الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (775) - سورة الطارق 1-17

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}[الطارق:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}[الطارق:2] {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}[الطارق:3] {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4] {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق:5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}[الطارق:6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}[الطارق:7] {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}[الطارق:8] {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11] {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}[الطارق:12] {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}[الطارق:14] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15] {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[الطارق:16] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}[الطارق:17].

قول الله -تبارك وتعالى- {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}[الطارق:1]، قَسَم يُقسِم الله -تبارك وتعالى- فيه بالسماء وهي هذا البناء العظيم الذي بناه الله -تبارك وتعالى- ووسَّعَه؛ سبع سماوات، زيَّنَ السماء الدنيا بمصابيح وبروج عظيمة في السماء، وقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1]، فالله يُقسِم بالسماء وهذا خلْق عظيم من خلْق الله -تبارك وتعالى-؛ وقَسَمَه تعظيم لهذا الخلْق، وهو تعظيم لنفسه -سبحانه وتعالى- فإن الذي خلَقَ هذا الخلْق العظيم هو الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، والخالق أعظم من المخلوق، فالله -تبارك وتعالى- هو الرب العظيم ويُقسِم -تبارك وتعالى- بمخلوقاته هذه العظيمة تعظيمًا لنفسه -جل وعلا-، وبالطبع إن العباد لا يجوز أن يُقسِموا ويحلِفوا إلا بالله -تبارك وتعالى-؛ الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، ولا يجوز الحَلِف بمخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- مهما عَظُم، لأن لنا أن نُعظِّم الله -سبحانه وتعالى- وليس لِنُعظِّم المخلوق؛ الله هو الذي يُعظَّم -سبحانه وتعالى-، في حلِفِنا «مَن كان يحلِف فليحلِف بالله أو ليصمت، مَن حلَفَ بغير الله فقد كفر أو أشرك»، أما الرب -تبارك وتعالى- فإنه عندما يُقسِم بشيء من مخلوقاته فإنه يُعظِّم نفسه -سبحانه وتعالى-؛ فإقسامه بهذا الخلْق هو تعظيم لنفسه -سبحانه وتعالى-، وإن كان هذا أمر عظيم الذي يُقسِم الله به إلا أن المُراد تعظيم الخالق الذي خلَقَه -سبحانه وتعالى-.

{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}[الطارق:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالطارق، والطرق معروف؛ هو الضرب الذي له صوت، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- تعظيم شأن هذا الطارِق فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}[الطارق:2]، وما أدراك؛ كلمة تعظيم وتفخيم لهذا الطارِق، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}[الطارق:2]، تعظيم له وتفخيم له، أسلوب التهويل والتفخيم، {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}[الطارق:3]، فإقسامه -سبحانه وتعالى- هنا بالطارِق، ثم عرَّفَ -سبحانه وتعالى- هذا الطارِق فقال {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}[الطارق:3]، الثاقِب؛ الذي يَثقُب نوره الظلام، والنجم نراه وإن كان في بُعْد هائل من الأرض إلا أن ضوئه يثقُب الظلام ونراه، {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}[الطارق:3]، والنجم آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ وهو جزء من هذه السماء التي فوقنا، فإن الله -تبارك وتعالى- بنى السماء وزيَّنَها بهذه النجوم، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6] {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7] {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8]، لذلك قيل أن النجم الثاقِب هو الذي يخرج منه هذا الجزء المُلتَهِب ويثقُب الشياطين التي تسترِق السمْع؛ يركب بعضها بعضًا إلى السماء، كما قال -جل وعلا- {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10]، شِهابٌ ثاقِب يثقبه، أو ثاقِب يثقُب هذا الشهاب؛ يعني ضوئه يثقُب هذا الظلام ويُظهِرُه كما يظهر في الشُّهُب، فإن الشهاب عندما يصِل إلى طبقات الجو فإنه يشتعِل ونرى نوره الباهر وهو يثقُب الظُلمة ويتخلل داخلًا في جو الأرض، {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}[الطارق:3]، فهل يكون هذا الطارِق الذي أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- به هو ضوء النجم؛ وما يخرج من شهاب من هذا النجم إلى الشياطين فتقرَعُها وتحرِقُها، وبهذا حَفِظَ الله -تبارك وتعالى- خبر السماء من أن يناله ويأخذه هؤلاء الشياطين.

ثم قال -جل وعلا- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، هذا المُقسَم عليه، يعني أن الذي يُقسِم عليه ويؤكِّده الله -تبارك وتعالى- بالقَسَم وبهذه المؤكِّدات {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، يعني ما كل نفسٍ إلا وعليها حافظ، يعني ما من نفس من النفوس التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى- من البشر إلا وقد جعل الله -تبارك وتعالى- عليها حافظ، حافظ؛ قيل مُحصي، يعني يُحصي عليها أعمالها ويكتُب كل ما تفعله هذه النفس، وهذا قَسَم عظيم من الله -تبارك وتعالى- أن يُقسِم بالسماء وما حَفِظَه الله -تبارك وتعالى- بها من الخبر، يُقسِم بالسماء والطارق وأن الله -تبارك وتعالى- قد أقام على كل نفسٍ حافظ؛ مُحصي يُحصي أعمالها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، فكل نفسٍ قد أقام -تبارك وتعالى- عليها مَن يُحصي لها أعمالها؛ ويكتُب كل عملها، ولا يبقى شيء مما تعمَلَه هذه النفس إلا وهو مكتوب مُسطَّر، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4].

ثم قال -جل وعلا- {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق:5]، أمر من الله -تبارك وتعالى- للإنسان أن ينظُر في بداية خلْقِه، مما خُلِق؛ يعني من أي شيء خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في بدء الخلْق؟ ثم أجاب الله -تبارك وتعالى- فقال {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}[الطارق:6]، يعني أن الإنسان قد خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من ماء وهو ماء الرجل الدافِق؛ المَني، دافِق؛ الدفقة هي أن خروجه دُفعة واحدة بهذه القوة أو في دفقات، دافِق يعني أنه مُنطَلِق سريع، {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}[الطارق:7]، يعني تكوينه وبداية هذا الماء من بين الصُّلب، الصُّلب؛ عظام الظهر، والترائب؛ عظام الصدر، قيل من صُلب الرجل وترائب المرأة، وقيل الصُّلب والترائب بالنسبة للرجل، يعني أن خروج هذا الماء وتكوُّنه في صُلب الرجل؛ عظام ظهره، وعظام ترائبه؛ عظام الصدر، ومنه يتحوَّل إلى أن يكون في هذا الموضِع الذي يكون فيه من الخصيتين، ثم يُدفَق إلى الرحِم، {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}[الطارق:6]، هكذا يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- خلْق هذا الإنسان؛ وهذا بيان قُدرَته -سبحانه وتعالى-، وكذلك بداية الإنسان المَهينة؛ أنه من هذا الماء المَهين وبهذه الصورة خلَقَ الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان.

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق:5]، ينظر؛ هذا النظر نظر اعتبار، ونظر تذكُّر، ونظر معرفة، اعتبار؛ عبور لِما وراء هذا، ليس فقط الوقوف على هذه الحقيقة وهذا المشهد، فإن هذا ينظُرُه كثيرًا من الكفار الذين عَمِيَت أبصارهم؛ وعَمِيَت قلوبهم عن رؤية ما ورائه، كيف خُلِقَ هذا؟ وما وراء هذا؟ ومَن خلَقَ هذا؟ وما المآل في هذا؟ وما الحكمة من هذا الخلْق؟ وما وراء هذا من هذا العمل المُتقَن المُحكَم؟ وهل يُمكِن للذي صنَعَ هذه الصناعة أن يُخلِّيها وأن يترُكَها سُدىً وعبثًا؟ فهذا أمر نظر للاعتبار وليس نظر فقط لمجرد العِلم بهذا الأمر بما هو عليه دون نظر في ما ورائه؛ وفي ما يعتبِر الإنسان به، مَن خلَق هذا؟ ولِما خلَقَ هذا؟ {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق:5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}[الطارق:6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}[الطارق:7].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}[الطارق:8]، إنه؛ الله -سبحانه وتعالى- الذي خلَقَه وأخرج هذا الإنسان بدايته من بين الصُّلب والترائب، إنه؛ الله، على رَجعِه؛ على رَجْع هذا الإنسان إلى الحياة مرة ثانية لقادر، وهذا أمر بدَهي وحقيقة من الحقائق التي لا يمكن أن تُمانَع عن كل ذي عقل ولُب؛ وهي أن مَن خلَقَ الشيء قادر على إعادته، لو أُتلِف ولو انتهى فإنه يقدِر على إعادته مرة ثانية، فالذي خلَقَ الإنسان على هذا النحو من هذه النُطفة المكوَّنَة ما بين ترائب صدر الرجل وصُلبِه؛ وهذا بدايته، ثم كان من هذا الماء الدافِق، وأنشأ الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان هذا الإنشاء، إذا مات هذا الإنسان وانتهى قادر الله –تبارك وتعالى- على أن يُحييَه؛ فالذي بدأ الخلْق قادر على إعادته -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}[الطارق:8]، وفي هذا تأكيد ورَد للمُكذِّبين بالبعث، يعني لِما تُكذِّب بالبعث أيها الإنسان وقد خلَقَك الله -تبارك وتعالى- من هذا الذي ترى؟ فكيف يعجَز أن يُعيدُك مرة ثانية؟ {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}[الطارق:8].

ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9]، يوم القيامة، تُبلى؛ تُهتَك، السرائر جمع سريرة؛ والسريرة هي ما يُسِرُّه الإنسان، سِر الإنسان وإن كان سِره الدفين، فالسر ربما يكون بين اثنين أو أكثر، والسر ربما يكون في صدر صاحبه لم يُخرِجه قط؛ فهذا يُخرِجه الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، اللي هو ذات الصدر؛ فإن الله -تبارك وتعالى- عليم بذات الصدور، وذات الصدور؛ سِرُّها المكنون الذي لم يُخرِجه الإنسان قط ولم يُظهِر عليه أحد، كما قال هارون الرشيد يومًا لمَّا سُئِل عن نكبته للبرامِكة؛ ولماذا تحوَّل هذا التحوُّل عنهم بسرعة؟ بعد أن كانوا في أكبر عِز وفي أكبر قوة؛ وهم حاشيته، وحَشَمُه، وخَدَمُه، وأقرَب الناس إليه، ووزرائه، وكل شيء، إذا به في لحظة واحدة يأمُر بليل بسِجنهم؛ وبصدارة أموالهم، وبأخذ ما عندهم، وكذا، وكذا ...، ما عَلِمَ أحدٌ ما السر في هذا التحوُّل عند هارون الرشيد من الضِّد إلى الضِّد؛ مرة يُكرِمُهم هذا الإكرام، ثم ناس يُهينُهم هذه الإهانة، فكان يقول لو عَلِمَ قميصي هذا الذي عَلَي هذا الأمر لأحرقته، يقول لو يعلم قميصي هذا السر في هذا كنت أحرقت قميصي؛ إذنه سِرُّه مكنون، هذا السر المكنون الذي لم يُفشيه لأحد؛ ولم يعرف به أحد، حتى أنه يُبالِغ فيقول لو عَلِمَ قميصي بالسر الذي عندي في هذا التحوُّل المُفاجئ لأحرقته.

الله -سبحانه وتعالى- هو العليم بذوات الصدور؛ وهو الذي لا يخفى عليه شيء، وفي يوم القيامة تُبلى السرائر؛ تُهتَك، يُخرِج الله -تبارك وتعالى- مكنون كل صدر ويظهر، يقول الرب -جل وعلا- {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، لا تخفى منكم خافية عن الله -تبارك وتعالى-؛ بل يُظهِرُها الله -تبارك وتعالى-، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «لكل غادِرٍ لواء تحت إستِهِ يوم القيامة يُكتَب فيه غَدرَته»، والغادِر هو الذي عاهد ثم غَدَر، فالنبي يقول لكل غادِر يوم القيامة لواء؛ يعني يُرفَع له لواء يُكتَب فيه غَدرَته، لواء؛ عَلَم، صحيفة كاملة تُكتَب فيها غَدرَته، هذه غَدرَة فلان ابن فلان وتُكتَب ثم تُعلَّق من خلف ظهره، تحت إستِهِ؛ تُعلَّق من خلف ظهره يقرأها كل أحد، ثم قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ولا غدر أعظم من غدر إمام عام»، يعني غدر هذا الإمام العام هذا أكبر الغدر، فلذلك تُكتَب غَدراتهم من خلف ظهورهم، فقول الله -تبارك وتعالى- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9]، أنها تُهتَك فلا يبقى لأحدٍ سِر في هذا اليوم يستطيع كِتمانه؛ بل سيُظهِرُه الله -تبارك وتعالى-، وهذا تهديد؛ أعظم تهديد ووعيد، لأنه عندما تُبلى هذه السرائر فإنه سيُحاسَب على كل ما فعل، إذا كان سيُحاسَب على هذا الأمر الذي أسرَّه؛ فما بالك بالذي أظهَرَه؟.

قال -جل وعلا- {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10]، فما له؛ يعني هذا الإنسان يوم القيامة، من قوة؛ في ذاته، يعني ما عنده قوة يستطيع أن يمنَع بها بأس الله -تبارك وتعالى-؛ وأخذَه له، وعقوبته له، وأفشائه سِرُّه ومحاسَبَته عليه، قوة؛ من نفسه، ولا ناصر؛ من خارج منه، يعني أخ له، عضيد له، مُناصِر له، أحد يُعينه... لا، فما لهذا الإنسان المؤاخَذ المُحاسُب بقوة في نفسه تمنَعه عن الحساب والجزاء؛ ولا ناصر من خارجه ينصره، {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10].

ثم أقسَم الله -تبارك وتعالى- أقسام أخرى فقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11] {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}[الطارق:12] {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}[الطارق:14]، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالسماء؛ ووصفها فقال {........ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11]، الرَّجْع هو رجوع الشيء، قال السَّلَف المُفسِّرون السماء تُرجِع أشياء كثيرة من الرَّجْع الذي تُرجِعه، أولًا تُرجِع الصوت؛ فإن الصوت يصعد ثم يعود، فالأصوات تذهب إلى السماء ثم تعود فهذا من الرَّجْع؛ من الذي تُرجِعه السماء إلى الأرض، وهذا قد عَلِمَه الناس الآن في الموجات الصوتية؛ فإن الموجات الصوتية تذهب في الطبقات ثم تعود بعد ذلك، والصوت يسير هكذا في موجات تصعد صعودًا ثم تنزل، ثم تصعد، ثم تنزل، قالوا أن هذا من الرَّجْع الذي تُرجِعه السماء أنها {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11]، أنها تُرجِع الصوت، كذلك قالوا بأنها تُرجِع الماء؛ المطر، فالسماء تُرجِع المطر مرة ثانية وهو أن بَخْر البحار والمُحيطات يصعد إلى طبقات الجو، ثم يتكثَّف فيها سُحُب، ثم تُرجِعه مرة ثانية إلى الأرض، وهذا الرَّجْع له نفعٌ عظيم، أعظم نفع في هذه الدنيا بالنسبة للناس رجوع الماء بعد ذلك، ولو كان الماء هذا الذي صعد من الأرض ذهب إلى طبقاتها وذهب بعد ذلك في الفضاء؛ ولم يرجِع إلينا مرة ثانية لانتهت الحياة، كان تبخَّر الماء الموجود على هذه الأرض وذهب ولم يعُد مرة ثانية، لكن الله -تبارك وتعالى- يُصعِدُه ثم يُرجِعه، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}[النور:43]، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- وهو أن هذه السماء ذات الرَّجْع؛ تُرجِع، رجوع المطر مرة ثانية إلى الأرض أكبر رحمة من رحمات الله -تبارك وتعالى-.

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}[الطارق:11] {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}[الطارق:12]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالأرض ويقول {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}[الطارق:12]، الصَّدع؛ الشَّق، ومن أعظم تصدُّع الأرض تصدُّعها عن النبات، فالأرض وهي أرض قوية، ويابسة، وتُربة، إلا أنها تتصدَّع عن النبات، النبتة تكون صغيرة، أحيانًا البذرة تكون صغيرة جدًا كحبَّة الخردل، وحبَّات كثيرة من هذه البذور والحبوب كحبَّة الرمل الصغيرة، ولكنها مع ذلك يخرج منها السَّاق فيصعد إلى أعلى وتنشَق له الأرض، ولولا أن الأرض تتصدَّع عن النبات على هذا النحو؛ وتنشَق عنه، ويخرج النبات على هذا النحو، لو كانت جَلدَة؛ يابسة، يضُم بعضها إلى بعض ولا تنشَق عن النبات ما قام للحياة قائمة؛ ما كان هناك أصبح فيه حياة قط، إذا مات النبات ولم يكُن هناك نبات انتهت الحياة، فالله -تبارك وتعالى- يُقسِم بهذه الأرض؛ وأنها أرض ذات الصَّدع، تتصدَّع ليخرُج النبات، {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}[الطارق:12]، وهذا كله من إقسام الله -تبارك وتعالى- بهذه المخلوقات العظيمة دليل على عظَمَته -سبحانه وتعالى-؛ أنه الرب العظيم، فالذي خلَقَ هذا الخلْق العظيم، ثم من خلْقِه العظيم كذلك الرحيم، من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن تكون السماء ذات الرَّجْع؛ والأرض ذات الصَّدع، أصبح فيه مطر يرجِع من السماء؛ فيه زرع يصعد من الأرض.

قال -جل وعلا- {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13]، إنه؛ هذا القرآن النازل من الله -تبارك وتعالى-، {........ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13]، القول الفصل هو الذي يفصِل بين الحق والباطل؛ بين الهُدى والضلال، يضع كل أمر في نِصابه، لا يترك الأمور عالقة بعضها مع بعض ومُختلِطة... لا، وإنما تفصيل الأمر هو بيانه ووضع كل شيء في مكانه؛ وإعطاء لكل شيء ما يُناسِبَه من الحُكْم، فيُعطي كل أمر حُكْمَه الصحيح ولا يخلِط الأمور بعضها ببعض... لا؛ بل هو قول يُفصِّل الأمر تفصيلًا، فمن هذا التفصيل العِلم الحق بالله -تبارك وتعالى-؛ وأسمائه، وصفاته، وأنه الإله الحق، والفصل بين الإله الحق وما يُعبَد من دونه من الآلهة الباطلة حتى لا تختلِط ولا تشتبِه؛ لا تشتبِه الآلهة بالإله الحق -سبحانه وتعالى-؛ الخالق، الرازق، القوي، المتين، الذي ليس كمثله شيء، لا يمكن أن يشتبِه الأمر بينه وبين ما يُعبَد من دونه -سبحانه وتعالى-؛ بين الهُدى والضلال، بين الرسول الصادق الأمين وبين مَن يدَّعي من الكذَّاب؛ من ساحر، وشاعر، وكاهن، ونحو ذلك، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221] {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:222] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء:223]، ففَرَّق الله -تبارك وتعالى- بين الرسول الحق؛ الصادق، الأمين، وبين ما يشتبِه به من قول شاعر، أو قول كاهِن، أو قول ساحر، كذلك بين صراطه المستقيم -سبحانه وتعالى- وصُرُط الشيطان، فهذا قولٌ فصل، مُحكَم، بيِّن، واضح، نازل من الله -تبارك وتعالى-، يوم القيامة وما فصَّلَ الله -تبارك وتعالى- فيه من أمر؛ وأقام الحُجَّة، والدليل، والبرهان، على أنه حق وأنه كائنٌ لا محالة؛ وقضى فيه القضاء المُبرَم، وأعطى فيه الآيات التي لا تُدافَع بأنه قادم لا محالة، وبالتالي لا يترك لشاكٍ شكًا في الأمر ولا مجال للتكذيب إلا العناد؛ إلا أن يُكذِّب عنادًا، أما أنه يشُك في الأمر فلا، فالله يُقسِم على أن هذا القول النازل منه -سبحانه وتعالى- فقال {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}[الطارق:14]، الهَزل هو ضِد الجِد؛ وهو اللعب والمُزاح، يعني ليس مُزاحًا، وليس مُبالغةً، ليس قول هازِل كمَن يكذب على أخيه وكذا وكذا من باب القشمَرَة والضحك... لا، الله -تبارك وتعالى- إنما أنزل كتابه جِد؛ وهو قولٌ فصل فصَّلَ الله -تبارك وتعالى- به الأمور، ولا مجال فيه للهَزل؛ فليست فيه مبالغة عن وصْف أمر يُبالَغ فيه، أو أنه قول ثم يُرجَع عنه، تعالى الله عن ذلك، {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}[الطارق:14].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15]، إنهم؛ الكفار، {........ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15]، كيدًا ما؛ هذا كيدهم، وأصل الكيد هو محاولة إيصال الضُّر للغير بطريق خفي؛ بطريق مُلتَوي لا يعرفه هذا الغير، الكيد هو التآمر وأن يُوصِل الإنسان ضُرَّه إلى عدوه بطريق مُلتَوي؛ بطريق خفي، فالله يقول {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15]، يكيدون يعني بأهل الإسلام كيدًا ما على حسب، فقد فكَّروا ودبَّروا كيف ينالون من الرسول؟ كيف يصرِفون أهل الإسلام عن إسلامهم؟ وتفتَّقَ ذِهنهم وكيدهم عن أمور عظيمة؛ تعذيب المؤمنين، اضطهادهم، إخراجهم من أرضهم، تآمرهم بالرسول -صل الله عليه وسلم-؛ قالوا نقتله، ننفيه من مكة، نسجنه فيها، لا نجعل أحد يصِل إليه، ثم تفتَّقَ ذهنهم في النهاية على أنهم يقتلوه، وإذا قتلوه فحتى يتفرَّق دمه في القبائل يجمَعون من بطون قريش كلها مَن يضربه ضربة رجل واحد، فعند ذلك لا يُعرَف قاتله على التحديد فيتفرَّق دمه في القبائل؛ ولا يستطيع أقربائه وعشيرته بنوا هاشم أن يثأروا له، فيضيع ويصبح دمه هَدَرًا، تفتَّقَت أذهان الكفار عن مكائد كثيرة يكيدون بها للإسلام وأهله في مكة؛ وأنهم يعملوا بكل ما أوتوا من القوة ليُطفِئوا نور الله -تبارك وتعالى- ويذهبوا بهذا الدين.

