الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}[الليل:1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}[الليل:2] {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[الليل:3] {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[الليل:4] {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10] {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}[الليل:11] {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12] {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}[الليل:13] {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى}[الليل:14] {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى}[الليل:15] {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:16] {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى}[الليل:17] {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}[الليل:18] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}[الليل:19] {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[الليل:20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:21]، هذه سورة الليل؛ والصحيح أنها من القرآن المكي، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بمجموعة من الأقسام والأيمان على حقيقة، قال -جل وعلا- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}[الليل:1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}[الليل:2] {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[الليل:3]، ثم أتى بالمُقسَم عليه فقال {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[الليل:4]، سعي العباد مُختلِف، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- السَّعيين؛ ونهاية سعي المُتقين، ونهاية سعي المُكذِّبين المُعاندين.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}[الليل:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالليل إذا يغشى؛ يعني يغشى الأرض، يغشاها؛ يُغطِّيها، يُغطِّي الأشياء؛ فإذا جاء الليل فإنه بظلامه وسدوله يُغطِّي ما تحته، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}[الليل:1]، آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، مجيء الليل وستره للأشياء إنما هو آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ حدوثه آية، ثم هو في ذاته رحمة من رحمات الله -تبارك وتعالى- فإنه مع النهار يُشكِّلان للأحياء على هذه الأرض؛ كل الأحيان من إنسان، وحيوان، ونبات، يُشكِّلان الضرورة الحياتية لهما، ليل للراحة، والهدوء، والسكينة، وتجديد النشاط، ويوم نهار ظاهر للعمل، والحركة، والنشاط، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ........}[يونس:67]، فالليل ليسكُن فيه العباد والنهار مُبصِر لكون فيه معاشهم، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}[الليل:1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}[الليل:2]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالنهار إذا تجلَّى؛ ظهر وأظهَرَ الأشياء، وفي إظهار النهار للأشياء آية في ذاتها، ثم رحمة ونعمة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- على الخلْق، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[الليل:3]، ما هنا بمعنى الذي؛ يعني والذي خلَقَ الذَّكر والأُنثى، الله -سبحانه وتعالى- هو خالق الذَّكر والأُنثى، وكذلك خلْقُه -سبحانه وتعالى- للذكر والأُنثى في الإنسان، وفي الحيوان، وفي غيره، وهذا لتستمر الحياة، وفي خلْق الذَّكر والأُنثى بالنسبة للإنسان آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى- ورحمة من رحماته، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21]، أو وخلْق الذَّكر والأُنثى، ما إذا كانت مصدرية هنا يكون المعنى وخلْق الذَّكر والأُنثى، فيُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا الخلْق العظيم؛ خلْق الذَّكر والأُنثى.
ثم أتى الله -تبارك وتعالى- بالمُقسَم عليه فقال {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[الليل:4]، إن؛ بالتأكيد، سعيكم؛ أيها العباد، لشتَّى؛ مُختَلِف، السَّعي هو المشي السريع، ويُطلَق على كل عمل يعمله الإنسان في هذه الحياة، فأعمال الناس مُختلِفة، فعامل يعمل وساعٍ يسعى في نجاة نفسه من النار؛ وفي دخول الجنة، يسعى في رضوان الله -تبارك وتعالى-، وساعٍ يسعى في هلاك نفسه في الشر، والإثم، والفجور، والمُعانَدَة، يسير في طريق جهنم، إن سعيكم؛ أيها العباد، لشتَّى؛ سعيكم مُختلِف، كما قال -صل الله عليه وسلم- «كل الناس يغدوا»، يغدوا ساعيًا، «فبائعٌ نفسه فمُعتِقُها أو مُبِقُها»، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أوجُه الاختلاف بين السعي فقال {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ........}[الليل:5]، أي من المُخاطَبين؛ كل البشر، مَن أعطى دون ذِكر ما الذي يُعطيه، أعطى من الممكن أعطى ماله في سبيل الله؛ فأنفَقَ ماله الذي آتاه الله -تبارك وتعالى- في سبيله حيث أمَرَه الله -تبارك وتعالى-، فكان من أهل الإيمان وبذل المال زكاةً في سبيل الله؛ وأدَّى فيه حق الله -تبارك وتعالى-، كما هو حال المؤمن {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، أو أعطى؛ أعطى الحق والعدل، والحق والعدل عطاء؛ يعني أعطى في كل أعماله وفي كل أقواله الحق، فسار بالحق وسار بالعدل كما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-؛ وهذا يدخل فيه كل إيمان وعمل صالح.
{وَاتَّقَى}، اتَّقى؛ التقوى هي الخوف، جعل وقاية مما يُخيف، وهنا التقوى المقصود بها تقوى الله -تبارك وتعالى-، يعني اتَّقى ربه بأن جعل بينه وبين عقوبته حماية له، لأن اتَّقيتُ الأمر بمعنى احتمَيتُ منه، كما يقول الإنسان مثلًا اتَّقَيتُ البرد بمِعطَفي، أو اتَّقَيتُ النار بالابتعاد عنها، أو اتَّقَيتُ المطر بمِظَلَّتي، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يُؤاخِذ بالذنب ويُعاقِب به؛ ولا يُعاقِب أحد كما يُعاقِب الله -تبارك وتعالى-، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25] {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، وهو أهل لأن يُتَّقى لأنه يؤاخِذ بالذنب ويُعاقِب به -سبحانه وتعالى-، فالمُتَّقي هو الذي يجعل بينه وبين عقوبة الله -تبارك وتعالى- حماية، ولا تكون هذه الوقاية والحماية إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته، الإسلام هو الدين الذي لا يرضى الله -تبارك وتعالى- من العباد غيره، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، أسلِم بمعنى انقَد وأزعِن لأمر الله -تبارك وتعالى-؛ وهذا معناه إيمان بالله واستقامة، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285]، هذا هو الدين، «قُل آمنت بالله ثم استقِم»، جمع النبي الدين كله في هذا، «قُل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال قُل آمنت بالله ثم استقِم»، فالله -سبحانه وتعالى- يُريد من العباد ويطلب من العباد أن يؤمِنوا به وأن يستقيموا على أمره -سبحانه وتعالى-؛ وبهذا تكون التقوى، بهذا تكون التقوى في أن يجعل الإنسان حماية له من عذاب الله -تبارك وتعالى-.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6]، صدَّق؛ عَلِمَ أن هذا صدق وصدَّقَ به، الحُسنى؛ الجنة، لأنها أحسن موقع، وأحسن حال، وأحسن مآل، فهي الحُسنى التي لا أحسن منها، كما قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، الزيادة هي النظر إلى وجه الله -سبحانه وتعالى-، الذين أحسنوا الحُسنى؛ الجنة، هذا وَعْد الله -تبارك وتعالى-، فالجنة دار عَدْن ودار السلام، {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، ولا أحسن منها، لا مكان بالنسبة للبشر يسكنونَه أفضل، وأعلى، وأشرف من هذا المكان؛ فهي الحُسنى، فمَن صدَّقَ بالحُسنى وهي الجهنة؛ والطريق الحَسَن الموصِّل إليها، فهذا هو القسم الأول الذي سعى في طريق الخير {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6]، قال -جل وعلا- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بهذا القِسم من الناس الذي سعى هذا السعي، فسنُيسِّرُه؛ الله -سبحانه وتعالى-، ومعنى نُيسِّرُه يعني نجعل هذا الأمر وهو سعيه إلى الحُسنى مُيسَّرًا عليه، لليُسرى؛ الأمر المُيسَّر عليه، فيُيسِّر الله -تبارك وتعالى- له طريق الجنة، فمَن سلَكَ طريق الرب فأعطى، واتَّقى، وصدَّقَ بالحُسنى؛ فإن الله يُيسِّر له هذا الطريق ليسير فيه مُيسَّرًا آمنًا حتى يصِل إلى الحُسنى التي هي وَعْد الله -تبارك وتعالى- لعباده المُتقين، وهذا بُشرى وإخبار من الله -تبارك وتعالى- أن الله يُيَسِّر لأهل هذا الطريق طريقهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}[الأعلى:8]، لطريق الجنة، فكذلك أهل الإيمان الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- وساروا في هذا الطريق يُيَسِّرهم الله لهذا الطريق؛ فيجعل هذا الطريق سهل عليهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الصلاة {........ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45] {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:46]، تصبح أعمال العبادة التي هي على خلاف هوى النفوس تحبها النفوس، وتشتاقُها، وتُريدها، وهي مُيسَّرة عليها حتى وإن شَقَّت كقيام الليل، وصيام الهواجِر، والجهاد في سبيل الله، وإنفاق المال، كل هذه أمور على خلاف هوى النفوس، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، المال شقيق الروح، الإنسان يُنفِق ماله بدون ما يسترِد ما هو للمعاوضة؛ وإنما يُنفِقه تطوُّعًا وتبرُّعًا دون أن ينتظر أن يعود عليه بنفع ما في هذه الدنيا، وكما يُقال المال شقيق الروح فإن هذا يُنفِقُه، فيصبح هذا الأمر كله من إنفاق المال في سبيل الله، القتال في سبيل الله، القيام بين يدي الله -تبارك وتعالى- بالصلاة، المحافظة على الصلوات مع ما في هذا من الإلزام والمشقة، الصوم، الحَج وتكاليفه؛ تصبح أعمال هذا الطريق مُيسَّرة ويُيسِّرُها الله –تبارك وتعالى- على صاحبها، قال أيضًا -صل الله عليه وسلم- في جوابه لمُعاذ «لمَّا قال له يا رسول الله دُلَّني على عمل يُدخلَني الجنة ويُباعدَني من النار، فقال له النبي لقد سألت على عظيم وإنه ليسير على مَن يسَّرَه الله عليه»، قال له لقد سألت عن عظيم؛ أمر عظيم، ولكنه يسير على مَن يسَّرَه الله عليه، فهذا الأمر هو يسير على مَن يسَّرَه الله عليه، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن مَن سار في هذا الطريق فإن الله -تبارك وتعالى- يُيسِّر له هذا الطريق؛ طريق الجنة، كما قال -جل وعلا- {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ........}[البقرة:257]، فالله وَلي للمؤمن ويُيسَّر له هذا الطريق؛ يُخرجه من كل ظُلمة إلى النور، ويُثَبِّتَه، ويُقَويه، ويؤيِّدُه، ويُرشِدُه، ويجعل طريق الجنة مُيسَّر عليه كل التيسير، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7].
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، هذا القِسم الثاني من السَّاعين من البشر، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ........}[الليل:8]، بَخِل؛ ضَنَّ بماله عن الإنفاق في سبيل الله، وبِخِلَ كذلك البُخْل بكل خير، بَخِلَ عن كل خير فلم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- وبَخِل أن يُعطي الحق؛ وهذا نوع من الشُّح والبُخل، فإن المسلم طيبة نفسه بأن يقول كلمة الحق ويشهد شهادة الحق، والكافر يعرف شهادة الحق ولكنه يبخَل بها ويمنعها، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ........}[الليل:8]، بَخِلَ بماله أو أن يسير بسجيَّتِهِ أن يسير في الحق وأن يعدِلَ به، {وَاسْتَغْنَى}، استغنى عن الله -تبارك وتعالى-، واستغنى؛ رأى أنه غني عن هذا الطريق، فاستغنى في ظَنِّه عن ربه، {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}[العلق:6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:7]، إلى رأى نفسه أنه استغنى عن الله؛ وإلا لا أحد يستغني عن الله -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الإنسان فقير إلى إلهه ومولاه فقر جِبِلِّي، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ........}[فاطر:15]، فقر المخلوق إلى الخالق فقر جِبِلِّي خَلْقِي، في كل لحظة من لحظات حياته الإنسان فقير إلى ربه؛ فقير في وجوده، وبقائه، ورزقه، والعناية به، كل هذا إلى الله، مَن خلَقَك؟ مَن يُنظِّم ضربات قلبك؟ مَن يُيسِّر لك حياتك؟ مَن يُنظِّم لك دورة دمك؟ مَن خلَقَ كل ذرَّة فيك؟ مَن يرزقك؟ مَن يُعافيك؟ مَن لولاه ما بقيت ولا طرقة عين؟ الله ربك -سبحانه وتعالى-، فالله لا غِنى عنه؛ لا يمكن للمخلوق أن يستغني عن خالقه، لكن هذا الكافر ينظر بعماه أنه مُستَغنٍ عن إلهه ومولاه، يرى مادام أنه موجود وأن الحياة أمامه على هذا النحو؛ يسلُكُها، ويطلبها، وهو مُسلَّط عليها، أنه في غِنى عن الرب؛ لماذا يحتاج إلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-؟ فاستغنى؛ أي عن ربه.
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9]، الحُسنى صدق؛ يعني إخبار الله -تبارك وتعالى- بالجنة إخبار صدق لا شك، هذا خبر صادق؛ وهذا التكذيب إنما هو رَد الصدق واتهامه بأنه كذب، فكذَّبَ بالحُسنى؛ بالجنة، بموعود الله -تبارك وتعالى- بأهل الدين، وأهل الإحسان، والذين يسيرون في طريقه، قال -جل وعلا- {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، يُيسِّره للعُسرى؛ العُسرى إلى النار، العُسرى هي النار التي لا أعسَرَ منها؛ ويُيسِّرها له بمعنى أنه يسير في طريق النار وهو مُستأنِس، أعنى بمُستأنِس أنه فرحان؛ مسرور، فيسير مسرورًا ويلهوا ويلعب وهو ذاهب إلى النار بقدميه وكأنه ذاهب إلى الجنة من غفلَته، فالله -تبارك وتعالى- يطمِس بصيرته؛ ويطمِس قلبه، ويُغَشِّي على عينيه، ويسير في طريق هلاكه بقدميه، كما قال -جل وعلا- في الكفار {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، فهم في هذه الحال وهم يسيرون إلى عذابهم، وقال -تبارك وتعالى- في الكافر {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}[الانشقاق:10] {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا}[الانشقاق:11] {وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:12] {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:13]، إنه كان في أهله في الدنيا مسرورًا، {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}[الانشقاق:14]، إنه ظن أن لن يرجِع إلى الله -تبارك وتعالى- والحال أنه سيرجِع، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، فالكافر يُمَتِّعه الله قليلًا؛ اللي هي مدة حياته الدنيا، مدة الحياة الدنيا مدة قليلة، ثم أضطَرُّه؛ يعني أجعله بالاضطرار، يسير مُضطَرًّا إلى طريق جههم بقدميه، مُضطَر؛ يركب حالة بعد حالة حتى يكون، فهذا يُصبِح طريق النار مُيسَّرٌ عليه؛ ويصبح يركُض ركضًا إليها، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الكفار {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83]، ألم ترَ أنَّا أرسلنا الشياطين؛ يعني تسليط الله -تبارك وتعالى- الشياطين على الكافرين، تَؤزُّهم أزًّا؛ تُحرِّكُهم تحريكًا إلى المعاصي وأن يعصوا الله -تبارك وتعالى-، فهذه عقوبة لهؤلاء {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، سيكون طريق النار سهل عليه -عياذًا بالله-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}[الليل:11]، سؤال يُراد به التعجيب، ما يُغني عنه ماله إذا تردَّى؟ يعني ماذا يُفيده ماله؟ ولو كان ماله هذا الأرض كلها وما عليها، إذا تردَّى؛ يعني أُلقيَ في النار وهلَكَ فيها -عياذًا بالله-، فماذا يُفيده ماله؟ يعني جمع ما جمع في هذه الدنيا واستغنى عن الله -تبارك وتعالى-؛ بَخِلَ بماله، بَخِلَ بأن يقول الحق وأن يقول الصدق، واستغنى عن ربه، وعاش في هذه الدنيا يجمع الأموال، ثم في النهاية تمتَّع فيها المدة التي قَدَّرها الله -تبارك وتعالى- له، ثم مات، ثم كان مآله الترَدِّي في النار؛ فهذا ماذا يُفيده المال؟ ماذا يُغني عنه؟ ما يُساوي له شيء، أولًا ستكون هذه خلاص؛ أصبحَت هذه الدنيا كأمسٍ الذَّاهب، انتهت منفعتها، وانتهت لذَّتُها، وانتهت أثرَتُها، ولم يبقَ إلا الحسرة والندامة في النار -عياذًا بالله-، قال -جل وعلا- {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}[الليل:11]، سؤال لبيان التقرير في أن يقول القائل والله لا يُغني شيئًا، لا يُغني عنه شيئًا إذا كان في النار وترَدَّى في النار؛ ولو كان جمع من المال ما جمع فما يُغني عنه شيئًا، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}[الليل:11].
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12]، يؤكِّد الله -تبارك وتعالى- أن عليه -سبحانه وتعالى- قال {لَلْهُدَى}، للهُدى؛ قيل أنه البيان والإشاد، أن الله -تبارك وتعالى- عليه أن يُبيِّن للناس طريقهم -سبحانه وتعالى- يُرشِدهم -سبحانه وتعالى- إلى ما ينفعهم؛ إلى هذا يضُرُّك وهذا ينفعك، مآل هذا السَّعي إلى الجنة وهذا السَّعي إلى النار، فالهداية هنا بمعنى الإرشاد، أو {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12]، قالوا للهُدى؛ أن الله -تبارك وتعالى- يهدي كل إلى ما توجَّه إليه، بمعنى أنه يُلزِمه به ويوجِّهَه إليه -سبحانه وتعالى-، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {........ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، يعني هدى كل مخلوق إلى سبيله، {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}[الليل:13]، وإن لنا؛ لله -سبحانه وتعالى-، {........ لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}[الليل:13]، الآخرة لله والأولى لله، يعني الآخرة وما فيها من الخير العميم من جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه لله، والأولى هذه الدنيا وما فيها من كل هذه الخيرات والأرزاق هي لله، فالله -تبارك وتعالى- هو مالِك الدنيا ومالِك الآخرة -سبحانه وتعالى-، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19] {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، فهؤلاء الذين في الدنيا لا يُمَدُّون إلى من عطاء الله؛ هذا كله من رزق الله -تبارك وتعالى- وعطائه، فالدنيا له والآخرة لله -تبارك وتعالى-، وكذلك مَن ينال الآخرة إنما ينالُها من الله -تبارك وتعالى-، فهي دار الله -تبارك وتعالى-؛ وهي رضوانه، وجنته، يهبُها -سبحانه وتعالى- ويُعطيها ويُسكِنُها لِمَن يشاء، {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}[الليل:13]، توجيه العباد إلى أن ربهم هو مالِك المُلك -سبحانه وتعالى-؛ والآخرة له والدنيا له، فإذن لماذا أيها العبد تنصرِف بنفسك عن الله -تبارك وتعالى-؟ وتظُن أن الدنيا إنما هي لك بسعيك أنت وتستغني عن ربك، لا غِنى للمخلوق عن خالقه وربه -سبحانه وتعالى-، فعمى المخلوق الكافر في أنه يعمى عن ربه ويذهب إلى هذه الدنيا، والحال أن الدنيا هي لله كما الآخرة لله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12] {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}[الليل:13].
ثم قال -جل وعلا- {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى}[الليل:14]، هذا من زواجِر القرآن العظيمة، فأنذرتكم أيها المُخاطَبون؛ أيها الناس، {........ نَارًا تَلَظَّى}[الليل:14]، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يُنذِر، أنذرتكم؛ خوَّفتكم، الإنذار هو الإخبار بما يُخيف؛ وأكبر خوف، فالله يقول للعباد فأنذرتكم أيها العباد {........ نَارًا تَلَظَّى}[الليل:14]، نارًا؛ هذه نار الآخرة، تلظَّى بمعنى أنها تشتعل تتميَّز غيظًا، كما قال -جل وعلا- {........ إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16]، إنها؛ النار، لظى؛ شديدة الحَر، والتي تتلمَّظ من شدة غيظها وحرِّها، فالله يوعِد عباده -سبحانه وتعالى- بهذه النار؛ يُخوِّفهم الله -تبارك وتعالى- منها، قال {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى}[الليل:14]، تشتعِل كل الاشتعال؛ شديدة الحَر، {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى}[الليل:15] {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:16]، جاء هنا على الحصر، وقيل لا يصلاها أي صِليًا باقيًا خالدًا فيها، {........ إِلَّا الأَشْقَى}[الليل:15] {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:16]، فأهل الكذب والتوَلِّي؛ كذَّبَ الحق وتوَلَّى وأعرَضَ عنه، فهذا يصلى هذه النار صِلِي خلود دائم لا يخرج منها، وأما أهل المعاصي فإنهم قد يصلوا النار ولكنها ليست هذه النار التي تكون كنار الكفار؛ فإنها دونها وفترتهم فيها فترة قليلة، ثم يُخرِجهم الله -تبارك وتعالى- بشفاعة الشافعين كما جائت بهذا الأحاديث الكثيرة، وقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}[مريم:71] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[مريم:72]، وحديث النبي -صل الله عليه وسلم- في الصراط الذي يُضرَب على ظهر نار جهنم؛ وهذا الصراط يمُر عليه أهل الإيمان فقط وليس أهل الكفران، وأن على الصراط كلاليب تخطِف الناس بأعمالهم، يقول النبي «فناجٍ مُسلَّم، ومخدوش ناجٍ، ومكدوس على رأسه في جهنم، حتى إذا خَلُصَ المؤمنون يقولون يا ربنا إخواننا؛ كانوا يُصَلُّون معنا ويصومون معنا»، أي الذي سقطوا عن الصراط، يقول لهم الرب -تبارك وتعالى- «ادخلوا فمَن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرِجوه، فقال الصحابة يا رسول الله كيف يعرفونهم؟»، يعني كيف يعرِفونهم وقد سقطوا في النار مع الكفار؟ فقال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الله حَرَّمَ على النار أن تأكل مواضِع السجود من المؤمن»، فموضِع السجود ما تأكله؛ وهو وجهه، ويداه، ورُكبتاه، وقدماه، فهذه لا تأكُلُها النار فيعرِفونهم ويُخرِجونَهم منها.
هنا قول الله {لا يَصْلاهَا ........}[الليل:15]، يعني صِلِيًا دائمًا؛ باقيًا، خالدًا، {........ إِلَّا الأَشْقَى}[الليل:15]، يعني الذي بلَغَ الغاية في الشقاوة -عياذًا بالله-، الشقاوة ضد السعادة، {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:16]، كذَّبَ الحق وتوَلَّى وأعرَضَ عنه، ثم قال -جل وعلا- {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى}[الليل:17] {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}[الليل:18]، ذكَرَ الله هنا -سبحانه وتعالى- بأن هذه النار يتجنَّبُها الأتقى؛ التَّقي الذي بلَغَ الغاية في التقوى، ذكَرَ الله هنا أعظم مثال في الشقاوة وأعظم الأمثلة في التقوى، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}[الليل:18]، يؤتي ماله يعني يُعطي ماله لله -تبارك وتعالى-، يتزكَّى؛ حال كونه يتزكَّى يعني يُريد الزكاة، يُريد زكاة نفسه ولا يُريد شيئًا أخر وإنما يُريد أن يُزكِّي نفسه ويُقدِّم هذا المال زكاة، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}[الليل:19]، يعني لا فِداء لنعمة ووفاء لنِعمة عنده لأحد وإنما يُعطيها لله -تبارك وتعالى-؛ فقط لله ويُريد وجه الله، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[الليل:20]، يعني لا يفعل بإنفاق ماله هذا إلا أنه يبتغي وجه ربه الأعلى، قال -جل وعلا- {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:21]، هذه الآيات نزلت في أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- إجماعًا؛ يعني بإجماع أهل العِلم بالتفسير، وذلك أن أبي بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- كان وهو في مكة يشتري العبيد الذين يُذِلُّهم الكفار ويُعذِّبونهم ويُنفِقَهم، حتى قال له أبوه يا بُنَي إن كنت فاعلًا ولابد؛ وتشترى الأعبُد هذه وتُعتِقُها، فاشتري الأقوياء ليمنعوك، فقال يا أبتي إنما أفعل ذلك لله، اشترى أبو بكر سبع من الإماء الَّلاتي يُعذَّبن؛ واشترى بلال ابن رباح -رضي الله تعالى عنه- والذي أصبح سيد من سادات المسلمين، كما قال عُمَر -رضي الله تعالى عنه- أبو بكر سيدنا وأعتَقَ سيدنا، أعتَقَ سيدنا أي بلال، فبلال سيد من سادات المسلمين وله ما له من تاريخه، فالشاهد أن أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- في مكة كان هذا دأبه، يؤتي ماله يتزكَّى؛ يعني يُريد الزكاة، ولا يُريد بذلك إلا وجه الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}[الليل:18] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}[الليل:19] {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[الليل:20]، قال -جل وعلا- {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:21]، تأكيد منه -سبحانه وتعالى- أنه سوف يرضى؛ يُرضية الله -تبارك وتعالى- في الآخرة بما يُعطيه.
الحمد لله رب العالمين.