الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (777) - سورة الأعلى 8-19

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5] {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8] {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10] {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}[الأعلى:11] {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12] {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:13] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16] {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}[الأعلى:18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الأعلى:19]، قد مضى أن سورة الأعلى كان النبي -صل الله عليه وسلم- يقرأ بها هي والغاشية في الجمعة والعيدين، وكان أحيانًا تجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فكان النبي يقرأ بهما -صل الله عليه وسلم-، يعني في الجمعة وفي العيد كذلك بهاتين السورتين؛ الأعلى والغاشية، ومضى أنهما مما حَفِظَه الصحابة في المدينة قبل هجرة النبي -صل الله عليه وسلم- إليها مما يجزم بأنهما من القرآن المكي.

بدأ الله -تبارك وتعالى- سورة الأعلى بأمره -سبحانه وتعالى- بتسبيحه؛ بتسبيح اسمه، قال {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، الأعلى؛ الأعلى مكانًا ومكانة، فالله -تبارك وتعالى- فوق خلْقِه؛ والمُستوي على عرشه فوق سبع سماواته -سبحانه وتعالى-، الأعلى على كل الخلْق؛ لا أعلى من الله -تبارك وتعالى-، ولا أجَل، ولا أعظم منه -سبحانه وتعالى-، ومن صفته {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2]، كل الخلْق له، وكل خلْق خلَقَه الله -تبارك وتعالى- سوَّاه؛ ما في شيء مخلوق على غير إتقان وعلى غير صنعة مُتقَنَة، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة:7]، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، قَدَّر كل مخلوق إلى مساره؛ قَدَّرَه قبل أن يخلُقَه، ثم لمَّا خلَقَ هذا المخلوق جعله يسير في المسار الذي قَدَّرَه له -سبحانه وتعالى-، ما من ذرَّة خلَقَها الله؛ نملة، أكبر منها، أقل منها، إنسان، أي مخلوق خلَقَه الله -تبارك وتعالى- قد قَدَّرَ مسيرته قبل أن يخلُقَه، ثم إنه لمَّا خلَقَه فإن هذا المخلوق يسير في هذه المسيرة لا يتعدَّاها؛ لا يمكن أن يخرُج عنها، لا يمكن أن يخرج عن المسيرة التي قَدَّرها الله -تبارك وتعالى- له قبل أن يخلُقَه، فهو الذي قَدَّر فهدى -سبحانه وتعالى- كل مخلوق إليه، كما قال -تبارك وتعالى- {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، هو الموكَّل بكل شيء، فهو خالق كل شيء وهو الموكَّل بكل شيء -سبحانه وتعالى-، وقال موسى -عليه السلام- في تعريفه لربه -سبحانه وتعالى- لمَّا سأله؛ قال فرعون لموسى، {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}[طه:49] {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، فهو الذي أعطى كل مخلوق خلْقَه، ثم هدى؛ يعني هدى هذا المخلوق إلى طريقه، ومعاشه، ونظامه إلى النهاية، {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3].

{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}[الأعلى:4]، مملكة النبات التي ترعاها ما ترعاها من ماشية الإنسان وأنعامه؛ ويرعى الإنسان فيها من هذا النبات الذي يُخرجه الله -تبارك وتعالى- وعليه حياة أهل الأرض، {فَجَعَلَهُ}، أي بعد نُضرَتِه وينعانِه، {........ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:5]، في النهاية، ثم قال لرسوله مُبشِّرًا {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}[الأعلى:6]، نُقرِئُك القرآن فلا تنساه، {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، إلا ما شاء الله أن يُنسيَك، {........ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى:7] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8]، قال الله لرسوله بِشارة أنه يُيسِّره لليُسرى، يُيسِّره لطريق الجنة فيصبح عمل هذه الجنة مُيسَّرٌ عليه؛ وعمل هذه الرسالة وهذا التكليف الذي كلَّفَه الله -تبارك وتعالى- به من هذه المشقَّة مٌيسَّرًا عليه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8]، لطريق الجنة، كما قال -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، فهذه بِشارة من الله -تبارك وتعالى- لنبيه أنه مُيسَّرٌ لليُسرى في نفسه، وكذلك قد يسَّرَه الله -تبارك وتعالى- لليُسرى؛ الشريعة المُيسَّرة الحكيمة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- عليه، كما قال النبي «بُعِثتُ بالحنيفية السمحَة»، بعَثَه الله -تبارك وتعالى- بالحنيفية السمحَة، وقال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وما جعل عليكم في الدين من حرَج؛ لا حرَج في هذا الدين الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على المسلمين أبدًا، فهذا دينٌ مُيسَّر؛ الحنيفية السمحَة، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8].

