الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (788) - سورة التين 1-8

الحمدالله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسول الأمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وعمل سنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم

"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" (التين 1) "وَطُورِ سِينِينَ "(التين 2) "وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" (التين 3) "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4) "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" (التين 6) "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" (التين 7) "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين 8)

سورة التين يقسم الله تبارك وتعالى بأقسام ثلاثة وأتى بالمقسم عليه قال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4) "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..." (التين 6) "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" (التين 1)، قيل إنه هذه الثمار المعروفة ثمرة التين والزيتون، والصحيح أن فيما قيل في معنى هذا القسم أن التين والزيتون هو جبل التين والزيتون في فلسطين وهو المكان الذي بعث الله فيه عيسى بن مريم (عليه السلام) فيقسم الله بهذا المكان الذي كان فيه هذه الرسالة لنبيه عيسى (عليه السلام) آخر أنبياء بني اسرائيل، "وَطُورِ سِينِينَ "(التين 2) طور بمعنى الجبل، سينين وسيناء هو المكان الذي كلم الله فيه موسى وحمله لرسالته، فيقسم الله بالمكان الذي أشرف فيه نور الله ونزلت رسالته على عبده ونبيه موسى عليه السلام.

 ثم قال جل وعلا: "وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" (التين 3) والبلد الأمن المشار إليه هنا هو مكة المكرمة التي أرسل الله فيها عبده ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) خاتم الأنبياء والمرسلين وسمي الأمين لأن هذه صفته وقد جعلها الله آية من آياته "البلد الأمين" مكة "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ" (العنكبوت67) فقد كان هذا، وقال جل وعلا عن هذا، قال: "فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا..." (آل عمران97)

فالله جعل هذا أمن، هذا البلد آية من آياته ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى، فتكون هنا الأقسام اي أيمانه في هذه السورة جاءت بهذا الترتيب في الأفضلية، بدأ الله برسالة عيسى وأشرف منها وأكبر منها رسالة موسى (عليه السلام) وعيسى إنما جاء مكملا لرسالة موسى وعلى شريعته ثم في باب الصعود فكانت رسالة محمد أكبر وأشرف رسالات الله إلى أهل الأرض جميعا، فإن الله قد أرسل رسوله محمد إلى الناس جميعا، جاء هذا المعنى في التوراة، " جاء الله من طور سيناء وأشرق من سعير واستعلن من جبال فاران."

بالترتيب الزمني، بالترتيب الزمني، بهذا جاء الله من طور سيناء بالنسبة لرسالة موسى عليه السلام وأشرق من سعير وسعير هو جبل المقدس والذي كان فيه عيسى (عليه السلام) واستعلن من جبال فاران وجبال فاران هي جبال مكة بالإجماع، فكان هذا بحسب الترتيب الزمني وبحسب الأقسام هنا أقسام الله تبارك وتعالى بحسب افضلية هذه الرسالات، والتين والزيتون جبل التين والزيتون جبل المقدس محل عيسى عليه السلام، "وطور سينين" حيث كلم الله موسى وأرسله من تخليص بني اسرائيل ودعوة قوم فرعون إلى دعوة قوم فرعون إلى الإيمان، "وهذا البلد الأمين" وهذا البلد الأمين هو مكة المكرمة، أقسم الله بمهد هذه الرسالات الثلاث التي هي أشرف وأكبر رسالات الله إلى أهل الأرض والتي مازال لأتباعها وجود عند نزول هذا الوحي، فقد كان مازال النصارى الذين يزعمون أنهم على دين عيسى وكذلك اليهود الذين يزعمون أنهم على دين موسى ثم هذا الاسلام الذين نزل في مكة المكرمة

