الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (783) - سورة الشمس 1-15

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}[الشمس:1] {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2] {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}[الشمس:3] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}[الشمس:4] {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5] {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}[الشمس:6] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس:10] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[الشمس:11] {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}[الشمس:12] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}[الشمس:13] {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14] {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:15]، سورة الشمس سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بمجموعة من الأقسام على حقيقة عظيمة وهي أنه قد أفلَحَ مَن زكَّى نفسه وقد خاب مَن دسَّاها.

قال -جل وعلا- {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}[الشمس:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعال- بالشمس وبضُحاها، الشمس؛ هذا المخلوق العظيم الذي يكبُر الأرض أكثر من ألف ألف مرة، والذي ينبعث منه هذا الضوء وهذه الحرارة وتقوم فيها هذه الإنفجارات العظيمة؛ التي ثانية واحدة بمقدار كل ما أوجَدَ الإنسان على هذه الأرض مما يُسمَّى بالقنابل النووية، هذا المخلوق العظيم الكبير يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به؛ والذي هو سبب انبعاث الضوء والحرارة في كوكب الأرض التي نعيش عليها، والشمس مخلوق عظيم، وإقسام الله -تبارك وتعالى- بمخلوقاته العظيمة تعظيم لذاته -سبحانه وتعالى- فإنه هو خالقها؛ هو خالق هذا الخلْق العظيم -سبحانه وتعالى-، {........ وَضُحَاهَا}[الشمس:1]، ضُحاها؛ ضوئها، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا الضوء العظيم الذي تُشرِق به الشمس في هذا الوجود، أو ضُحاها من الحرارة المُنبَعِثة منها، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}[الشمس:1]، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118] {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119]، فالضَّحوا؛ الحرارة، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالشمس وضُحاها.

ثم قال -جل وعلا- {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2]، إقسام؛ يمين أخر بالقمر، وقال {........ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2]، والقمر يتلوا الشمس؛ أولًا يتلوها في دورته، ففي نصف الشهر العربي الأول القمر يتبَع الشمس فإنه يغرُب بعدها، من أول يوم يظهر فيه القمر في الغروب ثم يغرُب بعد الشمس، ويظل خمس عشرة ليلة يغرُب بعدها وفي النصف الأخر الشمس تغرُب أولًا ثم يُشرِق القمر بعد ذلك فيتلوها القمر بعد ذلك، {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2]، يعني الشمس تتلوه، القمر يغرُب أولًا ثم بعد ذلك تتلوه الشمس في النصف الثاني من الشهر، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالقمر إذا تلاها، تلاها؛ تابَعَها، فالقمر مُتابِع للشمس في نظرنا نحن ونحن على هذه الأرض، وقيل {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2]، يعني أنه يتلوها في الضوء وذلك أن ضوئَه من الشمس، ويتلوها؛ تابِع لها، ضوئه يستمِدَّه منها، ثم هو يتلوها في الإضاءة عندما يكون في التِّم، فإنه بالنسبة لأهل الأرض الضوء المُنبَعِث من القمر هو تالٍ للضوء المُنبَعِث من الشمس، {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2].

{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}[الشمس:3]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنهار إذا جَلَّى الشمس؛ يعني أظهرها، فإنها تكون ظاهرة في النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}[الشمس:4]، الليل يأتي فيغشى الشمس؛ أي أنه يُغطِّيها، وكل هذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ هذا آية في الخلْق من آيات الله -تبارك وتعالى-، قد عَلِمَ الناس الآن سر وجود هذه الآيات وتتابُعِها؛ وأن الأرض إنما هي كرة عظيمة أمام الشمس، وأنها تدور حول نفسها فيتكوَّن من ذلك الليل والنهار بالنسبة للشمس، وتدور دورة أُخرى حول الشمس، تدور الأرض حول نفسها مرة كل 24 ساعة وهي تجاه الشمس، ثم تدور حول الشمس دورة كاملة، وفي هذه الدورة الكاملة حول الشمس اللي هي السنة الشمسية؛ والتي يتكوَّن فيها الفصول الأربعة، هذه آيات من آيات الله -تبارك وتعالى- الدالة على أنه الإله الواحد الخالق؛ الذي لا إله غيره -سبحانه وتعالى- ولا رب سِواه.

