الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:1] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4] {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}[الغاشية:5] {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}[الغاشية:6] {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}[الغاشية:8] {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:9] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الغاشية:10] {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11] {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}[الغاشية:12] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}[الغاشية:13] {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}[الغاشية:14] {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}[الغاشية:15] {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}[الغاشية:16]، سورة الغاشية من القرآن المكي، وقد مضى أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان يقرأ بها هي وسورة الأعلى في الجمعة وفي العيدين، وكان أحيانًا إذا جاء العيد في الجمعة يقرأ بها في الجمعة ويقرأ بها في العيد -صلوات الله والسلام عليه-، وقيل أن السبب في هذا لِما اشتمَلَت عليه هاتين السورتين من بيان أصل الإيمان ومسائل الإيمان؛ العِلم بالله -تبارك وتعالى-، وميعاد يوم القيامة وانقسام الناس إلى مؤمن وكافر؛ وأن مَن زكَّى نفسه فهو المُفلِح، والخائب والخاسر هو الذي ترك طريق الرب -سبحانه وتعالى-، مع إقامة الأدلة على ما يذكُرُه الله –تبارك وتعالى-.
قول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:1]، الغاشية من أسماء يوم القيامة؛ وسُمِّيَت الغاشية لأنه يغشى الناس هولُها، وصعوبَتُها، وأمرُها العظيم يُغطِّي الناس جميعًا، فهو يوم الهَول العظيم والكَرب العظيم إلا مَن رَحِمَ الله -تبارك وتعالى-، هذا يوم طويل، عبوس، قمطرير، ويغشى الناس فيه من الهموم، والغموم، والقلق على المصير ما يغشاهم؛ شدة الموقِف الطويل خمسين ألف سنة، تدنوا الشمس من الرؤوس حتى تكون قَدْر ميل، الناس يأخذهم العَرَق كما أخبر النبي في الموقِف العظيم، «يُحشَرون عُراة، حُفاة، غُرلًا، منهم مَن يأخذه العَرَق إلى كعبيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى رُكبَتيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى حِقوَيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ثدييه، ومنهم مَن يُلجِمه عرَقُه، ومنهم مَن يغُط في عَرَقِه غطيطًا»، فهذا يوم عصيب عظيم، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:1].
ثم فصَّلَ الله -تبارك وتعالى- أحوال الناس فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2]، خاشعة؛ ذليلة، وهذه وجوه أهل الكفر -عياذًا بالله-، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ........}[الغاشية:2]، في هذا اليوم؛ يوم الغاشية، خاشعة؛ ذليلة، ذليلة من الكَمَد، والغيظ، وما ينتظِرُها من العذاب المُهين، فتخشَع وتَذِل، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4]، قيل {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3]، في الدنيا كانت تعمل وتنصَب في العبادة لكن على غير هُدى؛ وعلى غير إيمان بالله -تبارك وتعالى-، وعلى غير توحيده، فشَقِيَت، ونَصَبَت، وتعِبَت، لكنها عبادة لا تنفَعَهم لأن أصحابها لم يكونوا مؤمنين بالله -تبارك وتعالى-؛ ولم يتَّقوا الله -تبارك وتعالى-، ولم يعملوا للآخرة، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3]، أي أنها مع عملها ونصَبِها في العبادة إلا أنها {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4]، في يوم القيامة، كما قال -تبارك وتعالى- في أعمال الكفار {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، وقال -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور:39]، وقال أيضًا في الآية الأُخرى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:18]، وقيل {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3]، في النار -عياذًا بالله-، يعني أنها تشقى؛ وتجِد، وتعمل في النار وهي {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4]، حال كونها تصلى نارًا حامية، النار؛ نار جهنم -عياذًا بالله-، حامية؛ أنها في قِمَّتِها وفي حِموِّها، وهي ليست كنار هذه الدنيا كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- في نار الدنيا «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة، فقالوا يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال ولكنها فُضِّلَت عليها بتسعٍ وستين جُزءًا»، فهي نار حامية؛ وهي أشد من هذه النار التي نعهدُها في الدنيا، وهي كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، عياذًا بالله منها.