الأحد 20 شوّال 1445 . 28 أبريل 2024

الحلقة (786) - سورة الضحى 8-11

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالضُّحَى}[الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3] {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5] {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6] {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7] {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8] {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9] {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}[الضحى:10] {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، سورة الضُّحى والسورة التي بعدها سورة الشَّرح، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، موضوعهما واحد وكِلتاهما من القرآن المكي، وهما بيان لتعداد نِعَم الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، واختُتِمَت كل سورة منها بمجموعة من أوامر الرب -تبارك وتعالى-؛ ومواعظه، ووصاياه لعبده ورسوله، والخطاب في هذه المواعظ وأن كان للنبي -صل الله عليه وسلم- فهو لكل أمته، فإنه قد تقرَّرَ أن الخطاب للنبي -صل الله عليه وسلم- في القرآن إذا لم يدُل دليل على الخصوصية فهو عام لكل الأمة، كقول الله –تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، هذا خطاب للرسول، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، ثم قال الله -تبارك وتعالى- في آخر السورة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، إلى آخر الآية، فرفَعَ الله -تبارك وتعالى- عنهم قيام الليل بهذه، فدلَّ على أن الخطاب وإن كان موجَّه للنبي -صلوات الله والسلام عليه- إلا أنه لعموم أمته، وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}ز

يقول -تبارك وتعالى- {وَالضُّحَى}[الضحى:1]، أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- بالضُّحى وهي علوا النهار وارتفاع الشمس في السماء؛ وهذا هو أتم وقت للضوء، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2]، آيتان، الليل إذا سجى؛ إذا أقبل، وإذا سجى؛ إذا ستَرَ الأشياء، آيتان من آيات الله -تبارك وتعالى- الليل والنهار؛ ونعمتَان عظيمتان من نِعَمِه -سبحانه وتعالى- على الخلائق في هذه الأرض؛ فبالليل والنهار يحييون ويعيشون، وتستمر الحياة، لابد لكل حي على هذه الأرض من ليل يسكُن فيه ومن نهار يسعى فيه في كسب معاشه ورزقه، {وَالضُّحَى}[الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}[الضحى:2]، يُقسِم الله ويقول -جل وعلا- {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى:3]، ما ودَّعَ الله رسوله، التوديع هو التَّرك؛ يعني ما خلَّفَكَ وتركك، ولا قلاك؛ يعني ولا يُبغِضَك، بل هو خليل الله -تبارك وتعالى-، وفي هذا نفي لمقالة المشركين أنهم قالوا مثل هذا، قيل أن المشركين قالوا مثل هذا عندما تأخَّرَ الوحي على النبي -صلوات الله والسلام عليه- في بعض المرات، فهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- بأن الله لم يوَدِّعه ولم يُبغِضه -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4]، هذا تطمين للنبي -صل الله عليه وسلم- وبيان أن منزلة النبي عند الله -تبارك وتعالى- عظيمة في هذه الدنيا؛ وما ادَّخَرَ له في الآخرة أعظم مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ويُعطيه في هذه الدنيا، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}[الضحى:4]، في العطايا الجزيلة التي ادَّخَرَها الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه-.

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى:5]، يُعطيك لنفسك ولأُمَتِك في الدنيا والآخرة، وقد ذكَرَ السَّلَف من هذه العطايا أمر عظيم في تفسيرهم لهذه الآية؛ فقد أعطاه الله -تبارك وتعالى- النصر، والتمكين، أقرَّ عينه -صل الله عليه وسلم- بنصر أمته وتمكينها في حياته؛ وما أخبره الله -تبارك وتعالى- وما يكون به بعد موته -صل الله عليه وسلم-، كما قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، وما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من الكثرة الكاثرة من الأحباب، والأنصار، والأصحاب، والأمة العظيمة التي هي أعظم أمم الهداية على الإطلاق، «أنت توفون سبعين أمة؛ أنتم خيرها وأكرمها على الله -عز وجل-»، وهم أكثر أهل الجنة؛ أكثر من كل الأمم، كما في الحديث قول النبي -صل الله عليه وسلم- «والذي نفس محمد بيده إني لأرجوا أن تكونوا شِطر أهل الجنة، فكبَّرَ المسلمون»، فهُم أكثر أهل الجنة، فهُم يعدِلون كل الأمم، وجاء في رواية الحديث أنهم ثُلُثَي أهل الجنة، فهذا مما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، وكذلك ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من مغفرة ذنوب أمته، كما في الحديث «مَن مات لا يُشرِك بالله شيئًا دخل الجنة»، وأن النبي بشَّرَ أمته وقال «مَن لقيته مُبشِّر بلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله موقِنًا بها قلبه إلا ودخل الجنة»، تكفير كبائر هذه الأمة وسيئاتها، شفاعته العظمى -صل الله عليه وسلم-؛ شفاعته العظمى للحساب، وشفاعته العظمى لإدخال أهل الجنة إلى الجنة، كذلك شفاعته لأهل الكبائر من أمته -صل الله عليه وسلم-، فهذا من الإفضال والإنعام العظيم من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنه سوف يُعطيه؛ له ولأمته هذه الفضائل العظيمة في الدنيا والآخرة، وعطيته له -سبحانه وتعالى- وما ادَّخَرَه المقام المحمود، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]، فترضى بما أعطاك الله -تبارك وتعالى- لك ولأمتك.

ثم ذكَّرَه الله -تبارك وتعالى- نعمَتَه فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بإنعامه وإفضاله على عبده ورسوله منذ النشأة، أنه وجَدَه قال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، آواه الله -تبارك وتعالى- بأن هيَّأ له مَن يكفُلُه من أمه وجدِّه عبد المُطلِب إلى أن ساوى سِنَّه الثامنة، ثم بعد ذلك عمِّه أبي طالب الذي أحاطه؛ ورعاه، وقام فيه، وكان ابنه أكثر من أولاده، وبقي على رعايته كذلك واستمر في هذا إلى أن بُعِثَ النبي، وساند النبي ووقفَ معه بكل ما أُوتيَ من قوة، فقول الله -تبارك وتعالى- لرسوله {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}[الضحى:6]، تذكير بهذه النعمة منذ صِغَرِه،  {وَوَجَدَكَ ضَالًّا ........}[الضحى:7]، أي عن هذه الحقائق؛ عن ما أنزل الله –تبارك وتعالى- لك من هذا الدين، فقد كان النبي قبل أن يُنزِلَ الله -تبارك وتعالى- غير هذا الدين غير عالم بالرسالات كلها، فقد جائه الوحي وهو في غار حراء ولم يدرِ بما جائه، رجع بالآيات التي حفِظَها {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1] {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5]، رجع النبي -صل الله عليه وسلم- بهذه الكلمات بعد أن حَفِظَها إلى خديجة ويقول لها لقد خشيت على نفسي؛ يعني منها هذا أني يكون الذي رآه شيطانًا، فقال له أبشِر؛ فوالله لا يُخزيكَ الله أبدًا، إنك لتصِل الرحِم، وتحمل الكَل، وتُعين على نوائب الحق، ثم لمَّا ذهبت إلى النبي -صل الله عليه وسلم- إلى ورقة ابن نوفل ابن قريب لها وقالت له اسمع من ابن أخيك، وكان رجل قد عَمِيَ؛ وكان مما تنصَّروا في الجاهلية، وكان يقرأ من الكتاب العِبراني، فقال له اقرأ علي، فقرأ النبي عليه الكلمات باقرأ، فقال له يا بُنَي إن هذا والذي جاء به موسى ينبع من مشكاة واحدة، قال هذا الكلام والذي جاء به موسى في التوراة أنه من مشكاة واحدة؛ نور واحدة، مصدر واحد هذا، ثم قال له إنك ستكون نبي هذه الأمة، وتحسَّرَ على نفسه فقال ليتني أكون فيها جَذَعًا إذ يُخرِجُكَ قوم، قال له قومك سيُخرِجوك، فقال النبي أومُخرِجي هم؟ فقال له يا بُنَي إنه لم يأتٍ أحدٌ بمثل ما جِئت به إلا عودي، ما أحد ممَن قبل ممَن جاء بالرسالة إلا لابد أن يُعادى، ما كان النبي يعلم بالرسالات السابقة وأحوالها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52].

فالنبي في أثناء هذه الأربعين سنة قبل أن يأتيه الوحي لم يكُن يعلم من أمر الدين، ولا من أمر الرسالات، ولا بهذا الذي جائه، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:48]، فلم يكُن يقرأ كتاب قبل هذا ولا يخُطَّه؛ ولم يتعلَّم شيئًا مما كان موجودًا بأيدي أهل الكتاب، وإنما كان الضلال هنا غَيبَة عن الحق الذي جائه، وهنا الآية واضحة أنها رد على مَن زَعَم أن النبي كان نبيًا قبل أن يُبعَث؛ وأنه كان نبي منذ خلْق آدم، يعني أنه كان نبيًا ليس في مقادير الله -تبارك وتعالى- وأن الله قَدَّرَ هذا؛ وإنما كان نبي بالفعل، قد أُلهِمَ النبوَّة؛ وعُلِّمها، وعُلِّمَ هذه العلوم، وكانت عنده علوم القرآن بل وعلوم الكون كلها، وأن هذه فترة عندما جائه الوحي قد كان يعلم هذا الأمر قبل ذلك، وقد يُفسِّر مَن يقول هذا بقول النبي -صل الله عليه وسلم- «متى كنت نبيًا؟ قال كنت نبيًا وآدم مُنجَدِل في طينته»، فهذا ليس معناه أنه قد كان نبيًا موجودًا؛ مخلوقًا، وموحى إليه؛ تعلَّمَ النبوَّة... لا قط، بل كان نبيًا في عِلم الله -تبارك وتعالى- وفي مقاديره كسائر الشئون التي قَدَّرها الله -تبارك وتعالى- قبل أن يخلُق الخلْق، فهنا يخبر الله -تبارك وتعالى- بإنعامه وإفضاله على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم- ويقول له {وَوَجَدَكَ ضَالًّا ........}[الضحى:7]، أي عن هذا الحق الذي جائك، {فَهَدَى}، هداه الله -تبارك وتعالى- إلى طريقه وإلى صراطه المستقيم بما أنزل عليه من هذا القرآن وهذا الوحي.

{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8]، عائلًا؛ صاحب عيال، فأغنى؛ أغناه الله -تبارك وتعالى-، وقد مضى أن الغِنى ليس بكثرة العَرَض وإنما الغِنى غِنى النفس والكفاية، وهذا الذي الذي كفاه الله -تبارك وتعالى- وأغناه -تبارك وتعالى- أن يفتَقِر وأن يحتاج ويمُد يده -صلوات الله والسلام عليه-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أغناه، ثم أغناه بعد ذلك الغِنى بعد أن فتَحَ الله -تبارك وتعالى- عليه الفتوح، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يأخذ نفقة سنة ويجعل ما بقي كله في سبيل الله، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8].

ثم وجَّهَ الله -تبارك وتعالى- إليه هذا الحديث وهذا لكل الأمة، قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9]، اليتيم هو مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، فمن فقد الأب إلى وقت البلوغ هذا يُتْم، ولا يُتْم بعد احتلام؛ يعني بعد البلوغ لا يكون الإنسان يتيم، واليُتْم مظنَّة؛ بل محل للانكسار، وللفقر، وللحاجة، وللمسكنة، فإن الأب ظهر، وقوة، وسَنَد لأولاده، فإذا فقدوا المُعين والأب فقدوا رُكْن يكون اليُتْم هذا محِله، لذلك أمَرَ الله -تبارك وتعالى- بالعناية باليتيم، وهنا ينهى الله -تبارك وتعالى- عن قهره؛ وقهره هو إذلاله، القهر هو أن يشعر الإنسان بالغَبْن، والظُلم، والتسلُّط عليه، يعني لا تتسلَّط عليه لا بكلام ولا بفعل فتقره؛ وتُكَلِّفه ما لا يطيق، وتزجُرُه، وتُخرِجه، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9]، بكل أنواع ما يقهَر النفس وإن كان أمر نفسي أو أمر جسَدي فيجب أن يُرفَع هذا عنه، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9]، وجاء تشريع الرب -تبارك وتعالى- للعناية باليتيم في آيات القرآن تشريع كامل، من ذلك أولًا عدم قِربان ماله إذا كان ترك مالًا فلا يجوز قِربانه إلا بالحق، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وبالتي هي أحسن لماله؛ إن كان يمكن أن يُستثمَر له استُثمِر، يُشارِكه؛ يعني ولي اليتيم يجعله مُشارِك له في معيشته كشريك له، كما قال -تبارك وتعالى- {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، فإذا خالطتَهُم اللي هي المُخالطة في المعيشة، فإخوانكم؛ يكون كالشريك، {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ........}[البقرة:220]، المُفسِد وهو مَن يُشارِك ليُفسِدَ ماله ويحوذَه ويُبدِّدَه، والمُصلِح هو الذي يُشارِكه في ماله؛ ويأخذ ماله فيُنمِّيه، ويُكثِّرُه، ويُحافِظ له عليه، فهذا تخويف من الله -تبارك وتعالى- وتحذير من أكل ماله بأن هذا أمر عظيم، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10].

ولا شك أن كل هذا يدخل في النهي عن قهر اليتيم، فإن من قهره أن تأخذ ماله وأن تُبدِّدَه؛ هذا أشد أنواع القهر، وكذلك أن يكون القهر بالكلام؛ وبالزَّجر، وبنحو ذلك، وطبعًا النهي عن هذا هو أمر بضده؛ أمر بالإكرام، يعني أن يكون اليتيم هو محَل الإكرام، وقد جاء في باب إكرام اليتيم من الفضل أمور عظيمة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وضَمَّ النبي -صل الله عليه وسلم- أصبعه الوسطى والسبَّابة، قيل كهاتين يعني للتلازُم، وقيل كهاتين يعني للتفاضُل؛ أن منزلته تكون قريبة من منزلة الرسول كقُرب السبَّابة من الوسطى، فإن الوسطى تكون أعلى من السبَّابة شيئًا ما أو أنها مُتلازمَين، وسوءٌ كان هذا أو هذا فقول النبي «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، دليل على المنزلة الرفيعة العظيمة لِمَن يكفُل اليتيم؛ وكذلك عن إكرامه، ومسحه على رأسه، ونحو ذلك، قال بعض أهل العِلم من المُفسِّرين أن قول الله -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9]، أيضًا هو تذكير من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- أن كنت يتيمًا فآواك الله -تبارك وتعالى-، فهذا أيضًا تذكير بهذا وأن النبي -صلوات الله والسلام عليه- ...، دائمًا الأنبياء ينشأون نشأة يكسبون فيها أمور عظيمة من الأخلاق تؤهِّلُهُم لهذا، كما في قول النبي -صل الله عليه وسلم- «ما من نبي إلا ورعى الغَنَم، فقيل وأنت يا رسول الله؟ فقال نعم؛ رعيته لبعض أهل مكة على قراريط»، هذا فيه فوائد عظيمة كون أن النبي قبل أن يُنبَّأ يكون في رعاية الغَنَم؛ قالوا يكتسب فضائل كثيرة، أولًا أن يكون أجير؛ فإذا كان أجير فيشعُر بحال الإنسان الأجير، والأجير يكون دائمًا محِل أحيانًا للقهر وأحيانًا للظُلم؛ فيشعر بهذا، كذلك رعايته للغَنَم تُعطيه صفات كثرة من الحِرص؛ ومن العناية، والإحاطة، والرعاية، ثم ما فيها من المشقَّة، والتربية، واليقظة، أمور يكتسبها، فكذلك الإنسان إذا ذاق مرارة الحاجة؛ والفقر، وأن يكون أجيرًا، بعد ذلك يعرف عندما يُخاطَب بوجوب إكرام هؤلاء فيكون يعرف معنى هذا لأنه قد عَرَف هذا المعنى، أما الذي لم يتربَّ على شيء من هذا ولم يُقاسي الجوع في التربية؛ كيف يعرف بشعورهم؟ كيف يعرف ألم الأخرين من الجوع؟ والذي لم يعرف مذلَّة الأخرين وأنواع الظُلم؛ كيف يعرف ويتذوَّق ظلم الأخرين؟ وكيف يذوقون الظلم؟ فالإنسان إذا عانى من هذه الأمور فإنه عند ذلك يعرف ألمها عند الأخرين ومشقتها، والرُسُل يُربِّيهم الله -تبارك وتعالى- هذه التربية تأهيلًا لهم؛ ليكون مؤهَّل بعد ذلك، فعندما يشعر بشعور الأخرين ويُريد أن يرفع الظلم عن الأخرين ويُقيم العدل يكون هو قد ذاق هذا؛ وقد تربَّى في هذه المواطِن، فيكون هذا قوة له وفَهْم وعِلم لِما يُرشِد إليه، قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}[الضحى:9].

ثم قال -جل وعلا- {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}[الضحى:10]، قالوا السائل؛ السائل للحاجة، المُحتاج، ونهرُه بالخطاب؛ زجره وإبعاده، ولا شك أن نهر السائل دليل سوء الخُلُق؛ والفظاظة، والغِلظة، والله -تبارك وتعالى- يحب الرحماء؛ ويأمر بالعدل، والإحسان، وإتاء ذي القُربى، فالسائل مُحتاج؛ وكل مَن ذَلَّه السؤال أمر الله -تبارك وتعالى- بأن يُعان، وإن لم يكُن الإنسان قادرًا على عَونه وإعطائه سؤلَه فليكُن الخطاب الحَسَن، كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24] {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25] {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء:26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء:27] {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}[الإسراء:28]، وإما تُعرِضَنَّ عنهم؛ عن السائل، والمُحتاج، ومَن يسألك، وصاحب الحاجة إذا أعرضت عنه لأنك ما عندك، {........ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}[الإسراء:28]، إذن اصرِفه بالكلام الميسور الطيب؛ كأنه تُطمِعَه في الخير، أن يُنيله الله -تبارك وتعالى- من غيرك، ونحو هذا.

وكان من صفة -صل الله عليه وسلم- أنه لم يسأله سائلٌ قط فقال لا، ما عُمر النبي -صل الله عليه وسلم- كل عُمر الرسالة سأله سائل فقال لا، وإن كان ما يسأله هو في حاجة إليه لكنه يُعطيه، فما سأله سائل قط وقال لا، كما جاء في حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- «ما سُئِلَ رسول الله -صل الله عليه وسلم- عن شيء قط فقال لا وإن كان مُحتاج إليه»، ومن جُملة هذه الوقائع أن جائته امرأة وأهدَت له إيذار؛ قالت له صنعته بيدي لك، فالنبي دخل بيته ولَبِسَه وخرَج به، لمَّا خرَج به قال واحد من الصحابة يا رسول الله أعطينيه، فدخل النبي بيته فخلعه وطواه ثم جاء وأعطاه إياه، فقيل لذلك الصحابي لِما تسأل رسول الله -صل الله عليه وسلم- شيئًا هو مُحتاجٌ إليه؟ فقال والله ما سألته لألبَسَه، فقال أنا ما سألته هذا الإيذار لألبَسَه، وإنما سألته ليكون كَفَني، وذلك أن هذا الإيذار لامس جسد النبي -صل الله عليه وسلم-، قال فكان كَفَنه؛ يعني أن كان كَفَنه هذا الإيذار الذي أخذه، الشاهد أن النبي ما قال لا -صلوات الله والسلام عليه-، ولم ينهر النبي سائلًا قط حتى وإن أغلَظَ في المسألة، كما في حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- «النبي كان يومًا بارزًا للناس فجائه رجلٌ من خلفه فجَبَذَه بردائه، وكان الرداء غليظ الحاشية حتى أنه أثَّرَ في صفحة عُنُق النبي -صل الله عليه وسلم-، فالتفَتَ إليه النبي –صل الله عليه وسلم-، فقال له يا محمد مُر لي بعطاء من مال الله الذي عندك، فتبسَّمَ النبي -صل الله عليه وسلم- وأمَرَ له بعطاء»، مع أن هذا فعل قبيح وشنيع من هذا الأعرابي الذي يجذب النبي هكذا من خلفه وليس من أمامه بحاشية ردائه؛ جذبة شديدة حتى أثَّرَ هذا الرداء في عُنُق النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم من خلفه والنبي يلتفت إليه ويقول له مُر لي بمال مما عندك، فالنبي -صل الله عليه وسلم- يبتسِم له ويأمر له بعطاء -صلوات الله والسلام عليه-، وسيرة النبي في هذا مليئة بهذه المواقف التي كان النبي -صل الله عليه وسلم- في قمة الخُلُق فإنه لم ينهَر سائلًا قط -صل الله عليه وسلم-، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}[الضحى:10]، وكان النبي يُعطي السائل حتى وإن كان يعلم كَذِبَه؛ مادام سأل كان يُعطيه، وجائه سائل مرة فسأله فأعطاه، ثم قال النبي جمرة من النار تقلَّدها، يعني مَن سأل الناس وهو غير مُحتاج إلى المسألة فإنه كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مَن سأل الناس وهو غير مُحتاجٍ فإنما يجمع الجمر؛ فليستكثِر أو ليُقِل»، يعني سؤال الناس بدون حاجة كأنك تجمع الجمر على نفسك، فالنبي قال مَن يُريد أن يستكثِر من هذا فليستكثِر؛ يعني يستكثِر على نفسه جمرًا، أو ليُقِل، الشاهد أن النبي ما زجَرَ ولا نهَرَ سائلًا قط -صل الله عليه وسلم-، فقول الله {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}[الضحى:10]، قُلنا أن هذه الآيات خطاب للنبي وهي خطاب للأُمة كلها.

ثم قال -جل وعلا- {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه في الدنيا والآخرة، وقد حدَّثَ النبي -صل الله عليه وسلم- بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة من حديث، فحدَّثَ بحديث الشفاعة فقال «أنا سيد وَلَد آدم ولا فخر، وقال ألا تقولون لِما؟ فقالوا وما ذاك يا رسول الله؟ ولِما؟»، كيف تكون سيد وَلَد آدم؟ «فقال يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفُذُهم البصر ويُسمِعُهم الدَّاعي، ثم يأخذ الناس العَرَق إلى كعبيه؛ ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ركبتيه»، إلى آخر حديث الشفاعة والذي يقول النبي في نهايته «ثم أقول أنا لها أنا لها، وأقوم فأسجد تحت عرش ربي»، فذكَرَ من هذا الأمر وهذا من تحديثه بنعمة الله –تبارك وتعالى- عليه في هذا المشهَد العظيم؛ وهو كذلك إخبار بما سيكون عليه الأمر في يوم القيامة، وتحذير الأُمة، وبيان ما في هذا الحديث من الفوائد العظيمة؛ والشاهد أن فيه هذا، فحدَّثَ النبي -صل الله عليه وسلم- بنِعَم الدنيا والآخرة مما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، ولذلك قال أهل العِلم يجوز للإنسان أن يُحدِّث بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ليكون هذا شُكران؛ وإشاعة للناس بفضل الله -تبارك وتعالى-، وإنعامه، وإحسانه.

اللهم صلَّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد سيد الأولين والآخرين.