"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا... " (الشورى7) جاء تبارك وتعالى بالمقسم عليه فقال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4) "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) يقسم الله بهذه الأقسام أن خلق الإنسان اي كل إنسان من ولد آدم في أحسن تقويم من الخلق، فأحسن تقويم في الخلق وأحسن صورة مركبة في كل المخلوقات هي صورة الإنسان، صورة الإنسان الذي خلقه الله معتدل القامة، منتصب لا يغطي جسده ريش ولا شعر كثير كبقية الحيوانات لا يمشي على أربع، أجمل صورة من صور المخلوقات وأكملها هي صورة الإنسان، والمقارنة بين المخلوقات الموجودة على هذه الأرض يتبدى هذا، يتبدى هذا لأن الإنسان خلقه الله في أحسن تقويم وهذه نعمة عظيمة من نعم الله على هذا المخلوق أن جعله من حيث الخلقة في أعلى سلم المخلوقات من حيث الخلق، كما قال تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" (الانفطار 6) "الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ" (الانفطار 7) "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" (الانفطار8) فخلق كريم سواه الله تبارك وتعالى وعدله، أي جعله مستقيما يسير على قدمين "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" (الانفطار8) من هذه الصورة الكريمة، كذلك هو في أحسن تقويم من حيث الصورة وكذلك من حيث القوى والمضمون فقد أعطاه الله العقل والنظر والسمع، كل آلات المعرفة التي يعرف بها، فكان على تمام الخلق "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4)، ثم قال جل وعلا: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..." (التين 6) أسفل سافلين هي النار، فالنار في السفل في سفل الوجود، والجنة في عليين، ورد الإنسان إلى أسفل سافلين لتكون مأواه ومستقر هذا الإنسان الكافر بالله تبارك وتعالى، ورده الله تبارك وتعالى، رد الكافر إلى هذا المكان ليكون في أسفل سافلين من حيث المكانة والوجود وما جعله الله من ضيق هذا المكان وشدته والعذاب الذين فيه، وأن ينكس هذا الإنسان، هذا الإنسان الذي كرمه الله وشرفه وخلقه هذا الخلق القويم، إلى أن يجعله في هذا المستقر البعيد القعر، كله بكفره لان الإنسان الكافر لم يراعي هذا التكريم الإلهي الذي كرمه الله به.

فإن الله كرم الإنسان تكريم عظيم جدا، اولا تكريم من حيث أن الله خلق أصل هذا الإنسان في السماء، كان الخلق في السماء، رغم أن مادة الإنسان في هذه الأرض إلا أن الله خلقه في السماء ثم خلقه بيديه سبحانه وتعالى وخلقه في أحسن صورة وأحسن تقويم، ثم أسجد ملائكته جميعا لهذا الإنسان، أمل الله كل الملائكة بأن يسجدوا، وقال جل وعلا:

"فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" (ص73) "إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (ص74) فلم يستثنى من هذا السجود أحد من الملائكة، وهذا أعظم، "فسجد الملائكة" بالألف واللام. "كلهم" بكل دل على العموم، "اجمعون" كذلك لتأكيد هذا العموم، كلهم أمرهم الله أن يسجدوا تكريما لهذا الإنسان، ثم شرفه الله بعد هذا التشريف والتكريم، أوجده في هذه الأرض وأرسل له رسالاته سبحانه وتعالى، لم يتركه سدى ولا هملا وإنما منذ أوجده وقد أرسله له وبين له طريق الهداية على التفصيل وليس على الإجمال، بيان تفصيلي لكل شي في هذه الرسالات المنزلة، وكانت أعظم هذه الرسالات، رسالة هؤلاء الأنبياء الثلاثة الذين هم أعلى وأشرف الأنبياء، عيسى عليه السلام المبعوث في فلسطين وموسى عليه السلام والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فمنذ أهبط الله آدم من الأرض، قال له: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى" (طه123) "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه124) فالإنسان الكافر قد ألقى بكل ذلك عرض الحائط، وأعطى ظهره لكل هذا، فلا هو قدر خلقه الكريم حيث خلقه الله تبارك وتعالى، ولا هو قدر المنزلة التي أنزله الله تبارك وتعالى بها في سلم المخلوقات. "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الاسراء70) فهو مكرم هذا التكريم بأن سخر له هذا، أن طعامه من الطيبات وأنزل الله اللباس الذي يواري سوءاته "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (الأعراف26) هذه بيان سبيل الهداية الذي يتخذه وإخبار الله له بهذه الأمور من الأمور الدنيوية أن الله أكرمه،