ثم قال -جل وعلا- {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5]، السماء؛ التي فوقنا، {........ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالسماء، وهي خلْق عظيم معرفتنا بها معرفة محدودة لأنها أوسَع وأكبر من أن تَسَع ذلك عقولنا، ومهما وصل مدى بصرِنا ومدى آلاتنا فإننا لا نعرف نهاية لهذه السماوات، كما قال -تبارك وتعالى- {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، وقال -جل وعلا- {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، يعني بنيناها بقوة وهي واسعة سِعَة لا تُدرِكُها عقول البشر، وهي سبع سماوات خلَقَها الله -تبارك وتعالى- سماء شِدَدًا، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5]، وما هنا إما أن تكون بمعنى الذي فيكون والذي بناها؛ أي الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو، أو ما مصدرية وما بعدها يكون المصدر؛ أي والسماء وبنائها، وكل الآيات التي جائت بعد ذلك من الأقسام على هذا النحو، {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}[الشمس:6] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7]، {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}[الشمس:6]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالأرض، وما طَحَاها؛ يعني والذي طحاها أو وطَحوِها، وطحوا الأرض ودحوها واحد؛ وقال الدحوا هو هذه الاستدارة، أن الله -تبارك وتعالى- جعلها مُستديرة على هذا النحو؛ وبسَطَها هذا البسط العظيم، {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}[الشمس:6] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7]، قيل أن النفس هي الروح؛ وهي الأمر المعنوي داخل هذا الإنسان، فالإنسان روحه ونفسه هي هذا الأنسان الحق؛ هي ما هو داخله وهي الروح، وهذا الجسم هو الغلاف أو الكِساء الذي يكسوا الروح، وقد تُطلَق النفس على الروح والجَسَد فالإنسان روح وجَسَد، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7]، نفس الإنسان؛ كل إنسان، وما سوَّاها؛ والذي سوَّاها أو وتسويتها، وتسويتها أن الله -تبارك وتعالى- سوَّاها؛ هو الذي خلَقَها -سبحانه وتعالى- وعدَّلها، سواءً في النفس الداخلية بما ركَّبَ الله -تبارك وتعالى- فيها من قوة العقل، والسمْع، والبصر، والإدراك؛ وهذه كلها هي منافذ المعرفة والإرادة الداخلية، وكذلك تسوية غلاف هذا الإنسان الخارجي؛ بناء الإنسان الخارجي، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، فالإنسان روح وصورة؛ والله -تبارك وتعالى- خلَقَ هذا وخلَقَ هذا، وسوَّى هذا وسوَّى هذا في أحسن تقويم، جعل الله -تبارك وتعالى- الإنسان في أحسن تقويم؛ وخلَقَ له هذه النفس أو هذه الروح في داخله التي فيها عقله وإدراكه، وجعل له منافذ المعرفة هذه ليتعلَّم بها ويعرف بها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7].

قال -جل وعلا- {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]، الإلهام هنا إلهام تعليم، يعني أنه علَّمَها وعرَّفَها ما يجعها تقيَّة خائفة لله -تبارك وتعالى-، وعرَّفَها فجورها؛ ما تكون به فاجرة كافرة وهو ما تخرُج به عن طاعة الله، فعرَفَت هذا وهذا، وقيل {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]، يعي يسَّرَها وجعل لكل نفس طريق تسير فيه، فالكفار لهم طريق فجورهم؛ قد أُلهِموه وتشرَّبوه، والمؤمنون لهم طريقهم الذي ألهمهم الله -تبارك وتعالى- فيه؛ ألهمهم التقوى ويسَّرَ لهم طريق التقوى، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8].

ثم قال -جل وعلا- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، هذا المُقسَم عليه بعد هذه الأقسام المُتتابِعة، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}[الشمس:1] {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا}[الشمس:2] {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}[الشمس:3] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}[الشمس:4] {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5] {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}[الشمس:6] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]، أتى الله -تبارك وتعالى- بالمُقسَم عليه فقال {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، إعلان وإخبار من الله -تبارك وتعالى- لتأكيد أنه قد أفلَحَ كل إنسان زكَّى نفسه، {........ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، الفلاح هو أن يفوز الإنسان بمطلوبه الأكبر وأعظم المُنى؛ وأن ينال الفوز الكبير الذي ليس بعده فوز، والفلاح كل الفلاح هو أن ينجوا الإنسان من النار وأن يدخل جنة الله -تبارك وتعالى-، هذا المُفلِح الذي نال رضوان الله -تبارك وتعالى-؛ وأنجاه الله -تبارك وتعالى- من العذاب وأدخل جنته، {........ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185]، فلا يمكن أن يُقال بأن مَن نال شيئًا من هذه الدنيا قد أفلَح، مهما نال الإنسان ولو نال الدنيا كلها وكان مصيره النار فهو خاسر، فإن أكبر الخُسران هو أن يكون الإنسان في النار وإن نال من الدنيا ما نال، لكن الفلاح على الحقيقة والنُّجْح على الحقيقة هو الفوز برضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته؛ والنجاة من عقوبته وعذابه -سبحانه وتعالى-.

