الثلاثاء 07 ذو القعدة 1445 . 14 مايو 2024

الحلقة (780) - سورة الفجر 10-23

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8] {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9] {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10] {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}[الفجر:11] {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر:12] {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14] {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر:16] {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر:17] {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18] {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}[الفجر:19] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:20] {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}[الفجر:21] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22] {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، سورة الفجر، أقسَم الله -تبارك وتعالى- في مطلع هذه السورة بهذه الأقسام العظيمة فقال {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2] {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}[الفجر:4]، أربعة أقسام لأوقات عظيمة؛ وهذه الأوقات شرَعَ الله -تبارك وتعالى- فيها عبادات عظيمة من الصلوات، وهذه العبادات من الصلاة أشرف وأعلى ما يعمله الإنسان؛ هذا أشرف عمله، وأنفعه له، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذه الأوقات العظيمة؛ وما شرَعَ الله -تبارك وتعالى- فيها لعباده من العبادات العظيمة، وقال {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر:5].

ثم ذكَّرَ الله -تبارك وتعالى- عقوبته ونِقمَته في المُعاندين المُكذِّبين؛ فذكَرَ أول أكبر الأمم المعاندة على الأرض وهم عاد، قال {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}[الفجر:6]، هذه القبيلة العربية العاتية المُتجَبِّرة، قال -جل وعلا- {إِرَمَ}، تعريف لهم، {........ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:7]، أهل الخيام العظيمة، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}[الفجر:8]، ما وجِد مثل خلْقها شدة، وقد قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، وقال لهم رسولهم {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ}، لكنهم عتوا؛ وتجَبَّروا، وقالوا لن نترك ما يعبده آباؤنا، قالوا لرسولهم {........ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22]، وكذَّبوا وعاندوا فكان من أمر الله -تبارك وتعالى- أن دمَّرَهم بالريح العقيم، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]، قبيلة عربية أُخرى عتَوا، أولًا عاشوا؛ وعمَّروا، وقاموا، وكان من قُدرَتهم وحِرفَتهم أنهم كانوا يشقُّون الصخر ليُقيموا فيه مساكنهم، وقال لهم رسولهم {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}[الشعراء:146] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:147] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء:148] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}[الشعراء:149] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:150]، لكهم لم يُطيعوا أمر الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء ثمود الذي جابوا الصخر بالواد أهلكهم الله -تبارك وتعالى-؛ وقد أهلكهم بالصيحة، كما قال –تبارك وتعالى- {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[فصلت:17]، أخذتهم صاعقة العذاب؛ صاعقة أرسلها الله -تبارك وتعالى- عليهم، قال أنها عذاب وهون؛ الذليل الذي يُذِلُّهم الله -تبارك وتعالى- به في هذه الدنيا بسبب ما كسبوه من العتوا والتجبُّر عن أمر الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10]، صاحب الأوتاد، قال ابن عباس أوتاده؛ جنوده، كل جُندي له كان يُثبِّت مُلكَه، جُندي قائم كالوتد الذي يُثبِّت المُلك، فهو الجنود القائمون المُطيعون الذي مهَّدوا له مُلكَه ؛ وأقاموه، وساعدوه في بطشه؛ وجبروته، وعتوِّه، والذين كان فرعون يقول لهم {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فيُطيعونه لهذا، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، وقال لهم {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، وأزعَنوا لهذا وكانوا معه، فهذا فرعون صاحب الأوتاد، {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10] {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}[الفجر:11]، يعني فرعون هو وجنوده وزبانيته طغوا في البلاد، طغوا؛ زادوا الحَد، الطُغيان هو مُجاوزَة الحَد، يعني جاوزوا كل الحدود في طُغيانهم؛ في ظُلمهم، وعتوِّهم، وجبروتهم، سواءً كان إنكارًا للرب -تبارك وتعالى- ففرعون كان يقول {........ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}[طه:49]، مَن هو ربك الذي تدعوني له؟ وقال له {........ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[الشعراء:29]، فتجبُّر في ادِّعاء الأُلوهية وادِّعاء الربوبية؛ وتجبُّر على الخلْق، وكذلك تجبُّره على بني إسرائيل، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، فعتوا بكل معاني العتوا، {........ طَغَوْا فِي الْبِلادِ}[الفجر:11].

