الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] يخبر -سبحانه وتعالى- عباده، ويحذرهم أن الذين يأكلون الربا، لا يقومون قال أهل العلم أي من قبورهم يوم القيامة { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يقومون بهذه الصورة المزرية، فيتخبطون كالذي يصرع يمينا، وشمالاً، فتكون لهم هذه صورة مميزة لهم ومخزية لهم فى الموقف العظيم، والمشهد الكبير يوم القيامة.
وقد جاءت النصوص أن كل صاحب جريمة يبعث يوم القيامة بصورة تتناسب مع جرمه، كما يبعث المتكبرون كأمثال الذر يطؤهم كل شيء؛ وكما ينشر لكل غادر لواء تحت استه يوم القيامة، وكما يبعث كل صاحب معصية على ما كان عليه من معصيته، وكذلك أهل الطاعات، وأهل الإيمان فإن الله يبعثهم على طاعتهم، فالحاج يبعث ملبيا، والشهيد يبعث بجرحه يثعب دماً كهيئته يوم جُرح، اللون لون دم، والريح ريح مسك، وكل صاحب طاعة مات على طاعته يبعثه الله -تبارك وتعالى- على ما مات عليه، فهذا المرابي الذى لم يتب من رباه يُبعث بهذه الصورة يتخبط يضرب يمينا، وشمالاً، وهذه مناسبة لفعله لأنه كان يظن أن عمله خير واتزان، والحال أنه تخبط وعدم اعتدال.
قال -جل وعلا- مبينا السبب فى أنهم يحشرون على هذه الصورة قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي فعلنا بهم هذا الفعل الشديد؛ بأنهم اعترضوا على تشريع الرب -تبارك وتعالى-، وساووا بين البيع، والربا، ومساواتهم بين البيع والربا إتهام للرب -تبارك وتعالى- بأنه فرًق بين المتماثلين، ولن فرق بين متماثلين هذا دليل عدم الحكمة؛ فنسبوا الرب إلى عدم العلم وعدم الحكمة، وأن كسب الربا ككسب البيع؛ فلمَ يأتِ تحريم لهذا وتحليل لهذا؟
قال -جل وعلا- بأن هذا الأمر له، وأنه هو الذى فعل هذا{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الله هو الذى أحل هذا، وحرم هذا، ولا يمكن أن يكون هناك تسوية بين هذا وهذا، فإن الله لا يفرق بين متماثلين، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا؛ بل هو الحكيم الذى يضع كل أمر فى نصابه -سبحانه وتعالى-، والإخبار بهذه الصورة اذا كان الله قد فعل هذا؛ فكيف للعبد الجاهل أن يعترض على تشريع الرب -سبحانه وتعالى؟
- قال -جل وعلا- { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وهذه هي الموعظة جاءته بأن بيًن الله الصورة التي يكون عليها المرابي عندما يبعث، وأن هذا قد أباحه الله، وهذا حرمه الله، هذه موعظة عظيمة أن الله هو الذى فعل هذا؛ فانتهى أي عن أكل الربا { فَلَهُ مَا سَلَفَ} هذا سماح منه -سبحانه وتعالى- أنه له ما سلف فلم يوجب الله –عز وجل- عليه أن يرد كل ما اكتسب من الربا، بل الذى أخذه حتى وإن ولم يكن قد أنفقه؛ فالله -تبارك وتعالى- قال { فَلَهُ مَا سَلَفَ} ما قبضه من الربا له،{ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فى هذه إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له { وَمَنْ عَادَ} يعنى بعد هذه الموعظة، وهذا البيان، يعنى إلى أكل الربا {........فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] الملازمون للنار هم فيها خالدون باعتراضهم على تشريع الرب -تبارك وتعالى- ورفضهم أمره؛ فيخًلًدون فى النار من أجل ذلك، لأن هذا تأبي، وتعالٍ عن أمر الله -تبارك وتعالى-.