فالله يخبر {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15]، لكنه قال -سبحانه وتعالى- {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[الطارق:16]، كيد الله -تبارك وتعالى- في مُقابِل كيدهم، وهو تدبيره -سبحانه وتعالى- في الخفاء؛ كيف يُنفِذ -سبحانه وتعالى- وَعْدَه لرسوله؛ وينصر دينه، ويُهلِك هؤلاء الكفار، ويذهب الله –تبارك وتعالى- بكيدهم فيجعل كيدهم إلى دمار، وطبعًا إذا كان الله -تبارك وتعالى- هو يكيد والكفار هؤلاء المهازيل يكيدون؛ فمعلوم النتيجة، معلوم أن كيد هؤلاء لن يقِف أمام كيد الله -تبارك وتعالى-، ومهما كادوا، ومهما اقتروحوا من خُطط، وعملوا من مكائد، ومكروا من مكر، فإن مكرهم لا شك أنه إلى زوال ودمار، فهذا تطمين من الله -تبارك وتعالى- وتأكيد لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- أن دينه مُنتصِر؛ وأنه على الحق الصُّراح، وأنه مهما تكالب هؤلاء الكفار، ومهما تألَّبوا، ومهما أحكموا خُطَطَهم فإنها إلى دمار، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15] {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[الطارق:16]، هذا كيد الله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وقال -جل وعلا- {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران:54]، بالماضي والمُضارِع، فهم يمكرون لكن الله -تبارك وتعالى- يمكُر، وهنا الله -تبارك وتعالى- يخبر {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}[الطارق:15]، ويكيدون بالفعل المضارع المستمر، والله يقول {وَأَكِيدُ كَيْدًا}[الطارق:16]، بالفعل المضارع كذلك كيد في مُقابِل كيدهم فإذن النتيجة معروفة.

قال -جل وعلا- {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}[الطارق:17]، مَهِّلهُم؛ قُل لهم على رِسلِكُم في كيدكم، يعني من باب الاستهزاء بهم والاستهزاء بعملهم، كما تقول لِمَن هو مُجتهِد في أمرٍ تعلم أنه لن يبلُغَه ولن يصِل إليه؛ تقول له على رِسلِك، هوِّن عليك، يعني لن تصِل إلى غايتك ومُبتغاك، فهذا المُبتغى والغاية التي تُريدها لن تصِل إليها، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ ........}[الطارق:17]، قُل لهم على مِهلِكُم، يعني ترسَّلوا وهدِّئوا من روعِكُم فإنكم مغلوبون ومُنتَهون؛ وأن الله -تبارك وتعالى- ناصرٌ دينه ومُعِزٌ كتابه -سبحانه وتعالى-، {........ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}[الطارق:17]، أمهِلهُم رويدًا يعني قُل لهم تمهَّلوا في سعيكُم، وفي جِدِكُم، ونشاطكم لكيد الإسلام، رويدًا؛ قليل، وستَعلَمون نتيجة فِعلكم أن الله -تبارك وتعالى- مُعِزٌ دينه، وناصر رسوله، وبالِغٌ أمره -سبحانه وتعالى-، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}[الطارق:17]، مهِّلهُم قليلًا، روَيد يعني قليل.

استغفر الله العظيم من كل ذنب، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.