الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2] {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}[الفجر:4] {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8] {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9] {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10] {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}[الفجر:11] {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر:12] {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- في مَطلَع هذه السورة؛ سورة الفجر، قال {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1]، قَسَم؛ حَلِف من الله -تبارك وتعالى-، {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1]، هذا الوقت من الليل والنهار؛ وهو آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، انفجار النور بذهاب الظلام ومجيء النهار، والتحوُّل بين الليل والنهار آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وهذه النقطة الفاصلة هي بداية ظهور النور ونهاية ذهاب الظلام، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- جريان الليل والنهار على هذه الأرض، وظهور آية النهار بعد آية الليل كلًا منهما فيه النفع العظيم للعباد على هذه الأرض؛ وفي حدوثِهِما أعظم الآية، وقد عَلِمَ الناس بتقدُّم علومهم من كيفية الحدوث أمر عظيم؛ وهي أن هذه الأرض العظيمة بمُحيطاتها الواسعة، وجبالها الشاهقة، وما عليها من البشر، كلها تتحرَّك وتدور حول نفسها دورة أمام هذه الشمس؛ ومن هذه الدورة يتكوَّن الليل والنهار، وفي بداية الليل والنهار تكون هذه الفترة الأولى عند مجيء النهار؛ وظهور النور مُعترِض في الأُفُق، آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ بهيَّة، وقد أوجَبَ الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت على أهل الإسلام صلاة من أشرف الصلوات؛ ومن أعلاها، ومن أحبِّها إلى الله -تبارك وتعالى-؛ صلاة الفجرة.
فالمُقسَم الوقت والصلاة، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا الوقت العظيم الدال على عظِمَتِه؛ وقُدرَته -سبحانه وتعالى-، وإحسانه بعباده -جل وعلا-، وكذلك بهذه الصلاة الشريفة العظيمة التي أوجَبَها الله -تبارك وتعالى- على العباد في هذا الوقت تذكيرًا لهم بربهم -سبحانه وتعالى-؛ وتسبيحًا له، وحمْدًا له -جل وعلا-، فالصلاة إنما وضِعَت لإنشاء ذِكر الله -تبارك وتعالى-؛ ودعائه، والتوجُّه إليه، وهي أشرف أعمال الإنسان، {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بليالٍ عَشْر، قيل أن هذه الليالي العَشر هي الليالي الأخيرة من شهر رمضان؛ وهذه الليالي ليالي شريفة، الله -تبارك وتعالى- خالق الزمان؛ وهو يُشرِّف بعض الزمان على بعض، الله يخلُق ما يشاء ويختار -سبحانه وتعالى-، فاختيار هذه الليالي؛ وتشريفها، وتعظيمها من الله -تبارك وتعالى-، هذه الليالي العَشر شرَّفَها الله بأن جعل فيها ليلة هي أشرف ليالي السنة كلها؛ وهي ليلة القَدْر، والتي جعلها وزادها هذا الشرف هو نزول القرآن؛ بداية نزول القرآن على النبي محمد -صل الله عليه وسلم- في هذه اليلية، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، في هذه الليلة، {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5]، وهذه الليالي العَشر الله -تبارك وتعالى- أخفى فيها ليلة القَدْر عن عباده ليقوموا بالصلاة له -سبحانه وتعالى-؛ ويُحيوها بالذِّكر، والدعاء، والعبادة، والصلاة لله -تبارك وتعالى-، وقد كان نبينا -صلوات الله والسلام عليه- يجتهد فيها في العبادة ما لم يجتهِد في غيرها من الليالي، فكان يقوم الليالي العَشر كلها -صلوات الله والسلام عليه-.
