الأحد 20 شوّال 1445 . 28 أبريل 2024

الحلقة (787) - سورة الشرح 1-8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1] {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6] {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[الشرح:7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:8]، سورة الشَّرح موضوعها موضوع السورة التي قبلها وهي سورة الضُّحى؛ وهي من تعداد نِعَم الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، سؤال يُراد به التقرير، والجواب بلى؛ قد شرِحَ الله -تبارك وتعالى- صدر نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- لهذا الإسلام ليَحمِلَه؛ وليُبلِّغ رسالة الله -تبارك وتعالى- إلى العالمين، أصل الشَّرح هو التوسِعة؛ وهو ضد الضيق، ضيق الصدر هو الكراهة والغَم في أن يحمِل الإنسان شيئًا أو أن يعمل عملًا، كما قال -تبارك وتعالى- {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ........}[الأنعام:125]، كالذي يصعد إلى جبل فإنه يضيق تنفُّسه ويضيق صدره ويصبح مُتألِّم بالصعود إلى أعلى.

شرح الصدر للنبي -صلوات الله والسلام عليه- هذا أمر الصحيح أنه أمر معنوي؛ وليس الأمر الحِسِّي بمعنى أنه قد فتَحَ الله صدره، كما جاء في شَق صدر النبي -صل الله عليه وسلم- في صِغَرِه وكذلك عند الإسراء؛ وأن هذا كان من جبريل -عليه السلام-، وأن الله -تبارك وتعالى- أخرج من قلبه كل علَقَة للشيطان وكأن الأمر أمر حِسِّي هنا؛ ووضِعَ في مكان ذلك الإيمان والحكمة، وأن شرح صدر النبي -صل الله عليه وسلم- كما جاء في الأحاديث والسيرة كان مرتين؛ مرة وهو مُسترضَع في بني سعد، ومرة قبل أن يُعرَج به إلى السماء، لكن المعنى الظاهر هنا أن شرح النبي -صل الله عليه وسلم- أمر معنوي لتحمُّل أعباء هذه الرسالة، فإن هذا الدين الذي نزل على النبي -صل الله عليه وسلم- دين متين؛ وفيه من التكاليف الشديدة العظيمة، فمن هذه التكاليف أن يقوم بحمْل هذه الرسالة ومواجهة العالمين بها، وهذه الرسالة أولًا هي إخبار لكل مَن على الأرض بأنهم على غير الحق، فهو فيه إكفار لمُشركي العرب؛ وأنهم كفار هم وآباؤهم الذي ماتوا على هذا، وأنهم من أهل النار، وكذلك إكفار لليهود، وإكفار للنصارى؛ وللمجوس، ولكل أمم الأرض، وهذا مُجاهَرَة لهم بالعداوة، فإن هذه الأمم كلٌ بحمل تراثه؛ وأن هذا مما كان عليه آبائهم وأجدادهم، وأن هذا هو الحق الذي عندهم لا مِريَة فيه والذي يُقدِّسونه، فعندما يأتي الذي يقول لهم الذي أنتم عليه كله إنما هو باطل؛ وأنتم ضُلَّال، وأنتم لا عقل لكم ولا فَهْم لكم إذا سِرتم في هذا الطريق، واتركوا ما يقول آباؤكم والزَموا هذا الطريق؛ هذا طريق الله -تبارك وتعالى- وهذا صراطه، فهذا يكون قد فتَحَ على نفسه جبهة عظيمة من المُعاداة ومن الشرور العظيمة من الكفار، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31].