قال -جل وعلا- {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر:12]، أكثروا فيها؛ في بلادهم، الفساد من كل شيء؛ من الشِّرك، ومعاندة الله -تبارك وتعالى-، ومن الكفر، جعل ملِكَهم هو الله الذي يُعبَد؛ هو الرب الإله عندهم، والإفساد بالقتل وظُلم الأخرين، والإفساد معاني الإفساد، فالكفر هو رأس كل خطايا؛ يَجُر بعد ذلك كل الخطايا والمصائب بالكفر والعناد، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر:12]، قال -جل وعلا- {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13]، فصَبَّ عليهم ربك؛ أي أنزل عليهم -سبحانه وتعالى- كما يُصَب السائل عليهم، {سَوْطَ عَذَابٍ}، جائهم عذاب تلوا عذاب، فإن الله -تبارك وتعالى- لمَّا عتوا عن أمر الله؛ ودعاهم موسى إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- وترك ما يعبدون، والتخلية عن هذا الظلم، وأن يُخلُّوا بينهم وبين بني إسرائيل ليأخذهم ويخرج بهم من الذُّل، فإنهم عاندوا لذلك فضربهم الله -تبارك وتعالى- بأنواع عظيمة من أنواع العذاب، قال -جل وعلا- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، وضربهم الله -تبارك وتعالى- بالرِّجز فقال {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف:134]، قيل الرِّجز؛ عذاب أليم أوقَعَه الله -تبارك وتعالى- بهم بأن أكل منهم كل بِكرٍ لهم، فهذا العذاب الذي نزل لهم عذاب بعد عذاب ثم كان العذاب الذي أنهى وجودهم وهو إغراقهم، كما قال -جل وعلا- {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}[الزخرف:55]، فهؤلاء صبَّ الله عليهم هذا العذاب كما ينزل عليهم سوطًا بعد سوط؛ يعني عذابًا بعد عذاب، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13]، مع عتوِّهم، وجبروتهم، وقوتهم؛ إلا أن الله -تبارك وتعالى- انظر كيف عاقبَهم الله -جل وعلا-.

قال -جل وعلا- بعد ذلك {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، إن ربك؛ يا محمد، وإسناد النبي -صل الله عليه وسلم- هنا وإضافته إلى الله -تبارك وتعالى- لبيان أن النبي إنما هو مُستنِدٌ إلى رب عظيم؛ قوي، قاهر، انظر فعله -سبحانه وتعالى- بهؤلاء العُتاة المُجرمين، فيكون هذا تأنيس وتقوية للرسول -صل الله عليه وسلم- في ما يُجابِهه من المجرمين والعُتاة من المشركين في مكة، انظر ربك الذي هو إلهك؛ وخالقك، وهو الذي أقامك رسولًا وبعثَك إلى هؤلاء الأقوام، هذا فعله -سبحانه وتعالى- بالمجرمين السابقين، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، بالمِرصاد؛ بالترصُّد، يعني أنه سامِعٌ لكل عباده؛ مُبصِر لهم، يُعاقِب -سبحانه وتعالى- وقت ما يشاء -سبحانه وتعالى-، فهو مُترَصِّد لهم -سبحانه وتعالى-، الترصُّد اللي هو النظر؛ والسمع، والعِلم بإجرامهم وبأحوالهم، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، وكذلك أخذهم بالعقوبة، يترصَّدهم بأنهم يفعلوا الإجرام فيُنزِل الله -تبارك وتعالى- عقوبته فيهم.

ثم قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15]، ذكَرَ -سبحانه وتعالى- هنا حال الإنسان وأنه في عدم فَهْمِه في توسِعة رِزقه -سبحانه وتعالى- على مَن يشاء وتضييقه أنه عديم الفَهْم؛ لا يعرف حكمة الله -تبارك وتعالى- في الابتلاء بتوسيع الرزِق وتضييقه، قال -جل وعلا- فأمَّا الإنسان؛ عموم الإنسان، {إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ}، ابتلاه؛ اختبره وامتحنه، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ}، في هذه الدنيا أكرمه بالمال؛ بالولد، بالمكانة، بالأهل، بأن مكَّنَه في هذه الدنيا بما يُمكِّنَه، وسَّع رزقه، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ}، النعيم؛ كل ما فيه من النعمة التي تنعكس نفعًا، وراحة، وطُمأنينة، وإشباعًا على صاحبها، {........ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15]، يظُن بهذا أن الله -تبارك وتعالى- أكرَمَه يعني إنما أعطاه وأجزَلَ له هنا لأنه يُحِبه؛ وأنه كريم عنده وأثير عنده فلذلك أعطاه، وهذا من جهل هذا الإنسان، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ}، اختبره، {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}، قَدَرَه عليه يعني ضيَّقَه عليه؛ ضيَّقَ الله -تبارك وتعالى- عليه رزقه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}، فيقول هذا الإنسان الجاهل بسُنَّة الله -تبارك وتعالى- وحكمته في العطاء والمَنع؛ والبَسط والقَدْر، يقول ربي أهاننِ يعني أنه يظُن أنها مُهان عند الله -تبارك وتعالى- ومبغوض ولذلك ضيَّقَ الله -تبارك وتعالى- عليه رزقه.

قال -جل وعلا- {كَلَّا}، يعني ليس الأمر هكذا وهكذا؛ ليس الأمر على هذا النحو، أن مَن أعطاه الله –تبارك وتعالى- فلإكرامه؛ ومَن ضيَّقَ الله -تبارك وتعالى- عليه فلإهانته... لا، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذا كله اختبار، فإنه قد يُعطي العبد ويوَسِّع له وهو عدو له؛ عدو لله -تبارك وتعالى- لكن يبسُط له في الرزق، ويكون هذا إهانة وليس تكريمًا ليشغله؛ ليفتِنَه بهذا فيُفتَن، ليتلهَّى بهذا الأمر ويُعذِّبه الله -تبارك وتعالى- به، كما قال -جل وعلا- {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55]، وقال {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ}[آل عمران:196] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:197]، وقال {........ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183]، فيُملي الله؛ يُمهِل لهم ويُعطيهم في هذا، فيظُن هذا الكافر المخبول أن هذا الذي هو فيه من النعيم إنما هو من محبة الله -تبارك وتعالى- له، والحال أن هذا حتى تنطمِس بصيرته؛ ويتلهَّى بما هو فيه، ويشغله هذا فلا يستفيق إلا على النار -عياذًا بالله-، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مَثَل المؤمن كالخامة من الزرع توفِئُها الريح حيث فائَت»، ضعيف فيتكفَّأه البلاء، «وأما الكافر فكالأَرزَة»، شجرة الأَرز من القوة والصلابة، «حتى يكون انعجافُها مرة واحدة»، حتى يقسِمَه الله -تبارك وتعالى- دفعة واحدة، فهذا بقاء الإنسان في المكانة؛ والعطاء، والسِّعة للرزق، والإغداق، ليس دليلًا على محبة؛ بل قد يكون هو من الإهانة، وقد تكون التوسِعة هذه من حِكَم الله -تبارك وتعالى- أنها ثمرة مُعجَّلة وحسنة مُعجَّلة لهذا العبد في الدنيا، وقد قال العبد الصالح سليمان -عليه السلام- وقد مكَّنَه الله -تبارك وتعالى-؛ وأعطاه مُلك عظيم، وقُدرات ما لأحد، منها أنه نُقِلَ له عرش بلقيس إلى بيت المقدِس في لمح البصر، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ}، يعني لمَّا رأى عرش بلقيس مُستقِر عنده وقد جائه من سبأ في أقصى اليمن إلى مكانه في بيت المقدِس في لمحة بصر، {........ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40]، فقال هذا الذي مُكِّنت به إنما هو من فضل ربي؛ وهو للابتلاء، قال {........ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40].

فليست توسِعة الرزق إنما هي دليل وعنوان من إكرام الله -تبارك وتعالى- للعبد، وليس تضييق الرزق إنما هو دليل على إهانة الله للعبد، إنما كل هذا ابتلاء واختبار لحِكَم يُريدُها الله -تبارك وتعالى-، فقد يكون عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين الطيبين ويُضيِّق عليه في رزقه؛ ويبقى رزقه ضيِّق عليه، ويكون هذا من حكمة الله -تبارك وتعالى- لأن هذا أنفع لقلبه؛ وأبعد له عن الانشغال بهذه الدنيا، والقيام بأمرالله -تبارك وتعالى-، وربما لو وسَّعَ الله -تبارك وتعالى- عليه لفُتِنَ ولضاع عليه خير كثير، فالله أعلم بالعباد وهو -سبحانه وتعالى- يبتلي عباده كيف شاء، ومن ابتلائه عباده -سبحانه وتعالى- أن يُوَسِّع على مَن يشاء ويُضيِّق على مَن يشاء؛ هذا كله إنما لحِكَم عظيمة، فالإنسان الجاهل {........ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر:16]، ليس الأمر هكذا ولا هكذا؛ الله قال {كَلَّا}، ثم وجَّه العباد -سبحانه وتعالى- إلى فعل الخير الذي ينبغي أن يصنعوه ويفعلوه فقال {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر:17] {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18] {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}[الفجر:19] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:20] {كَلَّا}، يعني هذا حال الناس في هذه الدنيا، {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر:17]، وإكرام اليتيم فَرْض فرَضَه الله -تبارك وتعالى-، وإهانة اليتيم وإذلاله جريمة عظيمة، اليتيم؛ مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، فالذي يموت أبوه وهو دون البلوغ هذا يتيم، واليُتْم دائمًا محِل ذِلَّة؛ وقد يكون كذلك سبب فقر وآفة، لأنه مات الكاسب؛ الأب، والله -تبارك وتعالى- أمَرَ بإكرام اليتيم؛ ونهى عن أذيته، وأن دَع اليتيم هذا كبيرة من الكبائر، فالله يُرشِد عباده -سبحانه وتعالى- أن هذا فعلهم؛ وأن هذا لا ينبغي لهم، ولا يصِح منهم، {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر:17]، والحال أن الواجب على العبد أن يُكرِم اليتيم لله -سبحانه وتعالى-.

{وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18]، الحَض هو الحَث بشدة، {........ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18]، يعني أن يَحُثَّ بعضكم بعضًا على أن يُطعِم المسكين، والمسكين هو الفقير المُحتاج الذي لا يُفطَن له ولا يُؤبَه له؛ اللي هو المُتعَفِّف، كما جاء في الحديث «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترُدُّه الُّلقمة والُّلقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجِد غنىً يُغنيه»، غِنىً يُغنيه عن سؤال الناس وعن حاجته؛ فيدفع عنه الحاجة، «ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه»، ولا يُفطَن له؛ لا يفطَن الناس له فيتصدَّقون عليه، لأنه كما قال -تبارك وتعالى- {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، تعرفهم بسيماهم؛ من تواضُعهم وظهور المسكنة على وجوههم، {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، فهذا الحَض أرشَدَ الله -تبارك وتعالى- عباده ووجَّه عباده إلى أن يَحُضُّ بعضه بعضًا على طعام المسكين؛ لأن هذا باب عظيم من أبواب الخير، والله -تبارك وتعالى- يخبر هنا أنهم لا يفعلونه لأن الكفر رأس الخطايا، فالكفر يجمع كذلك غِلَظ القلب وقساوته، وكان الكفار يقولون {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، فهذا شُحُّهم؛ جعلهم مالهم لأنفسهم وشُحُّهم به، فيخبر الله -تبارك وتعالى- أن هؤلاء الكفار غِلاظ القلوب بأنه لا يُكرِمون اليتيم، قال {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18].

{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}[الفجر:19]، التراث؛ ما يُخلِّفَه الميت من بعده من ميراث، فيأكلونه أكلًا لمًّا يعني يلُمونَه؛ أكل كامل، عِلمًا أنه كان ينبغي لِمَن يرِث المال عن الميت أن يتعِظ وأن يتذكَّر أن هذا قد ترك ماله وانتقل عنه؛ وتوفِّيَ عنه، وأني سأكون كذلك، حتمًا أن كل إنسان سيُلاقي مثل هذا المصير؛ يموت ويُخلِّف ماله، لكن لا اعتبار، تأكلون التراث؛ تَلُمُّون ما ترك الميت، ويأخذونه بكليته ولا يزهدون في شيء منه، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}[الفجر:19] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:20]، المال؛ كل ما يُتَمَوَّل ويُنتَفَع به، كل ما يُنتَفَع به أي نفع فهو مال؛ طعام، شراب، لِباس، بناء، أرض، كل هذا مال، فتُحِبون المال؛ هذا الذي يُتَمَوَّل ويُنتَفَع به، حُبًّا جَمًّا؛ حُبًّا كبيرًا، وكل هذا مع الكفر ومع نسيان يوم القيامة؛ اليوم العظيم.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا}، يعني زجر ونهاية لهذا، {........ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}[الفجر:21] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22] {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، يعني يا أيها الإنسان؛ أنت الَّلاهي، قاسي القلب، الكافر بالله -تبارك وتعالى-، الذي لا تُكرِم يتيمًا، ولا تَحُضُّ على طعام مسكين، جائك ميراث من وارِثك فتجمعه جمعًا كاملًا ولا تُخلِّف منه شيئًا، وتُحِب المال حُبًّا جمًّا، هل فكَّرت في ما سيأتي يوم القيامة؟ كلا؛ لا تفعل، {........ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}[الفجر:21]، هذه الأرض الثابتة؛ المُستقِرة، التي أنت عليها، والتي يركُض الإنسان فيها ليجمع هذا المال، يأتي وقت تُدَك دَك، والدَّك؛ الهَدم، وسقوط الأعلى إلى الأسفل لينضَغِطَ فيه، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}[الفجر:21]، دكًّا بعد دَك، فتُدَك دَك مرة بعد مرة بهذا الزلزال العظيم الذي يُزَلزِلُها بالنفخ في الصور، في أول نفخة في الصور لإحداث يوم القيامة تتهدَّم هذه الأرض كلها فتُدَك دكًّا، كما قال –جل وعلا- {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، زلزالها العظيم، {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2]، وقال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، فتُحمَل الأرض والجبال فتُدَك دكة واحدة فيتهدَّم كل ما فيها، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}[الفجر:21].

{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، {وَجَاءَ رَبُّكَ}، وهنا جاء تسمية الله -تبارك وتعالى- ربك عن الله؛ ما قال وجاء الله والمَلَك صفًّا صفُّا بل قال ربك، وكل هذا في تعظيم شأن النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأن هذا ربه، هذا فعل ربه -سبحانه وتعالى- الذي خلَقَه؛ وأنشأه، والذي حَمَّلَه هذه الرسالة وأرسَلَه إلى هؤلاء القوم الذين عاندوه وكذَّبوه؛ فهذا صنيعه -سبحانه وتعالى-، وجاء ربك؛ يعني يا محمد، {........ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، المَلَك؛ اسم جنس اللي هم الملائكة، {صَفًّا صَفًّا}، وقد جاء في الحديث أن كل سماء تُطوى وتنزل ملائكته فتصُف صفًّا مُحيطًا بأهل المحشَر، ثم تُكشَط وتُزال السماء الثانية وينزل ملائكتُها فيكونون صفًّا ثانيًا؛ وهكذا إلى السابعة، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ........}[الفجر:22]، الملائكة، {صَفًّا صَفًّا}، ومجيء الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء بين العباد، ولا شك أن كل صفات الله -تبارك وتعالى- لائقة بذاته؛ وكيفياتُها لا يعلمها العباد، لا يعلم العباد كيفية اتِّصاف الله -تبارك وتعالى- بالصفات، فلا يُسأل عن صفة من صفات الله بكيف قَط، أي صفة من الصفات؛ استواء الله -تبارك وتعالى-، وكلامه، وسمعه، وبصره، لا يُقال كيف يسمع؟ ولا كيف يُبصِر؟ ولا كيف يستوي؟ لأن هذه الكيفيات غير معلومة لنا لأن ذات الله غير معلومة، فنؤمن بالصفة ولكن لا يعرف العباد الكيفية، فلا يُقال كيف يتكلَّم الله؟ الله يتكلَّم -سبحانه وتعالى- بما شاء كيف شاء -سبحانه وتعالى-، وكيف يسمع الله؟ وكيف يُبصِر الله -تبارك وتعالى-؟ وكيف يأتي؟ فهنا لا يُقال كيف يأتي؟ وكيف هذا المجيء؟ ما كيفية هذا المجيء؟ لا يُعلَم الكيفية وإنما يأتي الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، يعني الحال أن الملائكة قد صَفُّوا صفوفًا لمجيء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء بين العباد.

ثم قال -جل وعلا- {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، جيء بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله، وقد جاء في حديث مُسلِم عند عبد الله ابن مسعود في مُسلم وعند التِرمذي؛ حديث صحيح، أن النار يؤتى بها للناس وهم في المحشَر؛ يؤتى بها في هذا الموقِف، ويؤتى بها لها سبعون ألف زمام؛ في كل زمام سبعون ألف مَلَك يجُرُّنها، وهذا هو الوقت الذي يشيب فيه الصغير، {........ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:2]، فالله يُذكِّر بهذا الموقِف العظيم؛ الصعب، الشديد، ويقول للإنسان يا أيها الكافر أنت الَّلاهي؛ الذي لا تَحُضُّ على طعام مسكين، ولا تُكرِم يتيمًا، وتأكل التراث أكلًا لمًّا، وتُحِب المال حُبًّا جمًّا، ولم تُفكِّر ولم تنظر إلى هذا اليوم الآتي، الله يقول {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ}، يتذكَّر ما مضى من كل إجرامه، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}، وماذا تُفيده الذِّكرى في هذا الوقت؟.

نقف هنا و-إن شاء الله- سنُكمِل السورة في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.