اعلموا أيها الأخوة أن الربا أبواب كثيرة كما قال النبي «الربا إحدى وسبعون بابا» أبواب عظيمة جداً، ولكنه ينقسم في الجملة إلى قسمين، قسم يسميه أهل العلم بربا الفضل، وقسم آخر يسمى بربا النسيئة.
ربا الفضل هو بيع الشيء من جنسه متفاضلا، كقمح بقمح، لكن هذا وزن زائد عن هذا، أو كيل زائد عن هذا، أو تمر بتمر، أو زبيب بزبيب؛ إذا كان شيء من جنسه ولكن يباع متفاضلا فهذا الربا، كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله وسلم- «لما أرسل بلال أن يأتيه بصدقته من خيبر فجاء بتمر جنيب تمر جيد فقال له النبي أكل تمر خيبر هكذا فقال لا يا رسول الله الله ولكننا نبيع نشترى الصاع من هذا اللي هو من جنيب بالصاعين والثلاثة من الجمع والجمع تمر ردئ فيشترى صاع من التمر الجنيب اللي هو الجيد بصاعين و ثلاثة منه فقال له النبي أوه عين الربا قال له هذا عين الربا أن تشترى هذا» ومن أجل هذا قال النبي -صلى الله وسلم - «الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى» من زاد من عنده دون طلب، أو استزاد طلب الزيادة فقد أربى، والتمر بالتمر، والزبيب بالزبيب، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير، والملح بالملح، وزناً بوزن، مثلاً بمثل فمن زاد، أو استزاد فقد أربى؛ فبين النبي أن هذه كذلك الأمور هذه التي نص عليها النبي لابد أن تكون وزنا بوزن، ويدا بيد؛ ثم قال النبي «فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» اختلف الصنف كأن يبيع تمر بقمح، هذا صنف مختلف فبيعوا كيف شئتم ممكن أخد طن بهذا بطنين أو عشرة من هذا فبيعوا كيف شئتم إن كان يدا بيد، بشرط أن يكون التقبض في الوقت؛ فالربا في هذا بيع الشيء من جنسه متفاضلا، فهذا ربا، إذا كان في الوقت، أما اذا كان مع الزمن يصير ربا نسيئة.
فربا النسيئة هو كل زيادة في مقابل الأجل، أي زيادة في مقابل أجل ربا، كأن يقول الآن بعني مائة دينار بمائة وعشرة دنانير بعد سنة، سواء كان بصورة البيع، أو بصورة الدين، داين الآن مائة دينار، وأعطيها مائة وعشرة دنانير بعد سنة؛ فهذه العشرة التي في مقابل الأجل هذه زيادة ربوية، سواء كانت مع الدين أو كانت مع البيع، يبيع الإنسان مال الآن بمال آخر فيه زمن، وفيه زيادة الزيادة هذه لا تجوز.
أما النقود الذهب، والفضة فإنها لا تجوز أن تباع إلا يداً بيد، فلا يجوز أن يقول شخص لشخص أبيعك الآن مائة دينار بمائة دينار لكن بعد سنة، هذا غير جائز أما مائة دينار بجنسها في الآن في الوقت نعم.
فهذه أصول الربا ربا على الأجل، على التأجيل، وربا أن يأخذ زيادة في الوقت لكنها بيع الشيء من جنسه، ولكن يكون متفاضل مادام هذا تبيع الشيء بجنسه، تمر بتمر حتى وإن كان هذا جيدا، وهذا ردئ، فإذا بيع تمر مثلاً بتمر آخر أقل منه جودة يجب أن يكون وزنا بوزن، مثلا بمثل، يداً بيد، فهذه هي الربا لكن هناك أبواب أخرى تدخل في باب النسيئة وكذلك أبواب تدخل في باب الفضل، ولكن هذه أصولها.
ثم قال -جل وعلا- {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة:276] المحق هو ذهاب النفع والبركة، فمحقه ذهابه وإتلافه أو ذهاب نمائه وبركته، { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يمحق كل هذه الزيادة تمحق، وذلك أن صاحبها لا يستفيد بها، فإن أخذها فى الدنيا سلطها الله -تبارك وتعالى- له على ما لا يستفيد به، وكذلك كان إثمها عليه، ولا تنفعه يوم القيامة.
{ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أما الصدقة وهي كل مال ينفق فى سبيل الله من أجل الصدق والتصديق، صاحبه صادق فى إيمانه بالله -تبارك وتعالى- ومصدق بعده، ومعنى يربيها، ينميها الله -تبارك وتعالى- وقد جاء في الحديث «إن الله يربى لأحدكم صدقته، كما يربى أحدكم فلوه » يربيها ينميها، حتى تكون التمرة كالجبال من الأجر.
{ ........وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة:276] هذا تهديد بعد تهديد؛ فقول الله -تبارك وتعالى- { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}تهديد منه -سبحانه وتعالى- بمحق بركته فى الدنيا، ومحقه في الآخرة؛ لأنه يكون هو، وماله في الآخرة عياذا بالله، وهذا قد محقت بركته، وبقيت تبعته وأثره، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ........}[البقرة:276] كفار كثير الكفر { أَثِيمٍ} فاعل الإثم فآكل الربا كذلك، وإذا زاد على أكله للربا الاعتراض على تشريع الرب، فيكون أغلظ في الكفر، وأغلظ في الإثم.
ثم جاءت آية هنا تتوسط آيات الربا ما انتهت آية الربا بعد هناك آيات أخرى فجاء الله -تبارك وتعالى- بآية هنا متوسطة بين هذا، وهذا قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:277] هذه الآية بيان من الله -تبارك وتعالى- عن أهل الاستقامة، وأهل الخير، قال { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الإيمان إذا أُطلق، يُطلق على عمل القلب وعمل الجوارح، وإذا جاء بعده عمل الصالحات فينطلق معنى الإيمان على عمل القلب كما سئل النبي عن الإيمان، والإسلام فقال «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشره من الله تعالى، قال فأخبرني عن الإسلام قال الإسلام أن تشهد أن لا اله ألا الله، وأن محمدً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت»، ففي قوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} اقتران الإيمان بالعمل الصالح، الإيمان عمل القلب من محبة الله -تبارك وتعالى- والتوكل عليه والرغبة فيما عنده وخوفه -سبحانه وتعالى- والتصديق بموعوده والخوف، والخشية هذه كلها من معاني الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ........} [البقرة:277] بعد إيمانهم، أعمال قلوبهم عملوا الصالحات، الصالحات جمع صالحة هو كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فهو صلاح لأنه تصلح به الأحوال ، يصلح به حال الإنسان فى الدنيا، ويصلح به حاله كذلك فى الآخرة، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وأعظم هذه الأعمال هي الشهادتين، وإقامة الصلاة، والإيمان بهذا بضع من أعمال الصالحات، بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ فكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فهو عمل صالح.
{ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ........}[البقرة:277] ذكر الله إقامة الصلاة بعد الصالحات من باب ذكر الخاص بعد العام؛ فالصالحات تشمل الصلاة، ثم خصّ الله -تبارك وتعالى- بعد هذا عملين وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لأنهما أعظم ركنين فى الإسلامأعظم عملين قال { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أقاموها بمعنى أنهم يعنى أدوها على وجهها الأكمل، شروطها، بأركانها، بخشوعها؛ فإذا أحاطوا الصلاة هكذا من جميع جوانبها معناها أقاموها وعدلوها.