تحمُّل هذه الرسالة أمر عظيم جدًا، الله -تبارك وتعالى- قد شرَحَ صدر رسوله ليحمِل هذا الهَم العظيم والعِبء الهائل الكبير؛ وأن يدعوا له، وأن يثبُتَ عليه، وأن يستقِر عليه -صل الله عليه وسلم-، ويطمئن إلى أنه على الحق؛ وعلى الهُدى والنور، ويتحمَّل في سبيل ذلك ما يتحمَّل؛ ويكون على استعداد لأن يموت في هذا الطريق، وأن يُنفِّذ رسالة الله -تبارك وتعالى-، فهذا أمر عظيم ونعمة كبرى من الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صل الله عليه وسلم-؛ أن شرَحَ الله -تبارك وتعالى- صدره لهذا الإسلام ليحمِلَه، ولهذه الرسالة ليُبلِّغَها إلى العالمين -صلوات الله والسلام عليه-، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، كذلك من هذا شرح صدره ليعبُد الله -تبارك وتعالى- في نفسه؛ بقيامة بالصلاة، وبالصيام، وبالزكاة، وبالحج، بل جعل الله -تبارك وتعالى- الصلاة عنده أحب إليه من كل محبوب، «وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة»، فقُرَّة العين اللي هي نهاية الأمل ونهاية السعادة والمحبة في صلاته لله -تبارك وتعالى-، مع ما فيها من المشقَّة؛ فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه -صلوات الله والسلام عليه-، ولكن هذا أسعد شيء، ولكنه وهو في هذا الحال هو في أسعد الأحوال، وأحلاها، وأهناها عنده أن يُناجي ربَّه -سبحانه وتعالى-، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1]، أي للقيام بأعباء هذه الرسالة؛ وحَمْل هذا الدين، وعبادة الرب -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3]، الوضع؛ الإزالة والإبعاد، وهذا يعني تكفير سيئاته، وكأن هذا حِمْل ورفَعَه الله -تبارك وتعالى- ووضعَه عنه، الوِزر هو الذنب، وأصل الوِزر هو الحِمْل الثقيل، فهذا الذنب الذي عليه قال {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2]، وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا الوِزر فقال {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3]، والنقيض هو صورة الشيء في حال تحطُّمِه، الشيء الذي يتحطَّم يُخرِج صوت فيكون هذا هو النقيض، كما نقول نقيض السقف وهو يتقَعقَع ليَقَع مثلًا، فنقيض الظهر يعني كأن هذا الحِمْل من شدته ومن ثِقَلِه يُحَطِّم الظهر؛ ويُخرج الظهر لهذا صوت كصوت مَن يحمِل حِملًا ثقيلًا، فيخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الوِزر الذي أنقض ظهرك قد رفعناه عنك، كما قال -سبحانه وتعالى- عن ذنبه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2]، والذنب أولًا هو كل مخالفة لأمر الله –تبارك وتعالى-، ومعلوم أن الرُسُل لا يُخالِفون أمر الله، ما أحد من الرُسُل أو من الأنبياء يتعمَّد مُخالَفَة أمر الله -تبارك وتعالى- قط؛ قد يقَع من بعض الأنبياء نسيانًا، كما ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عن آدم -عليه السلام- النبي المُكلَّم وقد وقع ما وقع منه من الذنب نسيانًا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه:115]، وقال عنه {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ........}[الأعراف:22]، فدلَّاهُما؛ يعني الشيطان، بغرور؛ غرَّرَ بهما، وذلك أنه أقسَم لهما اقسام مُغلَّظَة كاذب، {........ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20] {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:21] {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}.

فقول الله -تبارك وتعالى- {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، إنما كانت معصية ليست بأنه يعلم أن هذه معصية في وقتها ويعصى... لا، كل الأنبياء والمُرسَلين لا شك أن ليس فيهم مَن يعلم أن الله نهى عن هذا الشيء ويأتيه... لا؛ معصومون من هذا، وإنما ما ذُكِر من ذنب للمُرسَلين إنما هو كما قيل يفعلوه من خلاف الأَولى، يعني أن يكون أمرَين كلاهما حَسَن فيفعل ما هو أقل حُسنًا من الأخر، كما في قَبول الفداء من الأسرى بالنسبة للنبي -صل الله عليه وسلم- وكان الأَولى قتلهم، كما قال -تبارك وتعالى- {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، يعني هذا الأَولى، {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، وكذلك قَبوله عُذْر مَن اعتذَرَ له دون أن يستفصِلَه، فإنه لمَّا جائه مَن يعتذِرون إليه عن الخروج في تبوك فأذِنَ لهم النبي -صل الله عليه وسلم-، فقال الله -تبارك وتعالى- {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43]، وكذلك إرادته مُجرَّد ما وقع في نفسه أن يجعل للكفار مجلس ليجلس إليهم يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- لمَّا قالوا له اطرُد هؤلاء ليجترئون علينا، لا نستطيع أن نجلس إليك ونسمع منك وفي المجلس عبيدنا وأرِقَّاؤنا؛ كيف نجلس معهم؟ فلمَّا وقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يَقَع -كما قال عبد الله ابن مسعود- أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:52]، وقال الله -تبارك وتعالى- له في الآية الأُخرى {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}[الإسراء:73] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}[الإسراء:74] {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء:75]، إذن يعني لو فعلت هذا لأذقناك ضعف الحياة؛ يعني عذابًا مُضاعفًا في الحياة، وعذابًا مُضاعفًا في الممات، {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}.

