الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3] {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، يخبر -سبحانه وتعالى- في هذه السورة العظيمة؛ سورة القَدْر، بأن الله -تبارك وتعالى- قد أنزله، إنَّا؛ تأكيد، والنون نون العظَمَة، الله -سبحانه وتعالى-، أنزلناه؛ بتأكيد إنزاله والضمير هناك يعود على القرآن وإن كان لم يُذكَر قبل هذا ولكن معلوم أن هذا نزوله، إنَّا أنزلناه؛ أي القرآن، {........ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1]، يعني أنزلنا هذا الكلام وأنزلنا هذا القرآن في ليلة القَدْر، قيل في ليلة القَدْر يعني بداية نزوله، بداية نزول هذا القرآن أوَل ما نزل منه على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- كان في هذه الليلة؛ ليلة القَدْر، وليلة القَدْر هي الليلة المباركة إحدى الليال العُشْر من شهر رمضان، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وكان أوَل ما نزل من القرآن هو قول الله -تبارك وتعالى- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1]، وهذه جائت في ترتيب المصحف في السورة التي قبل هذه مباشرة، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1] {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5]، نزلت هذه الآيات على النبي -صل الله عليه وسلم- من القرآن أوَل ما نزل من القرآن؛ والنبي -صل الله عليه وسلم- مُعتَكِف ومُعتزِل عن الناس في غار حراء وحده -صلوات الله والسلام عليه-، وجائه جبريل بهذه الآيات في هذه الليلة التي هي من ليالي شهر رمضان.
كما أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن ليلة القَدْر قال النبي «التمسوها في العَشْر الأواخر من شهر رمضان»، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- قد رأى في نومه تحديد هذه الليلة بالذات، ثم قام خارجًا ليخبر المسلمين بها فيقول النبي «إني قد أُريت ليلة القَدْر وجئت لأُخبِرَكم بها فتلاحى رجلان منكم فنُسِّيتُها»، ومعنى تلاحى رجلان منكم يعني سبَّ كلٌ منهما الأخر، يعني سمع النبي رجلان من المسلمين يتلاحيان يعني يسُب كلٌ منهما الأخر سبًا شديدًا، فشُغِلَ بهذا الأمر ورُفِعَ من ذهنه وذاكرته تحديد هذه الليلة كما جائه في الرؤيا، ثم قال النبي «ولعلَّه خيرٌ لكم»، يعني لعلَّ كوني نُسِّيتُها خيرٌ لكم فالتمسوها في العَشْر الأواخر، ثم أخبر بأنها في الليالي الوِتر فقال «التمسوها في الليالي الوِتر من العَشْر الأواخر؛ في تسعة بقين، في سبعة بقين، في خمسة بقين»، أي من هذه الليلة، وقد اجتهد في تحديدها كثير من الصحابة والسَّلَف واختلفوا في هذا الأمر على أقوال كثيرة؛ فرأى بعضهم أنها ليلة الحادي والعشرين، وبعضهم يقول هي الثالث والعشرين؛ وكان يُقسِم على ذلك، وابن عباس -رضي الله تعالى عنه- رأى أنها في السابع والعشرين؛ وكان أُبي ابن كعب يُقسِم أنها هي ليلة السابع والعشرين، أما ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- فإنه كان يقول هي في السنة كلها؛ مَن قام العام أدرَكَ ليلة القَدْر، لكن يبدوا أن هذه المقالة من ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- إنما هي ليجتهد الناس في القيام طيلة السنة؛ ولا يهتموا بالقيام فقط في العَشْر الأواخر، لكن قد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- أنها في العَشْر الأواخر من شهر رمضان، وقامت الأدلة الكثيرة على أنها في هذه العَشْر الكبيرة.
