الأربعاء 16 شوّال 1445 . 24 أبريل 2024

الحلقة (78) - سورة البقرة 272-275

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله رسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[البقرة:272] قال أهل العلم أن السبب في نزول هذه الآية أن بعض الصحابة من الأنصار -رضي الله -تعالى- عنهم كانوا ينفقون على بعض الأقرباء لهم من الكفار؛ رجاء أن يؤمنوا، أي تأليفا لقلوبهم، ولعلهم أن يؤمنوا،،  فتكون النفقة عليهم من باب تحبيبهم في الدين فاستبطئوا إسلامهم؛ فقطعوا النفقة عنهم؛ فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ،والخطاب للنبي -صلوات الله وسلامه عليه- وهو للأمة كلهم، وهو بيان أن انشراح صدر شخص إلى الإسلام، ودخوله فى الإيمان إنما هو لله -سبحانه وتعالى- فهذا،  فعل الله، جعله الله له، ولم يجعله لأحد { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، فهدى من يهتدي إنما هو أمره إلى الله -تبارك وتعالى-، ممكن أن يبذل المؤمن السبب، ولكن الهدى هدى الله -تبارك وتعالى- وهذا مصداق قوله -تبارك وتعالى- {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........} [القصص:56] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء........}[البقرة:272] فهذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، هداية من يهتدي من البشر إنما هو لله وحده -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ} أنت يا من تنفق، سواء تنفق على هذا الكافر الذى كنت ترجو إيمانه، أو تنفق على مسلم، أو فى أي باب من أبواب الخير، إنما تفعل هذا لنفسك، بمعنى أنك ترجو بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى- من الثواب، والأجر؛ فإن كنت تنفق على هذا الكافر، فأنت تنفق لله -تبارك وتعالى-، وأجرك قد وقع على الله -جل وعلا- ولا يهمك  بعد ذلك تأخر إسلامه، أسلم أم لم يسلم فإن أجرك موفر عند الله -تبارك وتعالى-، وفى هذا جواز الإنفاق على الكافر، وأن الهدى هدى الله، وأن صاحبه مأجور،

وطبعا النفقة على الكافر بشروطها كما قال -تبارك وتعالى- {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:9] فإعطاء النفقة على الكافر أيا كان، ، كافرا مسالما، معاهدا،  أو مستأمنا مادام أنه غير محارب لله ورسوله، محاد لله ورسوله؛ فهذا فيه الأجر والمثوبة { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ} أي أجره، وثوابه فى النهاية { وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} خبر، وكذلك يراد به الإنشاء؛ فأنت أيها المؤمن تنفق - تريد وجه الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنك فى النهاية فعلته من أجل الله -تبارك وتعالى- ،ومن أجل أن تُرزق الجنة وتنظر إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى-وهو أعظم ما يعطى العبد فى الجنة، وتريد وجهه، تريد ثوابه وعطاءه -سبحانه وتعالى- {........وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[البقرة:272]  { مَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي نوع من أنواع الخير , من هنا للتأكيد ، هذا الأمر ولو شيئاً صغيرا، خيراً مهما كان هذا الخير صغيرا { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ }يوف إليكم تأخذون أجره وافياً، والأجر الوافي هو الكامل؛ وقال الله -تبارك وتعالى- يوًفً بالبناء لما لم يُسم فاعله، هو الذى يوفيه هو الله -تبارك وتعالى-.

{ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} وأنتم لا تظلمون لا يظلمكم الله -تبارك وتعالى- ولا يبخسكم  من أجركم شيئا مهما كان،  فإذن هذا حثُ من الله -سبحانه وتعالى- على أن ينفق المنفق ما ينفق، ولا يخاف صغيراً كان أم   كبيراً، فى أي وجه، مادام أن هذا الوجه مشروع للنفقة فلا يخاف  من أن يضيع شيئا من صدقته؛ وقد جاء فى الحديث أن رجلا قال أتصدقن اليوم بصدقة فخرج بصدقته ليلاً ثم وضعها فى يد شخص سرًا وسار؛ ثم أصبح الناس يتحدثون :  تُصدٍقً اليوم على غني فقد  كان إذا بالرجل أعطاه رجلا غنيا، وليس من أهل الصدقة، ولكن هذا الرجل أراد أن يخفي صدقته، ويتصدق بصدقة وهو مار؛ فقال سبحان الله على غني لأتصدقن، يعنى الليلة بصدقة، فكان يريد أن  يضع صدقته في محلها  فرأى سوادا فى الليل فأعطاه صدقته فإذا به سارق فأصبح الناس يتحدثون من اليوم الثاني قالوا تُصدٍقً اليوم على سارق أي  عُرف فعله، وبدأ الناس يتحدثون فى هذا فقال سبحان الله على غني وعلى سارق لا لأتصدقن  الليل بصدقة؛ فخرج بصدقة أخرى فى الليلة الثالثة؛ ثم وهو سائر فى سواد الليل أعطاها امرأة موجودة، فأعطاها، وسار وإذا بهذه المرأة زانية فأصبح الناس يتحدثون تُصدٍق الليلة على زانية؛ فقال سبحان الله على غني، وعلى سارق، وعلى زانية، يعنى ما هذا الحظ أنى كلما نذرت نذرا، وتصدقت بصدقة فى ليلة وضعتها يعنى فى غير مواضعها؛ فأرسل الله -تبارك وتعالى- له من يخبره قال له، يقول الله -تبارك وتعالى-  «قد قبلت صدقة عبدى» أما الصدقة على الغني فلعله أن يستحي فيتصدق، يعنى ما فعلته مع الغني ليس شراً وليس ضائعا بل إنه ربما الرجل الغني يرى من فعل الرجل المتصدق فيستحي وعنده مال  فيتصدقً وأما السارق فلعله أن يستعفً بهذه الصدقة، ربما السارق يستحي ويترك السرقة،  وأما الزانية فلعلها أن تستعف أن تستعف بهذه الصدقة فلا تخرج تطلب الأجرأ فربما أنها إذا  أخذت هذا اكتفت بالحلال عن الحرام، فالصدقة كلها خير، فقول الله -تبارك وتعالى- { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي خير{ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون}.

 ثم وجه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك إلى أفضل وجوه النفقة الآية السابقة بيًن أنه أي صدقة تعطى ولو للكافر فأجرها واقع على الله -تبارك وتعالى-

هذه الآية تبين الوجه الأمثل الذى ينبغي أن يتوجه اليهم المتصدقون، قال -جل وعلا- {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:273] للفقراء، يعنى اجعلوا صدقتكم، وإحسانكم للفقراء الذين أُحصروا فى سبيل الله، أُحصروا بمعنى أنهم، مُنعوا، وحُبسوا على هذا الأمر، أو فى هذا الأمر فى سبيل الله، فى سبيل الله، فى الجهاد، أي أنهم أصبحوا محصورين فى الجهاد، عملهم للجهاد؛ كما كان الشأن  فى أهل الصُفًة من  فقراء المسلمين أنهم قد كانوا، موقوفين للجهاد فى سبيل الله { أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} فهم ليسوا من أهل الخبرة، و لا من أهل المال فلا يستطيعون  أن يضربوا فى الأرض، يضربوا فى الأرض، الضرب فى الأرض كناية عن السعي فيها، وكأن الساعي فى الأرض يسير  يضرب الأرض بقدمه {فلا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} يعنى سفرا فيها للتجارة، والكسب؛ لقلة ذات اليد، وعدم خبرتهم فى هذا، وحبسهم  أنفسهم، على الجهاد فى سبيل الله.

{ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الجاهل هنا الجاهل بحالهم، يحسبهم أغنياء من التعفف، يعنى من تعففهم وعدم سؤالهم الناس، وظهورهم بمظهر المكتفي، والغني، والمستغني عن الناس فإن الناظر إليهم، ممن لم يخبر حالهم، ولم يعرف أمرهم فإنه يحسبهم أغنياء، يعنى  أنهم مكتفون، والحال أنهم فقراء معروفون.

 قال -جل وعلا- {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} تعرفهم بسيماهم، بسيماهم بعلاماتهم؛ قيل هذه العلامة، علامة الحاجة، وخشوعهم، و انكسارهم هذا الانكسار الذى فيهم يدل ذا البصيرة وذا العلم بالناس أن هذا صاحب حاجة,  فقد يكون يظهر عليهم الجوع الشديد، يظهر عليهم الحزن والانكسار، وهذا يعرفه من له خبرة بهذا الأمر، وأما من جهل حالهم فإنه  لا ينتبه لهم  { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} بعلامات فيهم

{ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} الإلحاف  وهو التشديد فى المسألة{ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} هنا البيان أنهم لا يسألون الناس مطلقاً أي لا يسألون الناس مطلقاً حتى يلحفوا، فهم لا يلحفون فى المسألة، بمعنى أنهم إن تعرضوا لأمر، فإنما يكون بهذه السمة، وهذه الأمر الذى يظهر عليهم، وليس بالسؤال، والطلب، وإعادة الطلب؛ فهذا الإلحاح ، وطلب بعد طلب، فيخبرنا  الله -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء هم أولى الناس بالنفقة ، فهم  أهل الله الفقراء، المعوزون، المتعففون، القائمون بالجهاد فى سبيل الله.

 قال  -جل وعلا-{........وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:273]  ختام الآية كذلك بالتأكيد على هذا المعنى أن أيَ خير ينفقه الإنسان تمرة، لقمة، أو كسوة، أي شيء فيه خير ينتفع به إنسان  أنفقه فى سبيل الله فإن الله عليم به -سبحانه وتعالى- لا يضيعه، وهذا حث عظيم على أن ينفق الإنسان ما يستطيع، وأن لا يحتقر شيئا أن ينفقه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-  «يا معشر النساء لا تحقرنً إحداكن  أن تهدي جارتها ولو فِرسِن شاة » فالهدية ليست صدقة، ولكن هذا من باب أن  المؤمن ينبغي ألا  يمتنع عن أن يهدي أي شيء فيه خير، وأن يتصدق بأي شيء فيه خير؛ فإن الله عليم به، ولا يضيعه -سبحانه وتعالى-.

 ثم ختم الله تبارك وتعالى آيات  النفقة بآية عظيمة، جامعة تجمع كل، هذه المعاني السابقة فى آيات  الإنفاق  قال جل وعلا {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:274] إعلان من الله -تبارك وتعالى- فى ختام هذه الآيات فى النفقة قال الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ينفقون أموالهم، أيُ مال هنا؛ لأنه مفتوح باب الإنفاق حتى إن الإنسان ينفق فى سبيل الله كل ما فضل عن الحاجة، وقول الله -تبارك وتعالى- أموالهم لأن ما ينفق على النفس كذلك ممكن أن يكون نفقة فى سبيل الله إذا ابتُغِيَ به وجه الله {فالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فهم مستمرون فيها ليلاً ونهارًا على الليل، والنهار في كل زمان  {سِرًّا وَعَلانِيَةً} قدًم السر على  العلانية؛ لأن السر أفضل لقول الله {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...... }..}[البقرة:271] أي  أجر لكم؛ سراً أفضل وعلانية بعدها، فهذا كذلك كله فيه أجر.

 قال -جل وعلا-{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} تعقيب، وتأكيد، وسبب أنه بفعلهم هذا أصبح لهم أجرهم عند ربهم قال الله أجرهم، لأن الله سيعطيه لهم؛ ثم قال "عند ربهم"  ليبين أنه فى الحفظ والصون؛ ثم قال عند ربهم، ما قال عند الله مثلا ليبين أنه ربهم، إلههم، سيدهم، خالقهم؛ فنسبهم إليه -سبحانه وتعالى- وأنه مادام أنه عند ربهم فلا ضيع -سبحانه وتعالى- عنده -سبحانه وتعالى-.

 { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذه وثيقة أمان كاملة من الرب لهم، لا خوف عليهم فيما يُستقبل من الزمان؛ فالله يؤمنهم من كل المخاوف المستقبلية، مخاوف القبر، مخاوف القيامة، مخاوف الصراط، النار,  كل هذا الخوف المستقبل يؤمنهم الله -تبارك وتعالى- فيه ، فهذا أمان إلى الجنة، ثم ولاهم يحزنون فيما خلفوه، فلا يخافون من أي شيء مضى، من ذنوبهم، من معاصيهم، مما تركوه خلف ظهورهم كل هذا كذلك، يعنى تأمين منه -سبحانه وتعالى- {........وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:274] هذه آية ، شاملة، جامعة يحث الله -تبارك وتعالى- فيها عباده المؤمنين بأن ينفقوا أموالهم بالليل والنهار فى الصورة الممكنة، صورة السر، والعلانية، وأن هؤلاء الذين يفعلون هذا، فلهم أمان عند الله -تبارك وتعالى-  أمان من كل المخاوف المستقبلة، وكذلك أمان من كل الأحزان الماضية.

بعد هذا؛ أتى الله -تبارك وتعالى- بالصورة المقابلة هذه صورة الإنفاق، وهذا بيانه بينً الله بيانه، ومراتبه، وأحواله وكل أمر فيه،  ثم الصورة المقابلة صورة المرابي، الربا، وهذا الربا ضد الصدقة، هذه الصدقة باب الخير، والربا باب شر؛ لأن المرابي إنما هو يمتص، ويأخذ من الآخر؛ فحتى تتضح الصورتين قال الله -تبارك وتعالى- فى الربا أول آية فيه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] أول حديث عن المرابين فى أول آية فى الربا بعد الصدقة ، يأتي إعلانا للصورة المهينة، والتهديد الشديد من الله -تبارك وتعالى-،  الصورة المهينة الذى يكون عليها المرابون يوم القيامة فقال { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَ}ا هذا فى الدنيا، لا يقومون من قبورهم{ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} والذى يتخبطه الشيطان، التخبط هو عدم السير على طريق سليم، فالذي يتخبطه الشيطان هو الذى يضربه يمينا، ويضربه شمالا، من المس اذا كان ممسوسا، فالممسوس من مسه الشيطان وآذاه فى عقله، وفى بدنه، فإنه يتخبط يمكن أن  يضربه ذات اليمين، ويضربه ذات الشمال، ويصرعه هنا، ويصرعه هنا، فشبه الله -تبارك وتعالى- وأخبر -سبحانه وتعالى- أن أهل الربا لا يقومون؛ قال أهل العلم لا يقومون هنا لا يقومون أي من قبورهم إلا كما يقوم الذي  يتخبطه الشيطان من المس، يعنى يقوم عياذا  بالله، ويُصرع، ويتخبط به هنا، وهنا، فيكون حاله، ومشهده فى الموقف مشهدا يثير الفزع ، وحاله الذى يرثى له عندما يقوم عياذا بالله على هذا الحال.

طبعا هذا ما ينتتظره من النار بعد هذا، لكن هذه صوره يعنى كأنها تصبح صورة له، وعلامة مميزة لجريمته هذه فى الموقف، وقد جاء أن كل صاحب جريمة يكون له صورة من صور الحشر عياذا بالله،  فالمتكبرون يحشرون كأمثال الذر يوم القيامة، مثل النمل يطؤهم  كل شيء، والغادر يُنصب له لواء تحت إسوته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-  «لكل غادر لواء ينصب له تحت إسوته يوم القيامة تكتب فيها غدرته»،  فكل أهل جريمة يبعثون على هيئاتهم، وأشكالهم في الجريمة، كما أن كذلك أهل الإيمان يبعثون على هيئاتهم الطيبة،  فالذي يموت وهو محرم في حج، أو عمرة يبعث ملبيا، يبعث كذلك ويقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، والمجاهد يبعث على حاله، وجرحه يثعُب دماً كهيئته تماماً يوم جُرح كما قال النبي -عليه وسلم-  «اللون لون دم والريح ريح مسك» فما من مكلوم  يُكلم في سبيل الله إلا جاء به صاحبه يوم القيامة ، الكلم الجرح اللون لون دم، والريح ريح مسك، فكما أن أهل الإيمان يُبعثون على هيئاتهم الطيبة، وطاعاتهم التي كانوا عليها، هذا المرابي الذى لم يترك الربا حتى مات فيبعث على هذه الهيئة الخبيثة، هيئة من يتخبطه الشيطان، يصرعه يميناً، ويصرعه شمالاً عياذا بالله فيعرفه أهل الموقف أن هذا الذى يتخبط به على هذا النحو كان مرابيا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ........}[البقرة:275] عقوبة