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9]، ذكِّر؛ يعني الخلْق والناس، {........ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9]، قالوا إن كان للذِّكر نفع، وقيل إن هنا بمعنى إذ؛ يعني إذ نفعَت الذِّكرى، فالذِّكرى تنفع؛ وتنفع أهل الإيمان، كما قال -تبارك وتعالى- {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55]، فإذا وجِدَ المجال والمكان للذِّكر لتنفَعَه فليُذكِّر، وقال -جل وعلا- هنا {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، سيذكَّر وتنفَعَه الذِّكرى مَن يخشى؛ مَن يخاف الله -تبارك وتعالى-، وأما مَن لا يخاف الله -تبارك وتعالى- ولم يُقدِّر أمر الآخرة فإن الذِّكرى لا تنفعه، فعلى كل حال الذِّكرى نافعة بكل حال؛ وأوَل نفعُها هو إقامة الحُجَّة، وإبلاغ الدين، وهذا نفعُها ببراءة مَن تحمَّلَ البلاغ أمام الله –تبارك وتعالى-، فإن الرُسُل أولًا لا تبرأ ذِمَّتهم من التكليف إلا بالبلاغ، كما قال -سبحانه وتعالى- {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، وقال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ........}[المائدة:67]، فالبلاغ من الذِّكرى أو الذِّكرى من البلاغ، فإذا بلَّغ فقد نفعَت الذِّكرى؛ نفعَت في أن تبرأ ذِمَّة المُبلِّغ، والرسول لا تبرأ ذِمَّتَه إلا بأن يُبلِّغ ما أمَرَه الله -تبارك وتعالى-، وأما نفع الذِّكرى لصاحبها فإنها لا تنفع إلا أهل الإيمان؛ فأهل الإيمان هم الذين يتذكَّرون والذين يخافون الله -تبارك وتعالى-.

{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، ليس معنى الآية {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9]، يعني إن عَلِمتَ أن هذا سيأخذ الإيمان وستنفَعَه الرسالة فبلِّغه وذَكِّره وإن تعلَم أنه لن ينفعَه الإيمان لا تُذكِّره؛ ليس هذا هو المعنى، بل إن النبي مأمور وكذلك كل أهل الإيمان الذي حمَلوا عِلمًا مأمورون أن يُبلِّغوا عن الله -تبارك وتعالى-؛ وألا يكتموا مما أتاهم الله -تبارك وتعالى- من العِلم شيئًا، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة:159]، وقال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ........}[آل عمران:187]، فهذا أمر الله -تبارك وتعالى- على أهل العِلم في هذه الأمة في الأمم السابقة أن يُبيِّنوا الدين؛ وألا يكتموه سواءً استجاب الناس لهذا أو لم يستجيبوا، والنبي -صل الله عليه وسلم- مأمور أن يُبلِّغ الناس جميعًا؛ وأن يُبلِّغ المؤمنين بالتكليف حتى وإن لم يستجيبوا له لكن مأمور أن يُذكِّرهم وأن يقول لهم، كما قال -تبارك وتعالى- {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا}[النساء:84]، وقد أمَرَ موسى -عليه السلام- أتباعه بأن يقوموا بالدين؛ وأن يُقاتِلوا في سبيل الله، ولكنهم عاندوه ولم يستجيبوا له، وقالوا {........ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]، لكن لم يمنعه عنادهم ونكولهم أن يُبلِّغَهم، فكل الرُسُل مأمورون بأن يُبلِّغوا رسالة الله -تبارك وتعالى-؛ وأن يقوموا لله -جل وعلا-.