كما جاء في حديث أبي سعيد الخُدري «أن النبي -صل الله عليه وسلم- اعتكَفَ العَشْر الأوائل من رمضان، وجائه جبريل في نهايته فقال له إن الذي تُريد أمامك فاعتكَفَ العَشْر الأواسط، ثم جائه جبريل في آخرها فقال له إن الذي تُريد أمامك فاعتكَفَ في العَشْر الأواخر، وقال النبي لِمَن قوَّضَ بنائه بعد العَشْر الأواسط مَن كان منكم مُتحَريًا ليلة القَدْر فليرجِع؛ وأنها في العَشْر الأواخر»، وقد قال -صلوات الله والسلام عليه- في العَشْر الأواخر وفضلها «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه، ومَن قام ليلة القَدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لها ما تقدَّمَ من ذنبه»، وهذه العَشْر الأواخر هي التي قد أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- في قوله {وَالْفَجْرِ}[الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2]، وأكَّدَ النبي أنها في الليالي الوِتر؛ والوِتر هي أنها لا تقبَل القسمة على اثنين، اللي هي الليالي المُفرَدَة؛ واحد وعشرين، وثلاثٍ وعشرين، وخمسٍ وعشرين، وسبعٍ وعشرين، وتِسعٍ وعشرين، وأنها في ليلة من هذه الليالي، وذكَرنا أن بعض الصحابة كان يرى أنها ليلة سبعٍ وعشرين، كما قال ابن عباس أرى أن هذا العدد سبع هو أكبر عدد تكرَّرَ في القرآن وجاء فيه في الخلْق فهي ليلة سبعٍ وعشرين؛ استدل بهذا، واستدل أُبي ابن كعب بأنها ليلة السبع وعشرين؛ وأن النبي أخبرهم بأن الشمس تطلُع في صبيحتها بأنها القمر بغير شُعاع، فهي ليلة السابع وعشرين، وأما أبو موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنها- فيقول أن النبي خَطَبَنا في ليلة القَدْر وأخبرنا أنه قد أُوريها؛ وأنه يسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين، يقول فوكَفَ المسجد في ليلة الثالث وعشرين، ومعنى وكَفَ يعني جاء مطر شديد، يقول ولقد رأيت رسول الله -صل الله عليه وسلم- يُصلِّي صلاة الفجر ويسجد في ماءٍ وطين؛ حتى أن رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، يقول في الصبح كان يُصلِّي ورأيت أثر الطين على أرنبة أنفه -صل الله عليه وسلم-، فهو يقول أن الرسول أخبرنا أنه يسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين وقد كان؛ ويرى أنها ليلة الثالث وعشرين.
على كل حال إخفاؤها في هذه الليالي إنما ليجتهد المسلمون في شأنها، والله -تبارك وتعالى- هنا يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه كرَّمَ هذه الليلة، الزمان كله لله ولكنه كرَّمَ هذه الليلة وجعلها هي ليلة القَدْر، القَدْر؛ المنزلة العظيمة لمناسبة نزول القرآن، أوَل نزول القرآن وهو كلام الله -تبارك وتعالى- العظيم في هذه الليلة على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، فشرَّفَ الله -تبارك وتعالى- الزمان بهذا، كما أنه شرَّفَ المكان عندما كلَّمَ موسى -عليه السلام- في المكان الذي كلَّمَه فيه فقال له {........ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[طه:12] {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}[طه:13]، فلمَّا كان هذا المكان هو المكان الذي قام فيه موسى؛ ونزل عليه وحي الله -تبارك وتعالى- في هذه البُقعة، فبورِكَت البُقعة لمُناسبة تلَقِّي موسى لكلام الله -تبارك وتعالى-؛ وسماعه كلام الله -تبارك وتعالى- في هذه البُقعة، البُقعة التي نزَلَ فيها القرآن وكُلِّمَ فيها النبي -صل الله عليه وسلم- وجائه الوحي فيها بُقعة مباركة؛ هي مكة المُكرَّمة، وفي غار حراء في المسجد الحرام، والله شرَّفَ الزمان بعد هذا بتشريف المكان، المكان شريف والزمان أصبح شريفًا بنزول القرآن؛ كلام الله -تبارك