الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (785) - سورة الضحى 1-8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالضُّحَى}[الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3] {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5] {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6] {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7] {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8] {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9] {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}[الضحى:10] {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، هذه السورة سورة الضُّحى والتي تليها سورة الشَّرح، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، موضوعهما واحد وهو في بيان إفضال الله -تبارك وتعالى- وإنعامه على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، وقد خُتِمَ كلًا من السورتين بأوامر ومواعظ للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، والخطاب للنبي كذلك إذا لم يكُن خاصًا فهو لجميع الأمة، سورة الضُّحى مكية، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- في بدء هذه السورة فقال {وَالضُّحَى}[الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2]، هذا هو القَسَم، والمُقسم عليه {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3]، وإقسام الله –تبارك وتعالى-؛ الله يُقسِم بنفسه، ويُقسِم ببعض مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فإذا أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- بنفسه فهو الرب العظيم؛ الإله الذي لا إله إلا هو، كقوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، فالله يُقسِم بذاته -سبحانه وتعالى- أنه سائِلٌ كل أحد عن عمله، وقد يُقسِم بمخلوقاته؛ وقد أقسَمَ -سبحانه وتعالى- بكثير من مخلوقاته هذا بيان عظَمَة الرب -تبارك وتعالى-، فهذه المخلوقات العظيمة هي دلائل وبراهين على عظَمَة الرب -تبارك وتعالى-؛ لأن مَن خلَقَ هذا المخلوق العظيم هو الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، فأقسَمَ الله -تبارك وتعالى- بالسماء، والأرض، والشمس، وأقسَمَ -سبحانه وتعالى- بعبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم- كقوله -تبارك وتعالى- {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:72].

هنا يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالضُّحى؛ قال {وَالضُّحَى}[الضحى:1]، الضُّحى؛ وقت ارتفاع النهار، وهو أظهر وقت للضوء ولظهور الأشياء، وضحوة النهار آية من آيات الله -تبارك وتعالى- أولًا؛ ونعمة عظيمة من نِعَمِه -جل وعلا-، فالضُّحى آية؛ بروز الشمس وإضائتها لِما حولها على هذا النحو، إضائتها للأرض وظهور الأشياء هذا فيه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، الشمس آية، والأرض آية، وهذا الضياء آية من آيات الله -تبارك وتعالى- خلْقُه ونعمة من نِعَمِه -جل وعلا-، فإن هذا الضياء هو سبيل لينتشِر الناس في معايشهم في هذه الدنيا ويُبصِروا به الأشياء، ثم أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك بالليل فقال {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2]، قيل معنى سجى من السِّجوا؛ وهو الهدوء، والذي يهدأ في الليل؛ الأشياء تهدأ في الليل، النباتات والأحياء هذا وقت سكونها وهدوئها في ظُلمة الليل، وقيل كذلك سجى بسواده يعني غطَّى ما يأتيه من الأرض، وهذي آية؛ يعني إقسام الله -تبارك وتعالى- بالليل آية، وحالة مجيئة بسكونه، وهدوئه، وظلامه، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- ونعمة عظيمة من نِعَمِه -جل وعلا-، فنعمة على المخلوقات في وقت الراحة؛ والهدوء، والسَّكَن، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73]، فالليل لستكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله، فهذه آيات عظيمة في خلْقِها ونِعَم عظيمة من الرب -تبارك وتعالى-، والله يُقسِم بهذه المخلوقات العظيمة تعظيمًا لنفسه -سبحانه وتعالى-؛ وتأكيد لقَسَمِه لِما يُقسِم عليه -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3]، التوديع؛ التَّرك، ومنه توديع المُسافِر لأهله يعني تركُهُم وتخليفهم، يعني أن الله -تبارك وتعالى- ما خلَّفَك، {وَمَا قَلَى}، القَلي؛ الكُره، يعني ما أبغضَك، قيل أن السبب في إخبار الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنه ما ودَّعَه وما قلاه؛ أن النبي كان يشتَد عليه تأخُّر الوحي لسبب من الأسباب، وكان أحيانًا يتأخَّر الوحي على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقد تأخَّرَ الوحي على النبي بعد أن نُبِّئَ -صل الله عليه وسلم- باقرأ، فتَرَ الوحي عنه ثلاث سنوات حتى أن النبي كان يتألَّم ألمًا شديدًا، وكما جاء في صحيح الإمام البُخاري أنه كان يصعد أعالي الجبال، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أراه جبريل على صورته التي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- عليها؛ وبشَّرَه أنه نبي هذه الأمة، ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، فالنبي نُبِّئ باقرأ وأُرسِلَ بالمُدثِّر -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك جاء في أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- تأخَّرَ عليه جبريل يومًا، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «كان النبي يخرج ويصعُد ويقول لم يكُن الله -تبارك وتعالى- ليُخلِفَ وَعْدَه»، ثم أنه التقى جبريل بعد ذلك وأخبرَه أنه إنما أبطأَ عليه لأنه لا يدخل البيت الذي فيه كلب ولا صورة، فُتِّشَ بيت النبي -صل الله عليه وسلم- فوجِدَ فيه جرو صغير كان تحت سريره كان مُختبئ، فلمَّا فُتِّشَ البيت وأُخرِجَ هذا جاء جبريل وقال جبريل إنَّا لا ندخُل بيتًا فيه كلب؛ ولا صورة، ولا جرس، كذلك كان النبي يشتاق للوحي؛ جبريل، كما جاء أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال لجبريل «ألا تزونا أكثر مما تزورنا»، فنزل قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، لن ينساك ربك، وأن تنزُّل جبريل -عليه السلام- إنما ينزِل بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ وهو لا يزور النبي من أمر نفسه، وإنما يأتي بأمر الله -تبارك وتعالى- فهو رسول الله -تبارك وتعالى- إلى رُسُلِه؛ إلى نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- وإلى كافة الرُسُلِ قبله.