{ وآتوا الزكاة} آتوها بمعنى أعطوها، و الزكاة هي ما فرضه الله -تبارك وتعالى- فى مال المؤمن ليصرف فى هذه المصارف التى ذكرها الله، {........لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ........}[التوبة:60]، وسميت زكاة؛ لأنها طهرة للنفس، والمال، زكا الأمر الزكي هو الطاهر النقي، زكا الزرع بمعنى نما، وحسن، ونضر؛ فسُمي إخراج المال زكاة لأنه ينمي نفس المؤمن، يجعلها تؤمن بالله -تبارك وتعالى- وتثق فى موعوده، وتطهر من الشح ومن الأثرة والبخل وتتعلم الرحمة وكذلك المال يطهر، المال مال المؤمن اذا أخرج منه زكاة لأن هذا حق الله، بقاء حق الله فى المال، يحرمه، ويجعل هذا المال حرام إثم، وإخراج حق الله -تبارك وتعالى- يطهر المال؛ فسميت الزكاة زكاة لهذا { وَآتَوُا الزَّكَاةَ} هؤلاء الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- عملوا الصالحات، وخص الله من الصالحات إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
قال -جل وعلا-{ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فلا يضيع شيء، أجر أيمانهم، وصلاتهم، وعملهم الصالح هذا أجرهم ثوابهم عند ربهم، وهو عند ربهم معناه أنه ما يضيع ما دام أنه عند الله { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه كل المستقبل، كل هذه المخاوف المستقبلة، وحشية القبر وأهوال الموقف وأهوال العبور على ظهراني جهنم كل الأهوال هذه يؤمنهم الله منها {........وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:277] الحزن على ما مضى كل ما مضى من أمرهم فالله يؤمنهم منه، كان أسلفت لهم ذنوب، أسلفت لهم معاصي هذا كذلك هذا أمان منه؛ فهذا أمان الله يعطيهم وثيقة أمان بأنه {........وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}}[البقرة:277].
هذا بيان أهل النجاة و هؤلاء طريقهم مخالف لطريق المرابين، الذين يدفعون التشريع، ويقولون لمَ يبيح الله كسب التجارة ويحرم كسب الربا؟ والحال عندهم أنها سواء، فهؤلاء المعترضون على الرب، المعاندون له الآكلون الربا على هذا النحو ليسوا من هؤلاء، ليسوا من الذين آمنوا وعمل والصالحات, إذن تهديدهم باق أما الذين لهم الأمن هم هؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:277] هذا طريقهم غير طريق المرابي.
ثم استأنف الله تبارك وتعالى-وعظه لأهل الأيمان بأن يتقوا الربا قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] خطاب من الله -تبارك وتعالى-ونداء لعباده المؤمنين يأمرهم فيه قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ........} [البقرة:278] خافوه -سبحانه وتعالى-اجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب الله.
{ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ذروا اتركوا، اتركوا ما بقي من الربا، أي عقد عقدتموه لتعاملٍ بالربا، قبضتم بعض المبلغ، وبقي بعض الربا موجود عند من تعاقدتم معه اتركوه؛ وكذلك أي عقود لكم فى أي باب من أبواب الربا اتركوه، اتركوا ما بقي من الربا.
{........إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فإن كنتم من أهل الإيمان حقا فذروا كل أنواع الربا، ما بقي من الربا؛ فهذا بأي صورة من الصور.
قال -جل وعلا- {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ........}[البقرة:279] فإن لم تفعلوا أي تنتهوا عن أخذ الربا، وعن كل عقد عقدتموه، ولم تستوفوه أن تحصلوها.
{ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} و الآذان هنا الإعلام، أي اعلموا أني قد أعلنت الحرب عليكم { بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الحرب تكون هذه من الله ورسوله، بأن يسلط الله -تبارك وتعالى- رسوله على هؤلاء الذين ما زالوا يتمسكون بعقود الربا فيحاربهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يوقع عقوبة عليهم، بأن يصادر مالهم، ؛ فاحذروا هذا في أن يسلط الله -تبارك وتعالى- عليكم رسوله بحرب منه.
والآية أعم كذلك { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وحرب الله، إذا حاربكم الله -تبارك وتعالى- يكون ذلك فى أموالكم، فى أبدانكم، فى أحوالكم، فى تسليط عدو عليكم؛ فالله -تبارك وتعالى- إذا أعلن هو الحرب على قوم فمعلوم من المهزوم فيهم، وكذلك معلوم أن الله -تبارك وتعالى- قد يختار من العقوبة ما يشاء، والعقوبات لاتقف عند الله عند صورة محددة، ممكن أن يعاقبكم بما يشاء -سبحانه وتعالى- {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ........}[الأنعام:65]، فالله قادر على عباده -سبحانه وتعالى- ويستطيع أن يعاقبهم بما يشاء -سبحانه وتعالى- { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وهذا من أعظم التهديد.