وتعالى- على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، تأكيد أن الله هو مُنزِل هذا القرآن، وهذا التأكيد أن الله مُنزِلُه كثير في القرآن، هذا كثير وخاصة في مطلَع السور الكثيرة كالحواميم كلها، الله -تبارك وتعالى- يؤكِّد أنه هذا تنزيله؛ وأن هذا كلامه -سبحانه وتعالى-، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الزمر:1]، {حم}[غافر:1] {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر:2]، {حم}[الجاثية:1] {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2]، فهذا إخبار الله؛ وهذا كثير في القرآن، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، إنا أنزلناه كثير في القرآن؛ يؤكِّد الله هذا المعنى لأن هذا معنى عظيم، أن هذا الكلام كلامه؛ وهو الذي أنزله على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، فهذا تشريف للأمر وتعظيم له؛ وكذلك ترهيب لِمَن يرُد كلام الله -تبارك وتعالى-، وبُشرى لِمَن يقبَل كلام الله -تبارك وتعالى-.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، الله -سبحانه وتعالى-، تأكيد هذا بهذه المؤكِّدات، {........ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1]، قيل القَدْر من التعظيم؛ يعني أنها صاحبة القَدْر العظيم، ومِقدارها العظيم تشريفها؛ شرَّفَها الله -تبارك وتعالى- على سائر ليالي العام، فهي أفضل ليالي السنة كلها قَدْرًا ومنزلة عند الله -تبارك وتعالى- لهذه المُناسَبَة، ومن هذا التشريف ما يأتي في فضلها في السماء والأرض؛ وفضلها بالنسبة لِمَن يقوم لله -تبارك وتعالى-، وقيل ليلة القَدْر من التقدير؛ أن الله -تبارك وتعالى- يُقَدِّر فيها أقوات العباد، هذه السنة التي ينزِل فيها مقادير السنة إلى مقادير السنة، كما قال -تبارك وتعالى- {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، فهذه الليلة إلى الليلة في السنة التي بعدها يُنزِل الله -تبارك وتعالى- ويُخبِر الملائكة بما قضاه وقَدَّرَه -سبحانه وتعالى- في هذا العام، فكأنه تنزُّل للمقادير كل عام من الله -تبارك وتعالى-؛ وإخبار ملائكة الرب -تبارك وتعالى- بما سيكون في هذا العام، ثم يأمرهم الله -تبارك وتعالى- ويُكلِّف كلًّا منهم بما كلَّفَه -سبحانه وتعالى- من أمر، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1].
ثم جاء التهويل؛ والتعظيم، والتفخيم لشأنها، قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2]، وما أدراك؛ للتهويل، قال ابن عباس كل ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- وما أدراك فقد أدراه، وكل ما جاء وما يُدريك فإنه حَجَبَه عنه، ما أدراك جاء في ثلاثة عشر موضِع في القرآن الكريم وعامتها عن يوم القيامة وما يكون فيه، كقول الله -عز وجل- {الْحَاقَّةُ}[الحاقة:1] {مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}[الحاقة:3]، وكذلك {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3]، وهنا {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2]، فهذا كله قد أخبره الله -تبارك وتعالى- به، وأما وما يُدريك فقد جاء في ثلاثة مواضِع فقط من القرآن، ومنها {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، والثالثة {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4]، فيقول ابن عباس إذا جاء ما يُدريك في القرآن فإن الله لم يُعلِمَ رسوله به، أما وما أدراك فقد أعلَمَه الله به، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2]، أسلوب للتفخيم والتعظيم، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- نبيه عن ما جعله في ليلة القَدْر من الأمر العظيم والقيمة العظيمة لهذه الليلة.