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، مَن زكَّاها؛ مَن زكَّى نفسه، ومعنى مَن زكَّاها يعني سار وتَعِب في تزكية نفسه، ولا تتزكَّى النفوس إلا بالإيمان وطاعة الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- أنزل هذا الدين لزكاة النفوس، ولتطهيرها، ولتطييبها، كما قال -تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2]، فالدين تزكية؛ وتزكية الدين يعني تطهيره للنفس أولًا بالإيمان، لأن الإيمان في ذاته زكاة فالإيمان تصديق بالحق؛ يعني أن يُصدِّق الإنسان الصدق، فالله هو الإله الذي لا إله إلا هو حقًّا وصدقًا، الجنة حق، النار حق، النبيون حق، محمد حق -صل الله عليه وسلم-، جبريل حق، كل الأخبار التي أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بها من خلْق آدم وإنزاله كل هذا حق، ما سيكون وما أخبر الله -تبارك وتعالى- به في الآخرة حق، كون الله –تبارك وتعالى- هو الذي خلَقَ الخلْق وهو الذي قَدَّرَ مقاديرهم هذا حق، فالتصديق بهذا الغيب هذا تصديق بالحق؛ والتصديق بالحق فضيلة، ورَد الحق رذيلة، فمَن رَدَّ هذا الحق وكذَّبَ به أولًا كذَّبَ به وقد قامت عليه الأدلة كلها أنه حق؛ فالتكذيب به إنما هو مُعانَدَة، وكفر، وجحود، والكفر، والجحود، والعناد، والتكذيب للحق؛ كل هذا خثيثة، فالكافر مجرم خثيث؛ دَنِس النفس لأنه رفَضَ الحق وكذَّبَ به، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، نجاسة حُكْم، فالذي جعل مع الله إلهًا أخر كذَّاب، ليس مع الله إلهُا أخر؛ لا إله إلا الله، فالله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، فمن قال أن الشمس، أو القمر، أو عيسى، أو الحجر، أو أي شيء عُبِدَ من دون الله؛ أنه إله مع الله فهو كاذب مُفتَري، ثم أنه جاحد للحق الذي جاء به الرُسُل من أنه لا إله إلا الله، وبالتالي هذا قد دنَّسَ نفسه بالشِّرك والكفر.

ثم أن المعاصي كلها إنما هي رَشْح هذا الكفر؛ هي فروع الكفر، والكفر هو رأس هذه المعاصي، فالزِّنا، والرِّبا، والعقوق، وفعل الفواحش؛ كل هذا إنما هو رَشْح، ونتيجة، وأثر من آثار الكفر، كما قال الله -تبارك وتعالى- مثلًا في الزِّنا {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، لِما؟ إما أنها هي تفعل الزِّنا ولا يوافِقُها على هذا الفعل الخبيث إلا زانٍ مثلها أو مُشرِك، لأن هذا من فروعه؛ الزِّنا من فروع الشِّرك، لماذا يرعَوي المُشرِك عن هذا الفعل؟ إن لم تكُن هناك قوة دُنيَوية فإنه لا يمتنع مما يُسِّرَ له من شهواته، كل المعاصي إنما هي فروع وشُعَب مُترَشِّحة من الكفر، وكل هذه المعاصي التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها تدسية للنفس؛ وهي خُبث، الله -تبارك وتعالى- لا ينهى إلا عن ما هو شر؛ وهو إثم، وهو عدوان، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فالدين تزكية لأنه إيمان بالله -تبارك وتعالى- هو هذه الاستقامة؛ وأمرٌ لفعل العدل، والإحسان، الطُّهر، والصِّلة، والبِر، والصدق، وكل خُلُق فاضل، وقد بُعِثَ النبي -صل الله عليه وسلم- فقال «إنما بُعِثت لأُتمِّم صالح الإخلاق»، فرسالة الإسلام رسالة خُلُقيَّة وهدفها في النهاية تزكية النفوس وتطييبها، والمُسلِم هو طيب النفس، فالذي سعى في زكاة نفسه يخبر الله -تبارك وتعالى- ويُقسِم الله –جل وعلا- بأن هذا هو المُفلِح؛ ولا شك أن هذا بالله -تبارك وتعالى-، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يقول في دعائه «الله آتي نفسي تقواه؛ وزكِّها أنت خير مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها»، «وزَكِّها أنت خير مَن زكَّاها»، فالذي يُزَكِّي النفوس هو الله -تبارك وتعالى-، فمَن زكَّاه الله -تبارك وتعالى- فهو المُزَكَّى، ومَن لم يُزَكِّه الله -تبارك وتعالى- فلا يمكن أن يتزَكَّى، لذلك الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنه هو الهادي؛ وهو المُزَكِّي، وهو الموَفِّق، وهو المُعين لأهل الإسلام، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4]، هذا من معاني {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4]، فيسير في طريق التزكية ويُزكِّيه الله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}، فالله هو الذي يُزَكِّي من عباده -سبحانه وتعالى- مَن يشاء.

