الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (782) - سورة البلد 1-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الرحمن الرحيم، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:1] {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2] {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3] {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:5] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد:7] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}[البلد:8] {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد:9] {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10] {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12] {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16] {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:17] {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:18] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[البلد:19] {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:20]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة البلد، بهذا البلد؛ وهو مكة، البلد الحرام التي حرَّمها الله -تبارك وتعالى- وفضَّلَها على سائر البِقاع، فقد فضَّلَ الله -تبارك وتعالى- هذه البُقعة؛ أرض مكة، الحرم والمسجد الحرام على سائر بِقاع الأرض، وجعلها مُحرَّمَة؛ أمور تحِل في غيرها لكنها لا تحِل فيها، جعلها حرامًا إلى يوم القيامة، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «لا يُعضَض شجرها، ولا يُختلى خلاؤها، ولا تُلتقَط ساقِطتُها إلا لمُنشِد، ولا يُنفَّر صيدها»، لتكون آمنة لكل مَن عليها؛ آمنة للبشر الذي يسكنون فيها، وآمنة للشجر الذي ينبُت فيها، وآمنة للعُشب النابِت فيها، وآمنة للصيد الذي يكون فيها؛ لا يُصَاد في مكة قط، فكل شيء يبقى آمنًا فيها، فهذي قد حرَّمَها الله -تبارك وتعالى- ليجعل هذا المكان آمنًا، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ........}[البقرة:126].

فهذا البلد الذي جعله الله بهذه المثابة يأمن فيه كل ساكنٌ فيه؛ من إنسان، وطير، وشجر، وعُشْبٍ نابِت، لتكون هذه الجزيرة للأمان، كما قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ........}[العنكبوت:67]، وكان من رحمة الله -تبارك وتعالى- ومن توفيقه في هذا الأمن أنه جعلَ هذا الحُكْم حُكْم شرعي ديني وكذلك حُكْم كوني قَدَري، فالعرب وإن كانت كفَرَت بعد إسماعيل -عليه السلام- بدهر؛ وارتدَّت عن الدين كله، وأنكَرَت يوم القيامة، إلا أن تعظيم البيت ظَلَّ باقيًا وتعظيم الحَرم أيضًا ظَلَّ باقيًا، حتى أن الرجل منهم كان يلقى قاتل أبيه وقاتل أخيه في الحَرَم لا يمَسُّه حتى يخرج من أرض الحَرَم وبعد ذلك يقتتِلوا، فكان هذا من جعل الله -تبارك وتعالى- الجَعْل الكوني القَدَري كذلك لهذه البُقعة العظيمة  من الأرض آمنة على هذا النحو؛ ومُعظَّمة حتى من الذين كفروا بالله -سبحانه وتعالى-.

مكة البلد الحرام يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بها؛ وهذه الآيات نازلة في هذا البدل، قال -جل وعلا- {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:1]، المُشار إليه مكة؛ البلد الحرام، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، وأنت؛ الخطاب للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {........ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، قال حِل؛ يعني حالٌّ به، قال حالٌّ به؛ موجود فيه، والنبي -صل الله عليه وسلم- كونه حالٌّ بهذا البلد فأنزل الله –تبارك وتعالى- على النبي رسالته لتكون مكة هي مُنطَلَق الهُدى والنور بالرسالة الخاتمة إلى آخر الدنيا، فهي أم القُرى وهي هذا البلد الحرام الذي يُقسِم به الله -تبارك وتعالى-، النبي قد حَلَّ فيه ليكون -صلوات الله والسلام عليه- مُنقِذ للبشرية بالرسالة التي يُنزِلُها الله -تبارك وتعالى- عليه، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، وقيل أنه حِلٌّ به يعني أن الله أحلَّ له حُرمة هذا البيت ساعة من نهار، ويكون هذا بُشرى له بأنه عندما سيخرُج من مكة سيُعيده الله -تبارك وتعالى- إليها، وتُحَل له حتى تدخل مكة إلى أرض الإسلام بعد أن تسبَّب أهلها في هجرة النبي منها -صلوات الله والسلام عليه-، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا دخل مكة «إن الله حرَّمَ مكة يوم خلَقَ السماوات والأرض؛ وإنها لم تحِل لأحدٍ قبلي»، يعني أن يُقاتِل فيها، «وإنما أُحِلَّت لي ساعة من نهار»، فقط حتى يدخل مكة، وقد دخلها النبي -صلوات الله والسلام عليه- بغير حرب تقريبًا بعد أن دعى الله -تبارك وتعالى- وهو في المدينة أن يأخذ بسمْع قريش فلا تسمع بقدومه؛ ولذلك فاجأهم النبي -صل الله عليه وسلم- ودخل عليهم، ولم يحصُل فيها إلا قتال قليل جدًا حتى دخلها النبي، أمَرَ النبي مُنادي أن يُنادي من قِبَلَه -صل الله عليه وسلم- فيقول «مَن دخل داره فهو آمن، ومَن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وأمَّنَ الناس ودخل النبي -صل الله عليه وسلم-.