قال -جل وعلا- {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، هذا من قيمتها ومن تعظيمها عند الله -تبارك وتعالى-، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، خيرٌ من ألف شهر؛ قيل قيامها، يعني أن مَن قام هذه الليلة فهو خير من قيامه ليالي ألف شهر، ألف شهر يعني نحو ثلاث وثمانين سنة وبِضعة أشهُر، وقيل بأن هذا الثلاث وثمانين سنة أن هذا أعلى العُمر؛ متوسط العُمر في الأزمان الأخيرة للبشر، قيل أن المسلمين جائوا في الأجيال التي أقل أعمارًا لكن الله -تبارك وتعالى- جعل أعماله عظيمة؛ ويأخذون عليها أجرًا عظيمًا، وبهذا يفْضلِون مَن عاشوا بأعمارٍ مديدة فصلُّوا صلاة كثيرة وقاموا قيامًا طويلًا، فإن مَن قام فقط ليلة واحدة في عُمرِه؛ ليلة القَدْر، فكأنه قام بِضع وثمانين سنة، فكيف لو قام ليلة القَدْر هذه ثلاثين مرة في ثلاثين رمضان، أو ستين مرة مثلًا عاش ثمانين سنة فصام رمضان أكثر من ستين مرة أو سبعين مرة، فكيف يكون أجره العظيم عند الله -تبارك وتعالى-؟ هذا أجر عظيم رتَّبَه الله -تبارك وتعالى-؛ والله -تبارك وتعالى- يؤتي فضله مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، وهذا من الفضل الذي اختص الله -تبارك وتعالى- به هذه الأمة؛ أنها تعمل أعمال قليلة ويُعطيها الله -تبارك وتعالى- عليها أجور جزيلة جدًا، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ........}[الحديد:28]، كِفلَين يعني ضِعفَين، من رحمته يعني أجر منه أفضل من الأخرين؛ وهذا فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
وقد جاء في الحديث أن اليهود والنصارى احتجوا إلى الله -تبارك وتعالى-، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «إنما مثَلُكهم ومثَل اليهود والنصارى كمثَل رجلٍ كان له عمل؛ فقال مَن يعمل لي من الصبح إلى الظهر على قيراط؟ فعَمِلَت اليهود فأخذوا قيراطًا قيراطًا، ثم قال مَن يعمل لي من الظهر إلى العصر على قيراط؟»، القيراط وحدة من الأجر، «فعَمِلَت النصارى فأخذوا قيراطًا قيراطًا، ثم قال مَن يعمل لي من العصر إلى المغرب على قيراطين؟ فعمِلتم»، اللي هم المسلمين، «فأخذتم قيراطين قيراطين، فاحتجَّت اليهود النصارى فقالوا يا ربي نحن أكثر عمَلًا وأقل أجرًا، فقال هل بخستكم من أجركم شيء؟»، يعني أجركم ألم تأخذوه وافيًا؟ «فقالوا لا؛ ما في نقص في الأجر، فقال ذلك فضلي أُؤتيه مَن أشاء»، فهذا فضل الله -تبارك وتعالى- يؤتيه مَن يشاء، فمن فضل الله -تبارك وتعالى- على هذه الأمة المرحومة؛ أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، أنها تعمل عمل قليل كقيام ليلة فيأخذ هذا الذي قام هذه الليلة أجر كمَن يقوم ألف شهر كامل؛ ثلاث وثمانين سنة وبِضعة أشهُر يقومها، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3].