ثم يبين الله -تبارك وتعالى- لما كانت هذه العقوبة، قال -جل وعلا-{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا }اعترضوا على التشريع، وجعلوا أن نهي الله -تبارك وتعالى- عن هذا الأمر ليس فيه حكمة؛ فإن الربا كسب، والتجارة كذلك كسب، التاجر يكسب بالبيع فيشتري الشيء بعشرة، ويبيعه بعشرين مثلاً؛ فقالو هذا مثل هذا، وهذا كذلك يعطي عشرة، ويأخذ عليها عشرة فهذا قد أفاده أنه أعطاه المال ليستفيد به، إما فى استهلاك، وإما فى إنتاج، فيأخذ، فهذا استفاد بالمال، وهذا كذلك أعطاه سلعة فاستفاد بها، فلماذا يحرم كسب التجارة؟ كسب البيع لماذا يباح كسب التجارة، ويحرم كسب الربا؟، هذه مثل هذه، فكأنهم نسبوا إلى الرب -تبارك وتعالى- عدم الحكمة والتفريق بين المتماثلين ؛ فقالو هذه مثل هذا، ومن لم يفرق، يعنى، ومن فرق بين المتماثلين لا يكون حكيماً؛ فاعترضوا على تشريع الرب.

 قال -جل وعلا- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا رهذا حكم الله -سبحانه وتعالى-  هو الذى أحل البيع، وأحل المكاسب منه، وحرّم الربا، حرم كسب الربا، وإذا كان الله هو الذى أحل هذا وحرم هذا، لاشك أنه يكون هذا غير هذا؛ لا يمكن أن يكون هذا الكسب مثل هذا الكسب، لأنه الرب الإله الحكيم -سبحانه وتعالى- ، فكيف يفرق بين متماثلين؟! لابد أن يكون هذا غير هذا.

 قال -جل وعلا- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وهذه موعظة زجر، ومن هذا الزجر بيان الصورة، والحالة التى يكون عليها هذا المرابي يوم القيامة؛ وكذلك النهي الشديد أن الله هو الذى أحل هذا، وحرم هذا أحل البيع، وحرم الربا { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى} يعنى عن أكل الربا  {فَلَهُ مَا سَلَفَ} له ما سلف، أي  مما أكله من الربا {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له {وَمَنْ عَادَ} أي  إلى أكل الربا بعد أن جاءه البيان، وجاءه الأمر {........فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] أولئك يعنى هؤلاء الموصوفون، وكأنه أُشير إليهم بالبعيد تحقيراً لهم، وإبعاداً لهم، أصحاب النار، أصحابها، مُلاًكها، المصاحبون لها، الصحبة هي الرفقة الطويلة، وهذه رفقة لا تنقطع {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} باقون بقاءً أبديًّا.

 أما الربا فى اللغة فهو الزيادة، ربا الشيء بمعنى زاد، ومنه معنى الزيادة قول الله -تبارك وتعالى- قول الله -تبارك وتعالى- {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} والربا أبواب كثيرة، ولكنه ينقسم فى الجملة إلى قسمين، ربا يسميه أهل العلم ، ربا الفضل، وربا يسمى ربا النسيئة؛ أما ربا الفضل فهو بيع الشيء من جنسه متفاضلاً، وأما ربا النسيئة فإنه كل زيادة على المال فى مقابل أجل.

 ولهذا إن شاء الله تفصيل فى الحلقة الآتية.أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.