{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9]، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأن الذي سيتذكَّر مَن يخشى، قال -جل وعلا- {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، الذِّكرى هي استحضار المعنى والعمل بمُقتضى هذا الاستحضار؛ يعني أن يستحضِر المعنى ويعمل بمُقتضى هذا، فمَن استحضَرَ مثلًا في ذِهنه وذُكِّرَ بالله -تبارك وتعالى-؛ مَن ذُكِّرَ بالله وتذكَّر فهذا الذي نفعته الذِّكرى وتذكَّر، أما مَن ذُكِّرَ بالله -تبارك وتعالى- وجحد؛ وأنكَر، وكذَّب، فهذا لم تُفِده الذِّكرى؛ ما فادَه هذا، كذلك مَن ذُكِّرَ باليوم الآخر، ومَن ذُكِّرَ بأمر بالله -تبارك وتعالى-؛ بنهيه -سبحانه وتعالى-، فمَن ذُكِّرَ بأمر الله -تبارك وتعالى- فاستجاب لهذا؛ وقال سمِعت وأطعت، والتزم أمر الله، فهذا نفعَته الذِّكرى، وأما مُن ذُكِّرَ بأمره -سبحانه وتعالى-؛ أو نهيه، أو وَعْدِه، أو وعيده، فلم يعبأ بذلك ولم يرفع رأسًا بذلك فهذا لم تنفَعَه الذِّكرى، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، حصر الله -تبارك وتعالى- التذكُّر هنا وأخبر -سبحانه وتعالى- بأن الذي سيتذكَّر هو الذي يخشى، والخشية؛ الخوف مع التعظيم، فمَن خاف الله -تبارك وتعالى- وعظَّمَ الله -جل وعلا- فهذا هو الذي سيتذكَّر.

ثم قال -جل وعلا- {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}[الأعلى:11]، يتجنَّبُها؛ يتجنَّب الذِّكرى، لا يأبَه لها، يعني يترُكها بجنبه، هذا الأشقى {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12]، هذا حُكْم الله -تبارك وتعالى- في كل مَن ذُكِّرَ بالله -تبارك وتعالى-، وبطريقه، وبوحدانيته، وبما يجب عليه نحوه، ولكنه جحَدَ هذا؛ وأنكَرَ هذا، وتجنَّبَ هذا، فهذا هو الأشقى؛ الشقي حقًّا، أشقى الخلائق هو الذي ابتعَدَ بنفسه وأبعَدَ نفسه عن طريق الله -تبارك وتعالى-، شِقوة دنيا وآخرة؛ أما شِقوة دنيا فهي قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، ففي الحياة لابد أن يعيش الضَّنك، الضَّنك؛ الفارغة التي لا ثمرة فيها، ولا معنى لها، والتي هي قشر؛ يعني مظهرٌ كاذب، ولكنها ليست حقيقة راسخة في سعادة، وطُمأنينة، وهناء، ولكنها معيشة ضنك؛ هذا شقاء في الدنيا، ثم شقاء في الآخرة، فهذا شقي شقاء الآخرة؛ وشقاء الآخرة أكبر، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، فعذاب الآخرة أشد مما يُعذِّب الله -تبارك وتعالى- به الكافر في الدنيا، ادَّخَرَ له في عذاب الآخرة العذاب الكبير أشد من عذابه في الدنيا، وأبقى؛ لا ينتهي ولا ينقطِع، ويتجنَّبُها؛ يتجنَّب الذِّكرى الأشقى، قال -جل وعلا- {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12]، يصلاها؛ يُحرَق بها، يُشوى فيها، النار الكبرى؛ نار جهم -عياذًا بالله-، وهي أكبر نار خلَقَها الله -تبارك وتعالى- في هذا المُستقَر البئيس؛ الجحيم الذي هو نار أسفله وأعلاه، وجُدرانه وأبوابه كلها النار، هذا السجن الأعظم الذي هو من النار؛ والتي تتقِد بالناس والحجارة، وكم من الناس يكونون فيها، والرسول يقول «مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وجلده مسيرة ثلاثة أيام»، فهؤلاء على كثرة ما يدخل النار يتقِدون فيها -عياذًا بالله-، فهي النار الكبرى التي لا أكبر منها.