"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" (الاسراء70) جعل الله له ما يحمل عليه من حيوان ومن آلة فهذه من تسخير الله له "وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الاسراء70) فهذا تفضيل في الخلق وفي الرزق وفي التسخير، وكذلك تفضيل من حيث أن الله تبارك وتعالى ينزل له هذه الرسالات، فيعطيه الطريق واضح بين، الكافر يعرض عن كل هذا، فقد أعرض عن ربه واستغنى عنه وترك كل هذا، فذهب بنفسه محل أحط من أي مخلوق آخر، من هذه المخلوقات كل المخلوقات مهما دنت في سلم المخلوقات فهي عابدة لله كلها.

"وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ" (النور41) "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" (الإسراء 44) "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ..." (الأنعام38) "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" (النحل 49) "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" (الحج 18) والدواب تشكل كل دابة يعني خلقها الله تبارك وتعالى مما يسجد لله تبارك وتعالى، وكثير من الناس يسجدون وكثير حق عليه العذاب، فهذا من بني آدم، حق عليهم العذاب لأنهم لا يسجدون له ولا يركعون له ولم يؤمنوا به ولم يقدروا كل هذه النعم التي أنعم الله تعالى به على الإنسان، فلهذا هذا الإنسان الذين هذا حاله طبعا كل هذا، لم يعرف لماذا خلقه الله ولم يقدر نعم الله في خلقه وفي رزقه وفي العناية به.

"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ" (لقمان20) فهذا الإنسان الكافر مجادل لله مخاصم له معاند له، مضاد لله، فلذلك كان هذا الإنسان الكافر، يخبر سبحانه وتعالى بأنه رده إلى أسفل سافلين، عقوبة، وليس في الخلق، الصحيح أن الرد هنا إنما هو الرد عقوبة له من الله أن يجعله الله في أسفل سافلين، في أسفل سافلين من حيث هذه العقوبة مكان، وكذلك يصبح الكافر في أسفل سافلين عقوبة له بكفره، لأن الكافر وقت ما يكفر حتى قبل أن تناله عقوبة الله تبارك وتعالى، أًصبح أسفل سافلين، أسفل من كل المخلوقات، من حيث العقل والفهم والقيمة، لا قيمة للكافر بكفره، الإنسان إذا كفر فقد القيمة التي له كمخلوق، فإنه أهدر كل هذه النعم التي أعطاه الله تبارك وتعالى، وجعل نفسه في هذا المكان، مكان الكفر الذي هو تحت كل هذه المخلوقات. "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف179) فالغافل عن ذكر ربه من البشر، جعل نفسه في مرتبة دون مرتبة الأنعام لأن مرتبة الأنعام إنما هي على كل حال تؤدي وإن كانت في سلم المخلوقات، يعني متدنية عن بعض المخلوقات الأخرى إلا أنها قد أدت ما عليها وقامت بما خلقت له، أما الإنسان الكافر لم يقم بما خلق له، ولم يعرف ما الذي خلق من أجله وما هي وظيفته وما هيك مكانته هنا، وأهد كل هذه المكونات والمقومات التي أعطاه الله تبارك وتعالى، فالله أنشأ هذا الإنسان وجعل له هذه المقومات العظيمة، السمع والبصر والفؤاد، لعله أن يشكر فلم يشكر، كفر بهذا، فكذلك من معنى "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) قيمة بالكفر لا يصبح له أي قيمة، بل يصبح دنس، نجس في الذات "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا... " (التوبة 28) يصبح مطرود ملعون، مسخوط عليه من الذي طرده ولعنه وسخط عليه، الرب الإله سبحانه وتعالى، فإذا اصبح لا نقول غير ذي قيمة، بل عديم أي قيمة، ثم كان في هذا المكان الدنس، إذا "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) "رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5) قيمة، ولذلك لما سئل النبي، قيل له: يا رسول الله من أشرف الناس أو من أفضل الناس، قال: أتقاهم، فالتفاضل بالتقوى كلما كان الإنسان تقيا لله تبارك وتعالى كلما كان أشرف وأعلى الناس، أما إذا جرد من التقوى خلاص يبقى تجرد من أي قيمة له، فبالكفر يدس الإنسان نفسه في هذا المكان القذر، ومنه قول الله تبارك وتعالى. "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" (9) "وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس 10). فالخائب هو الذي دس نفسه قذرها ودنسها ووضعها في هذا المكان، ولذلك جعل الله كتاب الأبرار في عليين، كتاب الفجار في سجين.

"كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ" (المطففين 18). الجنة التي جعلها الله تبارك وتعالى في السقف فإن الجنة درجات وأعلاها من يكون عرش الرحمن هو سقفها التي هي الفردوس، وأما النار فهي السفل، النار جعلها الله في سفل الوجود. "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" (المطففين7) سجن، "وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ" (المطففين8) "كِتَابٌ مَرْقُومٌ" (المطففين9) "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ" (المطففين10) فيقسم سبحانه وتعالى ويقول: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4) "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" (التين 5).

ثم قال جل وعلا: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" (التين 6) "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا" استثناء الله يستثني من هذا الإنسان "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، الإيمان إذا اقترن بالعمل الصالح، فينصرف المعنى فيه إلى أعمال القلوب والتي هي أشرف الأعمال ولما سئل النبي عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى). فهذه أصول الإيمان وتحت كل باب من كل هذه الأبواب مسائل كثيرة، فالإيمان بالله أن تؤمن بالله بوحدانيته أنه الرب الواحد في ذاته في أسمائه في صفاته سبحانه وتعالى وأنه لا ند له ولا شريك له ولا ظهير له، تؤمن بكل معاني أسمائه وصفاته، فتؤمن بأنه الرب الإله سبحانه وتعالى وأنه الخالق البارئ المصور، ثم تؤمن بأنه الإله الذي لا إله إلا هو فهو الإله وحده الذي لا يعبد إلا هو جل وعلا، ويؤمن بكل أسمائه وصفاته كل هذا داخلة في معنى الإيمان بالله، وكذلك الإيمان بملائكته والإيمان باليوم الآخر، كل باب من هذه الأبواب أو كل ركن من هذه الأركان الستة يدخل تحته مسائل كثيرة، فيؤمن أن الإيمان باليوم الآخر حق، ماذا يكون فيه من هذا التغيير والتبديل في هذا الكون المشاهد "إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ" (الانفطار1) "وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ" (الانفطار2) "وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ" (الانفطار3) "وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ" (الانفطار4) يؤمن بقيام الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى كما يعني أخبر الله تبارك وتعالى: "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء104).

ما ذكر الرب تبارك وتعالى في هذا اليوم بأنه يوم عصيب ويوم عظيم وأن طوله خمسين ألف سنة، كما قال جل وعلا: "...فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (المعارج 4) "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" (المعارج5) ما ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم) في تفصيلات هذا اليوم، قيام الناس لرب العالمين، قال: (يقومون لرب العالمين في عرقهم إلى أنصاف آذانهم، يقوم الشخص في رشحه ويبقى عرقه إلى نصف أذنه وهو على هذا النحو)، فكل ما وصف الله وما ذكره عن هذا اليوم وذكره النبي يؤمن به، هذا داخل في الإيمان. "إلا الذين آمنوا" آمنوا بالغيب كله الذي أخبر به الله تبارك وتعالى وأخبر به رسوله، "وعملوا الصالحات" الصالحات جمع صالحة، وهي كل عمل سيثاب عليه العبد، هذا عمل صالح، وهي كثيرة كمان قال النبي: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فالصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين وصدق الحديث هذه الأعمال الصالحة.

"إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..." (التين 6) ودائما النجاة عند الله يوم القيامة والفلاح كله مرتبط بالجمع بين هذين الأمرين، الإيمان والعمل الصالح، لابد أن يكون إيمان وعمل صالح، فلا ينفع الإيمان وحده إذا كان مجرد عمل بالقلب دون عمل بالجوارح، بل لابد أن يكون عمل بالقلب وكذلك قول باللسان ثمن بعد ذلك هذا العمل بالجوارح، ولذلك أخذ من عموم هذه النصوص أهل السنة والجماعة أن الإيمان لابد أن يقوم ثلاث عناصر أساسية: الإيمان قول باللسان، أو شهادة باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح. "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" (التين 6) لهؤلاء الموصوفون وهؤلاء مستثنون من جملة الإنسان الذي رد أسفل سافلين، قال: "لهم أجر غير ممنون" أجر على العمل هذا والله هو الذين يأجرهم سبحانه وتعالى، وهو أجر لكنه من العظم والنفاسة هو بحسب الرب سبحانه وتعالى، لأن عندما يأجر الناس بعضهم بعضا لعمل ما فهو مناسب لمن صنع لك عملا فتعطيه أجر، عمل عندك يوم فتعطيه عشر دنانير هذا أجر، وهو مناسب لحال هذا الإنسان، أما الله فإن أجره عظيم لا يتناسب مع العمل من حيث ثمنه ومن حيث المساواة لا، وإنما هو عطاء من الرب سبحانه وتعالى، لذلك قال: "... أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" (التين 6) أجر دائم مستمر لا ينقطع، فهو أجر دائم مستمر لا ينقطع وذلك أن الله يعطيهم الجنة ويكتب لهم في هذه الجنة، يجعل لهم في هذه الجنة الخلود والبقاء الذي لا نهاية له، فهذا أجر ليس هو نقد ينقدونهم وينتهي ويأخذ هذا أجرك وانتهى، لا وإنما جعل الله أجرهم هذا ممتد إلى ما لا نهاية، لا ينتهي، فهم في جنة يقال لهم: "وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (الزخرف72) "بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" سببا، واجر من الله لكن هذا أجر مناسب بالنسبة لمناسبته عظمه على هذا النحو، لأن الذي يعطيه هو الرب الكريم العظيم سبحانه وتعالى، الذي لا أعظم منه ولا أكرم منه، لذلك أعطاهم هذا الأجر الذي لا ينتهي ولا يغيب ولا يتحول عن ولا يفنى، ماله فناء ماله نهاية، فأجر غير ممنون أنه لا يقطع، ليس له قطع، ما فيه له انقطاع وقت، يقال له خلاص أخذت أجرك، لقد تمتعت ألف سنة ألفين سنة مليون سنة، إثنين مليون سنة ثم يكفيك هذا، لا، بل هو أجر مستمر استمرار لا انقطاع فيه، ثم قال جل وعلا:

"فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" (التين 7) خطاب للكافر هذا الذي رده الله أسفل سافلين، أخبر أنه سيرد إلى أسفل سافلين، ما الذي يكذب به؟ "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" (التين 7) سؤال للإنكار ولتوبيخ هذا الكافر، ما الذي يحملك على التكذيب بيوم القيامة "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين 8) "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين 8).

سؤال يراد به التقرير، هل هناك أحكم في حكمه من أحكم الحاكمين الرب سبحانه وتعالى، فلو لم يكن هناك دين يعني جزاء يجازى فيه المجرم على إجرامه والمحسن لإحسانه، لما كان الله أحكم الحاكمين، بل يكون هذا من الظلم المبين ومن التضييع البين ومن العبث واللعب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فيخلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق الإنسان، ويعطيه هذه المقومات وكذا، ثم يبين له هذا الطريق، يخلقه في أحسن تقويم، ويهديه السبيل ويرسل الرسل، ثم بعد ذلك يأتي الإنسان فيرفض هذا، ولا يسير في طريق الرب ويكفر بهذا، ويفقد أي معنى للقيمة ويقول أحط من الحيوانات وأنجس منها، جاحدا رافضا لدين الرب سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك يترك، وكذلك المؤمن الذين آمن بالله وقدر نعم الله عز وجل وسار في طريقه بعد ذلك يترك.

"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ" (القلم 35) "مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (القلم 36)

فهذا في آخر السورة خطاب للكافر فيه.