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}[الغاشية:5]، تُسقى؛ يعني أصحاب هذه الوجوه، وقد يُطلَق الوجه ويُراد به الذَّات، تُسقى؛ يُسقى هؤلاء المُعذَّبون –عياذًا بالله-، من عين؛ في النار، آنية؛ يعني أنها قد بلَغَت آنَها وحينها في الحرارة، كل سائح ومائع له حالة يصِل فيها إلى الحد الذي لا يقبل معه حرًّا وحرارةً بعد ذلك، كما نقول إن حرارة الماء تنتهي عند الغليان التي هي مائة درجة مئوية؛ وأن الرصاص مثلًا ينصهِر ويصِل حَدَّه في درجة مُعيَّنة من الحرارة، والحديدة في درجة مُعيَّنة، وهكذا ...، فهذا الماء الذي يتدفَّق من هذه العين التي يشرب بها هؤلاء المُعذَّبون في النار آنية؛ يعني هي واصلة إلى الحَد الأقصى من حرارتها، يعني أنها مهما زاد عليها الحَر بعد ذلك فإنها لا تقبل حرارة بعد ذلك، وهذا الماء اللي هو العين الآنية هذه -عياذًا بالله- هو ماء ليس كماء الدنيا؛ وإنما هو ماء كالمُهل، كما قال -جل وعلا- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، والمُهل هو المعدن المُذاب، أي معدن مُذاب يُقال له مُهل؛ كالحديد المُذاب، والنحاس المُذاب، والرصاص المُذاب -عياذًا بالله-، فهو ماءٌ ثقيل كالمعدن إذا أُذيب؛ وهذا يشربون منه -عياذًا بالله-، {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}[الغاشية:5].
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}[الغاشية:6]، ليس لهم طعام وهم في هذه النار إلا من ضريع، قيل أن الضَّريع نَبت معروف؛ أهل الحجار يُسمُّونَه الشِّبرِق عندما يكون في الربيع، ذو شوك ولاطئ بالأرض، وإذا يَبَس يقولون له الضَّريع، وهذا الضَّريع تتجنَّبُه الإبل وحيوانات الرَّعي إذا يَبَس من شدة الشوك الذي فيه؛ ينشَب بالحلق، ولعلَّ هذا الاسم كذلك يتضمَّن المعنى؛ ضريع يعني من الذُّل، الضَّراعة اللي هي الذُّل، كأن مَن أكل هذا الطعام -عياذًا بالله- يُذِلُّه؛ يزداد ذُلًّا على ذُلِّه، ليس لهم طعام في النار إلى من ضريع؛ وهذا ضريع النار، فإذا كان هذا الضَّريع المرعى في الدنيا على هذا النحو؛ وتتجنَّبُه الإبل التي تأكل الشوك من شدته، فكيف بنَبْت بهذا المُسمَّى وبهذه الصفة يَنبُت في النار -عياذًا بالله-؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}[الغاشية:6]، ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا الضَّريع فقال {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7]، فينتَفي عنه كل نفع للطعام، فنَفْع الطعام أنه يُسمِن؛ يعني يزداد به الآكِل سِمنة، وكذلك يُذهِب عنه ألم الجوع، فالناس تأكل لتُذهِب ألم الجوع وكذلك ليعود بالنفع في جسمها؛ فهذا أكل الآكِل، فهذا الطعام مع شدته وأنه مُذِل إلا أنه لا نفع له من حيث الطعام؛ فلا هو يُسمِن ولا هو يُغني عن الجوع، يبقى مَن يأكله بألم الجوع كما هو -عياذًا بالله-، {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7]، هذا هو حال هؤلاء المُعذَّبين في هذا اليوم الشديد؛ الغاشية، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:1]، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- الحالة التي يكون فيها أهل العذاب فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4] {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}[الغاشية:5] {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}[الغاشية:6] {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7]، وقيل أيضًا أن ذِكر هذا الطعام الذي هو من ضريع؛ {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7]، مُناسِب لقول الله -تبارك وتعالى- عنهم {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3]، فلأن عبادتهم لم يكُن لها نفعٌ قَط؛ ليس لها نفع هذه العبادة لأنها قامت على غير أساس، لم يؤدُّوا عبادتهم مُريدين وجه الله -تبارك وتعالى-؛ وإنما أدُّوها على بِدعة وباطل فهي لا تنفع، فالله -تبارك وتعالى- يُذيقُهم العذاب من جنس العمل، فلأن عبادتهم لم تكُن نافعة فكذلك الطعام هنا يُعذَّبون بطعام لا ينفعهم؛ يضرُّهُم في النار ولا ينفعهم، {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7].