قيل في سبب نزول الآية كذلك أن النبي اشتكى بعض الليالي في مكة فلم يقُم ليلتين أو ثلاثًا قيام الليل كما كان يقوم -صلوات الله والسلام عليه-، فقال بعض المشركين وبعض المشركات إن صاحب محمد قد قلاه، قد قلاه؛ يعني أبغضَه وودَّعَه، فنزلت هذه السورة في بيان الرد على مقالة المشركين هؤلاء؛ وليس لشعور النبي -صل الله عليه وسلم-، كما قال الأخرون بأن هذا كان شعور النبي -صل الله عليه وسلم- إذا تأخَّرَ عليه الوحي، وقيل أن هذه كذلك كانت مقالة أُم جميل زوجة أبي لهب عندما نزل قول الله -تبارك وتعالى- {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3] {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4] {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، وأنها أتت النبي وقالت له كيف تهجوني؟ فقال لم أهجوكي ولكن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أنزل هذا القرآن، ليس هجاءً؛ تظن أن هذا هجاء على عادة الشعراء، ثم إنها هي التي قالت هذه المقالة إن صاحب محمد قد قلاه عندما لم يقُم النبي في صلاته ليلتين أو أكثر -صلوات الله والسلام عليه-، وأن هذا كان ردًّا من الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء، لكن الوقائع التي تُبيِّن حُزن النبي وخوفه -صلوات الله والسلام عليه- من تأخُّر الوحي عليه هذه ثابتة في الصحيح، وبالنسبة لهذه الأخبار الأُخرى كخبر أُم جميل وغيرها في صحة ذلك، على كل حال هذا إخبار من الله –تبارك وتعالى- تطمين منه في هذه السورة؛ أن ربه الله -سبحانه وتعالى- لمو يُودِّعه وما قلاه، وهذا نفي في الماضي وهو لا شك إخبار في المستقبل أن محمدًا هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-؛ وهو منه -سبحانه وتعالى- في المقام العظيم، فهو خليله؛ خليل الرحمن، وهو رسوله المُرسَل إلى العالمين، وأن الله -تبارك وتعالى- مُتِم عليه نعمَتَه ومُتِم عليه رسالته؛ وأنه مُبَلِّغُها، وأنه ستكون في الكمال من كل صورها، {وَالضُّحَى}[الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ........}[الضحى:3]، يعني يا محمد، وما قلى؛ وما أبغضك.

ثم جائت بشارات الله -تبارك وتعالى- له فقال -جل وعلا- {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4]، وللآخرة؛ ما ادَّخَرَه الله -تبارك وتعالى- لرسوله في الآخرة، {........ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4]، من الأولى؛ من هذه الدنيا، مما يُعطيك الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا، فالذي ادَّخرَه الله -تبارك وتعالى- لك في الآخرة أكبر؛ وأعظم، وخير مما يُعطيكَه في هذه الدنيا، وهذه بُشرى من الله -تبارك وتعالى- لِما ادَّخَرَه لنبيه -صلوات الله والسلام عليه- في الآخرة، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- ما ادَّخَرَه لنبيه -صلوات الله والسلام عليه- أولًا من الشفاعة العظمى التي يحمَدَه عليها كل الخلْق، فهو الذي يقوم المقام المحمود الذي لا يقومه إلا هو -صلوات الله والسلام عليه-، والمقام المحمود الذي يحمَدَه عليه الأولون والآخرون عندما يُنتدَب للشفاعة العظمى بين يدي الرب -تبارك وتعالى- ليشفع في العبادة، فهذه الشفاعة العظمى هي المقام المحمود الذي يحمَدَه عليه الجميع، وكذلك من المقام المحمود أن الله -تبارك وتعالى- ادخَرَ له منزلة في الجنة إنما هي أشرف منزلة وأعلاها في الجنة؛ ولا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله -تبارك وتعالى- كلهم، يعني هي الجائزة العظمى والفوز الأعظم، وهي بُقعة ومكان في الجنة؛ مقام في الجنة لا ينبغي إلا لعبد واحد من عباد الله -تبارك وتعالى-، وقد ادَّخَرَه الله لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، وعسى من الله -تبارك وتعالى- لا شك للتحقيق، وليست للشك أنه يكون أو لا يكون؛ بل هذا للتحقيق، {........ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، وهذا لا شك أنه إخبار من الله -تبارك وتعالى- ووَعْد منه -جل وعلا- مُتحقِّق؛ يُحقِّقه الله –تبارك وتعالى-، كذلك ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- في الجنة للنبي -صل الله عليه وسلم- أمر عظيم جدًا، كذلك ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من أن تكون أمته -صل الله عليه وسلم- أشرف الأمم؛ وأعلاها، وأغلاها، وأكثر أهل الجنة دخول الجنة، فأكثر أهل الجنة دخول الجنة هم أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فقد جاء في الحديث أنهم شِطر أهل الجنة، قال «والذي نفس محمدٍ بيده إني لأرجوا أن تكونوا شِطر أهل الجنة»، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4].

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5]، هذا قَسَمٌ من الله -تبارك وتعالى- وتأكيدٌ منه، ولسوف يُعطيك ربك يا محمد عطايا فترضى؛ ترضى من كثرة هذه العطايا وعِظَمَها التي يُعطيكها الله -تبارك وتعالى-، منها ما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- وما ذكَرناه آنفًا من المقام المحمود؛ ومن منزلة الجنة التي لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله -تبارك وتعالى-، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5]، كذلك عطياه -سبحانه وتعالى- أياه في الدنيا، وقد أعطاه الله -تبارك وتعالى- في الدنيا أمور عظيمة جدًا، مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا الكثرة الكاثرة من المؤمنين؛ والأتباع، وممَن يُحبُّه أفضل من نفسه؛ وأكثر من ولَدِه، ووالده، والناس أجمعين، ولم يوجَد إنسان قط في الأرض وجَدَ من الأحباب، ومن الأنصار، ومن الأعوان، في حياته وبعد مماته وإلى يوم القيامة كالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، هذا عروة ابن مسعود الثَّقَفي يصِف أحوال مَن حول النبي -صل الله عليه وسلم-؛ الصحابة الذين كانوا مع النبي في غزوة الحُديبية، فيقول لقريش والله غشيت الملوك؛ غشيت كِسرى وقيصر، يعني يقول لهم زُرت هؤلاء الملوك، كان سفير قريش لهؤلاء العظماء، قال فما رأيت أحدًا يُعَظِّمه قومه كما يُعَظِّم أصحاب محمدٍ محمدًا، قال ما رأيت أحد من هؤلاء الملوك العِظام في الأرض أن أصحابه يُعظِّمونَه كما يُعظِّم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله لا يتوضَّأ وضوءًا إلا تقاطروا عليه؛ ولا تبدُر منه نُخامةً إلا وقعت في كف أحدهم فيمسح بها وجهه وجِلدَه، وإنهم والله لن يُسلِموه لشيء، لن يُسلِموه لشيء يعني لن يُخلُّوه يتركوه لو اشتَدَ البأس واشتَدَت الحرب؛ وأن يُخلُّوه ويتركوه كما يظنوا، يعني نفسه هو عروة ابن مسعود الثَّقَفي يقول قال له يا محمد ما أرى حولك إلا أوباش الناس؛ وأنه إن جَدَّ الجِد تفرَّقوا عنك، قال إذا جَدَّ الجِد وجَدَّت الحرب تفرَّق عنك هؤلاء الأوباش؛ وذلك أنهم من قبائل شتَّى وأفناء، فضرَبَه أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله تعالى عنه- وعيَّرَه وقال له كلمة شديدة، فنظر وقال مَن هذا؟ قال له أبو بكر، فقال له يا أبا بكر أو أن لك يدٌ عليَّ لم أجزِكَ بها لرددتُ عليك، ما قَدِر أن يرُدَّ عليه لهذا، وقال له أنحن ننفَضوا عنه؟ ثم قال عروة ابن مسعود هذه المقالة، هكذا كان أصحاب النبي -صل الله عليه وسلم-، فإنهم ما كانوا يصبرون أن يجلس الإنسان في أهله ساعة لا يرى فيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقد كانوا كما وصَفَ الله -تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:63].

ثم جائت الأجيال تلوا الأجيال؛ تلوا الأجيال بعد ذلك، ممَن يُحِب رسول الله -صل الله عليه وسلم- ويُعظِّمه؛ ويتمنَّى أن يراه ولو بأهله وماله، هذا قاله النبي -صل الله عليه وسلم- وهو مُشاهَد وموجود في كل عصور الإسلام من أبناء الإسلام؛ من المؤمنين الذي يُقدِّسون ويُحِبون رسول الله -صل الله عليه وسلم- أكثر من أنفسهم، ومن أهلهم، ومن أولادهم، وإذا كان النبي قد قال -صل الله عليه وسلم- «إن من أمتي مَن يوَد أن يراني ولو بأهله وماله»، يتمنَّى أن يرى النبي -صل الله عليه وسلم- ولو أنه يدفع في هذا أهله وماله فقط لرؤيته للنبي -صل الله عليه وسلم-، ولو خرج رسول الله -صل الله عليه وسلم- في أي جيل من أجيال أمته بعد وفاته؛ خرج في جيل التابعين، أو تابع التابعين، أو مَن بعدهم، أو في أيامنا هذه، لوَجَد من المؤمنين المسلمين مَن يفديه بروحه ونفسه، ومَن يُقدِّم محبته ونُصرَته على كل شيء؛ على نفسه، وعلى أهله، وعلى أولاده، فلم يوجَد رجل يُحَب، ويُنصَر، وتكون قلوب العباد معه كالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ فهذا مما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]، قيل الكوثر؛ الكثرة في الأتباع، والأحباب، والأنصار، والمُشيَّعين له -صلوات الله والسلام عليه-، والمُحِبين له، كذلك أعطاه الله -تبارك وتعالى- الثناء والرِّفعَة؛ وكل الذي عادوه كبرائهم قتلهم الله في حياته -صل الله عليه وسلم-، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، كل مَن استهزأ به من أهل مكة قتله الله -تبارك وتعالى- في مكانه؛ وخلَّى -تبارك وتعالى- الأرض منهم، ثم كل الذين ناوئوه أزعَنوا له بعد ذلك في النهاية ونصَرَه الله -تبارك وتعالى- عليهم، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، فنَصرَه الله -تبارك وتعالى- النصر العزيز على كل مَن ناوئه من مشركي العرب، ولم يمُت النبي -صل الله عليه وسلم- إلا وكل ملوك الأرض تخافه وتعمل له حساب ممَن هو بعيد عنه، ونُصِرَ بالرعب مسيرة شهر -صلوات الله والسلام عليه-، فأما العرب الذين كان لسانهم هذا القرآن فكانوا كلهم دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجًا في حياته -صلوات الله والسلام عليه- إما سِلمًا وإما حربًا؛ إما بالدعوة السلمية وإما حرب، أزعَنوا له ودخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجًا، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، وأما البعيدون فإن النبي غزى بعضهم كما غزى هرقل؛ وأرسَلَ لهم رُسُلَه، وكُتُبَه، وخافَه البعيد والقريب، فلم يمُت النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلا والأرض مُزعِنَة له؛ إما داخلة في أمره، وإما خائفة منه، وقد أخبره بأن جيوشه ستصِلَهم؛ وقد وصَلَتهم، وأدخل الله -تبارك وتعالى- الإسلام إليهم.

فهذا مما أعطاه الله -تبارك وتعالى-؛ الثناء، والرِّفعَة، والنصر المُبين على الأعداء، وأن يجعل الله -تبارك وتعالى- دينه فوق كل دين، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، كذلك مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- أن جعل الله -تبارك وتعالى- اسمه مُقترِنًا باسمه في الأرض كلها، فإن الصلاة التي هي أعظم شعائر الدين وشعائر الإسلام؛ الدعوة للصلاة بالأذان وبإقامتها قد اقترَنَ اسمه باسم الله -تبارك وتعالى- فيها، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فجعل الله -تبارك وتعالى- الشهادة له بالرسالة بأنه رسول الله مُقترِنة مع الشهادة لله -تبارك وتعالى- بالوحدانية، هذه مُقترِنة بهذه لتكونا هاتان الشهادتان شهادة واحدة، لا يدخل الإنسان في الإيمان ولا يدخل في طريق الرب -تبارك وتعالى- إلا بهاتين الشهادتين؛ أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن يشهد أن محمدًا رسول الله، وجعل الله -تبارك وتعالى- هذا الأذان يجري على الأرض كلها في كل الأوقات، في كل الأوقات مع جريان الشمس؛ وقتما تجري الشمس على الأرض كذلك يجري الأذان على الأرض، فلا ينفجِر النور في هذا المكان إلا ويؤذَّن بهذا الأذان، ولا ينفجر في مكان أخر بعده؛ ومكان أخر بعد، ومكان أخر بعده ...، وهكذا دواليك على الأرض كلها يؤذَّن في الأوقات الخمس أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذا كله مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5].

ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن له نِعَمَه منذ أن كان؛ منذ وجوده -صلوات الله والسلام عليه- إلى نهاية الأمر، وكأن الله -تبارك وتعالى- أن هذا من الأدلة على إنعامه، وإفضاله، وعنايته رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- منذ البداية، قال -جل وعلا- {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، سؤال يُراد به التقرير، يعني أنه وجَدَك عندما ولِدَ النبي -صل الله عليه وسلم- ولِدَ وقد توفِّيَ أبوه، فإن عبد الله أبو النبي -صل الله عليه وسلم- أرسَلَه عبد المُطَّلِب جدُّه إلى المدينة ليمتار تمرًا من المدينة فتوفِّيَ هناك؛ توفِّيَ في المدينة عند أخواله، ثم بعد ذلك لمَّا توفِّي كان النبي يتيمًا، اليتيم هو مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، فالنبي لم يرَ أباه وإنما مات أبوه وهو حَمْل في بطن أمه، فالله -تبارك وتعالى- هيَّأ للنبي -صل الله عليه وسلم- مَن يكفُلُه؛ كفلَته أمه، وكَفَلَه جدُّه عبد المُطَّلِب، بَقيَ في كفالته ثم لمَّا توفِّيَ جدُّه هيَّأ الله -تبارك وتعالى- له أبا طالب ليكفَلَه؛ وينصره، ويقوم معه حتى أُرسِلَ للنبي -صل الله عليه وسلم-، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، آوى بمعنى آواك الله -تبارك وتعالى- وهو إلجائه إلى مَن يقوم برعايته وكفايته؛ أمه، حاضنته حليمة التي هيَّأها الله -تبارك وتعالى- له في الرضاعة، ثم ما هُويِّء له من جدِّه، ثم ما هُويِّء له من عمِّه، كل هذا من تيسير الله -تبارك وتعالى- وعنايته بعبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، وهذا من رعاية الرب -تبارك وتعالى- وعنايته له؛ وأنه كان معه، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرعاه؛ وهو الذي هيَّأ له ما هيَّأ من هذا المأوى.

{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7]، وجَدَك ضالًّا؛ الضلال هنا ليس بمعنى الحَيد عن الحق، وإنما الضلال هنا يعني الغَيب عنه، يعني لم تكُن تعلم الرسالة وما هو الدين، ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذه الرسالة عندما بلَغَ الأربعين؛ وكان غائبًا عن كل هذه العلوم، كان من رحمة الله وكرامته -سبحانه وتعالى- بعبده ورسوله اصطفائه واختياره من جملة البشر كلهم؛ فقد اختاره من جملة كل مَن في هذه الأرض ليُنزِل عليه رسالته، كما قال -تبارك وتعالى- له {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}، ما كنت تدري؛ النبي، ما الكتاب؛ الكتاب جنس الكُتُب المُنزَلة، فلم يقرأ النبي كتابًا مُنزَلًا من السماء؛ وكذلك لم يكُن قرائًا لأي كتاب، فما كان يدري ما الكتاب المُنزَل من السماء وكذلك ما الإيمان؛ الإيمان بالله، حقيقة الرب -تبارك وتعالى-، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وكذلك رسالاته -سبحانه وتعالى-، وغيبه، {........ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] {صِرَاطِ اللَّهِ}، أي قد كان النبي قبل أن ينزل عليه الوحي لم يكُن على عِلمٍ بشيء من ذلك، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {........ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس:16]، رد على المشركين الذين قالوا له أنه كان يعلم هذه العلوم أو كان اكتتَب هذه، قال -جل وعلا- {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:48].

فالضلال يأتي بمعنى الغَيبة عن الأمر، كما أيضًا في قول الله -تبارك وتعالى- من كلام مَن حول يعقوب ليعقوب {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:95]، عندما قال {........ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94]، عندما رجع أبنائه ومعهم قميص يوسف فإنه لمَّا فصَلَت العِير؛ قيل فصَلَت العِير من أرض مصر ودخلَت في بلاد الشام، شمَّ يعقوب رائحة يوسف، {........ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94] {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:95]، ضلال القديم ليس الضلال عن الحق؛ وإنما ضلاله يعني عدم معرفته بشأن يوسف ظنه أنه مازال حيًّا، والحال عندهم أنه قد مات وانتهى أمره من قديم، فقالوا له {........ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:95]، فالضلال بهذا المعنى وجَدَك ضالًا؛ أي غير عالم بهذه العلوم التي أنزلها إليك بالكتاب والإيمان، فهدى؛ هداك الله -تبارك وتعالى- إلى طريقه وصراطه بالرسالة.

ثم قال -جل وعلا- {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8]، العائل؛ ذو العيال، وذو العيال هو مظنَّة كثرة العيال من مظنَّة الفقر والحاجة، ووجَدَك عائلًا يعني صاحب عيال؛ وهذا مظنَّة فقر وحاجة، قال -جل وعلا- {فَأَغْنَى}، أغناك الله -تبارك وتعالى-، والغِنى هو غِنى النفس والكفاية، وليس الغِنى هو كثرة المال، ليس كثرة المال هو الغِنى وإنما الغِنى غِنى النفس والكفاية، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يقول «اللهم أجعل رزق آل محمدًا قوتًا»، يعني ما يكفيهم ويُقوِّتُهم، فأغناك؛ يعني عن المسألة وعن الحاجة، وذلك بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- بعمله في التجارة؛ وبعد ذلك بما يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- له من شأن زواجه بزوجه خديجة بنت خوَيلِد -رضي الله تعالى عنها-، ثم ما فتَحَ الله -تبارك وتعالى- عليه من الفتوح بعد أن أرسَلَه الله -تبارك وتعالى-.

أدركنا الوقت ونُكمِل السورة -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.