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- كذلك من فضلها فقال {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4]، يعني أنه احتفالًا واحتفاءً بهذه الليلة العظيمة ملائكة الرب -تبارك وتعالى- تتنزَّل من السماء إلى الأرض والروح، الروح هو جبريل -عليه السلام-؛ وعطفه هنا على الملائكة وهو من الملائكة فإن هذا من باب عطف الخاص على العام، فهذا خاص فذكَرَ الله الملائكة عمومًا ثم ذكَرَ جبريل -عليه السلام- خصوصًا؛ وجبريل هو روح الله، كما جاء في وصفْه بالروح فقال -تبارك وتعالى- {........ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17]، روحنا يعني لمريم؛ جبريل -عليه السلام-، وقال {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، فهو الروح الأمين، وقال {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ........}[النحل:102]، قُل لهم نزَّلَه؛ يعني هذا القرآن، روح القُدُس؛ الروح المُقدَّسة من الله -تبارك وتعالى-، هو الذي تنزَّلَ به على قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فيخبر -سبحانه وتعالى- أن الملائكة وجبريل؛ الروح، تتنزَّل فيها؛ أي من السماء إلى الأرض، بإذن ربهم؛ يعني نزولهم إنما بإذن الله -تبارك وتعالى-، بأمر لهم؛ الأمر الشرعي لهم بأن يفعلوا، وهم لا يعصون الله -تبارك وتعالى- فنزولهم إلى الأرض بإذن ربهم، {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، مِن هنا لابتداء الغاية، يعني أنهم ينزلون من كل أمر؛ كل أمر من الأمور التي يقضيها الله -تبارك وتعالى-، كل مَلَك من الملائكة ينزِل من السماء ليقضي الأمر الذي كلَّفَه الله -تبارك وتعالى- به، كما جاء في أن هذه الليلة قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6]، فكل مَلَك يُنزِله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض مُكلَّف بعمل فيقوم به، فتتنزَّل الملائكة في هذه الليلة من السماء إلى الأرض بإذن ربهم من كل أمر.
ثم وصْف أخر لهذه الليلة؛ وهذا من عظَمَتِها، وقَدرِها، ومنزلتها، قال -جل وعلا- {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، سلام يعني أنها مُسَلَّمَة من الآفات، والعاهات، والكوارث، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يجعل هذه الليلة سِلْم ما فيها آفة، ولذلك قيل أنها ليلة دائمًا تكون ساكنة؛ ليست بالحراة الشديدة ولا بالباردة الشديدة، ليس فيها أعاصير ولا عواصف عقوبة لأهل الأرض تنزِل في هذه الليلة، فجعلها الله مُسَلَّمة حتى أنهم قالوا لا يُقذَف فيها بالشُّهُب في هذه الليلة، فإن السماء والأرض سالمة مُسَلَّمة سلام، هذه الليلة {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، حتى مطلَع الفجر تكون سلامًا، يجعلها الله -تبارك وتعالى- ليلة آمنة سالمة إلى أن يطلُع فجرُها، وقد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- في الحديث وفي وصْف الصحابة بذلك «النبي قال لهم تخرُج الشمس في صبيحة هذه الليلة ولا شُعاع لها»، إذن هذه الليلة العظيمة عظَّمَها الله -تبارك وتعالى- بهذا التعظيم الهائل؛ وأشاد بها هذه الإشادة العظيمة، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1]، والإشادة بها إشادة بسبب نزول هذا القرآن العظيم فيها، كما قال -تبارك وتعالى- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فالله -تبارك وتعالى- فالله -تبارك وتعالى- عندما أمَرَ عباده بأن يصوموا شهر رمضان أخبرهم بأنه اختصَّ هذا الشهر لأنه شهر مبارك؛ وقد ناسَبَ نزول القرآن في هذا الشهر في ليلة من لياليه، فكرَّمَ الله الليلة بما كرَّمَها به هنا في هذه السورة، وكرَّمَ الله -تبارك وتعالى- الشهر كله بتكريم هذه الليلة؛ أن الليلة من هذا الشهر، فكرَّمَ الله -تبارك وتعالى- الشهر كله، وجعل شهر رمضان من أفضل الشهور عند الله -تبارك وتعالى- لنزول القرآن في ليلة من لياليه، واختصَّه الله -تبارك وتعالى- بهذه العبادة دون سائر الشهور؛ اللي هي عباده الصوم، اختصَّه بها فقال شهر رمضان؛ يعني فرضت عليكم شهر رمضان، الذي أُنزِلَ فيه القرآن حال كون هذا القرآن هُدىً وبينات من الهُدى والفرقان، {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