في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «كان رسول الله إذا دخل العَشْر من شهر رمضان جَدَّ؛ واجتهَدَ، وشدَّ المِئزَر، وأيقَظ أهله»، يعني يشُد المِئزَر؛ وهو الحزام على وسَطِه، ويجِد ويجتهد في العبادة؛ ويوقِظ أهله، وأحيا الليل كله -صل الله عليه وسلم-؛ كان يُحيي الليل كله في هذه الليالي العَشْر، وهنا كأيام عَشْر؛ وهذه هي الأيام العَشْر الأولى من شهر ذي الحِجَّة، وفي هذه الأيام يوم عرفة الذي هو أشرف وأعلى الأيام، فمن حيث الأيام هذا اليوم ومن حيث الليالي ليلة القَدْر في العَشْر الأواخر، وقيل أيضًا بأن الليالي العَشْر هي عَشْر ذي الحِجَّة؛ يُقسِم الله -تبارك وتعالى- كذلك بلياليها لفضل أيامها، وسواءٌ كان هذا أم هذا المقصود أن هذه الليالي العَشْر والأيام العَشْر قد اختصَّها الله -تبارك وتعالى- بالفضل؛ وكرَّمَها على بقية أيام وليالي العام، فهذه الأيام جعل فيها -سبحانه وتعالى- خير يوم، «خير يوم طلَعَت فيه الشمس يوم عرفة»، كما قال -صل الله عليه وسلم- «خير يوم طلَعَت فيه الشمس يوم عرفة، وخير ما قُلت من الذِّكر فيه أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له المُلك، وله الحمْد، وهو على كل شيء قدير، وخير ليلة في الليالي كلها هي ليلة القَدْر؛ وليلة القَدْر في العَشْر الأواخر من شهر رمضان»، وإقسام الله -تبارك وتعالى- بهذه الليالي العَشْر لفضلها؛ ولِما جعل فيها -سبحانه وتعالى- من الخير والبركة، ولما يقوم فيها، ولِما أوجَبَه الله -تبارك وتعالى- وحبَّبَه إلى العباد فيها، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2].
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3]، قيل الشَّفع والوَتر كل شفع ووَتر، السَّلَف المُفسِّرون فسَّروا الشَّفع والوَتر بأن الله -تبارك وتعالى- يُقسِم بكل شفعٍ ووَتر، أما الوَتر والوِتر فهو الله -سبحانه وتعالى-، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الله وِتر يُحِب الوِتر»، والشَّفع؛ كل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فكل خلْق الله -تبارك وتعالى- زوجين، خلَقَ الله -تبارك وتعالى- دائمًا كل المخلوقات زوجين، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الوِتر الذي لا نِد له؛ ولا شبيه له، ولا كُفء له، ولا مثيل له، لكن من كل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- كلٌ له شكله وله زوجُه، فالملائكة أزواج؛ أعداد هائلة من الملائكة مُتشابِهون، والبشر، وكل الخلْق، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه الذي لا نِدَّ له؛ ولا شبيه له، ولا نظير له -سبحانه وتعالى-، وقيل المُقسَم به بالشَّفع والوَتر؛ شفع الصلاة ووِتر الصلاة، فإن الصلاة قد فرضها الله -تبارك وتعالى- وشرَعَها الله لعباده منها شفع ومنها وَتر، فمن الوَتر وِتر النهار؛ المغرب ثلاث ركعات، فُرِضَت ثلاث ركعات هي وِتر النهار، تُختَم الصلوات بوِتر ففي المغرب، ووِتر الليل وهو الوِتر الذي حُبِّب إلينا أو أوجِبَ علينا، كما يقول بعض أهل العِلم بأنه واجب؛ الوِتر واجب، وهو وِتر الليل، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وِترًا»، وقال «لا وِتران في ليلة»، لا وِتران في ليلة حتى يكون وِتر واحد، وهو أن الإنسان يختِم صلاته في الليل بركعة واحدة فتختِم له صلاته، فيكون الشَّفع كل زوج في الصلاة، ويكون الوِتر اللي هو ما أُمِرنا أن نختم به الصلاة؛ صلاة النهار بالمغرب، وصلاة الليل بوِتر الليل بركعة واحدة، وقيل في الشَّفع والوِتر غير ذلك مما يُطلَق عليه الشَّفع والوِتر، وإقسام الله -تبارك وتعالى- بالشَّفع والوِتر سواءً بهذه المخلوقات وبه -سبحانه وتعالى-؛ بذاته العَليَّة، فإنه وِتر ويُحِب الوِتر، أو بالصلاة فإن هذا قَسَم بعمل شريف وبأفضل الأعمال؛ وهي الصلاة التي هي خير ما وضَعَ الله -تبارك وتعالى- لأهل الأرض.
ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}[الفجر:4]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالليل إذا يَسْر؛ عند سريانه ومسيرته، وهو آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، يبدأ الليل بغروب الشمس ثم يسير مساره إلى أن يأتي وقت النهار، يَسْر؛ في الزمان، وكذلك يَسْر عندما يسير كذلك على سطح هذه الأرض، فإن الليل يتعاقَب النهار مكانًا كما يتعاقَبُه زمانًا، فإنه في المكان كذلك يحُل؛ يطرد النهار أمامه ويحُل محِلَّه، والعكس كذلك؛ يأتي النهار خلف الليل، فيطرُد الليل من أمامه ويحُلُّ مكانه، فسريان الليل على هذا النحو؛ على هذه الأرض وقتًا وزمانًا آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-، وفي سريان الليل الله -تبارك وتعالى- جعل الليل مكانًا لعبادة عظيمة؛ وهي قيام الليل، والتي فرضها الله -تبارك وتعالى- أولًا على المسلمين ثم خفَّفَها الله -تبارك وتعالى-، فقال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5]، فكان هذا أن الليل وقت عظيم؛ بهدوئه، وسكونه، وسدوله، لقيام العبد بين يدي ربه -تبارك وتعالى- للصلاة، وصلاة الليل هي أشرف الصلوات وأعلاها، كما سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- عن أفضل الصلاة فقال «الصلاة في جوف الليل»، فالصلاة في جوف الليل هي أشرف صلاة لأنها أبعد عن الرياء والسُمعة؛ وأصفى للذِّهن، وأقوم قيلًا عندما يقوم الإنسان بكلام الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، فإقسام الله -تبارك وتعالى- بالليل إذا يَسْر مع تجانُس هذه الأقسام دليل على أن الليل هو وقت عظيم لأن يقوم العبد بين يدي ربه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- بعد هذه الأقسام {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5]، هل في ذلك؛ في ما أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- به بالفجر، والليالي العَشْر، والشَّفع، والوَتر، والليل إذا يَسْر، قَسَم؛ يعني عظيم، لذي حِجر؛ لصاحب عقل، العقل يُسمَّى حِجر لأنه يحجُر على صاحبه أن يفعل ما لا يليق؛ والخبيث، وأن يقع فيما يشين، وسُمِّيَ عقل لأنه يعقِلُه كذلك؛ وحِجر لأنه يحجُر عليه، كما سُمِّيَ هذا المكان الذي بُنيَت عليه الكعبة حِجر؛ حِجر الكعبة، لأنه يحجُر؛ يعني يمنع الطائف من أن يدخل فيه لأن هذا المكان مكان من البيت، لم يُبنى البيت على قواعدة التي بناها إبراهيم فبنَت قُريش هذا؛ وسُمِّيَ هذا الحِجر لأن هذا لجدار يحجُر الطائف أن يدخل فيطوف به، والحال أن هذا من البيت فكأنه طاف من داخل البيت، فعقل الإنسان حِجر لأنه يحجُر عليه فعل ما لا يليق، {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5]، يعني لِذي عقل؛ واحد عنده عقل والله يُقسِم بهذا، وإقسام الله -تبارك وتعالى- بهذه الأوقات والأعمال الشريفة العظيمة؛ التي هي أفضل أعمال العبد وأنفعها له، فأنفع أعمال العبد له الصلاة، ممكن أن يُمارِس الإنسان أعمال كثيرة؛ يبيع، يشتري، يُتاجِر، يفلَح، يزرع، من أعمال هذه الدنيا فإنه لا عمل أنفع له من أن يقوم بالصلاة، فصلاة ركعتين خير من الدنيا وما فيها، فلو أن الإنسان قام ليُصلي ركعتين بين يدي الله -تبارك وتعالى- فإنهما خيرٌ له من الدنيا وما فيها، ولا شك أنه لو قام إنسان يشتغِل طول عُمرِه في الدنيا فإنه لن يحوز الدنيا كلها وما فيها، وإن أمضى عُمرَه كله كَدحًا وجمعًا في هذه الدنيا فإنه لا يستطيع أن يجمعها كلها؛ سيجمع منها شيء قليل في كل عُمرِه، وكَدِّه، وعمله، لكنه لو قام بين يدي الله -تبارك وتعالى- ثلاث دقائق أو أربع دقائق يُصلِّي فيها ركعتين فهي خير له من كل هذه الدنيا، كما قال -صل الله عليه وسلم- «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، فصلاة ركعتي الفجر خير من الدنيا كلها وما فيها، فأنفع عمل؛ وأعلى عمل، وأشرف عمل للإنسان أن يعمله؛ وأن يعود عليه بالنفع الصلاة.