ثم قال جل وعلا- {........وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} }[البقرة:279] وإن تبتم عن ما بقي من الربا فخذوا رءوس أموالكم، فالله لم يحرم عليك أن تأخذ رأس مالك، رأس مالك الذى داين به { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وهو أصل الدَّين، أصل الدَين رأس المال الذى دفعته للفقير فخذه، حصله { لا تظلمون} فتأخذوا الربا { وَلا تُظْلَمُونَ} بأن يحرم الله –عز وجل- عليكم أخذ رأس المال { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ }بأن تأخذوا الربا منه { وَلا تُظْلَمُونَ }يعنى تجحدون رأس المال الأساسي.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ........}[البقرة:280] وإن يعنى المستلف، المدين ذو عسرة، ذو عسرة يعنى صاحب عسرة، يعنى معسر، ليس عنده سداد لدينه، فالذي لا سداد عنده لدينه هذا معسر { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} نظرة إمهال، يعنى أمهلوه إلى أن ييسر الله -تبارك وتعالى- له ويوسع عليه فيسد رأس المال الذى تداينه دون زيادة، وقد كانت الجاهلية اذا تأخر الشخص عن السداد فى الوقت يضاعفون عليه الربا، كما اذا حلً الأجل وليس عند المدين سداد يقول أزيدك فى الأجل، وتزيدني يعنى فى الربا، فأُجلك سنة وازداد فى الربا، هنا لا { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أنظره إلى أن يصبح موثرا فيسد لك رأس المال { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ }
ثم قال -جل وعلا- {........وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:280] { وَأَنْ تَصَدَّقُوا} تتصدقوا بأن تتنازل عن جزء من الدَين لهذا المعسر، أو تتنازل عنه كله صدقة منك على هذا المعسر {........وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:280] هذا خير أفضل من أن تستوفي مالك وذلك أن الصدقة تضاعف عند الله -تبارك وتعالى- أضعاف كثيرة فإمهال المعسر، والتصدق عليه أعظم عند الله -تبارك وتعالى- من أن تستوفي منه حقك فى هذه الدنيا.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- ختم آيات الربا بآية عظيمة هي كذلك ليست خاتمة لآية الربا فقط بل خاتمة للقرآن كله، فهي آخر آية من آيات القرآن نزولا قال -جل وعلا- {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281] { وَاتَّقُوا يَوْمًا} اتقوا خافوا اجعلوا وقاية ليوم قادم لهذا الشر العظيم الذى يكون فى يوم قادم يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ترجعون فيه إلى الله بعد البعث، والنشور، فرجوع العباد إلى الله للحساب؛ ثم فى هذا اليوم عندما ترجع إلى الله، والله الذى سيحاسب الجميع { تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} توًفًى تأخذه وافيا خيراً فخير، وشراً فشر، قال الله فى الشر {........وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}[هود:109] نصيبهم من العذاب {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}[هود:109] فى العذاب، وكذلك فى الأجر، فكل من له حسنة عند الله فيأخذها كاملة وافية {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40] { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} كل نفس كسبت خيرا أو كسبت شرا، تأخذ يعنى جزاءها وافياً فى الخير، وفى الشر{........ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] لا يظلم الله -تبارك وتعالى-أحد فمن يعذبه الله يعذبه وهو غير ظالم له، مع توفية العذاب له لا يكون الله -تبارك وتعالى-ظالما له، وكذلك من يعطيه الله -تبارك وتعالى-أجره من أهل الإحسان فإنه لا يظلمه شيئاً، ولا يؤخر عنه ذرة من الخير يستحقها بل يوفيها الله -تبارك وتعالى-له. آية عظيمة ختم الله -تبارك وتعالى-بها يعنى آيات الربا وهي خاتمة القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين