الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5] {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8] {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10] {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}[الأعلى:11] {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12] {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:13] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16] {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}[الأعلى:18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الأعلى:19]، سورة الأعلى من القرآن المكي، في حديث البراء ابن عازب أنه حفِظها من مُصعَب ابن عُمير -رضي الله تعالى عنه- قبل أن يأتي النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلى المدينة، وسورة الأعلى والغاشية كان النبي -صل الله عليه وسلم- يقرأ بهما في العيدين وفي الجمعة، وأحيانًا إذا كان العيد في يوم الجمعة كان النبي يقرأ في كلتا الصلاتين -وهما في يوم واحد- بالأعلى والغاشية.
في سورة الأعلى يقول الله -تبارك وتعالى- {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، أمرٌ من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم-؛ وهو أمرٌ لكل أهل الإيمان، أن يُسبِّحوا ربهم -سبحانه وتعالى-، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ........}[الأعلى:1]، سبِّح ربك -سبحانه وتعالى- وتسبيح اسمه، فأسماء الله -تبارك وتعالى- كلها حُسنى؛ وكل اسمٍ يتضمَّن معنىً وصفة من صفات الله -تبارك وتعالى-، الأعلى اسم لله -تبارك وتعالى- وصفة من صفاته -جل وعلا-، أما التسبيح فهو التنزيه والإبعاد؛ وهو اعتقاد أن الله –تبارك وتعالى- مُنزَّه -سبحانه وتعالى- عن كل صفات النَّقص وعما يقول فيه الظالمون، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا، ليس من أحد افتُريَ عليه وكُذِبَ عليه كالله -سبحانه وتعالى-؛ فإن كل طوائف الشِّرك قد نسَبَت إليه ما ليس من صفاته -سبحانه وتعالى-، كل مَن عبَدَ إلهًا غير الله -تبارك وتعالى- وادَّعى الأُلوهية والربوبية لغيره -جل وعلا- فهو كاذب مُفترٍ على الله –تبارك وتعالى-؛ وهذا أعظم الفِرية، أعظم الفِرية ادِّعاء أن لله -تبارك وتعالى- ولد، {........ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، فادِّعاء الولد لله -تبارك وتعالى- فِرية عظيمة، والله يُسبَّح ويُنزَّه عن قول هؤلاء المجرمين والظالمين -سبحانه وتعالى-، سبحانه -سبحانه وتعالى- أن يكون له ولد، سبحانه؛ تنزيهًا له -سبحانه وتعالى-، تعالى الله -تبارك وتعالى- عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، كل ما يقول الظالمون في الله -تبارك وتعالى- من نسبة أي نقص إلى الله -تبارك وتعالى-؛ في ذاته، أو في أسمائه، أو في أفعاله، فهذا كذب وافتراء.
الله -تبارك وتعالى- هو المُنزَّه؛ هو السُّبُّوح، القُدُّوس؛ المُقدَّس، تنزَّه عن الولد، والزوجة، والشبيه، والنظير، والمثال، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، تنزَّه عن كل آفة تلحَق المخلوق؛ فالله -تبارك وتعالى- لا تلحَقَه آفة من آفات المخلوق بأن يكون له بدء، أو يكون له خِتام، أو أن يمرَض، أو أن يموت، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ........}[الفرقان:58]، سبِّحه أن تلحَقَه آفةٌ من هذه الآفات التي لابد أن تلحَق المخلوق، فالمخلوق له بداية وله نهاية أما الله -تبارك وتعالى- فهو الأول الذي ليس قبلَه شيء؛ والآخر الذي ليس بعدَه شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونَه شيء، فهو أولٌ بلا ابتداء؛ آخرٌ بلا انتهاء -سبحانه وتعالى-، وكل شيء إنما خلَقَه الله -تبارك وتعالى- بعد عدَم؛ لم يكُن موجودًا ثم خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، فكل هذه الموجودات قد خلَقَها الله، «كان الله ولا شيء معه؛ وكان عرضه على الماء، وكتَبَ في الذِّكر كل شيء»، كل مخلوق له بداية والله -تبارك وتعالى- مُنزَّه عن أن يُشابِه المخلوق -سبحانه وتعالى-، فهو السُّبُّوح القُدُّوس؛ المُقدَّس عن هذه الآفات، يعتري المخلوق الموت، النوم، النسيان، النقص، لا يكمُل.