من هذا أيضًا قالوا بأن الصغيرة عند الكبير كبيرة، فالكبير العظيم إذا وقعَت منه صغيرة تُصبِح كبيرة، لكن تبقى الصغيرة عند الصغير صغيرة، كما تتفاضل الذنوب بالأحوال، فذنب العالم غير ذنب الجاهل؛ ذنب العالم أشد، لو وقع العالم في خطأ يقع فيه العالم ويقع فيه الجاهل فإن ذنب العالم أشد، وذنب الفاضل أشد وعقوبته أشد من ذنب المفضول، كما قال الله -تبارك وتعالى- في شأن زوجات النبي -صل الله عليه وسلم- {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[الأحزاب:30]، فيكون عذابها مُضاعَف عن غيرها ممَن لَسْنَّ من زوجات النبي -صل الله عليه وسلم-، على كل حال قول الله -تبارك وتعالى- هنا لرسوله {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3]، امتنان من الله -تبارك وتعالى- وتذكير للنبي -صل الله عليه وسلم- بأن الله -تبارك وتعالى- وضَعَ عنه وِزرَه وحَطَّ عنه ذنبه، وهذا تشريف عظيم ورِفعَة عظيمة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال الله -تبارك وتعالى- أن هذا الذنب {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3].

ثم قال -جل وعلا- {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4]، رفع الله -تبارك وتعالى- ذِكر النبي -صل الله عليه وسلم-، ورِفعَة ذِكر النبي أمر عظيم جدًا؛ رفَعَ ذِكره في السماء وفي الأرض، رفَعَ ذِكره قبل أن يوجِدَه وبعد أن أوجَدَه -صل الله عليه وسلم-، فقبل أن يوجِدَه فإنه مذكور عند الأنبياء؛ وفي الصُّحُف الأولى، فما من نبي أرسَلَه الله -تبارك وتعالى- إلا وقد أخذ عليه العهد والميثاق أن يؤمن بمحمد -صل الله عليه وسلم-؛ وأنه إن بُعِثَ النبي محمد وهو موجود أن يُتابِعَه وأن يؤمن به، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81]، فالله -تبارك وتعالى- أشاد بذِكره؛ وبيَّن أنه النبي المُطاع، المُتَّبَع، وأن كل نبي يأتي محمد في عهده ويُدرِك رسالة النبي محمد أن يُتابِع هذا النبي، كما قال -صل الله عليه وسلم- لعُمَر لمَّا وجد بيده ورقة من التوراة يقرأها وكأنه استحسنها «والذي نفسي بيده لو أن موسى حيًّا لَمَا وسِعَه إلا أن يتَّبِعَني»، لابد يتَّبِع الرسول -صل الله عليه وسلم- بما أخذ الله -تبارك وتعالى- العهد والميثاق على الأنبياء أن يُتابِعوه، رفَعَ الله –تبارك وتعالى- ذِكر النبي بهذا القرآن العظيم؛ كتاب الله الذي أنزله، واقترن هذا القرآن بأنه مُنزَل على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، إنزال هذا القرآن على عبد الله ورسوله محمد؛ وارتباطه به، وارتباط رسالة الله -تبارك وتعالى- بأن يقوم بها النبي محمد -صل الله عليه وسلم- أصبح رابط، فرفَعَ الله -تبارك وتعالى- ذِكر النبي بأن هذا النبي هو النبي الدَّاعي إلى سبيل الله -تبارك وتعالى-، وجعل الشاهدة بالرسالة مُقارنة للشهادة بوحدانية الله -عز وجل-، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فاصبح لا يُذكَر الله -تبارك وتعالى- إلا ويُذكَر معه النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- شهادة واحدة، وجُعِلَت هذه الشهادة في أشرف الأوقات وأشرف الأعمال؛ في الأذان، وفي الصلاة، ففي الأذان الذي يجري على سطح هذه الأرض على مدار الليل والنهار يُرفَع فيه ذِكر الله -تبارك وتعالى- ثم ذِكر النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، -، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وفي التشهُّد في الصلاة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فلا يُذكَر الله -تبارك وتعالى- إلا ويُذكَر النبي معه.