{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:13]، أخبر الله -تبارك وتعالى- هنا بأن هذه النار مَن يصلاها ومَن دخلها فإنه لا يموت؛ أي فيستريح، ولا يحيا؛ حياة نافعة، فما هو حي حياة نافعة؛ فيها طُمأنينة، فيها راحة، فيها ظِل، فيها أمن... لا، فلا يحيا حياة تنفعه؛ نافعة، ولا هو ميت فيستريح -عياذًا بالله-، {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:13]، بل يبقى مُعذِّبًا أبدًا -عياذًا بالله-؛ يعني يبقى في العذاب الأبدي، كما قال -جل وعلا- {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يطوفون بينها وبين حميمٍ آن يعني أنه يركُض إلى النار، ثم تحرِقه ويشعر بالعطش وبالحر فيركُض إلى الشرب؛ فيشرب من ماء الحميم فيُقطِّع أمعائه، فيهرُب إلى النار فتحرقه، ثم يهرب إلى الحميم؛ وهكذا ...، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، بلَغَ حَدَّه في الغليان؛ هذا آنه وهذا حينه وحَدَّه -عياذًا بالله-، فهذه حياته الدائمة، {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[طه:48]، قال {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، وهنا قال -جل وعلا- {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12] {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:13].

ثم قال -جل وعلا- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عقوبة هذا الذي يتجنَّب الذِّكرى والموعظة قال -جل وعلا- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14]، قد؛ بالتحقيق، أفلَحَ؛ وهنا بالفعل الماضي دليل على أنه مُتحقِّق الوقوع، {........ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14]، تزكَّى؛ تطهَّر، الزكاة أصلًا في اللغة هي النقاء، والطيبة، والطُّهْر، كما نقول رائحة زكية وزكى الزرع، زكى بمعنى أنه نَضُرَ، وصحى، وكان في سلامته، فالنَّفس تتزكَّى؛ وهذه نفسٌ زكية إذا كانت طيبة طاهرة، فالذي تتطهَّر وأصبح طيبًا هذا هو المُفلِح، ولا يكون الطُّهر إلى بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- والاستقامة على شريعته، لأن الإيمان بالله تصديق بالحق؛ فالله -تبارك وتعالى- حق، لقائه حق، الجنة حق، النار حق، وكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق، كل ما أخبر الله به من الغيب فهو حق، فالتصديق والإيمان بهذا إيمان بالحق؛ والإيمان بالحق فضيلة، وضد هذا تكذيب؛ وهذا تكذيب بالحق، والتكذيب بالحق رذيلة في نفسه وفي ذاته، فمَن كذَّب بالحق القائم الذي تقوم الأدلة والبراهين عليه؛ وعرف أن هذا حق ثم ردَّه وجحده، فالجحود إجرام، وتكذيب الحق إجرام؛ وهو من خُبث النفس، ومن مرض القلب، القلب المريض والقلب الميت هو الذي يرى الحق ولكنه لا يتَّبِعَه ولا يسير فيه؛ وهذا من نجاسته، ولذلك كان الكافر نَجِس، نَجِس قلب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، نجاسة حُكْم ونجاسة قلوب، فالمُشرِك الذي جعل مع الله إلهًا أخر نَجِس القلب لأن الله ليس معه إله، ليس لله -سبحانه وتعالى- نِد؛ ولا شبيه، ولا شريك، فمَن اتخذ إلهًا مع الله هذا مجرم؛ نَجِس القلب، وكذلك مَن ردَّ الحق هذا من نجاسة قلبه؛ هذا بالنسبة للإيمان.

بالنسبة للشريعة التي شرَعَها الله -تبارك وتعالى- للعباد فكلها طُهر؛ فإنها تقوم على العدل، والإحسان، والخُلُق الفاضل، الله لا يأمر إلا بهذا؛ لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، العدل مع الخلْق كلهم، والإحسان إلى العالمين، والاستقامة على الأمر، ولا ينهى إلا عن ما فيه فساد، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، فكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه لابد أنه من الانحراف، والميل، والفساد، فالزِّنا، وشُرب الخمر، وعقوق الوالدين، والكذب، والعدوان على الناس، وكل أنواع الظُلم هذه كلها من الخُبث، والفاحشة، والإثم، والبُعْد عن الحق وما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به من أداء حقوق الله -تبارك وتعالى- على العبد؛ هذا القيام بشُكرِه، والله -سبحانه وتعالى- يستحق ما يأمر به العباد -سبحانه وتعالى-؛ يستحِق أن نعبُدَه، أن نشكره، أن نُطيعه، أن نحمَدَه -سبحانه وتعالى-، أن نُنزِّهَه؛ فهو المُنزَّه المُسبَّح -سبحانه وتعالى-، فصلاتُنا لله من شُكرِه؛ صيامُنا له، العمل هذا الذي أمَرَ الله به العباد من القيام بحق شُكرِه -سبحانه وتعالى-، ثم الإحسان إلى الوالدين، صِلة الأرحام، أداء الأمانة، صدق الحديث، كل ما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به بعد ذلك هو من الخير، إذن هذا الدين بمُجمَلهِ زكاة للنفوس، الإيمان والشريعة هما تزكية للنفس، وطهارة، وطيبة، فالمؤمن الحق هو الطيب قلبًا وقالبًا، ولذلك يُقال لأهل الجنة يوم القيامة من الملائكة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، طِبتُم إخبار بما كانوا عليه من الطيبة؛ وهم أهل البِر، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ}، البِر؛ الخير بالفعل، {........ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177]، فهؤلاء المؤمنون الأبرار هم فاعلوا هذا البِر، فهذا الدين كله من البِر؛ كله من الخير، سواءً عقائده أو شريعته فكله خير، فالدين كله تزكية للنفوس، الله -تبارك وتعالى- هنا يُعلِن إعلان فيقول {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14]، حُكْم الله -تبارك وتعالى- وإخباره؛ والمُخبِر مَن؟ المُخبِر هو الله -تبارك وتعالى-، أفلح؛ الفلاح هو النُّجح، فهذا الذي نجح، وفاز، ونال مطلوبه الأكبر، وضِد الفلاح الخسار، هذا أفلَح هذا خسِر، وخاب، وبار، فقد أفلَحَ بالفعل، والذي نال مطلوبه؛ وكسِب، ورَبِح، هو الذي تزكَّى.

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15]، هذا أشرف الأعمال التي يمكن أن يعملها الإنسان في هذه الدنيا؛ الصلاة لله -تبارك وتعالى-، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15]، لله -تبارك وتعالى-، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15]، أنه العَلي الأعلى؛ وأنه الرب الرحمن الرحيم بأسمائه -سبحانه وتعالى- وصفاته، وأنه الرزَّاق الكريم، وبالتالي هو المُستحِق -سبحانه وتعالى- لأن يُعبَد، الصلاة وضِعَت لتعظيمه وعبادته؛ وهي خير موضوع، كما قال النبي «خير ما وضَعَ الله -تبارك وتعالى- لأهل الأرض الصلاة»، هذا خير عمل يأمُر الله -تبارك وتعالى- به عباده؛ أن يُصلُّوا له -سبحانه وتعالى-، فالصلاة أشرف العمل أولًا لأنها تعظيم لله -تبارك وتعالى-، وذِكرٌ له، وحمْدٌ له، هذا أشرف الأعمال؛ وهو طريق العِزَّة، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، فالعمل الطيب يصعد إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وأعظم عمل للإنسان الصلاة، وهذه الصلاة الله -تبارك وتعالى- قسَمَها بينه وبين عبده -سبحانه وتعالى- ليكون الله -تبارك وتعالى- معه، فيذكُر العبد ربه فيذكُرُه الله -تبارك وتعالى-، كما جاء في الحديث «قسَمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله حَمِدَني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم، قال مجَّدَني عبدي، فإذا قال إياك نعبُدُ وإياك نستعين، قال هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهِدنا الصراط المُستقيم،؛ صراط الذي أنعَمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين، قال الله هذا لعبدي؛ ولعبدي ما سأل»، فالله -تبارك وتعالى- كما يذكُرُه العبد يذكُرُه الله -سبحانه وتعالى-، الله يذكُر العبد كما يقوم العبد بذِكر الله -تبارك وتعالى-، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى:14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15].

ثم قال -جل وعلا- {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16]، إضراب؛ بل للإضراب، عامة الناس وأكثرهم يؤثِرون الحياة الدنيا، الأثَرَة؛ تقديم الشيء على غيره، غير الإيثار؛ تقديم الغير على النفس، {........ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16]، يعني تُقدِّمونها على الآخرة، يُقدِّم الدنيا فيجعل لها همَّه، وعملَه، وعِلمَه، وحياته، هذا الكافر الذي لا يؤمن بيوم القيامة يجعل حياته هي الدنيا، كما يقولون ((مملكتي في هذا العالم وحده))، لا يوجد عالم ثاني أعمل له، إنما يجب أن أعمل لهذه الدنيا فهي التي أعيش فيها؛ وهي مملكتي فيها، أما عالم ثاني أني سأوجَد فيه؛ ويكون لي مُلك، ولي حياة ثانية؛ فهذه أنكَروها، فهؤلاء الذي آثروا الحياة الدنيا هم الخائبون الخاسرون، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16]، يعني عموم الناس، قال -جل وعلا- {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17]، الآخرة؛ الجنة، وهي الآخرة لأنها خلاص؛ هي الباقية، خير؛ من الدنيا وأبقى، يعني لو قُورِن متاع الآخرة ومتاع الدنيا فلا وجه للمُقارنَة، خير هنا بمعنى هي أخيَر لكن المُقارنَة بعيدة جدًا بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، فمتاع الدنيا أولاً قليل إنما هو بعُمر هذا الإنسان؛ ولابد أن يُفارِقَه هذا الإنسان، أولًا لابد أن يموت عنه وأما متاع الآخرة فباقي، ثم متاع الدنيا مُنَغَّص بالمُنَغِّصات الكثيرة؛ لا يصفوا لأحد، فلابد من الكَدَر؛ فالهموم، والأمراض، والخوف على هذه الدنيا من فقدها؛ ومن تحوُّل حالها، وتحوَّل مَن حول الإنسان، كل هذا القلق الذي فيه وما يشوب هذا من صنوف الكَدَر الكثيرة تجعل هذه لا مجال لمُقارنتِها مع الآخرة؛ فالآخرة خير من الدنيا، وأبقى؛ أن نعيمها باقٍ لا يزول، فالجنة التي وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- بها عباده أُكُلُها دائم وظِلُّها، أُكُلُها؛ ثمارُها، ليست ثمار تأتي في الصيف وتذهب في الشتاء والعكس، بل الجنة ثمرة ناضجة؛ شجرة مُثمِرة، نهرٌ مُطَّرِد، غادة حسناء، راحة، أمن، سلام، لا مُنَغِّص لها، {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}[الأعلى:18]، إن هذا الذي تُذَكَّرون به؛ مضمون هذه السورة، والتي جمعَت الدين عقيدة، وشريعة، وبيان لصفة الرب -تبارك وتعالى-، هذا الله يُخبِر بأنه في الصُّحُف الأولى المُنزَلَة من الله -تبارك وتعالى-، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الأعلى:19]، أعلى نبيَّين؛ رسولين، فإبراهيم أبو الأنبياء -عليه السلام-؛ وكل مَن جاء بعده من الأنبياء هم من ذُريَّتِه، وموسى النبي العظيم؛ نبي بني إسرائيل، وكل الذي جائوا بعد موسى إنما التزموا شريعته إلى عيسى ابن مريم؛ آخر نبي في بني إسرائيل، فهو النبي العظيم مُخَلِّص بني إسرائيل الذي خلَّصَهم من الفراعنة؛ والذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه الأنجيل بعد التوراة التي حكَمَ بها أنبياء كثيرون بعد موسى، {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ........}[المائدة:44]، فهي الشريعة الباقية المُطَهَّرة؛ والتي ظلَّ العمل بها إلى زمان عيسى -عليه السلام-، فإن عيسى جاء كذلك حاكِمًا بالتوراة، ثم أرسَلَ الله عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فكون الله -تبارك وتعالى- يذكُر هذه المواعظ وهذا الدين؛ وأن هذه السورة نزل مضمونها كذلك في الصُّحُف الأولى، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ........}[الأعلى:19]، أبو الأنبياء -صل الله عليه وسلم-، {وَمُوسَى}، النبي العظيم والرسول العظيم من أنبياء بني إسرائيل، وهذا النبي محمد الخاتِم؛ الذي خَتَمَ الله -تبارك وتعالى- به الرسالات، وهذا قد أُنزِلَ عليه، سورة عظيمة ولعلَّه قد وضَحَ كون النبي كان يقرأ بها في المجامع العامة؛ في الجمعة والعيدين.

اللهم صلِّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد؛ وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.