الله -تبارك وتعالى- {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، فمُنزَّه أن يشفع أحدٌ عنده بغير إذنه؛ أو يقبل شفاعة من شافِع وهو لا يُريدُها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، وكل الخلْق يعلم شيئًا ويغيب عليه شيئًا، فالملائكة {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، وأما الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يعزُب عن عِلمِه مثقال ذرَّة في السماوات ولا في الأرض، فالله -تبارك وتعالى- {........ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]، لا يئودُه؛ لا يُثقِلُه ولا يُتعِبُه حِفظ السماوات والأرض، وكل مخلوق خلَقَه الله -تبارك وتعالى- فله قُدرة؛ وله حَد ينتهي إليه في قُدرَته، والله -تبارك وتعالى- هو القوي؛ القاهر، القادر، الذي لا يُعجِزه شيء؛ لا يوجد شيء يُعجِز الله -تبارك وتعالى-، فالله -جل وعلا- هو القوي وهو القاهر فوق عباده -سبحانه وتعالى-.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، يتضمَّن كل هذا؛ يتضمَّن تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن كل ما لا يليق به، وعن كل ما نسَبَه الظالمون والمجرمون إليه -سبحانه وتعالى-، وهو أحد شِقَّي التوحيد؛ فإن توحيد الله -تبارك وتعالى- يقوم على التنزيه اللي هو التسبيح، وعلى الإثبات اللي هو الحمْد، الحمْد؛ إثبات كل المحامِد لله -تبارك وتعالى-، وفي باب التنزيه لثبوت ضِدِّه؛ كل ما يُنزَّه الله -تبارك وتعالى- عنه فضِدَّه ثابت له، فيُنزَّه عن النوم، عن الغفلَة، عن النسيان، لكمال حياته وقيُّوميته -سبحانه وتعالى-، يُنزَّه عن الزوجة وعن الابن لأنه الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-؛ الفرد الصمد، الذي لم يلِد ولم يُولَد، فكل أمر يُنزَّه الله -تبارك وتعالى- عنه إنما هو يثبُت ضِدَّه من صفات المَدح والكمال -سبحانه وتعالى-، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ........}[الفرقان:58]، سبِّحه؛ التسبيح هو إبعاد الله -تبارك وتعالى- عن كل نقصٍ وسوء، وحمْدُه -سبحانه وتعالى-؛ إثبات كل المحامِد له، فكل الحمْد له -سبحانه وتعالى-؛ فهو المُستحِق للحمْد كله لصفاته، وإنعامه، وإفضاله -سبحانه وتعالى-.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، الله هو الأعلى فوق كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-؛ الأعلى مكانًا ومكانة، فالله -تبارك وتعالى- مُستوٍ على عرشه؛ وعرشه فوق سبع سماواته، والله -تبارك وتعالى- هو الأعلى، فتنزيهه –سبحانه وتعالى- أن يكون شيء فوقه، فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي قهر العباد؛ وذَلَّ له الخلْق كلهم، وهو المُستوي على عرشه -سبحانه وتعالى-؛ وعرشه فوق سبع سماواته، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- نفسه فقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2]، خلَقَ كل الخلْق؛ ما من مخلوق إلا وقد خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، لا خالِق إلا هو وكل ما سِوى الله مخلوق، وكل هذه المخلوقات خلَقَها الله وحده -سبحانه وتعالى-؛ لم يُشارِكه أحد في ذرَّة من هذا الخلْق ولا صغير، ما في ذرَّة ولا مِجرَّة إلا والله خالِقُها -سبحانه وتعالى-، فكل هذه المخلوقات الله خالِقُها، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، وهو المُتوكِّل بكل شيء -سبحانه وتعالى-، فهو الذي خلَق -سبحانه وتعالى- فسوَّى خلْقَه، كل خلْق الله -تبارك وتعالى- في تمام الإحسان، التسوية هي التقويم الكامل، والإحسان هو ألا يكون شيء خارج عن هذه التسوية؛ مُشوَّش، فمن النملة الصغيرة إلى المخلوقات الكبيرة ما شيء إلا وقد سوَّاه الله -تبارك وتعالى-، انظر إلى أي مخلوق من المخلوقات؛ ذبابة، بعوضة، نملة، نحلة، حشرة، تجِد أن الله -تبارك وتعالى- قد سوَّاها مُتقَنَة؛ فليسَت هناك أذرُع أطول من أذرُع بلا تسوية، أو العين في غير محِلها، أو البطن في غير محِلها، أو هناك اختلال في أجنِحَتِها... لا؛ كل شيء قد سوَّاه الله، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، كل شيء خلَقَه الله -تبارك وتعالى- إنما خلَقَه في غاية الإتقان والإحسان، فالله هو الذي خلَق فسوَّى خلْقَه -سبحانه وتعالى-، سواءً كانت هذه التسوية هي إعطاء كل مخلوق مِقداره، وكذلك وضعه؛ ونصبه، وبِنيته، وأعطاه صورته، كل هذه الله -تبارك وتعالى- هو الذي أعطى كل مخلوق صورته، وكماله، وإحسانه، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ........}[آل عمران:6]، ولا يُساعِده، ولا يُظاهِره، ولا يُعينُه -سبحانه وتعالى- أحد من الخلْق في خلْق شيء؛ بل هو الخالق وحده -سبحانه وتعالى-، من الذرَّة الصغيرة إلى المِجرَّة الكبيرة؛ كل مخلوق الله هو الذي سوَّاه، وهو الذي عَدَّلَه، وهو الذي أعطاه ما أعطاه؛ من الصفات الداخلية، ومن المظهر الخارجي، ومن البناء، كل هذا إنما هو فِعله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2].
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، قَدَّر لكل مخلوق مسيرته؛ حياته، بدءه ونهايته، وقبل أن يخلُق الخلْق -سبحانه وتعالى-؛ وكل مخلوق، كل مخلوق خلَقَه الله -تبارك وتعالى- فإنما قَدَّر الله -تبارك وتعالى- كل مقاديره قبل أن يخلُقَه، نملة؛ قُدِّر هذه النملة عُمرُها، رزقُها، مكانُها، عملُها، قد قَدَّر الله -تبارك وتعالى- لها كل ذلك قبل أن يخلُقَها الله -تبارك وتعالى-، كل إنسان قد عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- ما يصنعه؛ ما يعمله، ما سيكون عليه قبل أن يخلُقَه، ثم إن الله -تبارك وتعالى- كل هذه المخلوقات وهذه الموجودات صنع الله -تبارك وتعالى- بها صنيع؛ قَدَّر مقادير الخلْق كلهم، لم يُقدِّر مقادير الناس فقط بل كل مقادير الخلْق، كل ما خلَقَ الله قَدَّره الله -تبارك وتعالى- قبل أن يخلُق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وكتَبَ في الذِّكر كل شيء، كل شيء مكتوب، ما من شجرة توجَد؛ بفروعها، بأغصانها، بأوراقها، متى تسقُط منها ورقة، متى تنبُت فيها أُخرى، إلا وقد كُتِبَت في كتاب، فالله -تبارك وتعالى- هو عالم الغيب؛ ولا يعزُب عنه شيء، وقَدَّرَ مقادير هذا الخلْق قبل أن يخلُقَه -سبحانه وتعالى-، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، كتاب المقادير وهذا كان قبل الخلْق؛ كان قبل أن يخلُق الله -تبارك وتعالى- الخلْق، وقد جاء في الحديث «أوَل ما خلَقَ الله –تبارك وتعالى- القلم فقال اكتب، قال وما أكتُب؟ قال اكتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة»، ما سيكون من شيء، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ........}[الأنعام:38]، ما فرَّطنا في الكتاب؛ كتاب المقادير، من شيء؛ أي شيء، مِن؛ لتأكيد النفي، يعني أي شيء لم يسقُط من قلم الكتابة، لم تسقُط نملة واحدة؛ ولا ذرَّة واحدة، ولا ذُبابة واحدة من هذا الكتاب؛ كتاب المقادير، الذي قَدَّرَ الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير الخلْق قبل أن يخلُق الخَلْق -سبحانه وتعالى-، فهو الذي قَدَّر؛ أي قَدَّر مقادير الخلْق كلهم.