كذلك تبقى الصلاة عليه من عموم المؤمنين أمرٌ باقٍ أبدًا؛ إلى قيام الساعة وهم يُصلُّون عليه، ويأمر الله -تبارك تعالى- بالصلاة عليه والإكثار من هذا، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56]، فوجوه أن الله -تبارك وتعالى- رفَعَ ذِكر النبي في العالمين وجوه عظيمة جدًا؛ رفَعَ ذِكره بكل سبيل، ولا يوجد إنسان في الأرض ممَن يذكُره؛ ويُحِبه، ويُتابِعه، ويفديه بنفسه وولده مثل هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، ورَفْع ذِكره في الآخرة أمر عظيم جدًا؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يُقيمُه مقامًا يحمَدَه على الأولون والآخرو، سيد وَلَد آدم، يقول «أنا سيد وَلَد آدم ولا فَخْر»، وذلك في المقام المحمود الذي يشكره عليه كل أهل الإيمان بدءًا ممَن آمنوا من أولاده وذُريَّته إلى آخر مؤمن، فهو حامل لواء الحمْد يوم القيامة والناس كلهم يحمَدونه، من آدم -عليه السلام- إلى آخر مؤمن كلهم يحمَدونه أنه يقوم المقام العظيم الذي يَحمَدَه عليه الجميع؛ مقام الشفاعة العُظمى، وهذا رَفْع ذِكر في أنه إنسان واحد وكل أهل الإيمان مُحتاجُون إليه في الشفاعة؛ ويذكرونه أكبر ذِكر في هذا الموقِف العظيم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون، وأهل الإيمان كلهم يكونوا مُحتاجين إليه في الشفاعة العُظمى، وأهل الإيمان كلهم مُحتاجون إليه لافتتاح الجنة؛ فلا تُفتَح الجنة إلا له، الجنة التي ينتظرها أهل الإيمان وهي مِنَّة الله الكبرى والعطية العُظمى لأهل الإيمان به، فأوَل مَن يستفتِح الرسول -صل الله عليه وسلم-؛ وهو أوَل مَن يطرُق باب الجنة، ويُقال له بك أمَرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فرضوان خازن الجنة يفتح الجنة بطَرْق النبي -صل الله عليه وسلم-، فهذا لا شك أنه من رَفْع ذِكر النبي -صل الله عليه وسلم-، هذا من جملة ما رفَعَ الله -تبارك وتعالى- به ذِكر النبي -صل الله عليه وسلم- في العالمين، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4].

ثم قال -جل وعلا- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5]، توجيه في هذه السورة بهذه المواعِظ العظيمة، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5]، تأكيد أن الله -تبارك وتعالى- لا يجعل عُسرًا إلا ويجعل مع اليُسْر، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ........}[الشرح:5]، وجاء العُسْر هنا مُعرَّف بالألف واللام ليكون واحد، ويُسرًا مُنَكَّر ليكون يُسرًا هنا يعني يُسْرًا عظيمًا، فالتَّنكِر هنا للتفخيم، فالله -تبارك وتعالى- لايجعل عُسْر إلا ويجعل معه التيسير، وتأكيد هذه الحقيقة لبيان المتنَفَّس لأهل الإيمان؛ وعدم اليأس، وأنه لا يكون العُسْر إلا ومعه اليُسر، ثم أكَّدَ الله -تبارك وتعالى- هذا المعنى فقال {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6]، فهذه الجُملة مُعادة للتكرير، وأُعيدَت بجعل العُسْر مُعرَّفًا واليُسْر مُنكَّرًا، فالعُسْر الذي في الآية الأولى هو العُسْر الذي في الآية الثانية، لكن اليُسْر المُنكَّر الذي في الآية الأولى غير اليُسْر المُنكَّر الذي في الآية الثانية، ولذلك قيل ((لن يغلب عُسرٌ يُسْرَين))، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5]، هذا عُسْر واحد هذا مع يُسْر، والعُسْر هذا الواحد {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:6]، هذا يُسرٌ ثاني، لأن هذا نكرة وهذا نكرة فيقتضي التكثير، فهذا تأكيد هذا المعنى وتوجيه الرب -تبارك وتعالى- إلى أن مع كل أمر عسير الله -تبارك وتعالى- يجعل معه يُسْر؛ وتنفيس، وتسهيل، ويُيسِّرُه، وهذا كما ذكَرنا أنه للتنفيس عن المؤمن؛ وبيان أنه لا يأتي أمر شديد إلا وسيأتي أمرٌ يسير بعده، كما قال -تبارك وتعالى- {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، فليس العُسْر هو نهاية المطاف؛ ولذلك لا يأس ولا قنوط من رحمة الله -تبارك وتعالى-، بل يجب دائمًا انتظار رحمته وفرَجِه -سبحانه وتعالى- وهذا في كل الأمور.

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[الشرح:7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:8]، فإذا فرغت؛ قيل من عمل الدنيا، فأنصَب؛ يعني في عبادة الله -تبارك وتعالى-، يعني إذا فرَغت من عمل في الدنيا؛ ومن السعي اللازم والواجب للدنيا، فأنصَب؛ النَّصَب اللي هو التعَب في عبادة الله -تبارك وتعالى-، وهذا فيه أمر وتوجيه من الله -تبارك وتعالى- بأن يتحمَّل العبد المشقَّة في الطاعة، وتحمُّل المشقَّة في الطاعة فضيلة عظيمة، يعني ليس هذا مما يُبغِضُه الله -تبارك وتعالى- بل مما يُحِبُه الله -تبارك وتعالى-، كما جاء في تحبيب قيام الليل مع شدته في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، فمع شدته لكن يُرَغِّب الله -تبارك وتعالى- فيه، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:5] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:6]، وكما جاء في الحج مع تحمُّل مشاقِه وكذا؛ وأن الله -تبارك وتعالى- يُحِب هذا، كما في قول الله -تبارك وتعالى- «الله ينزِل عشية عرفة إلى السماء الأولى يُباهي الملائكة، يقول انظروا عبادي قد أتوني شُعثًا غُبرًا ضاحين، أُشهِدُكُم أني قد غفَرت لهم»، شُعُث غُبُر ضاحين؛ الضَّاحي هو المُتعَب، المُنهَك، الذي بذل طاقته وجُهدَه، فهذا محبوب إلى الله –تبارك وتعالى- أنه تكلَّفَ هذا، كذلك الجهاد وما فيه من المشاق ومن التعب، قول الله -تبارك وتعالى- {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}، فالألم وتحمُّلُه في سبيل الله -تبارك وتعالى- في الجهاد محبوب إلى الله -تبارك وتعالى-؛ هذا أمرٌ محبوب، فالنَّصَب في هذا والتعَب في هذا أمرٌ محبوب لله -تبارك وتعالى- ومدعوا.