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أهل النعيم في هذا اليوم فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}[الغاشية:8]، أصحابُها؛ أصحاب هذه الوجوه، الوجه الناعم هو الوجه الذي يظهر عليه النعيم؛ من الإشراق، والبياض، والاسفِرار، والحبور، والسرور، من النعيم؛ نعيم المكان، ونعيم الزمان، والطعام، والشراب، والأُلفة، والمحبة، والأهل، كل هذا ينعكِس في وجوههم، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}[الغاشية:8] {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:9]، لسعيها الذي سَعَته في عبادة الله -تبارك وتعالى- راضية، يعني أنها قد رَضيَت سعيها وذلك أن سعيها كان على الحق والصواب؛ وكان إيمانًا بالله -تبارك وتعالى- وتقوى له، فهذا هو السعي الصحيح، لمَّا سَعَت سعيًا سليمًا صحيحًا؛ آمنَت بالله -تبارك وتعالى- واتَّبَعَت طريقه، فإن الله -تبارك وتعالى- أرضاها بهذا السعي؛ وهي رضيَت عن هذا السعي، {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:9]، فَرِحَت بهذا عندما علِمَت بالأثر العظيم الذي أثَّرَه الإيمان والطاعة التي كانت في الدنيا، فرَضيَت بهذا وحَمِدَت الله حمْدًا عظيمًا لِما أسلَفَته في الدنيا، {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:9].
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الغاشية:10]، هؤلاء المُنعَّمون في جنة عالية؛ عالية في المكان، وعالية في المكانة، فهي عالية لأن الله -تبارك وتعالى- جعلَ الجنة في السماء، وأعلى جنة هي الفردوس؛ سقفها عرش الرحمن -سبحانه وتعالى-، فهم في جنة؛ والجنة هي البستان العظيم، بستان الرب -سبحانه وتعالى-، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، نفى الله -تبارك وتعالى- عن هذه الجنة العالية أدنى ما يُعكِّر الصفو ويشغَل البال؛ وهو أدنى لاغية، بهذه النكرة يعني أي لغو؛ ليس فيها لغوٌ قَط يلغوا، واللغو كلمة من الكلام الذي لا يُفيد، فليس فيها أي لغو ولا أي صوت خارج عن السلام والمُتعة، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، فليس فيها سبٌّ، ولا شتمٌ، ولا تشهيرٌ، ولا كذبٌ، ولا افتراءٌ، ولا غيبةٌ، ولا نميمة، كل هذه الآفات من آفات الألسُن؛ من اللسان، وكل ما دون ذلك من اللغو وأي كلام فارغ أو شيء يُعَكِّر الصفو ويُعَكِّر الخاطر الله –تبارك وتعالى- نفاه عن الجنة؛ قال {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ليس فيها ما يلغوا ولا مَن يلغوا، {فِيهَا}، في هذه الجنة، {........ عَيْنٌ جَارِيَةٌ}[الغاشية:12]، عين؛ اسم جنس، وتُطلَق العين على الماء الجاري، يعني عيون ماءٍ جارية؛ تجري بالمياه، {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}[الغاشية:12] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}[الغاشية:13]، سُرُر جمع سرير، السرير هو ما يُتكأ عليه ويُنام عليه؛ وليس في الجنة نوم، لكنها سُرُر للتلذُّذ والراحة وليس فيها مشقة وتعب، لكن سُرُر لحديثهم ولكلامهم، مرفوعة؛ يعني مرفوعة مكانًا ومكانة، فهي في مكانها وفي مكانتها سُرُر مرفوعة؛ فإنها موضونة بالذهب، مُغطَّاة بصنوف الفُرُش، بطائنها من استبرق ومن الحرير، ولم يذكُر الله -تبارك وتعالى- أحيانًا الظِهارة لأنها ربما كانت من شيء لا مثيل له في هذه الحياة.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}[الغاشية:13] {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}[الغاشية:14]، أكواب للشرب موضوعة؛ أي أنها ليس في خِزانات يُحتاج إلى فتحها، وليست في أماكن يُعمَل منها، ولكنها موضوعة حيث الشراب؛ فلا كُلفة في جمعها، وغسلها، وتخزينها، ونحو ذلك، بل هي موضوعة مُهيَّأة، {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}[الغاشية:14] {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}[الغاشية:15]، النَّمارِق جمع نُمرُقَة؛ والنُّمرُقَة هي الحَشيَّة والبُسُط التي يُتكأ عليها مكان الاتكاء ومكان الجلوس، مصفوفة؛ أي أنها صُفَّت، وبالتالي هي ليست كالحال في الدنيا بأن النَّمارِق إنما تُفرَش في وقت الحاجة إليها، ثم تُزال، ثم تُرفَع، ثم تُنظَّف، لكنها قد صُفَّت نمارِقُهُم، {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}[الغاشية:16]، الزَّرابي هي البساط والفراش الواسع العظيم، وأهل الحجاز مازالوا يُسمُّون السجادة الكبيرة زِربيَّة، فهي زرابِيِّ؛ يعني أنها بُسُط عظيمة، طبعًا عظيمة القَدْر وهي مبثوثة؛ أي في جنبات الجنة، يعني هذه تحت هذه الأشجار، وهذه عند هذه الثمار، وهذه عند مجرى الأنهار، وهذه في هذا المكان، فمبثوثة في مُلك المؤمن هذه البُسُط في أماكنها، أي أن الجنة مُهيَّأة في الاستمتاع بكل جنباتها؛ فها هنا بُسُط مبثوثة، وها هنا نمارِق مصفوفة، وها هنا أكواب موضوعة، فكل متاعهم من الجلوس، والشراب، والحديث، قد هُيِّئ ورُتِّبَ لهم بحيث أنه لا كُلفَة ولا يُعالِج أهل الجنة عملًا ما قط، عمل من الأعمال يُعالِجونَه لا؛ فلا يُعالِجون غسل شيء، ولا تنظيفه، ولا صفَّه، ولا ترتيبه، لا جمع ثمرة، لا صعود شجرة، لا معالجة طعام لطبخه، بل كل متعاهم حاضر؛ جاهز، مُرَتَّب، موجود، وهم فقط شُغلُهم المُتعة بما أعطاهم الله –تبارك وتعالى-، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56].
ثم بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هذا النعيم انظر هذه المُقابَلَة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- بين حال أهل النار -عياذًا بالله- وبين حال أهل الجنة، ففي حال أهل النار قال -جل وعلا- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:2] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}[الغاشية:3] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:4] {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}[الغاشية:5] {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}[الغاشية:6] {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}[الغاشية:7]، وفي هؤلاء قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}[الغاشية:8] {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}[الغاشية:9] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الغاشية:10] {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11] {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ}[الغاشية:12] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ}[الغاشية:13] {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}[الغاشية:14] {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}[الغاشية:15] {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}[الغاشية:16]، ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن ويؤكِّد خبره -سبحانه وتعالى- بأدلة الخلْق، طبعًا هذا القرآن إخبار منه -سبحانه وتعالى-، وكل آية تحمِل دليلها أنها من الله -تبارك وتعالى- لأنها نزلت في غاية الإحكام والإعجاز بحيث أن البشر لا يستطيعون أن يأتوا بقرآن مثله، ويُذكِّر الله -تبارك وتعالى- بآياته المنظورة في الكون -سبحانه وتعالى-، ولإثبات هذا الدين الآيات المسموعة وكذلك الآيات المنظورة، فقال الله -تبارك وتعالى- في الآيات المنظورة {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}[الغاشية:17]، هذا حَضٌّ منه -سبحانه وتعالى- إلى هؤلاء المُكذِّبين بيوم القيامة؛ والمُكذِّبين بهذا المآل الذي سيئول إليه الناس، وأن الناس سيئولون حتمًا إلى المآل الذي يخبر الله -تبارك وتعالى- عنه في هذا اليوم؛ الغاشية، وأنه وجوه تكون على هذا النحو أصحابها ووجوه تكون على هذا النحو أصحابها؛ هؤلاء أهل الجنة وهؤلاء أهل النار.
يقول -تبارك وتعالى- {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}[الغاشية:17]، الإبل خلْق من خلْق الله -تبارك وتعالى-، هذا الحيوان العظيم وفيه من دلائل قُدرة الله -تبارك وتعالى- وعظَمَته أمر عظيم، فأولًا شدة خلْقها؛ متانة هذا الخلْق هذه ناحية، ناحية ثانية هي نفعُها العظيم للناس فهي من أنعام الحَمْل؛ والذي يُنتفَع بلبنِها، وبلحمِها، وكذلك بحَمْلِها، وكذلك من الجَر، وكذلك بوبَرِها وجلدها، ففيها هذه الأربع منافع التي تجتمع كلها في كل هذه الأنعام، الأمر الأخر أخلاقُها؛ أخلاق الإبل وهذا باب عظيم جدًا، فإن الإبل مثلًا من أخلاقِها أولًا ومن صفاتها أنها من أكثر المخلوقات عِلم بالأماكن ومعرفة للطُرُق وهداية لها، فهي تعرف الماء، والشجر، والطُرُق، ولذلك كانت دائمًا في الفيافي، وفي المآمِه الشديدة، وفي الآماكن التي لا يُتعرَّف فيها بالمنارات يُجعَل البعير هو القائد الذي يقود المسيرة؛ ويهتدي في الطُرُق إلى الطريق، فهو أذكى من البشر في معرفة الطُرُق، ولذلك أمَرَ النبي -صل الله عليه وسلم- أن ضالة الإبل لا يُتَعرَّض لها، «لمَّا سُئِل عن ضالة الإبل قال ما لك وما لها؟ قال معها حَذائُها»، يعني الذي تسير فيه؛ اللي هو خُفُّها، «وسِقائُها في بطنها، ترِد الماء»، تعرف أن ترِد الماء، «وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها»، ما لك شُغل فيها؛ فإنها تقوم بنفسها، وهي الحيوان من الأنعام الذي يستطيع أن يستقِل بنفسه دون حاجة إلى الإنسان، فإنه إذا وجِدَ في الصحراء فإنه يستطيع أن يعيش ويُدبِّر أمر نفسه؛ يرِد الماء، ويأتي الشجر، ويستطيع أن يعيش، وفي ولادتها وفي إنتاجها تستقل بنفسها، ثم مناسبتها للبيئة التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى- بها؛ بيئة الصحراء، هذا في الإبل وفي حكمة خلْقِها أمر عظيم وباب عظيم واسع، فالله يقول {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}[الغاشية:17]، وفيها من دلائل عظَمَة الرب -تبارك وتعالى- أمر عظيم جدًا.
{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}[الغاشية:18]، هذا كذلك توجيه من الرب -تبارك وتعالى- أن ننظر في آيات الكون هذه المفتوحة؛ هذا الكتاب المفتوح أمامنا، فيوَجِّه الله -تبارك وتعالى- لنا بصرنا إلى السماء وكيُف رُفِعَت؛ كيف رفعها الله -تبارك وتعالى-؟ وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه رفعها بغير عَمَد ترونها، إما بغير عَمَد محسوسة؛ يعني عَمَد من عنده -سبحانه وتعالى-، وإما بغير عَمَد قط ورفعها الله -تبارك وتعالى- بقُدرته وعنايته، ثم هذا البناء الشديد القوي الذي لا يتهاوى؛ ولا يتفطَّر، ولا يتشقَّق، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، فكيف رُفِعَت؟ هذا أمر عظيم؛ وهذا من دلائل قُدرة الرب -سبحانه وتعالى-، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}[الغاشية:19]، يعني ألا ينظرون إلى هذه الجبال العظيمة؛ وكيف نصَبَها الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، وقد عَلِمَ الناس من شأن الجبال أمر عظيم جدًا؛ عَلِموا أن لكل جبل من هذه الجبال العظيمة له جِذر وتد مغروس به في الأرض ليثبُت فيها بنفسه، وأن الله -تبارك وتعالى- وزَّع هذه الجبال في هذه الأرض يُثَبِّتها بها -سبحانه وتعالى-، {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}[النازعات:32]، فالجبال؛ وكيفياتها، وهيئاتها، واختلافها، والمسارات التي جعلها الله -تبارك وتعالى- فيها، كل هذا آيات من آيات عظَمَتِه -سبحانه وتعالى- وقُدرته على الخلْق، {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[الغاشية:20]، يعني أفلا ينظرون إلا هذه الأرض العظيمة؟ وكيف سَطَحها الله -تبارك وتعالى-؛ وبسَطَها، وجعلها بساط مُمتَد على هذا النحو، فهي وإن كانت كرة إلا أنها بهذا الامتداد وهذا الاتساع مبسوطة ومُمهَّدة لِسُكنى الناس على هذا النحو، فيوجِّه الله -تبارك وتعالى- إلى هذه المخلوقات العظيمة التي هي من دلائل قُدرته، وعظَمَتِه -سبحانه وتعالى-، ورحمته بعباده.
ثم قال -جل وعلا- {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}[الغاشية:21]، يعني ذكِّر الخلْق بإلههم؛ وخالقهم، وربهم -سبحانه وتعالى-، وبطريق العباد إليه، {........ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}[الغاشية:21]، حصَرَ الله -تبارك وتعالى- مهمة الرسول في التذكير، يعني هذا الذي كلَّفَه الله -تبارك وتعالى- به؛ أن يُذكِّر العباد بهذا، وأن يُبلِّغ العباد دين الله -تبارك وتعالى-، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}[الغاشية:21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية:22]، يعني لم يُرسِله الله -تبارك وتعالى- ليُصيطِر على الناس؛ ويُلزِمُهم، ويحكُمُهم في الأمر الشرعي؛ ويجعلهم فيه رغمًا عنهم...لا؛ فإنما ليس النبي بمُصيطِر عليهم، ولم يُرسِلُه الله -تبارك وتعالى- وكيلًا على الخلْق؛ وإنما داعيًا إليهم، ومُرشِدًا لهم، ومُبيِّنًا لهم -صلوات الله والسلام عليه-، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية:22]، ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}[الغاشية:23] {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ}[الغاشية:24]، يعني إلا مَن توَلَّى وكفر فإنه لا يتذكَّر؛ ما تنفعه ذِكرى، مهما ذكَّرَه النبي فإنه لا يتذكَّر، فهذا قد أعدَّ الله -تبارك وتعالى- له عقوبته في الآخرة فقال -جل وعلا- {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ}[الغاشية:24]، يعني عذاب هذا الذي لم يتذكَّر ولم يتعِظ؛ لم يقبَل هُدى الله -تبارك وتعالى- الذي أُرسِلَ به الرسول وهذا التذكير، فهذا يُعذِّبه الله العذاب الأكبر الذي لا عذاب أكبر منه؛ عذاب النار -عياذًا بالله-.
ثم قال -جل وعلا- مؤكِّدًا {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25]، إن؛ بالتأكيد، إلينا؛ إلى الله لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-، إيابهُم؛ رجوعهم، فرجوع العباد كلهم إلى الله، بعد هذه الرحلة في هذه الحياة الجميع عائدون إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، إن؛ للتأكيد كذلك، علينا؛ على الله -سبحانه وتعالى- حسابهم، فالله هو الذي بنفسه -سبحانه وتعالى- يُباشِر حساب خلْقِه كلهم، كل أحد إنما حسابه إلى الله، «ما منكم إلا وسيُكَلِّمه ربه ليس بينه وبينه حاجب أو ترجُمان يحجُبه دونه، فيقول له ألم يأتِك رسول فبلَّغَك؟ وآتيتُك مالًا وأفضلتُ عليك؛ فما قدَّمت لنفسك؟ فلينظرنَّ أيمن منه فلا يرى شيئًا؛ ولينظرنَّ أشأم منه فلا يرى شيئًا، ولينظرنَّ تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشِق تمرة»، فكل حساب الخلْق إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى-، الله هو الذي سيُحاسِبُهُم؛ ولن يُكلِّف أحدًا -سبحانه وتعالى- بحساب خلْقِه، بل الله -تبارك وتعالى- هو الذي سيُحاسِب الجميع، هذه موعظة عظيمة {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرُدَّنا إليه ردًا جميلًا.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.