{فَهَدَى}، فهَدَى كل مخلوق إلى مسيرته، ما من مخلوق من هذه المخلوقات إلى وهو يسير حيث قَدَّر الله -تبارك وتعالى- مسيرته، فالإنسان يسير في الطريق الذي كان قد قُدِّرَ له لا يحيد عنه خُطوة، لا يخطوا الإنسان خُطوة، ولا يُشير إشارة، ولا يأكل لُقمَة، ولا يشرَب شربَة إلا وهي مكتوبة قبل أن يخلُقَه الله -تبارك وتعالى-، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، طائره؛ بخته ونصيبه، كأنه كتاب؛ اللي هو كتاب المقادير، مُلزَم في عُنُقِه، {........ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء:13]، بما فعله؛ بالذي فعله، وهذا الذي فعله مُطابِق للتقدير الأول، لا يخرُج الإنسان عن هذا القَدَر الأول ولا كلمة؛ لا يمكن يلفِظ لم تكُن مكتوبة في التقدير الأول، فكل شيء مكتوب وهذه الكتابة لها منازِل قد كُرِّرَت، كما جاء بأن هذه الكتابة كُتِبَت في الأزَل؛ وتُكتَب عند الولادة، كما في الحديث «إذا مَرَّ على النُطفَة أربعون يومًا جائها مَلَك فيقول أي ربي؛ ما رزقُه؟ ما أجَلُه؟ ما عمَلُه؟ شقيٌ أم سعيد؟»، هذا خاتمته، «ذكرٌ أو أُنثى»، فهذه أربع كلمات تُكتَب للإنسان عند بدء حياته؛ عند نفخ الروح فيه، عندما يصبح بهذه النفخة نَسَمَة؛ إنسان، أي كتابة؛ وهذه الكتابة بعد الكتابة الأولى قبل أن يخلُق الله الخلْق، كل موجود من هذه الموجودات ومخلوق خلَقَه الله -تبارك وتعالى- قَدَّرَ الله مسيرته، وإذا وجِدَ هذا المخلوق فإنه يسير المسيرة التي أرادها الله -تبارك وتعالى- له، {فَهَدَى}، أي هَدَى كل مخلوق إلى طريقه الذي يسلُكُه، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، وهذا أمر عظيم جدًا من صفة الله -تبارك وتعالى-، سبحان مَن حَوى عِلمُه هذه المخلوقات كلها، عِلم الله -تبارك وتعالى- حَوى كل هذه المخلوقات في الوجود، كل هذه العوالم الله ربها -سبحانه وتعالى-؛ هو الذي خلَقَها، هو الذي رتَّبَ وقَدَّرَ لكل مخلوق مسيرته إلى النهاية، فسبحان مَن حَوى عِلمه كل هذا الخلْق؛ وقَدَّرَ مقاديره، وهو عليم -سبحانه وتعالى- بما يعلمه كل مخلوق، ثم يسَّرَ كل مخلوق إلى طريقه، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، هذا الرب يُسبَّح -سبحانه وتعالى-؛ يُسبَّح -جل وعلا- عن الغفلة، عن النسيان، عن نقص العِلم؛ لا يعزُب عنه مثقال ذرَّة، فيُسبَّح الله -تبارك وتعالى- أن يوجَد في هذا الوجود كله ذرَّة هي خارجة عن عِلمه؛ لا يعلمُها، وأنها سقطَت من قلم الكتابة، تعالى الله -سبحانه وتعالى- عن ذلك، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3].
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4]، من صفته -سبحانه وتعالى- أنه أخرج المرعى، المرعى هو هذا النبات الذي يُنبِتُه الله -تبارك وتعالى- على سطح هذه الأرض؛ وهذا حياة البشر، فإنه بهذا المرعى ترعى الأنعام ويرعى الناس، {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ}، فالمملكة النباتية هذه كلها إنما الله -تبارك وتعالى- هو الذي أخرجها، فهو الذي أخرج المرعى بإنزال هذا المطر النازل من السماء وبتقديره -سبحانه وتعالى-، أمر عظيم جدًا في إخراج المرعى؛ يعني أمر تحَار له العقول، ولا يمكن أن تسَعَه الكتابة، ولا أن تسَعَه العلوم، كيف تدَّخِر الأرض بذورها فيها؟ وبعض هذه البذور قد تمكُث عِدَّة سنوات وهي محفوظة في هذه الأرض، ينزل المطر على هذه الأرض فتنبُت كل نبتة في وقتها وفي زمانها، أمر لا شك أن جمع هذا؛ والعِلم به، والمعرفة به لا تحويه المُجلَّدات الضخمة، ثم على هذه المملكة العظيمة يعني مملكة النبات تقوم الحياة؛ يعني حياة الموجودات على هذه الأرض تقوم على هذا، فهو الذي أخرج المرعى -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5]، فجعله بعد الخُضرة، والنضارة، والزهور الجميلة؛ زهور النُّوِّير، وهذه البهجة، تضربه بعد ذلك الشمس بعد أن ينتهي ويجعله غُثاء تضربه الرياح؛ حُطام وتذروه الرياح، أحوى؛ هذا اللون المائل إلى السُّمرة، وهو العُشْب عندما تضربه الشمس ويتحطَّم بعد ذلك، وفي هذا آيات عظيمة؛ من هذه الآيات أن هذا عُمر، وأن هذه الأرض أجيال؛ النبات فيها أجيال تنتهي، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل لفناء الدنيا بهذه؛ وأنه سرعة زوال الدنيا كسرعة زوال الربيع، وقال -جل وعلا- {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف:45]، مُقتدِر؛ قادر على الإحياء وعلى الإماتة، فإنه هو الذي أحيى هذه الأرض بالنبات بعد موتها، ثم إنه هو الذي أمات هذا النبات وحطَّمَه -سبحانه وتعالى-، وفي هذا ذِكرى لينظر الإنسان الحياة والموت أمامه؛ وكيف أنها تتجدَّد على هذا النحو، أمر أخر للتجديد لأنه لو كان النبت دائم لكان هذا مدعاة إلى أن لا ينبُتَ غيره ولا تتجدَّد الحياة؛ فالله -تبارك وتعالى- يُجدِّد هذا، ولذلك يعمَد الناس إلى إزالة ما جَفَّ من النبات ليخرُج غيره؛ وهكذا ...، فتضربه الشمس؛ ييبَس، يذهب، يتحوَّل، ثم بعد ذلك يُجعَل حُطام جديد لينبُتَ غيره وتتجدَّد الحياة النباتية جيل بعد جيل، فهذا فعل الرب -سبحانه وتعالى- الذي {........ أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5]، وفي هذا نعمة عظيمة وفيه تذكِرة كذلك من الله -تبارك وتعالى-؛ يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده بسرعة انتهاء هذه الدنيا، وأن هذه الدنيا كأنها في سرعة زوالها فترة صغيرة من فترات النبات الذي ينبُت؛ يشِب، يهيج، يصفَر، تضربه الشمس، يصير حُطام وينتهي، وهكذا شأن الحياة كلها، {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5]، الغُثاء هو ما يجمعه السَّيل في أثناء جريانه؛ فإنه يجمع القش، ويجمع البقايا، والحُطام، وغيرها، فهذا النَّبت الذي كان في يوم من الأيام مِلء العين نُضرةً، وخُضرةً، وزهورًا، إذا به تضربه الشمس ويتحطَّم؛ ويصبح غُثاء يجمعه السَّيل في جريانه، وتذروه الرياح في كل مكان، {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5].
فهذه مُقدِّمة السورة أمر بتسبيح الله -تبارك وتعالى-؛ الرب الأعلى الذي هذه صفاته، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5]، ثم بشَّرَ الله -تبارك وتعالى- رسوله -صل الله عليه وسلم- فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6]، وهذا من إنعامه -سبحانه وتعالى- وإفضاله على رسوله -صل الله عليه وسلم-، قال {سَنُقْرِئُكَ}، نجعلُكَ تقرأ، {........ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6]، وهذا الإنزال بالنسبة للقرآن الذي يُقرئه الله -تبارك وتعالى- إياه؛ وكان هذا بإنزال جبريل -عليه السلام- بآيات الوحي، جبريل يقرأها على النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويسمعها النبي، عندما ينتهي جبريل من الوحي يقرأها النبي وقد حَفِظَها -صلوات الله والسلام عليه- ونزلت في قلبه، فكان هذا حِفظ الرسول للقرآن أنه ينزل على قلبه، يسمَع ويُطبَع هذا القرآن في قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، سنُقرِئُك؛ أي هذا الكتاب، {........ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6].
ثم استثنى الله -تبارك وتعالى- فقال {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، يعني إلا ما شاء الله أن يُنسيَك منه لحكمة يُريدُها الله -تبارك وتعالى-، فقد يكون الأمر لمدة مُعيَّنة ثم ينسَخَه الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}، قيل نُنسِها؛ نُنسِكَ إياها، {........ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106]، إلا ما شاء الله أن يُنسيَك إياه لحكمة عظيمة من حِكَم التشريع وحِكَم النسخ، وقد مضى هذا في بيان حكمة الله -تبارك وتعالى- في نسخ بعض آيات القرآن؛ كالنسخ من الأخف إلى الأعلى، والأعلى إلى الأخف، ونسخ الآية مع الحُكْم، ونسخ الحُكْم دون الآية، {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7]، إنه؛ الرب -جل وعلا-، {يَعْلَمُ الْجَهْرَ}، الجَهر هو الإعلان، يعني ما يُعلَن من القول والفعل يعلَمه الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا يَخْفَى}، يعني السر والخَفي كذلك من الأقوال والأعمال الله -تبارك وتعالى- هو عليمٌ بها -جل وعلا-، {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7]، أي أنه لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى-، فحِفظِك للقرآن بأمره وإعطائه؛ وإنساؤك إنما هو بأمره وعِلمه -سبحانه وتعالى-، فإن الله لا يخفى عليه شيء ولا ينسى شيء -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8]، بِشارة أُخرى من الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله -صل الله عليه وسلم- أنه مُيسَّرٌ لليُسرى في كل أمر؛ طريق الجنة، اليُسرى؛ الجنة، ونُيسِّرُك؛ نجعل طريق الجنة هذا طريق مُيسَّرٌ عليك، يجعل هذا مُيسَّرٌ عليه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8]، نجعل طريق اليُسرى سهل على النبي -صلوات الله عليه وسلم-؛ طريق اليُسرى من حَمْل هذا الدين، وإبلاغه، والقيام به، وعبادة الله -تبارك وتعالى- مع ما في بعض هذه العبادات من المشقَّات، فإن النبي -صل الله عليه وسلم- كان يجِد قُرَّة عينه -صل الله عليه وسلم- في هذا، كما كان في الصلاة يقول «وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة»، عِلمًا أن الصلاة من أشق الأعمال؛ صلاة الليل، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، لكن النبي كان يقوم وهذا مُنتهى محبته، وإرادته، ومُنتهى قُرَّة عينه -صل الله عليه وسلم-، كما قال «حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم الطِّيب، والنساء، وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة»، وقُرَّة العين هي نهاية المُنى وغاية المُراد، وغاية الحب في الصلاة عندما يكون قائمًا بين يدي الله -تبارك وتعالى-، كذلك كان يصوم من الصَّوم ما لا يستطيعه غيره -صل الله عليه وسلم-؛ فكان يصوم الشهر حتى لا يُظَن أنه سيُفطِر فيه، وكذلك الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، والقيام بأمر الله -تبارك وتعالى- أمر مُيسَّرٌ عليه -صل الله عليه وسلم-، وكذلك يسَّرَه الله -تبارك وتعالى- للدين الحنَفية السمحَة؛ فهو مُيسَّر لكل يُسرى.
لهذه الآية -إن شاء الله- سنعود -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.