قال -جل وعلا- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:10]، الخيبة هي الخُسران؛ ضد الكسب، فالخائب الخاسر هو الذي دسَّى نفسَه، التدسية؛ التدنيس، يعني دَنَّسَها، ودسَّها كذلك بمعنى خبَّأها في الإثم، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:10]، ولا شك أن كل الكفر كما ذَكَرنا خُبث للنفس، فالذي كفر وأشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ وفعل المعاصي، ودَنَّسَ نفسه، لا شك أنه قد خاب وخسر، فالكافر والمُشرِك هو الذي قد خاب الخيبة الكبرى، والذي قذَّر نفسه بأي شيء من هذه القذارة تبقى الخيبة بمقدار ما دَنَّسَ نفسه، كما سمَّى النبي المعاصي كلها قاذورات، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مَن ابتُليَ بشيء من هذه القاذورات فليستتر بسِتْر الله، فإنه مَن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحَد»، مَن ابتُليَ بشيء من هذه القاذورات؛ المعاصي قاذورات، فليستتر بسِتْر الله، فإذن خاب وخسر مَن دَسَّى نفسه، خاب خيبة كاملة وكل الخيبة اللي هو دَسَّى نفسه بالشِّرك والكفر، ودون ذلك كل مَن حمَلَ إثمًا وتدسية وحمَلَ قذارة من هذه لم يتطهَّر منها ففيه من الخيبة كذلك بحسَبِها.

ثم قال -جل وعلا- {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[الشمس:11]، بعد أن ذكَرَ الله –تبارك وتعالى- هذا ذكَرَ مثال لخُبث النفوس وتدسيتها؛ فذكَرَ ثمود القبيلة العربية التي عاندت أمر الرب -تبارك وتعالى-، قال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[الشمس:11]، قيل بطغواها؛ بسبب طُغيانها، يعني الطُغيان الذي جائها هذا الذي دفعها لتكذيب رسولها صالح -عليه السلام-؛ الذي أُرسِلَ إليهم فكذَّبوه، وقال ابن عباس بطغواها؛ بعذابها، يعني بالعذاب الذي ينتظرهم إن كفروا بالله -تبارك وتعالى- وإن عاندوا أمره، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- سبب هلاكهم وثمرة تكذيبهم فقال {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}[الشمس:12]، أشقاها؛ أشقى القبيلة، أشقى ثمود، وصَفَه النبي -صل الله عليه وسلم- فقال في أشقاها وكان الأسود ابن زمعة «رجل عارم؛ منيع في قومه»، هذا أكبر المجرمين في هذه القبيلة، انبَعَث؛ أي قام بنشاط وقوة ليعقِر الناقة، {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}[الشمس:12]، أي لعَقْر الناقة.

{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}[الشمس:13]، قال لهم رسول الله؛ وهو نبيهم صالح -عليه السلام-، ناقة الله يعني احذروا ناقة الله أن تمسُّوها بسوء، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:156]، لمَّا طلبوا آية من رسولهم وهم الذي اقترحوا الآية فقالوا ناقة عُشَراء تخرج من هذا الصخر، فالله -تبارك وتعالى- آتاهم الآية كما اقترحوها، وحذَّرَهم نبيهم بعد ذلك فقال لهم {........ هَذهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأعراف:73]، وقال لهم هذه ناقة له شِرب؛ لها يوم تشرَب من البئر فلا تُزاحِموها، {........ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:155]، يوم ثاني أخر تأتوا للشُّرب، فبدأوا يُضايقون الناقة أولًا بأن يأتوا فيشربوا؛ يعني يُغوِّروا البئر في يومها الذي تشرب فيه وترجع الناقة في يومها هذا بلا ماء، ثم بعد ذلك زاد بهم الأمر إلى أن قاموا فعَقَروها، فانبعَثَ لها أشقى القوم وحذَّرَهم نبيهم من أن يمسُّوها بسوء {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ ........}[الشمس:13]، يعني احذروا ناقة الله، {وَسُقْيَاهَا}، احذروا سُقياها يعني لا تعتدوا على سُقياها؛ يعني على البئر فتُغوِّرُه وتشربوه في يومها، {وَسُقْيَاهَا}.