الله -تبارك وتعالى- عندما يُقسِم بهذه الأعمال الشريفة؛ العظيمة، الفاضلة، التي هي أنفع الأعمال للإنسان، وكذلك بهذه الأوقات العظيمة التي تدُل على عظَمَته؛ وعلى خلْقِه البديع، وإحسانه بعباده -سبحانه وتعالى-، أمر عظيم؛ فهذا قَسَم عظيم، الله يقول {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5]، لصاحب عقل، والجواب نعم، في هذه الأقسام عندما يُقسِم الله -تبارك وتعالى- مُعظِّمًا هذه الآيات العظيمة؛ وما أوجَدَ الله -تبارك وتعالى- فيها من العبادات العظيمة، فإنها أقسام عظيمة لكن لصاحب العقل الذي يعقِل عن الله -تبارك وتعالى-؛ فيرى أن الله -تبارك وتعالى- قد أقسَمَ بعظيم على عظيم، أقسَمَ بعظيم؛ بهذه الآيات الكونية، على عظيم؛ على هذه الصلوات العظيمة، وهذه القُرُبات العظيمة التي شرَعَها الله -تبارك وتعالى- في هذه الأوقات الشريفة.
ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6]، لا إله إلا الله؛ الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، يذكُر الله -تبارك وتعالى- هنا عقوبته ونِقمَتَه في أهل الشر والفساد؛ وأهل العلوا والتجبُّر، فبدأ الله -تبارك وتعالى- بذِكْر عاد؛ القبيلة العربية التي سكنَت في هذه الجزيرة في الأحقاف، وكانت قبيلة عاتية؛ أولًا كانوا من أشد الناس بل أشد الناس خلْقًا وقوة، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6]، ثم ذكَرَ وعرَّفَ عاد فقال {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7]، فهم عاد؛ أبوهم، وهم أبناء إرَم ابن عَوص ابن سام ابن نوح؛ هذا تعريف بِهم، إرَم؛ أبوهم، {........ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7]، العماد لأنهم كانوا أهل عمود؛ وهم أهل خيام يُقيمونها بالأعمدة، فالله -تبارك وتعالى- عرَّفَهم بهذا {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7]، يعني أصحاب الخيام التي كانوا يُقيمونها بالأعمدة، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8]، هذه القبيلة التي لم يُخلَق مثلها؛ لم يُخلَق مثل خلْقِها، في البلاد؛ في كل بلاد الله -تبارك وتعالى-، كما قال لهم نبيهم {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}، فزادهم الله -تبارك وتعالى- بسطةً في الخلْق؛ البسطة في الطول، وفي العرض، وكذلك في المكانة، وكذلك قال -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، سؤال يُريدون به التقرير أنه لا أحد في الأرض أمامهم هو أشد منهم قوة؛ أطول أجسام، أقواها، كذلك أشد الأمم بطشًا بعدوهم، كما قال لهم أيضًا نبيهم هود -عليه السلام- {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128]، آية في البناء، ريع؛ طريق في الجبال، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]، يعني إذا بطشوا بعدو لهم فعلوا بهم صُنع الجبابرة الذي يُنزِلون بأسهم الشديد بعدوهم، فهي قبيلة عاتية؛ مُتجَبِّرة، قوية الخلْق.
فهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يُذَكِّر بصنيعه -سبحانه وتعالى- فيهم، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8]، والذي فعَلَه الله -تبارك وتعالى- بهم قد قصَّه علينا فأخبر -سبحانه وتعالى- بأنه قد أرسَلَ عليهم عذابًا من الريح التي ظلَّت تسفي عليهم حتى أهلكتهم، فأهلكهم الله -تبارك وتعالى- بالريح، كما قال -جل وعلا- {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت:15] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}[فصلت:16]، فيقول {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}، فيها صَر يعني صرير؛ صوت عند عَصفِها وشدتها، ريح باردة، وقد قال النبي «نُصِرت بالصبا وأُهلِكَت عاد بالدابور»، فهي ريح الدابور الجافة؛ الباردة، التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- عليهم سبع ليالٍ تسفي عليهم وثمانية أيامٍ حسومًا، قال –جل وعلا- {........ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، فترى القوم؛ ترى هذه القبيلة كلها، صرعى؛ المصروع هو الواقِع لوجهه أو لظهره، كأنهم أعجاز نخل خاوية يعني يصير جسَد كل منهم قد يَبُس واسوَدَّ كأنه ساق النخلة الخاوي؛ الذي مكَث مدة طويلة في الشمش والعراء، حتى تهرَّى ما بهذه النخلة وأصبح عبارة عن غلافًا يابِسًا، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8].
فهذا الذي صنَعَه الله -تبارك وتعالى- فيهم؛ وقد جائهم هذا الأمر على غير حسبانهم، كما قال -تبارك وتعالى- {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}، يعني قادم مُعترِض في الأُفُق ومستقبِل أوديتهم؛ أوديتهم التي يزرعون فيها، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، ظنوا أنه سحاب كثيف وقد جائهم من الجهة التي يأتي فيها السحاب في العادة؛ وأن هذا قادم وسيُمطِرُهم، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، قال -جل وعلا- {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ}، بل هو ما استعجلتم به لأنهم قالوا لنبيهم فأتِنا بالعذاب إن كنت صادقًا، {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ........}[الأحقاف:25]، يعني أصبحوا صرعى وموتى لم يبقَ فيهم إلا بيوتهم قائمة خاوية؛ ليس فيها أحد، {........ فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25]، كذلك؛ يعني كهذا الجزاء الشديد والعقوبة الشديدة التي أنزلها الله –تبارك وتعالى- بأعدائه؛ بعاد، يجزي الله -تبارك وتعالى- أعدائه، فيُذكِّر الله -تبارك وتعالى- بصنيعه في هؤلاء المجرمين فقال {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8].
ثم قال -جل وعلا- {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- قبيلة أُخرى من قبائل العرب كانت عاتية على أمر الله -تبارك وتعالى-؛ وكذلك مُتمَكِّنة في الدنيا تمكُّن عظيم، فهم الذي جابوا الصخر بالواد، جابوه يعني أنهم حفروه، والجَوب؛ الشَّق، ومنه جيب الثوب لأنه شَق، فكانوا يشُقُّون الصخور ويجوبونها في الجبال؛ ويبنون بيوتهم داخل الجبل، يعني يدخل الجبل فيُجوِّبُه؛ يجعله مثل الجَوبَة ويدخل فيه، ويصنع فيه غُرَفَه؛ ودهاليزه، وساحاته في داخل الجبل، ومازالت بعض مساكنهم قائمة إلى اليوم محفورة حفرًا عظيمًا في داخل الجبل، وإقامة المساكن على هذا النحو؛ أن تُنحَت في داخل الصخور دليل قوة، ودليل عظَمَة، ودليل مهارة وحِرفة هائلة؛ وعِلم عظيم جدًا، وقُدرة وآلات لِتُمكِّنُهُم من بناء مساكنهم على هذا النحو، فإنه من الأسهل قطع الصخر وبنائه في الأودية... نعم، أما أن تُشَق الصخور وتُبنى البيوت فيها كما قال لهم نبيهم {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}[الشعراء:149]، الفارِه يعني الواسع العظيم.
فهنا يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده بنقمَته في هذه القبيلة كذلك، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، بالواد من أرض ثمود وهي أرض الحِجر؛ وهي مدائن صالح، معروفة ليومنا هذا ومازالت مساكنهم لهذا اليوم قائمة وشاهدة على قوتهم وصلابتهم، والذي صنَعَه الله -تبارك وتعالى- بهم هو أن أرسَلَ عليهم صيحة، مَلَك صاح فيهم صيحة واحدة، كما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، كهشيم؛ والهشيم هو العُشْب والنبات الذي يتهشَّم، إذا احتُظِر ومرَّ عليه عام؛ وضِعَ في الحظيرة لمدة عام، فإنه بعد سنة فإن هذا العُشْب أو هذا النبت يتحطَّم ويصبح إلى قش صغير، فجعل الله -تبارك وتعالى- أجسادهم على هذا النحو بهذه الصعقة التي جائتهم من نفخة مَلَك واحد أو صيحة مَلَك واحد، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، ثم قال -جل وعلا- {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10] {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}[الفجر:11] {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر:12] {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13]، أن هؤلاء كذلك أهلكَهُم الله -تبارك وتعالى- كما أهلَكَ عاد وثمود.
وسنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.