الشاهد أن النبي قال «إن مكة بلدًا حرام وإن الله لم يحِلَّها لي إلا ساعة من نهار»، فقالوا أن {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، يعني أن الله سيُحِلَّها له، ولكن قد أحلَّها به الله ساعة من نهار، قيل كذلك في معنى هذه الآية {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، يعني قد أُحِلَّت حُرمَته عند الكفار، وهذا من التنديد وبيان إجرام أهل الكفر في أن هذا البلد العظيم الذي قد حَرَّمَه الله -تبارك وتعالى-؛ وأكرم أهله، وأمَّنَهم، الكفار الذي يُعظِّمون هذا البيت إنما نسوا هذا التعظيم وخرقوا هذا الأمر الذي كانوا عليه في شأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهو من أهل البيت؛ هو قُرَشي، ومن أهل البيت، ومن أهل هذه المدينة الحرام والمسجد الحرام، ولكنهم أحَلُّوا كل شيء فيه؛ أحلُّوا عِرضَه، وأحلُّوا دمه، وتآمروا على قتله -صل الله عليه وسلم- ليقتلوه أو يُخرِجوه منها، وقتلوا بعض أصحابه، وعذَّبوهم، وأهانوهم، فاستحلُّوا حُرمَة هذا المكان الشريف، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2].

{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:1] {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:2]، قال -جل وعلا- {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- كذلك بهذا القَسَم {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3]، قال أهل العِلم والدٍ وما وَلَد على الإطلاق؛ يعني أن الله يُقسِم بكل والد وما وَلَد، آدم وكل ما وَلَد؛ فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- به وهو آية من آيات خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فيُقسِم الله بمخلوقاته تعظيمًا له -جل وعلا- وتنويه بعظَمَة هذا المخلوق، فيُقسِم الله بكل والد وما وَلَد، وقالوا {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3]، المقصود بالوالد هنا إبراهيم -عليه السلام- وذلك أنه قد ارتبَطَ اسمه وسيرته بهذا البيت؛ فهو الذي بناه، هو الذي أمَرَه الله -تبارك وتعالى- أن يبتَني بيت الله -تبارك وتعالى- في مكة؛ هو وإسماعيل -عليهما السلام-، وإسماعيل هو أبو العرب الذي تناسَل منه العرب كلهم، الله جعل ذُريَّة إسماعيل هي الذُّريَّة المُنتشِرَة فهو أبو العدنانيين وأبو القحطانيين؛ والعرب كلهم راجعون إلى إسماعيل، {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3]، قالوا كأن الله -تبارك وتعالى- هنا يُقسِم بإبراهيم -عليه السلام- وما وَلَده من ولد مُرتبِط بهذا البلد.