قال -جل وعلا- {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}، يعني هذه القبيلة من إجرامها كذَّبوا رسولهم وعَقَروا الناقة، كما قال –تبارك وتعالى- {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77]، فقال لهم {........ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}[هود:65]، وفي اليوم الذي قَدَّرَه الله -تبارك وتعالى- لهلاكهم قال -جل وعلا- {........ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14]، دَمدَم عليهم؛ هدَّمَ عليهم مساكنهم وأنزل عذابه عليهم، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا كان بالصيحة، فسوَّاها؛ سوَّى القبيلة صغيرها وكبيرها، أو سوَّاها؛ سوَّاها بالأرض، يعني سوَّاهم الله -تبارك وتعالى- بالأرض كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، يعني أصبحم جميعًا كالهشيم وقد سوَّاهم الله -تبارك وتعالى- جميعًا في أن قتلهم قتلة واحدة، فكذَّبوه؛ كذَّبوا رسولهم، {........ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14]، وهذا مثال واضح لظُلمة النفس ولتدسية النفس، فانظر هؤلاء القوم كيف أن الله -تبارك وتعالى- أرسَلَ لهم رسول يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- بدعوة عظيمة كريمة؛ وأن الذي عليهم أن يشكروا نِعَم الله التي أنعمها الله -تبارك وتعالى- عليهم، قال {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}[الشعراء:146] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:147] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء:148] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}[الشعراء:149] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:150] {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}[الشعراء:151] {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[الشعراء:152]، فدعاهم إلى أن يشكروا الله -تبارك وتعالى- على ما أقامهم فيه من هذه الأرض الطيبة؛ هذا النخيل القائم، هذه المياه الجارية، فليشكروا ربهم -سبحانه وتعالى- وليعبدوا ربهم لا إله إلا هو، طلبوا آية من رسولهم على أنه رسول من الله -تبارك وتعالى-، فأتاهم الله بالآية التي اقترحوها، وهذه الآية ليست مجرد أمر خارق للعادة؛ بل آية كذلك فيها نفع لهم، فمع أنها أمر خارق للعادة؛ مُعجِز، وأمر قاهر وهو إخراج ناقة من الصخر، إلا أنها كذلك فيها نفع للقبيلة؛ فإن القبيلة كلها كانت تشرب من لبنها، ثم أنها آية موجودة أمامهم ومستمرة، ولكنهم جحدوا بكل ذلك وردوا رسالة رسولهم؛ بل وتآمروا عليه ليقتلوه، كما قال الله -عز وجل- عنهم {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:48] {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[النمل:49]، والبيات هو القتل ليلًا، قال -جل وعلا- {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50] {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51]، فدمَّرَهم الله، دمَّرَ الله القبيلة؛ دمَّر هؤلاء القوم كلهم أجمعين.

قال -جل وعلا- هنا {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14]، ثم قال -جل وعلا- {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:15]، يعني لا يخاف الله -تبارك وتعالى- عُقبى هذا الأمر من أن يُطالَب بأمر، فإنه لا يُسأل عن أمر -سبحانه وتعالى- وفعله حق، فالله -تبارك وتعالى- هدَّمَهم وصنع بهم صنيعه -سبحانه وتعالى-، {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:15]، سورة عظيمة لبيان أن مَن زكَّى نفسه بالإيمان والتقوى فهذا هو المُفلِح؛ ومَن دسَّى نفسه بالكفر والعناد فهذا هو الخاسر، وهذي أعظم سورة من سور تدسية النفوس؛ سورة ثمود، سورة ثمود الذين بلَغَت فيهم قسوة القلوب ودنائة النفس هذه الدَّنائة، وكان هذا هو مصيرهم عند الله -تبارك وتعالى-، {........ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:14] {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:15].

بهذا تنتهي سورة الشمس والحمد لله رب العالمين.