إلا أن هؤلاء المؤمنين قد آمنوا بالله العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الحميد؛ المحمود لصفاته، وأفعاله، وإفضاله، وإنعامه -سبحانه وتعالى-، فهل الإيمان بالله العزيز الحميد جريمة؟ يعني لا جريمة لهم إلا ذلك، يعني لا جريمة لهؤلاء المؤمنين عوقِبوا عليها هذه العقوبة؛ وحُرِّقوا بالنار هذا التحريق، إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، فإنهم كذلك لم يرفعوا عصً؛ ولم يقوموا في وجه هؤلاء الكفار، ولم يصنعوا لهم شيئًا مما يضرُّهم، فقط لأنهم آمنوا بالله -تبارك وتعالى- فإنهم انتقموا منهم وعاقبوهم هذه العقوبة، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:8] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[البروج:9]، يعني إيمانهم بالله العزيز الحميد الموصوف بأنه له مُلك السماوات والأرض، فمُلك السماوات والأرض كلها لله؛ فإن الله -تبارك وتعالى- هو موجِدُها، وهو خالِقُها، وهو المُتصرِّف بها -سبحانه وتعالى-، وهل هذه جريمة؟ هذا أمر تفرِضَه الضرورة أن يؤمَن بالله الذي هذه صفته -سبحانه وتعالى-؛ العزيز، الحميد، الذي له مُلك السماوات والأرض، كل مَن له عقل وله لُب يجب أن يؤمن بالله -تبارك وتعالى- الذي هذه صفته -سبحانه وتعالى-؛ وأنه لا إله إلا هو، وأن يكفر بما عداه من الطواغيت، وهذا المجرم الذي عبَّدَ الناس ويقول للناس أنا إلهكم طاغوت ليس له من الأمر شيء؛ فيكف يؤمَن به؟ بأنه إله ويُترَك الرب الإله الذي لا إله إلا هو الله العزيز الحميد؛ الذي له مُلك السماوات والأرض، قال -جل وعلا- {........ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[البروج:9]، والله -سبحانه وتعالى- الذي عُوقِبَ فيه هؤلاء المؤمنون هذه العقوبة الشديدة هو على كل شيء شهيد؛ هو مُشاهِد لكل شيء، لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى-، وفي هذا تسلية لأهل الإيمان بأنه مهما وقعَت عليهم عقوبة فإن الله شاهِدُها؛ وإن الله عالِمُها -سبحانه وتعالى-، وأنه لا يغيب عن عِلمِه شيء -سبحانه وتعالى-، وكذلك هو بيان لأهل الكفران؛ لأهل هذا الإجرام، أنهم لن يُفلِتوا من الله -تبارك وتعالى-؛ وأن الله مُطَّلِعٌ وشاهِدٌ على إجرامهم، وعلى كفرهم، وعلى عنادهم، وعلى تحريقهم للمؤمنين على هذا النحو، فالله -سبحانه وتعالى- على كل شيء شهيدز
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، انظر الجريمة الكبرى التي ارتكبها هؤلاء المجرمون من تعذيبهم عباد الله -تبارك وتعالى- بالنار؛ الذين لا جريمة لهم إلا الإيمان بالله، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يجعل فُسحَة ومجال لأن يعود هؤلاء المجرمون الذين حرَّقوا عباده المؤمنين؛ يجعل لهم فُسحة لأن يتوبوا وأن يرجِعوا عن فعلهتهم هذه، وأنه يقبَلَهم -سبحانه وتعالى-، والحال أنهم عند نظر الناظر في محل نِقمة؛ وأن هؤلاء لا مجال لأن يُفسَح لهم بعد ذلك في مغفرة الرب -تبارك وتعالى-، وفي سماحه، وفي أن يدخلوا ملكوته ومملكته مرة ثانية وجنته، لكن الله -تبارك وتعالى- قال {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، ومعنى فتَنوهم يعني وضعوهم في النار على هذا النحو، فالفتنة؛ الوضع في النار، كما يقول العرب ((فتَنتُ الذهب)) إذا وضعته في النار لصهره؛ ولإذهاب شوائبه، ولتنقية الذهب الخالص منه، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، يعني وضعوهم في النار وصهروهم على هذا النحو حرقًا في النار، قال -جل وعلا- {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}، إذن لهم مجال للتوبة، إذن مع هذا الكفر العظيم، والعناد العظيم، وحرقهم أولياء الله -تبارك وتعالى- وأنصاره، إلا أن الله -تبارك وتعالى- قد جعل لهم مجال للتوبة، هناك مجال للتوبة؛ أنهم يتوبوا لله -تبارك وتعالى-، {........ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، يعني أنهم إن بقوا على هذا الكفر والعناد إلى أن يموتوا فعند ذلهم لهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، ومفهوم هذا أنهم إن رجعوا عن هذا وإن كانوا قد فعلوا هذا الإجرام الذي لا إجرام أكبر منه؛ وإن كانوا فعلوا هذا لكنهم لو تابوا، ورجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- يمحوا عنهم هذه السيئات ويقبَلَهم -سبحانه وتعالى-، سبحان الرب الكريم العظيم -سبحانه وتعالى-.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، ولو قال الله -تبارك وتعالى- إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات فلهم عذاب جهم ولهم عذاب الحريق؛ لكان كل مَن عذَّبَ مؤمنًا، وفتَنَه عن دينه، وعذَّبَه مثل هذا العذاب، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبَلَه قط، لكن من إحسان الله -تبارك وتعالى- ومن رحمته أن جعل لكل مجرم مهما كان إجرامه؛ مادام هو في الحياة، وإذا عاد إلى الله -تبارك وتعالى-؛ ورجَعَ عن إجرامه، فإن الله -تبارك وتعالى- يقبَلَه،{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، عذاب جهنم؛ هذا السجن العظيم، الدار التي أعدَّها الله -تبارك وتعالى- للمجرمين، سجن مُقفَل قَفْل لا يُفتَح فيه، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، ثم سجن كل ما فيه نار -عياذًا بالله-؛ فأرضه نار، وجُدرانه نار، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ........}[الأعراف:41]، كل شيء فيه نار؛ فهي مُغطَّاة بالنار، مفروشة بالنار، جُدرانها نار -عياذًا بالله-، وأنهم باقون في هذا بقاءً سرمديًا لا انقطاع له، ،{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، عذاب الحرق المستمر بالنار، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، -عياذًا بالله-.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}[البروج:11]، هذا إنعام الله -تبارك وتعالى- وإفضاله -سبحانه وتعالى- لأهل طاعته، بالتأكيد {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ودائمًا ما يقرِن الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح لدخول الجنة، فما في دخول جنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وإذا ذُكِرَ الإيمان مع العمل الصالح انصرَفَ الإيمان إلى أعمال القلوب؛ وانصرَفَ العمل الصالح إلى أعمال الجوارح، فالإيمان أعمال القلوب فسَّرَه النبي فقال «أن تؤمن بالله؛ وملائكته، وكُتُبِه، ورُسُلِه، وتؤمن بالقَدَر خيره وشره من الله –تعالى-»، هذه أصول الإيمان وتحتها مسائل عظيمة من هذه المسائل في الإيمان بالله واليوم الآخر، وأما العمل الصالح فكل عمل أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به هو عمل صالح؛ من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبِر الوالدين، وصِدق الحديث، وصِلَة الأرحام، والإحسان إلى الجار، كل هذه من الأعمال الصالحة، فهؤلاء الذي آمنوا وعملوا الصالحات {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، الأعمال الصالحة التي صلاحُها لصلاح العبد نفسه في الدنيا؛ وصلاح أحوال الدنيا، وصلاح أحوال العبد يوم القيامة بأنه يُثاب عليها ويؤجَر عليها، قال -جل وعلا- {لَهُمْ جَنَّاتٌ}، بساتين، جمع جنة، الجنة؛ البستان الذي التفَّت أغصانه، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، تجري من تحتها؛ من تحت هذه الجنات ومن تحت هذه البساتين، الأنهار يعني مختلفة الأنواع، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:15]، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، تحت أشجارها وتحت قصورها.
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}، ذلك؛ بالإشارة إلى البعيد وهي هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار لأهل النعيم وجنة المؤمنين، الفوز الكبير؛ يعني أن مَن نالها فقد فاز الفوز الكبير الذي لا أكبر منه، والفوز؛ حصول المطلوب الأعظم، مطلوب الإنسان الأعظم؛ ما مطلوب الإنسان الأعظم لو جلس الإنسان يتمناه ويُريده؟ أفضل شيء ممكن الإنسان يتخيَّله ويُريده البقاء السرمَدي؛ بقاء لا انقطاع له في بستان عظيم، عنده كل ما يشتهي وكل ما يُريد؛ عنده أهله، وزوجاته، ودوره، وقصوره، وحبوره، وسروره، وأنه لا يُعالِج شيئًا من الأمور؛ لا يكدَح، ولا يعمل، ولا يشقى، ولا يكِد، ولا يتعَب، ولا يحمل همًّا، ولا يحمل غمًّا، ولا تأتيه آفة من الآفات؛ كمرض، أو تحوُّل، أو غم، أو هم، أو نكَد، كل هذا مُنتَفي، فلو جلس الإنسان يضع آماله فإن مُنتهى الآمال أن تكون هذه الجنة بهذه الأوصاف التي وصَفَها الله -تبارك وتعال- فيها، فإن ما وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين وَعَدَهم بجنة دائمة البقاء، جنة عَدن؛ مُستقِرة، فيها كل ما يشتهون؛ فيها قصورهم، ودورهم، وخيامهم، وفَرَحهم، ومَرَحهم، وأهلهم الصالحون معهم، وأصدقائهم، وحبورهم، وسرورهم الدائم، ولا يُنغِّص حياتهم هذه الباقية السرمدية أي مُنغِّص، فهذا الفوز الكبير؛ لا فوز أكبر من ذلك، وأما كل مطالب الدنيا فمهما بلَغَت المطالب للإنسان في هذه الدنيا فإنها لا يمكن أن تكون فوزًا كبيرًا، فإنه لو تمنَّى الإنسان ما يتمنَّاه مثلًا في الدنيا؛ من بُستان عظيم، وزوجة جميلة، ومركب فارِه، ومُتعة باقية وما يشتهيه، إلا أن هذه الدنيا كذلك مملوءة بالمُنغِّصات؛ أولا أنه سيتحوَّل عنها، سيموت ولابد، سيأتيه أمراض، سيكبَر ويشيخ، ستدخله هموم وغموم، سيخاف على بُستانه وجنته من اللصوص ومن العاديات، فلا يمكن أن تكون الدنيا فوزًا كبيرًا؛ أما الفوز الكبير إنما هو الجنة، فلذلك قال -سبحانه وتعالى- ذلك؛ هذا المُشار إليه في الجنات التي تجري من تحتها الإنهار، {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من أهل ذلك.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.