ثم المُقسَم عليه فقال -جل وعلا- {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:5]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4]، خلَقَ الله -تبارك وتعالى- الإنسان؛ جنس الإنسان، في كَبَد؛ الكَبَد والمُكابَدَة اللي هو التعب، والمشقَّة، والكَدح، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق:6]، وقالوا ((كَبِدَ يكبَدُ فهو أكبَد))، من باب أنه أصابه كَبِدَه وتَعِبَ منه، وأكبَد أنه مُصابٌ بالكَبِد؛ وقيل هذا لكل تعب وكل مشقَّة، فكأن الذي يُشَق أنه يُصيبُه هذا، كل إنسان خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في كَبَد، الإنسان يُكابِد لأن هذه الحياة كلها كَبَد، منذ بدء خلْق الإنسان إلى أن يموت وهو يُكابِد؛ يُكابِد حياته، ويُكابِد بقائه، يسعى في تحصيل منافعه، ويسعى في دفع الضُّر عنه، فكل إنسانٍ يكدَح ويُكابِد ولابد، من قبل خروجه من بطن أمه ويُكابِد؛ يُكابِد لحظة الخروج من بطن أمه، ويبدأ من أول لحظة يُكابِد دخول هذا الهواء الجديد إلى رئَتَيه، ودوران دورته الدموية بالغذاء الذي يأكله عن طريق الفَم وكا يتغذَّى قبل ذلك عن طريق حبله السُّرِّي، ثم يُكابِد الحياة طفلًا، فشابًا، فشيخًا، لابد من المُكابَدَة والكَدح، ولكن الكَدح بعد ذلك كَدح دُنيَوي قد يستوي في السَّعي فيه المؤمن والكافر، ثم كَدح للآخرة؛ كَدح المؤمن في سعيه في فكاك نفسه في الآخرة، وسعي الكافر بإهلاك نفسه في المعاصي والذنوب -عياذًا بالله-، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق:6] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8] {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:9] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}[الانشقاق:10] {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا}[الانشقاق:11] {وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:12]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4].

ثم قال -جل وعلا- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:5]، أيَحسَب؛ يظُن الإنسان الكافر {........ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:5]، ولذلك فعَلَ ما فعَل، يعني فعَل الذي فعَلَه من الكفر، والعناد، والتكذيب بالله -تبارك وتعالى-، لأنه يظُن أنه لا قُدرة لله -تبارك وتعالى- عليه؛ وأنه لن يُعيده إلى الخلْق مرة ثانية، ولن يُحاسِبَه على عمله، فقال -جل وعلا- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:5] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6]، يقول؛ هذا الإنسان الكافر، {........ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6]، لُبَدًا؛ كثيرًا، وأصله من تلبيد الشيء اللي هو المجموع بعضه على بعض، أهلكت مالًا كثيرًا، فإما هذا الإنسان {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6]، تكون هذه مقالة بعض الكفار في أنهم أنفَقوا مالًا كثيرًا في الصَّد عن سبيل الله؛ وفي محاولة إبطال دين الله -تبارك وتعالى-، أو يقول هذا الإنسان {........ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6]، يعني على ملذَّاته، وعلى شهواته، وفي هذه الحياة، فهذه مقالة الكافر في أنه يتباهى بما أنفَقَه على حياته، وعلى ملذَّاته، وعلى شهواته، كما هو المسموع من أهل الغَفلَة والنسيان وأهل الكفر والعصيان في أنه يتباهى بما أنفَقَه في هذه الدنيا، {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6].

قال -جل وعلا- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد:7]، يعني يظُن هذا الإنسان بإهلاكه ماله وإنفاقِه ماله أن هذا لا يُحاسَب عليه، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد:7]، في فعله هذا، والحال أن الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعٌ عليه وقائمٌ عليه، وأن الإنسان مُحاسَب على كل تصرُّفٍ له، ففي المال لابد أن يُسأل عن ماله؛ من أين اكتسَبَه وفي ما أنفقَه؟ أما أنه أهلَكَ المال كما يشاء وأنه أنفَقَ فيه كما يشاء ويتباهى فيا حسرَتَه ويا ويلَه فإنه سيُحاسَب على كل فلس؛ من أي أخذَ هذا وفي ما أنفَقَه؟ {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد:7]، ثم قال -جل وعلا- مُبيِّنًا أنه -سبحانه وتعالى- هو الذي خلَقَ هذا الإنسان الذي يتَبجَّح بما يتَبجَّح به الآن، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}[البلد:8]، سؤال يُراد به التقرير، والحال بلى؛ الذي جعل له العينين هو الله -تبارك وتعالى-، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}[البلد:8]، وبالعينين يرى الإنسان؛ وهما أغلى ما في كيان الإنسان، وأحب أعضائه إليه عينيه، فهاتان العينان اللاتي يرى بهما واللاتي هي وسيلة من وسائل كسبه ومن وسائل مُتعَتِه؛ أليسَت هذه هي صنعة الله -تبارك وتعالى- له وخلْقُه له؟ {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد:9]، ولسانًا؛ يتكلَّم به ويتذوَّق به، وشَفَتين؛ يتكلَّم بهاتين الشَّفَتين، وفيها جماله، وفيها بهائه، انظر منافع الشَّفَتين، فالإنسان كذلك الذي يقول به هذا الإثم والفجور هذا قد صَنَعَه الله -تبارك وتعالى- له، {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد:9].

ثم قال -جل وعلا- {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وهدَيناه؛ أرشَدناه، وقيل هديناه؛ أن الهُدى هنا في أن الله -تبارك وتعالى- جعل كل إنسان مُيسَّر إلى طريقه، كما قال -جل وعلا- {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}[الأعلى:2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، يعني هَدى كل إنسان وكل مخلوق إلى دربه وإلى مسيره، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، قيل النجدَين يعني الطريقين؛ طريق الخير وطريق الشر، فكلٌّ مُيسَّر لِما خُلِقَ له، وكلٌّ إذا سلَكَ طريق الجنة يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- له طريق الجنة؛ وإذا سلَكَ طريق النار يَسَّر الله -تبارك وتعالى- له طريق النار، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، وسيأتي قول الله -تبارك وتعالى- {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]، الإلهام هنا أنها خلاص؛ ركَّبَ فيها وجائها هذا الوحي الخفي من الله -تبارك وتعالى- بأن يسير الفاجر في فجوره والمؤمن في إيمانه، {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]، وهنا قال -تبارك وتعالى- {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، وتسير الله -تبارك وتعالى- كل إنسان إلى الطريق الذي يسير فيه قد أخبر -سبحانه وتعالى- أنه بهذه الأسباب؛ بأسباب من العبد يتخِذُها، وهو أنه إن سار في طريق الصلاح يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- له طريق، وإن سار في طريق الفساد كذلك يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- له طريقه إلى النار -عياذًا بالله-، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10].

ثم قال -جل وعلا- {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12]، يعني هذا الإنسان الكافر المُتَبجِّح بما يفعل؛ والذي يقول {........ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:6]، ويتباهى هنا بكفره وفعله لنتيجة هذا الكفر؛ يقول هلَّا كان خيرًا له أن يقتحِم العقَبَة؟ قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12]، العقَبَة الموصِّلَة للجنة، أصل العقَبَة هي المنطقة الوعِرة التي لابد من تخطِّيها، كما يُقال مثلًا عقَبَة الجبل؛ دخول طريق مُيسَّر، ثم تأتي عقَبَة من صخور لابد أن يعلوا عليها من مكان ضيِّق لابد أن يسير فيه، فالعقَبَة هي المنطقة الوعِرَة الشديدة في الطريق؛ التي لابد من تخطِّيها حتى ينفُذ الإنسان إلى الفُسحة والطريق السهلة، {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11]، هلَّ هذا الإنسان أن يقتحِم العقَبَة في طريقه إلى الجنة؟ ثم قال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12]، تهويل وتعظيم لشأن هذه العقَبَة التي لابد أن يتجاوزها الإنسان إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه؛ هذا هو الأفضل له، وهو الأَولى به، والأحرى له، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12]، قال -جل وعلا- {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13]، الرقبة؛ العبد، سُمِّيَ العبد رقبة بإطلاق الجزء على الكُل لأن رقبته تكون في القيد، والأسْر، وفي يد مالكها، فَكُّها يعني إعتاقُها؛ يعني إعتاق رقبة، {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13]، فهذي عقَبَة؛ والعقَبَة التي فيها أن هذا ثقيل على النفس الشحيحة، البخيلة، التي لا تفعل هذا، أما النفس المؤمنة الطيبة فإنه يسهُل عليها هذه العقَبَة، تقتحم هذه العقَبَة بسهولة وتكون سهلة عليها، وفك الرقبة من القُرُبات العظيمة لله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «مَن أعتق رقبة في سبيل الله أعتق الله -تبارك وتعالى- بكل عضوًا منها عضوًا منه حتى فرجَه بفرْج»، يعني كل عضو أعتقه من هذه الرقبة يُعتِق الله -تبارك وتعالى- في مقابله منه عضو من النار، فهذه الرقبة فيها يد؛ أعتق الله يده من النار، فيها رأس؛ أعتق الله رأسه من النار، معنى ذلك أنه يكون عِتقُه من النار، فمَن أعتَقَ رقبة في سبيل الله فكأنما أعتَقَ نفسه من النار، {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13].

ثم قال -جل وعلا- {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:15]، أو أنه يُطْعِم في يوم ذي مسغَبَة، المسغَبَة؛ الجوع الشديد، يعني في يوم فيه جوع؛ يعني موضوع هذا اليوم بالجوع الشديد، يعني يجوع فيه الناس جوعًا شديدًا كيوم من أيام القحط؛ أو أيام الفِتَن، أو يوم من الأيام التي يجوع فيها الناس، ففي يوم الجوع هذا يُطعِم يتيمًا ذا مقربَة؛ يعني قلبه يَحِن ويرحَم يتيم، اليتيم؛ الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، ذا مقرَبَة؛ يكون هذا اليتيم في قرابة منه، فيُطعِمه لليُتم وللقرابة كذلك فيكون له أجر بهذا، هذه من العقَبَة كذلك؛ وهي تبقى عقَبَة على النفس الشحيحة، البخيلة، التي تَضِن بما عندها، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «مَثَل البخيل والمُنفِق كمَثَل رجلين على كل منها جُبَّة من حديد، فأما البخيل فإنه كلما أراد أن يُنفِق تضايقَت عليه»، كلما يُريد أن يُنفِق تضيق هذه الجُبَّة عليه حتى تحجُزَه عن النفقة، «وأما المُنفِق فإنه كلما أنفَق اتسَعَت عليه حتى تُعَفِّي أثَرَه»، يعني تتسِع عليه هذه الجُبَّة، جُبَّة الحديد هذه تُصبح كلما يُنفِق نفقة تتوسَّع؛ يُنفِق نفقة تتوسَّع، حتى تُعَفِّي أثَرَه يعني حتى تكون واسعة جدًا إلى أن يمشي فتَجُر ورائه فيصبح الإنفاق سهل عليه، وهذا تصوير للنفس، وأن نفس الإنسان إذا أراد أن يتصدَّق فبَخِل فإن حَجبُه للنفقة يُورِثه صفة من صفات البُخْل، ثم يُريد أن يُنفِق مرة ثانية فيبخَل حتى يصبح البُخل عنده قيد؛ يُصبح كأن يده مغلولة إلى عُنُقِه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ........}[الإسراء:29]، فاليد المغلولة إلى العُنُق يعني اليد التي قد رُبِطَت إلى العُنُق فإنها لا تنبَسِط لتُنفِق، فهذا حال الذي يبخَل؛ يبخَل، يبخَل، يبخَل ...، حتى يُمسِكه البُخل ويصبح صفة لازمة له، وأما المُنفِق فإنه يُنفِق؛ فيُنفِق، فيُنفِق ...، حتى يُصبح بعد ذلك الإنفاق سَجيَّةً وطبعًا له.

فهذا الذي لم يقتحِم العقَبَة يبقى على هذا النحو، قال -جل وعلا- {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11]، أي ليخرُج من شُح نفسه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12] {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16]، يعني يُطعِم هؤلاء مسكين، المسكين؛ الفقير الذي لا يُفطَن له والذي لا يجِد غِنىً يُغنيه، كما وصَفَ النبي المسكين فقال «الذي لا يجِد غِنىً يُغنيه ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه»، فهذا المسكين وهو جاء من السكينة؛ يعني أنها قد سكَنَت أحواله وأصبح في مسكنة وفي خضوع من الفقر الذي هو فيه، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16]، موصوف بأنه مترَبَة من التراب، يعني كأنه التصق بالتراب فلا مال له، ثم قال -جل وعلا- {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:17]، ثم يعني زيادة على هذا الذي اقتحم عقبة النفس وخرج منها إلى رحابة الكرم، والإنفاق، وسهولة هذا على النفس؛ خرج من شُحِّه إلى كرمه، ثم؛ بعد ذلك، {........ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:17]، أي لابد أن يكون بعد ذلك من الذين آمنوا، لأن مَن فعل أي شيء من الخير دون إيمان فإنه لا يُقبَل منه؛ لا ينفعه في الآخرة، قد يُجازى عليه في الدنيا لكن لا يُجازى عليه في الآخرة، {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ........}[البلد:17]، وصَّى بعضهم بعضًا، تواصَوا؛ كلٌ منهم يواصي الأخر بالصبر، الدين كله يحتاج إلى صبر؛ صبر على الطاعة، صبر عن المعصية، صبر على الأحداث والابتلاءات التي يبتلي الله -تبارك وتعالى- بها عباده، وتواصوا كذلك بالمرحمة؛ بالتراحُم، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، المؤمنون رُحماء في ما بينهم، «مثَل المؤمنين في توادُّهم وتراحمهم كمَثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر»، وأهل الجنة هم أهل الرحمة؛ هم أهل التراحم الذين يرحم بعضهم بعضًا، الراحمون يرحمهم الرحمن، فالذي نُزِعَت الرحمة من قلبه هذا دليل على عدم إيمانه، ومَن سكَنَت الرحمة في قلبه فهذا دليل على الإيمان، {........ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:17].

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:18]، أولئك؛ بالإشارة لهم بالبعيد، {........ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:18]، هؤلاء الذين اقتحموا عقبة أنفسهم وخرجوا منها إلى رحابة الإنفاق في سبيل الله وإلى الكرم، ثم كانوا من أهل الإيمان؛ كانوا أيضًا مُتواصين بالصبر، مُتواصين بالمرحمة للخلْق، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}[البلد:18]، الميمنة؛ أهل اليمين، والميمنة من اليُمْن يعني أهل اليُمْن والبركة، وهم أهل اليمين؛ أهل الجنة، ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[البلد:19]، والذي كفروا بآياتنا؛ بآيات الله -تبارك وتعالى-، آيات الله المُنزَلَة المقروءة التي جاء فيها النبي -صل الله عليه وسلم-، وكذلك كفروا بآيات الله المنظورة المخلوقة التي خلَقَها الله وبثَّها؛ كفروا بهذا وهذا، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ ........}[البلد:19]، هم؛ لحصرهم في هذا الإخبار، {........ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[البلد:19]، المشأمة؛ الشِّمال، والمشأمة من الشؤم، هذا من شؤمهم وهم أصحاب النار -عياذًا بالله-، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[البلد:19]، قال -جل وعلا- {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:20]، نار مؤصدة وموصَدَة؛ قُرِئَ بإظهار الهمزة وبإخفائها، موصدة؛ الموصَد هو المُغلَق، يعني عليهم نار قد أُغلِقَت عليهم فلا تُفتَح أبدًا، كما قال -تبارك وتعالى- هنا {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:20]، وقال في الآية الأُخرى {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، يعني أنها كذلك من خلف هذه الأبواب قد قُفِلَت وسُلسِلَت في عُمُد أو عَمَد؛ عمود، مُمدَّدة؛ يعني في الأرض، فلا مجال لفتحها -عياذًا بالله-، فهؤلاء في سجن دائم قد أُغلِقَ عليهم -عياذًا بالله- اللي هم أصحاب المشأمة؛ أصحاب الشؤم الذي كفروا، سورة عظيمة يدعوا الله -تبارك وتعالى- فيها عباده إلى الإيمان به، ويُبيِّن حال هذا الكافر الذي يفتخِر بما هو عليه من الكفر ومن الإنفاق؛ ولا يُراعي هذا اليوم الذي يأتي، وهذا هو حالهم في هذا اليوم، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهل الإيمان به.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.