فهذه أولًا إشادة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، فيا خسارة مَن حُرِمَ هذا الفضل العظيم؛ أن هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر قيامها يُحرَمُه، ولذلك جاء في الحديث أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال «رَغِمَ أنفه، رغِمَ أنفه، رغِمَ أنفه، وهو يصعد درجات منبره -صل الله عليه وسلم-، فلمَّا قضى خُطبَتَه والصلاة قيل له يا رسول الله قُلت شيئًا لم تكُن تقوله؛ قُلت وأنت تصعد المنبر رَغِمَ أنفه، رَغِمَ أنفه، رَغِمَ أنفه، مَن هذا؟»، ومعنى رَغِمَ أنفه؛ ذَل، وخاب، وخسر، «فقال أتاني جبريل رجل من أمتك أدرك أبويه أحدهما أو كلاهما فلم يُغفَر له رَغِمَ أنفه؛ قُل آمين، فقُلت آمين»، يعني آمين رَغِمَ أنفه، يعني دعاء جبريل وتأمين النبي على دعاء جبريل، «ثم قال له رَغِمَ أنف امرئٍ ذُكِرت عنده ولم يُصلِّ عليك؛ قُل آمين، فقُلت آمين، ثم قال له رَغِمَ أنف امرئٍ أدرك شهر رمضان ثم مضى ولم يُغفَر له؛ قُل آمين، فقُلت آمين»، ذكرت في الحديث أن النبي قال رَغِمَ أنفه ولكن الذي سَمِعَه من الصحابة هو أن النبي وهو يصعد درجات المنبر فقال آمين، آمين، آمين، فقال له الصحابة ما آمين؟ يعني قُلت آمين، آمين، فقال أتاني جبريل فقال رَغِمَ أرنف امرئٍ من أمتك أدرك رمضان أو أدركه رمضان ثم لم يُغفَر له؛ قُل آمين، فقُلت آمين، فهذا الخائب؛ هذا لأنه خائبٌ خاسر، جائه أمر عظيم جدًا وفرصة عظيمة ليُغفَر ذنبه ولم يهتَبِلها وخرَجَت منه، فهذا هو الخائب الخاسر الذي جائه رمضان وخرج رمضان ولم يُغفَر له.
وفي رمضان أمور عظيمة تُكفِّر الذنوب؛ صيامه يُكفِّر الذنوب، قيام لياليه تُكفِّر الذنوب، قيام ليلة القَدْر وحدها تُكفِّر الذنب؛ تمحوا الذنوب كلها، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مَن قام ليلة القَدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه»، فهذا تهويل الله لها وتعظيمه لها من باب أنها أمر عظيم؛ وأن العبادة التي فيها يُعطي الله -تبارك وتعالى- عليها هذا الأجر العظيم، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، قيامها، ثم أن هذا احتفال عظيم جدًا بها من الملائكة كلهم، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4]، ثم قال -جل وعلا- {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، هذا فضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه الذي أحسَنَ به على هذه الأُمة، هذه الأُمة المرحومة هذا من فضائلها؛ الله -تبارك وتعالى- فضَّلَها بفضائل عظيمة، ومنها هذا التفضيل؛ التفضيل بأن يجعل لها أعمال قليلة ثم يكون فيها هذا الأجر العظيم عند الله -تبارك وتعالى-، أسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن نكون من الذين يسمعون القول فيتَّبِعون أحسَنَه، {........ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:18]، وأن يُوَفِّقنا والمسلمين دائمًا إلى أن نقوم هذه الليلة كما أمَرَ نبينا -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأن نهتَبِلَ فضلها كما أشاد بها الرب -سبحانه وتعالى-.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.