الشاهد أن الأمر بالنَّصَب في العبادة أمر من الله -تبارك وتعالى-؛ وهذا أمرٌ مُحبَّب، ولكن لا ينبغي طبعًا بل ولا يجوز أن يُتعِبَ المؤمن نفسه في عباده لم يشرَعَها الله -تبارك وتعالى-، فإن الله لا يقبَل من العبادة إلا ما يُحِبُه -سبحانه وتعالى-، كما جاء أن «النبي كان قائمًا يخطُب فرأى رجلًا قائمًا في الشمس لا يتكلَّم؛ فقال ما باله؟ فقالوا يا رسول الله هذا أبو إسرائيل؛ نذَرَ أن يقوم ولا يقعُد، وأن يبقى في الشمس ولا يتحوَّل إلى الظِّل، وأن يصوم»، فنذَر الصوم، والقيام؛ يعبُد الله قائمًا طيلة النهار، وأنه ما يتكلَّم، وأنه يبقى في الشمس، أربعة أشياء، فأمَرَه النبي -صل الله عليه وسلم- بأن يطَّرِح؛ كل ما أدخله من عباده بِدعة، «قال مُرُوه فليتحوَّل أولًا إلى الظِّل؛ وليجلس، وليُتِم صومه، وليتكلَّم»، فنهاه عن كل الأمور التي أدخلها من أمور هي مُتعِبَة وفيها نصَب للنفس؛ لكنها مما لم يشرَعَه الله -تبارك وتعالى-، اللي هو القيام؛ فالقيام في غير الصلاة ليس عبادة، ما ينبغي أن يعبُد الإنسان كما يفعل الرُّهبان النصارى؛ كانوا يقِفون الليل على أقدامهم دون الصلاة، وأحيانًا يقِفون الليل على رجلٍ واحدة تعبُّدًا لله -تبارك وتعالى-؛ وليس هذا من العبادة، كذلك ترك الكلام ليس عبادة، كذلك الوقوف في الشمس ليس عبادة، فإتعاب النفس بأمر لم يشرَعَه الله -تبارك وتعالى-، كذلك في الحَج «رأى النبي -صل الله عليه وسلم- رجل وهو في الحج يُهادى بين رجلين ويسير، فقال لهما ما له؟ فقالوا يا رسول الله نذَرَ أن يَحُجَّ ماشيًا، فقال إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَني؛ مُروه ليركب»، فأمَرَ النبي أن هذا النَّذر الذي نَذَرَه أن يحُج ماشي وهو لا يستطيع؛ يُهادى بين اثنين لا يستطيع، قال النبي مُروه فليركب، لأن هذا من التعَب غير المشروع في مثل هذه الحالة.

الشاهد أن قول الله -تبارك وتعالى- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[الشرح:7]، يعني فانصَب بالعبادة، والنَّصَب إنما هو يكون تعب في العبادة المشروعة، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:8]، إلى ربك؛ لا إلى غيره، فارغَب؛ فارغَب إليه، والرغبة هي تمنِّي حصول الخير، يعني كل خير ترجوه فليكُن من ربك -سبحانه وتعالى-، إلى ربك لا إلى سواه خير الدنيا والآخرة، اجعل الله -تبارك وتعالى- هو طِلبَتَك، وطَلَبَك كله ورغبتك كلها إلى الله -تبارك وتعالى- لا إلى غيره؛ وهذا كمال التوحيد والإخلاص لله -تبارك وتعالى-، وفي هذا الختام قد أعطى الله -تبارك وتعالى- رسوله هذه المجموعة من المواعِظ العظيمة؛ وهي في باب النِعَم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليه، فإن هذه النِعَم التي أنعَمَ الله بها {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1] {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4]، إذن فإن بعد ذلك قيامًا بشُكْر هذا الأمر افعل هذا، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5]، كل مشقَّة تأتيك اعلم أن فيها يُسْر الله -تبارك وتعالى-، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[الشرح:7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:8]، ولذلك «كان النبي -صل الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، وقيل له يا رسول الله أتفعل هذا وقد غفَرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فقال أفلا أكون عبدًا شكورًا»، فهذا من شُكر الله -تبارك وتعالى- في مقابل نِعَمِه أن يقوم العبد بعبادته.

الحمد لله رب العالمين، اللهم صلَّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد.